من أجل مَن انتحر الحريري حرقا ؟؟
1 ـ
من السابق لأوانه الحكم على التجربة الحريرية الثانية في الحكم ، وإن كانت المرحلة التي أمضاها سعد الحريري رئيسا لحكومة وحدة وطنية ، لم يستطع أن يؤدي المهمة الموكلة إليه ، ولو بنسبة بسيطة ، كونه استلم السلطة لأنه وريث أبيه في الجاه والمال .. والطائفة .. والعمل السياسي ..
لكن الفرق كبير جدا بين الحريري الأول وخليفته ، كون الأول تمرّس في الحياة العملية قبل السياسية ، وأمضى سنوات طويلة في العمل والاستثمار حتى بنى إمبراطوريته الاقتصادية التي أهلته ليكون زعيما سياسيا في لبنان ، وعلى مدى السنوات التي تلت سيادة دستور الطائف ، وبرعاية مباشرة من سوريا والسعودية ..
أما الحريري الوريث ، فقد دخل المعترك السياسي وهو لا يعرف ألف باءه ..
لكن ، ولأنه لا بد من وريث ، فوضته العائلة الحريرية فوضته ليحل محل والده في العمل السياسي ، فصار نائبا ، ورئيسا لكتلة المستقبل ، أو " لبنان أولا " ، وقال " ما مننسى والسما زرقا " في إشارة منه أنه لن ينسى ثأره من سورية " التي قتلت والده " ، مهما كلفه ذلك ، انسجاما مع تحالفاته المشبوهة مع بوش وشيراك ، اللذين كانا يكيدان لسورية ، وكل له حساباته ومصالحه ومواقفه فيها منها ..
وبعد انتخابات نيابية ، استثمر فيها الحريري دم والده خير استثمار ، وبدعم أمريكي فرنسي صهيوني ، وبضخ الملايين من الدولارات لشراء الأصوات ، فاز تكتله بالأغلبية النيابية ، وصار رئيسا للوزراء ..
وهنا كانت بداية المشكلة ، وليس نهايتها ..
حيث بدأت توجهات ما يسمى " بالمجتمع الدولي " لتوجيه الاتهام بقتل الحريري لحزب الله واستبعاد التهمة عن سورية ، بعد فشل سياسة عزل سورية ، وبعد فشل العدوان الصهيوني الأمريكي على لبنان للقضاء على حزب الله ..
كما فشلت محاولات تشويه صورة الحزب لبنانيا ووطنيا وعربيا وإسلاميا ، فصار العمل على " محاصرته لخنقه بأنشوطة " المحكمة الدولية " ..
وبدون الدخول في التفاصيل التي كتب فيها وعنها الكثير جدا ، دبَّ الخلاف في أركان " حكومة الوحدة الوطنية " التي يرأسها الحريري ، بعد أن تسرب وشاع خبر اتهام المحكمة الدولية لعناصر من حزب الله بارتكاب جريمة قتل الحريري .. وتفاعلت قضية شهود الزور ، خاصة بعد اعتراف الحريري " بوجود شهود الزور " فانقسم لبنان شاقوليا ، وبدأ السجال ، وتدخلت سورية والسعودية لرأب الصدع ، لكن أمريكا لم تكن تسمح للبنان أن يتوحد أمام ربيبتها الصهيونية ، وأن تنجو رقبة حزب الله من مشنقة المحكمة الدولية ،إذ جاهدت أمريكا وحلفاؤها كثيرا للحصول على حكم بإعدام حزب الله ، ثأرا من مواقفه ضد الصهيونية والمشاريع الأمريكية في لبنان والمنطقة ..
وكادت المبادرة السورية السعودية تصل إلى الحل باتفاق الفريقين ، وبدا أن الحريري منسجم معها ، لكنه فجأة يعلن من واشنطن ارتداده عن كل ذلك ، وتنكر للمبادرة التي عاش اللبنانيون على أمل قطف ثمارها لصالح وئام لبنان وأمنه واستقراره ، الأمر الذي استقال من أجله وزراء المعارضة من حكومة الوحدة الوطنية " الحريرية " ، فسقطت الحكومة دستوريا بفقدانها الثلث زائدا واحدا من وزرائها ، وكانت سابقة في تاريخ حكومات لبنان منذ الاستقلال ، وسقط معها الحريري سقوطا مميزا ، لم يحظ به أحد من قبله ، وربما من بعده ..
ومن جديد ، بدأ السجال بالصوت العالي .. وبالنبرة المتوترة التي هدّدَت لبنان بجحيم حرب أهلية ، بعد أن أصدر رئيس الجمهورية مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة لفقدانها أكثر من ثلث أعضائها ، ودعا لاستشارات نيابية ، يرشح النواب فيها مرشحا لتشكيل حكومة جديدة ..
ومرة أخرى ، لم تبق عاصمة كبرى ولا صغرى ، دولية وإقليمية ، إلا وأدلت بدلوها ، تأييدا لعودة الحريري ، مما اضطر الرئيس اللبناني لتأجيل موعد الاستشارات أسبوعا آخر ، لإعطاء فرصة لكلا الطرفين ، عبر مسعى سوري قطري تركي ، لم يؤد إلى نتيجة .. وزاد الطين بلة ، إعلان سعود الفيصل أثناء وجود الوزيرين القطري والتركي في بيروت ، انسحاب بلاده من مسعاها " الوئامي " في لبنان ..
وعشية الاستشارات ، خرج الحريري على الشاشة الصغيرة ، معلنا سيره حتى النهاية " باللعبة الديمقراطية " والاحتكام للدستور ، وبعدم الانجرار إلى الشارع ، على الرغم من أن المعارضة اغتالته سياسيا ـ كما زعم ـ واستجدى حلفاءه ونوابه ، كي يسترد الأغلبية التي تؤهله لترؤس حكومة ثانية ..
لكن أغلبية 68 نائبا خذلت الحريري ، " كما خذله حلفاؤه " حسب قوله ، وحُسِمَ الأمرَ لصالح السيد نجيب ميقاتي ، فكلفه الرئيس تشكيل الحكومة " العتيدة " ..
وفورا ، وكأن كلام الحريري قبل يومين ، ذهب أدراج الرياح ، هبَّ أنصاره في بيروت وطرابلس وغيرها ، يمارسون ، تماما ، عكسَ ما قاله زعيمهم عشية الاستشارات ، ففعلوا ما فعلوا ، وأحرقوا ودمروا مكاتب معارضيهم ، وهاجموا رجال الجيش وآلياته ، وحطموا كاميرات الصحفيين والإعلاميين ، وأحرقوا سيارة بث قناة الجزيرة ، وبدوا كجماعات قطاع الطرق ، ولو وجد هؤلاء في طريق هيجانهم وغوغائيتهم أيَّ فرد من أفراد المعارضة ، لوقع المحذور الذي لن يبقي ولن يذر ..
وفي أثناء تلك الهمجية ، كان بعض قيادييه ينفخون بنار الفتنة المذهبية من طرابلس ، صابّين الزيت على النار المتأججة في الشوارع والساحات ، في صورة لا تختلف عن مشاهد زلزلالية مدمرة ..
رأى الحريري هول ما يفعله أنصاره ، وسمع مقولاتهم ، فأدرك ـ وهذه نحسبها له ـ أن الفتنة باتت " قاب قوسين أو أدنى " ، ولم يكن راغبا أن تكون الشرارة من متحازبيه وأزلامه ، فسارع للظهور على شاشة التلفاز بعينين متورمتين منهكتين ، ووجه ممتقع مرهق ، يعلن استنكاره وأسفه لما فعله أنصاره ، ويطلب منهم التوقف ، " وليس الخروج من الشارع " ، ويجدد رغبته بالاحتكام للدستور ولشروط اللعبة السياسية " الديمقراطية " في لبنان ، بدل الاحتكام إلى الشارع ..
2 ـ
أعتقد أن ذلك ، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، وأسقطت ورقة التوت الأخيرة عن عورته السياسية ، ولن ينسى اللبنانيون هذه الفظاعة التي تؤكد أن شعار الحريري هو :
أنا ومن بعدي الطوفان ..
وفي مقال سابق لنا ، قلنا : إن الحريري أمام مفترق مفصلي في حياته السياسية ..
فإذا اختار أن يبقى زعيما في لبنان ، وفي طائفته ، وأن يستمر في ترؤس حكوماته ، فيجب أن يرفض مضمون القرار الاتهامي للمحكمة الدولية ، ويعلن صراحة تبرؤه منه ومن مفاعيله على الساحة اللبنانية عموما ، وعلى صعيد حزب الله بشكل خاص ..
وإذا اختار وضع حد لحياته السياسية في لبنان ، فسيختار عكس ذلك ..
وها هو قد اختار ما اختاره ، لنفسه وتياره وزعامته وثأره ..
فهل يكون بذلك قد اغتيل ، أم انتحر ؟؟!!
والظاهر ـ من خلال هيجان أنصاره ـ أنه انتحر حرقا بالنار التي أججوها في طرابلس وفي غيرها من الأماكن اللبنانية ، على المساحة التي تمتد إليها أطرافه ..
ساعده في ذلك وجود " حلفاء مخلصين له يمحضونه صادق مشورتهم " .. وعليه ألا يبحث عن أعداء له خارج الدوائر الضيقة المحيطة به ، منذ أن جلبوا وصنعوا له شهود الزور ، وفبركوهم ، وسايرهم في جلساته كمنقذين له باتهامهم سوريا و" أزلامها " في لبنان ..
أين ذهب كل ذلك الحقد الذي شاهدناه ينضح من كلام الحريري وأزلامه وشهود الزور ، على قناة الجديد تجاه سوريا " التي اغتالت والده ؟؟
وكيف ، ولماذا ، حرفوا دفة الاتهام عن سورية ، ووجهوها نحو حزب الله ؟؟
ومن هو الرابح من ذلك ، ومن هو الخاسر الأكبر ؟؟
الجمعة _ 28/01/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق