لكنها لم تكن تتمنى أن ينتهي العمل .. فكانت في كل مرة تزور البيت فيها ، تغيِّر رأيها في لون جدار أو غرفةٍ ، أو تتعلل بشيء مّا ، كي تظل صورته قريبة منها ، بعدما تسللت فيروسات حبِّه إلى قلبها ، وبدأت تتنازعها الأفكار اللعينة التي يدور لها رأسها ، ليقف مؤشر اللعبة في كل مرة ، عند فيصل ..
حسمتْ أمرها بعد تفكير طويلٍ ، وجدلٍ داخلي سَهّدَها ، وأيقظ فيها كوامِن الحبِّ والعشق الذي ما انفكت تلامس أطرافه ، ويلامسها نسيمُه ..
لماذا لا تجرّب ؟؟!!
ما الذي سيحدث ؟؟!!
" لن أتمادى ، ولن أسمح له أن يتمادى " ..
على مرأى منه ، تركتْ رقمَ جوّالها في ورقةٍ ، وضعتها في مغسلة المطبخ ، قبل أن تغادرَ المكان مع زوجها ..
أسرعَ فيصل إلى الورقة .. زاغت عيناه وهو يعيد قراءة الرقم .. تملكته حيرة مزعجة ..
ماذا سيقدم لها أكثر مما يقدمه وليد ؟؟!!
خرج من البيت ، ركب سيارته وانطلق على غير هدى في الشوارع المحيطة .. لا يعرف إن كان يجب أن يفرح ، أو يحزن .. إنه يريد حبا يرتعش له كيانه ، ويحمله على جناحي السعادة مع حبيبةٍ يتمناها له وحده .. لكنه لا يريد علاقة عابرة مشتركة ، قد تطيح بأحلامه في العمل ، إذا لم تضع حدًّا لحياته ..
" لِمَ المجازفة ؟؟ ولماذا أرمي بنفسي في بركان ثائر هائج ، لا يعرف أحدٌ قرارَه ، ولا مداه " ..
" سأترك العمل وأختفي من كل المدينة ..
" لكن ، كيف سيكون رد فعل وليد ؟؟ فيم سيفكر ؟؟
" وقد تزعم له أني تجرأت عليها ، وأني هربتُ بعدما صدّتْ محاولاتي للتقرب منها " ..
بعد يومين عادت مع زوجها ، كانت نظراتها غاضبة ، وحركاتها عصبية .. صامتة ، لم تبدِ رأيا في كل ما سُئلتْ عنه .. كأن المكان لغيرهم .. ولا علاقة لها به ..
وبعكس ما كانت تفعل ، صارت تستعجل زوجها للخروج .. وكان واضحا أنها في غاية الضيق ..
تجاهل فيصل كل ذلك ، وسألها إن كان ثمة ما لا يعجبها في التغييرات الأخيرة .. فقلبت شفتها بامتعاض ، وقالت لزوجها بلهجة فهمها فيصل جيدا : هيا يا وليد .. تأخرنا كثيرا على أهلك .. اتركه يعمل .. لا وقت لديه ..
فكر طويلا بما أسمعته إياه .. ثم ،
بدأت الحكاية بلقاءات سريعة ، ثم أخذت أشكالا وظروفا ، حسب طبيعة اللقاء ومداه وزمانه ومكانه .. لكن الاثنين لم يفوتا فرصة سانحة مهما كانت قصيرة ..
وحين انتهى العمل في البيت ، وبعد وقت قصير من عودتهم إليه ، كان على وليد أن يسافر أياما ، لينجز أعماله المؤجلة خارج البلاد .. فأبدت رغبتها بالإقامة عند أمها " ريثما تعود بالسلامة " .. فلم يمانع ، معتبرا ذلك ، أفضل لها ولابنتيهما ، فأسرّت له بأنها قد تكون حاملا ..
فرح كثيرا ، وعرض عليها أن يلغي رحلته إذا كان ذلك يريحها ، فلم تؤكد له خبر الحمل حتى تجري التحاليل اللازمة ، ثم ، عليه ألا يتعطل عن عمله ، فقد عطلته أعمال البيت بما فيه الكفاية ، وستبشره بذلك أينما كان ..
لم تكن الأم تعلم كل تفاصيل العلاقة بين ابنتها وذاك الشاب الذي تخرُجُ معه في " نزهات بريئة " ، ولو كانت لأوقات متأخرة من الليل .. فقد " زوَّجتها صغيرة ، ولم ترَ الكثير مما كان يجب أن تراه قبل زواجها " ..
كانت سارة تعود إلى بيت أمها ، منتشية ، تنفر الفرحة من عينيها ، وينطق بها وجهٌ جوريُّ اللون .. زادته حمرته رونقا وبهاء ..
كانت تندفع إلى أمها فور دخولها ، فترتمي على صدرها كأنها تراها لأول مرة بعد طول فراق .. تتعانقان .. تتساءل الأم ببراءة هامسة في أذنها : سعيدة أنت يا بنيتي ؟؟
فترد سارة بقبلات ، تنهال بها على رأس أمها ووجهها .. ثم تنسحب برفق من عناقها ، لتأخذ كفها بين يديها ، وتقبله ، وهي تغالب دموعا من الفرح ، وكأنها خائفة أن ينقطع الحبل بها ههنا ..
تمضي شطرا طويلا من النهار نائمة في سريرها ، فيما تهتم أمها بابنتيها ، فإذا استيقظت ، فلكي تأخذ استعداداتها للخروج إلى من ينتظر إشارتها ..
تحملها إليه ، في بيتها ، سيارة أجرة .. فإذا دخلته أحسَّتْ بوجوده قبل أن تراه ، حتى صار هواء البيت وفضاؤه يتغيران عليها في كل مرة .. كل شيء فيه صار جديدا ورائعا ، رتبته ونسَّقته بالشكل الذي تحب .. وإن كان الفضل الكبير في ذلك يعود لفيصل " الرائع ، الساحر ، المدهش ، الفنان " ..
ملأ عليها عالمَها الرحب ، وملأ ـ في نفس الوقت ـ خواءً روحيا ، طالما احتاجته ، حتى جاءها على بساط الريح الذهبي ..
كانت تعبُّ من سعادةٍ لم تكن تتمنى غيرها ، وقد انغمرتْ حياتها بألوان وأشكال أخرى لم تألفها ..
كانت ترى العالم كله رماديا باهتا .. فصار مزركشا ، كالطيف في الحلم .. وتزركشت أيضا ، كل الأماكن التي تجمعها بفيصل .. وهي كثيرة ..
فكانت سخية عليه .. وكان مطواعا ، تحملهما الليالي بعيدا عن العيون ..
لم تعد تستطيع البقاء طويلا بدونه .. أدمنته حتى آخر حبة من المساءات المضمّخة ..
كان وجودها عند أمها يؤمن لها السُّبل ، ورعاية ابنتيها ، ويمنحها الغطاء الذي لا بد منه ..
تأكدت سارة من وجود الحمل ..
تلقى وليد الخبر بسعادة غامرة ..
وحين عاد ، استكانت ، حتى عوضته ، كي تطلب منه أن يوافقها على زيارات متكررة لبيت أمها ، كونها اعتادت الإقامة عندها خلال غيابه ، وتساعدها أمها على الحمل ، ووجدت ابنتاها متسعا من الوقت تقضيان بعضه مع أقرانهما من الجيران والأقارب ..
فظلت أيامها ملونة بكل المباهج التي أحبتها طيلة فترة الحمل ، ولم يتغير شيء في نمط وتشابك العلاقة ..
فقط كانت التغيرات ظاهرية ، استدعتها التغيرات الجسمية التي نتجت عن الحمل ، وبعض الظروف الطارئة التي قلصت حدود تحركاتها .. فيما لم يدَّخر وليد ، والآخرون كل ما وسعهم من عناية ، يوفرونها لها حرصا على سلامة الجنين " الأنثى " وأمه ..
وحين استعد الجنين لإطلاق الصرخة ، كان الجميع في المستشفى ، يترقبونها بحبور قلق ..
لم تكن المولودة " غادة " تعلم بكل ما سيجري لها بعد تلك الصرخة ، ولو كانت تعلم ، لما سكتت عن الصراخ ..
رأت أم سارة ملامح فيصل كاملة في وجه حفيدتها .. كان التشابه كبيرا جدا .. ولم يخفَ ذلك على أحد من العائلتين .. حتى همست لها أمها :
تفهَّمْتُ كلامكِ بأنكِ معجبة به وتتسلين معه .. لكن من أين هذه ؟؟!!
ارتبكت سارة ، لكنها قالت : يخلق من الشبه أربعين ..
قالت الأم : أرى الشك في عيون الجميع .. فهل ترين ما أرى ؟؟!!
تعالى صوت الهمسات حول وليد ، من أمه وإخوته وأخواته .. ولم يكن ينتظر ذلك حتى يبادر إلى إجراءٍ
يحسم الأمر نهائيا .. فقرر أن يجري للطفلة ، سرًّا ، فحص (( دي إن إي )) ..
هاله أن يسمع بالنتيجة غير متوافقة مع دمه .. فثار وغضب ، لكن أمه احتوته وهدأت من غليانه ، وطالبته أن يحضر لها ابنتيه ، وأن يصرف زوجته مع طفلتها إلى بيت أمها ..
ولأن " الولد للفراش " ، فعليه ـ قانونا ـ أن يسجل الطفلة ابنة له في دائرة النفوس .. وهذا ما يطالب به المحامي الذي وكلته سارة ..
ولأن تحليل الدم ينفي أبوته لها ، فهو يرفض نسبها إليه ، ويدفع محاميه ذلك الالتزام بالتقرير الطبي ..
لكن القانون والشرع ليسا في صالحه ..
طلق وليد سارة ، وتزوج من ابنة عمته ، وبقيت ابنتاه عند جدتهما في البيت الكبير .. وتوارى فيصل ..
الدعوى ما تزال مفتوحة أمام القضاء .. ولا يوجد تشريع قانوني يدعم موقف وليد ..
صار عمر غادة ست سنوات ، وهي غير معترف بها ، وغير مسجَّلة ، تريد أمها أن تدخلها المدرسة ، لكن القوانين لا تسمح بقبولها دون أن يكون اسمها واردا في دفتر العائلة ..
الخميس ـ 13/01/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق