السبت، 8 يناير 2011

مهدي عبد الجليل نصر الله ـ المرثية الأغلى في الإجازة الأنحس ـ 1

الزمان : الحادية عشرة صباحا من يوم الأربعاء ـ 15/12/2010 ..

المكان : حلب ـ شارع المحلق الغربي ، في الطريق إلى نبل ..

كان صديقي يقود سيارته فينا ببطء شديد ، وكنت أعهد فيه تلك العادة حين نكون معا ، لكن ليس إلى هذه الدرجة .. ولم أستفسر حتى رن جواله ونحن في شارع المحلق ، ولما عرف الطالب اعتقد أنه سيسأل عن وصولي ، فناولني الجوال لأرد ..

هنأني أبو إبراهيم بسلامة الوصول وطلب بإلحاح ، أن نصل بسرعة لنشارك في مراسم الدفن ..

ذهلت ، وانعقد لساني ، واختنقتُ بغصة تحجرتْ في حنجرتي ، كما جرى قبل سنوات ، يوم وصلت حلب ، فاتصل بي من الرقة ، صديقي أبو محمد ، يهنئني بالسلامة ويعزيني بوالدتي التي رحلت قبل أسبوع من وصولي ظانا أني عارف بوفاتها ..

وحين لاحظ أبو إبراهيم تهدج صوتي مستفسِرا ، سألني : ألم يقولوا لك ؟؟!!

في الحقيقة كنت على موعد مع موت آخر بادَرَ إليه عقلي مباشرة ، ولم يكن الصديق الغالي " مهدي " مُدرَجا على جدول المودِّعين أبدا ، بل كدت أسأل أبا محمد عن أحواله ، اطمئنانا عنه ، ولرغبتي بإجراء حديث مطول معه ، يتناول سيرة حياته وعطائه وتجربته الحياتية والعملية ، كونه من جيل الرواد .. وقد سبق لي أن أخبرت الصديق أبا حسام عن ذلك ، ونحن نستعرض معا أهم الشخصيات الرائدة في مدينتنا ، خلال زيارته الأخيرة قبل شهر ونيف ..

اختلفت الدنيا من حولي ..

كان الطقس باردا جدا ، وقد هطلت أمطار غزيرة خلال الأيام السابقة بعد جفاف وطول انحباس ..

للحظة ظننت أن وصولي لم يكن إلى الجهة الأثيرة التي أهوى ، لولا وجودي في سيارة صديقي وإلى جانبه .. وكأنما الزمان غير الزمان ، والمكان غير المكان .. لكن ، ها هو المحلق ، ودوار بلليرمون ، وشارع عنتاب ، والشهباء مول ، ومعمل الزيوت ، وقبر الإنكليزي ..

لا شيء تغير منذ مغادرتي سوى انتهاء أعمال الصيانة في الشارع الأخير ..

" فلماذا يبقى كل شيء على حاله ، بينما يجب أن نسرع لنمشي في الجنازة ؟؟

" أستغفر الله .. إنه ليس اعتراضًا .. لكن مهدي وعدني أن ينتظرني ..

" أتأخرتُ أنا ؟؟ ..

" أم عجلتَ إليه ـ يا صديقي ـ ليرضى ؟؟!!

سبحان الله ، كأني كنت متجهزا للتشييع .. كان كل ما أرتديه أسود اللون ، ما عدا القميص ..

كان المشيعون ينتظروننا ، ويتحضرون لحمل الجنازة إلى مثواها الأخير حين مررنا في شارع ال 16 الجنوبي ..

وصلنا إلى البيت ..

قال صديقي : سأعود إليك بعد أن أتأكد من تحرك موكب الجنازة ، ريثما ترى أهلك ..

وبينما عاد ، استبدلتُ قميصي ، وتخلصت من أنشوطة العنق ، ولبست معطفا جلديا أتقي بردًا قارسًا لم يمهلني الوقت للتكيف معه بعد ..

" ولم أكن أتخيل لنفسي يوما كهذا ..

" كيف سأتلقى العزاء والتهنئة بالوصول معا ؟؟!!

" لا أقبل أن يتساوى وصولي سالما مع فقدانك أخي العزيز ..

" بل ، لا قيمة لوصولي سالما إذا ارتهن بفقدانك أخي العزيز ..

جلست في السيارة جانب صديقي .. كنت مضطربا كالمفزوع ، ولم تكد السيارة تبتعد كثيرا بنا ، حتى طلبت من صديقي أن يعيدني إلى البيت .. وبدون نقاش أعادني ، ومضى ..

" كيف سأشارك في مواراتك الثرى النبلي يا مهدي ، ونحن حبتان صغيرتان منه ، مجبولتان منذ فتحنا عيوننا على طيور الشعير أيام البيدر ، والميل القبلي ، وأحجار الكروزة ، والجزمة المطاطية الملطخة بالطين الأحمر ؟؟!!

" كيف سأسير وراء نعش يضم جسدك النحيل ، وعينيك الضاحكتين اللتين كانتا آخر وأجمل ما رأيتك فيه ؟؟!!

" كيف سيكون وصولي سالما سليما ، وأنت جسد بارد منمنم ، كصورة أناملك حين كنت تجمعها على شفتيك وترمي لي بها قبلتك الدافئة الولهى ، مودِّعًا بلا مصافحة ولا عناق ؟؟!!

" لو عرفتُ أنك ستتركني وتمضي هناك ، جنوبا ، لأجبرتك على معانقتي في آخر لقاء .. ألم تكن تعلم أن عناقنا زوادة أثيرة لي ؟؟!!

" لكن ، لماذا ألومك الآن وأنا أكثر منك كرها لعناق الوداع ؟؟!!

" كيف طاوعك قلبك ، فمضيتَ دون أن تودعني حتى بقبلة شفهية معتادة ..

" كيف مضيتَ ، ولم تفِ بوعدك لي ؟؟!! ..

" ألم تقل : إنك بانتظاري ؟؟!!

" لقد سبق أن انتظرتني طويلا طويلا .. أضاقت عليك الأرض والدنيا بما رحبت ، ومضيت لا تأبه بوعدك لي ؟؟!!

" ألم يحتملك الزمان سويعات قليلة ؟؟!!

(( " كيف سكنتنا عشرين عامًا ، واختفيت ،

وظلَّ وجهُكَ واضحًا مثلَ الظهيرة ؟؟!! )) .. كيف ؟؟

(( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ..

السبت ـ 08/01/2011

يوسف رشيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق