الزمان : الحادية عشرة صباحا من يوم الأربعاء ـ 15/12/2010 ..
المكان : حلب ـ شارع المحلق الغربي ، في الطريق إلى نبل ..
كان صديقي يقود سيارته فينا ببطء شديد ، وكنت أعهد فيه تلك العادة حين نكون معا ، لكن ليس إلى هذه الدرجة .. ولم أستفسر حتى رن جواله ونحن في شارع المحلق ، ولما عرف الطالب اعتقد أنه سيسأل عن وصولي ، فناولني الجوال لأرد ..
هنأني أبو إبراهيم بسلامة الوصول وطلب بإلحاح ، أن نصل بسرعة لنشارك في مراسم الدفن ..
ذهلت ، وانعقد لساني ، واختنقتُ بغصة تحجرتْ في حنجرتي ، كما جرى قبل سنوات ، يوم وصلت حلب ، فاتصل بي من الرقة ، صديقي أبو محمد ، يهنئني بالسلامة ويعزيني بوالدتي التي رحلت قبل أسبوع من وصولي ظانا أني عارف بوفاتها ..
وحين لاحظ أبو إبراهيم تهدج صوتي مستفسِرا ، سألني : ألم يقولوا لك ؟؟!!
في الحقيقة كنت على موعد مع موت آخر بادَرَ إليه عقلي مباشرة ، ولم يكن الصديق الغالي " مهدي " مُدرَجا على جدول المودِّعين أبدا ، بل كدت أسأل أبا محمد عن أحواله ، اطمئنانا عنه ، ولرغبتي بإجراء حديث مطول معه ، يتناول سيرة حياته وعطائه وتجربته الحياتية والعملية ، كونه من جيل الرواد .. وقد سبق لي أن أخبرت الصديق أبا حسام عن ذلك ، ونحن نستعرض معا أهم الشخصيات الرائدة في مدينتنا ، خلال زيارته الأخيرة قبل شهر ونيف ..
اختلفت الدنيا من حولي ..
كان الطقس باردا جدا ، وقد هطلت أمطار غزيرة خلال الأيام السابقة بعد جفاف وطول انحباس ..
للحظة ظننت أن وصولي لم يكن إلى الجهة الأثيرة التي أهوى ، لولا وجودي في سيارة صديقي وإلى جانبه .. وكأنما الزمان غير الزمان ، والمكان غير المكان .. لكن ، ها هو المحلق ، ودوار بلليرمون ، وشارع عنتاب ، والشهباء مول ، ومعمل الزيوت ، وقبر الإنكليزي ..
لا شيء تغير منذ مغادرتي سوى انتهاء أعمال الصيانة في الشارع الأخير ..
" فلماذا يبقى كل شيء على حاله ، بينما يجب أن نسرع لنمشي في الجنازة ؟؟
" أستغفر الله .. إنه ليس اعتراضًا .. لكن مهدي وعدني أن ينتظرني ..
" أتأخرتُ أنا ؟؟ ..
" أم عجلتَ إليه ـ يا صديقي ـ ليرضى ؟؟!!
سبحان الله ، كأني كنت متجهزا للتشييع .. كان كل ما أرتديه أسود اللون ، ما عدا القميص ..
كان المشيعون ينتظروننا ، ويتحضرون لحمل الجنازة إلى مثواها الأخير حين مررنا في شارع ال 16 الجنوبي ..
وصلنا إلى البيت ..
قال صديقي : سأعود إليك بعد أن أتأكد من تحرك موكب الجنازة ، ريثما ترى أهلك ..
وبينما عاد ، استبدلتُ قميصي ، وتخلصت من أنشوطة العنق ، ولبست معطفا جلديا أتقي بردًا قارسًا لم يمهلني الوقت للتكيف معه بعد ..
" ولم أكن أتخيل لنفسي يوما كهذا ..
" كيف سأتلقى العزاء والتهنئة بالوصول معا ؟؟!!
" لا أقبل أن يتساوى وصولي سالما مع فقدانك أخي العزيز ..
" بل ، لا قيمة لوصولي سالما إذا ارتهن بفقدانك أخي العزيز ..
جلست في السيارة جانب صديقي .. كنت مضطربا كالمفزوع ، ولم تكد السيارة تبتعد كثيرا بنا ، حتى طلبت من صديقي أن يعيدني إلى البيت .. وبدون نقاش أعادني ، ومضى ..
" كيف سأشارك في مواراتك الثرى النبلي يا مهدي ، ونحن حبتان صغيرتان منه ، مجبولتان منذ فتحنا عيوننا على طيور الشعير أيام البيدر ، والميل القبلي ، وأحجار الكروزة ، والجزمة المطاطية الملطخة بالطين الأحمر ؟؟!!
" كيف سأسير وراء نعش يضم جسدك النحيل ، وعينيك الضاحكتين اللتين كانتا آخر وأجمل ما رأيتك فيه ؟؟!!
" كيف سيكون وصولي سالما سليما ، وأنت جسد بارد منمنم ، كصورة أناملك حين كنت تجمعها على شفتيك وترمي لي بها قبلتك الدافئة الولهى ، مودِّعًا بلا مصافحة ولا عناق ؟؟!!
" لو عرفتُ أنك ستتركني وتمضي هناك ، جنوبا ، لأجبرتك على معانقتي في آخر لقاء .. ألم تكن تعلم أن عناقنا زوادة أثيرة لي ؟؟!!
" لكن ، لماذا ألومك الآن وأنا أكثر منك كرها لعناق الوداع ؟؟!!
" كيف طاوعك قلبك ، فمضيتَ دون أن تودعني حتى بقبلة شفهية معتادة ..
" كيف مضيتَ ، ولم تفِ بوعدك لي ؟؟!! ..
" ألم تقل : إنك بانتظاري ؟؟!!
" لقد سبق أن انتظرتني طويلا طويلا .. أضاقت عليك الأرض والدنيا بما رحبت ، ومضيت لا تأبه بوعدك لي ؟؟!!
" ألم يحتملك الزمان سويعات قليلة ؟؟!!
(( " كيف سكنتنا عشرين عامًا ، واختفيت ،
وظلَّ وجهُكَ واضحًا مثلَ الظهيرة ؟؟!! )) .. كيف ؟؟
(( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ..
السبت ـ 08/01/2011
يوسف رشيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق