الأحد، 9 يناير 2011

مهدي عبد الجليل نصر الله ـ المرثية الأغلى في الإجازة الأنحس ـ 2

مرة أخرى ، اختلفت الدنيا من حولي ..

وعلى البعد القاهر ، بدأ يتجمع حزن دفين ، يقض علي مضجعي ، وأنا أحاول أن أستجمع قواي وذاكرتي ، مستبعدا سيلا جارفا من العواطف التي اقتلعت كثيرا من جذوري ، حتى هزمتني تحت وطأتها ..

فلذت بالأرشيف ، لعلي أجد فيه السلوان والهدوء اللذين يمكن أن يساعداني على بعض البوح ، استخراجا لزفرات حبيسة حرّى ، ما كان يجب أن تخرج قبل الآن ..

فالمعذرة صديقي الغالي .. على تقصيري تجاهك أولا ، وعلى بَوْحي المتواضع ، ثانيا ..

فأنا لا أحسَدُ اليوم على ما أنا فيه ..

☼☼☼

أيها الغالي : أتذكر ؟؟

وأنا لا أذكر أيضا .. لكن الصورة أعادت لي ذاكرتي إلى 28/11/1968 ..

يوم كنا نرتدي لباس الفتوة ، والتقينا أمام القنصلية السوفييتية آنذاك ، وكان معك زملاء لا أعرفهم ، تمشينا معا قبيل المساء ، والتقطنا هذه الصورة ، إنها ما تزال محتفظة بذلك العبق المتناثر من أزهار سياج القنصلية التي وقفنا أمامها نقرأ في لوحاتها ، مقالات وإعلانات ..

ربما لم تر عيناك تلك الصورة فيما بعد ..

وها هي كذلك ، آخر صورة ، كانت في يوم الجمعة 20/08/2010 .. وبعدها لم نجتمع تحت سقف واحد ..

كم مرّ من الزمن بين الصورتين ؟؟

وأنا لم أنسَ ، أنه ، وفي هذا التاريخ ، كان لقاؤنا قبل الأخير ، وكان قبيل الإفطار بساعة تقريبا ، توقفتُ أمام باب بيت الأخ أبو هلال ، وكنتما للتو ملتقيان ، يجهز أبو هلال منصة الجلوس أمام بيته .. فطلب من أحد أبنائه أن يرش ماء باردا من الجب ، حول المكان ليخفف حر " آب اللهاب " ، في مساء رمضاني حارق ..

كنتُ في شوق كبير لمجالستكما ، لكن حرارة طقس رمضان نالت من عزيمتي ، فلم أستطع المكوث طويلا ، فاستأذنتكما ، على أن أوافيَكما جلستكما اليومية هذه في وقت لاحق .. لكن ، مع الأسف الشديد ، لم أفِ بوعدي ..

أما اللقاء الأخير ، أتذكـُر يا صديقي العزيز ، كيف كان طارئا وسريعا ، عند بوابة مطعم القيصر بحلب ، وكنا من جملة المدعوين لإفطار خيري هناك ؟؟ ..

كنتَ نشيطا جدًا أكثر من أي وقت مضى ، وربما كنتَ تقوم بمهمةٍ تطوعيةٍ ما ، فيما بدت على محياك علائمُ فرحة وسعادة لِما تقوم به ، جعلت الضحكة تنفر من عينيك نحونا قبل التحية ..

وكذلك ، لم يسمح مقام اللقاء لنا إلا بلحظات معدودات ..

لكني أحمد الله أنني رأيتكَ ـ آخر ما رأيتك ـ في أسعد حالاتك وأحسنها همة ونشاطا .. وكأن صورتك الآن مائلة أمامي ، فجبَّتْ كلَّ ما سبقها من صور المعاناة والآلام ، واستقرتْ مكانها نظرة عينيك الضاحكتين وابتسامتك الهادئة وجسمك النحيل ، وهي آخر صورة يتعذر على أرشيفي أن يحتفظ بها شفويا ، لكني أختزنها لك في ذاكرتي وعقلي وقلبي ووجداني .. وستبقى إن شاء الله ..

أما حديثنا الأخير يا صديقي العزيز ، فكان في عيد الأضحى الماضي ، أتذكـُر حين هاتفتني مهنئا ، وكعادتك في ختام كل اتصال ، قلت لي : " ما حاج بقا ؟؟ لا تتأخر .. نحنا بانتظارك " ..

وإن تكن هذه ليست المرة الأولى التي تتخلف فيها عن وعدك لي ، وذلك مُرٌّ .. لكن هذه المرة هي الأكثر مرارة على الإطلاق ..

إذ لم يكن ، ولن يكون بعدها موعد آخر ، ولا أمل آخر باللقاء ..

" حاولتُ ـ يا صديقي الحبيب ـ ألا أتأخر عنك ، وطالما انتظرتَ تأخري طيلة تسعة عشر عاما ، وغفرتـَهُ لي عند أول نظرة تلتقي فيها عيوننا .. فينفتح صدرُكَ ، بحرًا واسعًا ، يحتضن عذاباتِ الفؤاد وجراحَه ..

" نعم .. أنا تأخرت ، واستنفذتُ صبرَكَ على تأخري .. فكانت إرادة الله ..

كان اللقاء ، في كل مرة ، عناقا قويا ، يتحد فيه جسدانا .. وكان الوداع ، هذه المرة ، ككل وداع ..

في كل وداع ، كنا نتجنـَّبُ المصافحة ، ونخافها ، لنحافظ على آلامنا سليمة قدر المستطاع ، بعدما خـَلقـَتْ لنا حالاتٍ ، يَصْعبُ لي الآن وَصفُ مشاعرها ، فكنا نرفع أيديَنا ملوِّحين بالوداع من بعيد ، ونتوارى عن بعضنا سريعا كي يحافظ كل منا على وقار دمعته ..

لقد سبقتني إليكَ الإرادة ُالعليا ، فاختارتكَ إلى جوارها قبيل أن تحط الطائرة في المطار .. وكنتُ أراقب من نافذتها كيف تسبح الغيوم ، وكيف يمكن للأرواح أن تحلق فوقها ، لكني لم أشم رائحة الموت ، ولم أتحسّسْ رحيلا مفاجئا يصادر عليَّ الرعشة الأولى للذة الوصول ..

كان مستقبلِيَِّ في المطارعلى علم ، لكن لهفتي حجبتْ عني ما يغلـّف وجوهَهُم من حزن ، ولم تتركْ لي فرصة قراءة معالمها جيدا ، فتبين أنهم اتفقوا على كتم الأمر عني ..

☼☼☼

لا أعرف ، يا صديقي ، سببا حقيقيا وراء تعاملنا بخصوصية مميزة تتعلق بالمواعيد بيننا ..

أتذكـُر ؟؟!!

ذلك ليس جديدا ، بل هو منذ أن زرتك في بيتك في الأشرفية لأول مرة ، أواخر السبعينيات .. لكنني أعرف أن خصوصية كهذه لا تكون إلا في مرحلة متأخرة ومميزة من العلاقة بين صديقين .. من هنا تأتي أهمية انتظارنا .. ومن هنا أجد لزاما علي أن أعتذر منك لتأخري عن موعدٍ قاس مرير ، ليس له ضفاف ..

في تلك الزيارة الأولى ، شدتني عناوين الكتب في مكتبتك ، وطريقة التنسيق والترتيب .. كما شدتني صورة معبرة أنيقة للسيدة فيروز ، معلقة جانب المكتبة ، فكانت المكتبة والصورة قاسما مشتركا بيننا ، اكتمَلَ بحصولي على نسخة من الصورة ، علقتها جانب مكتبتي أيضا ..

وحين غادرتنا إلى الجزائر عام 1977 ، كان البريد واسطة اتصال وحيدة ، لم تنقطع طيلة تلك السنوات .. تبادلنا عددا من الرسائل ، وما زلت أحتفظ برسائلك إلي ..

أتذكـُر ؟؟

في صيفٍ سابق قريبٍ ، قرأتُ لكَ من إحدى رسائلكَ المؤرخة في :

18/02/1978

وكنت َ دائما تخاطبني هكذا :

(( أخي يوسف : محبتي :

أرجو أن تصادف كلماتي لديكم بقية دفء في شتاء أيامنا ، التي ترضِعُ المستقبلَ برودة ُالفناء .. حين شاءت النفس المكابرة أن تدركه رقصًا على جراحها ..

...........................................

أخي يوسف :

إن بدتْ على رسائلي ملامحُ تفكك في أفكارها ، أو صُنعتْ بأسلوبِ قوس قزح ، فإن أدلَّ ما يدلُّ عليه ذلك ، أنها تحتوي على صورةٍ حياتيةٍ صادقةٍ أحياها .. وما أرجوه ، هو أن أتعلم كيف يَذبحُ الإنسانُ الحياةَ دون أن يشعرَ بذنبِ الجريمة ، لعلي أستطيع ـ بعد ذلك ـ أن أنفذَ إلى داخلي بشكل صحيح ، فأرى الحقيقة ولو للحظة ، وقد سقطتْ عنها جميعُ الأقنعة ..

أخي يوسف .. سامحني على هذه الرسالة )) ..

لم أسامحْك وقتذاك ..

أما الآن ، وبعد أن ارتقينا بعلاقتنا ـ منذ زمن طويل ـ إلى مرتبة الصداقة ، وأنتَ ، يا صديقي العزيز (( وقد امتلأتَ بكل أسباب الرحيل )) ، أقول : سامحك الله ، وسامحك الله ..

وفي رسالة أخرى منك ، قرأتها لك ، كتبتَ لي بتاريخ :

22/10/1977

(( أخي يوسف : محبتي :

لا أستطيع أن أوضحَ الدافعَ الذي حمَلني على الكتابة إليك ..غير أنني أعزو ذلك إلى غصن صفصافة ، تعطِفه نـُسَيْماتُ الصباح العليلة فتمسحُ وُرَيقاتـُه في وُدٍّ ، أطرافَ نافذتي ، فترسمُ في تعَطـُّفِها أطيافا شدّ ما أحببْتـُها .. فغدَت ذكرياتٍ .. ويا لها من ذكريات ..

كثيرًا ما يحسب المرءُ أنه يستطيعُ أن ينسى ، وأن البُعدَ والزمن كفيلان بذلك .. فيغيّرُ ملابسَه ، يغيّرُ طريقة حياته ، يغيّرُ معالمَ وجهه ، وأصدقاءَه .. يغيّر موطنه ، لكنه يغرب عن ذهنه أنه عاجز عن تغيير قلبه ..

أخي يوسف .. جمعتُ بعضي وطرتُ إلى الجزائر ، وكلي ثقة أنني لم أنسَ شيئا ، لكني عندما حطـَّت بي عصا الترحال ، وتفقدْتُ كلَّ ما معي ، فكان كما رتبته في سوريا .. ولكني بعد فترةٍ تذكرْتُ أنني نسيتُ قلبي هناك ...

سقى الله أرضا كنتُ فيها هناك )) ..

وفي 08/12/1977

كتبتَ رادًّا عليَّ بعضَ الهواجس التي كتبتـُها إليك :

(( إن ذلك ليؤكد لي صدقَ العلاقة ومدى الالتزام بها ، وإنه يمكن لي أن أقول : ما زلتُ بخير ، وإن رصيدي من الأحبة يسعفني في ساعاتِ عثرتي ..

وأضفتَ في ختام الرسالة :

أخي يوسف : لا أقول وداعًا ، لكن إلى لقاء ، ولو على الورق ..

أحلى الأمنيات لمَن تجمَعُك بهم أواصرُ المحبة ..

وسلام كلما عزت الذكرى وعزَّ اللقاء )) ..

إذ ذاك ، كنتَ مصغيا لصوتي المتهدج باهتمام كبير وبدهشة ، وكنتُ أزدرد بالكاد ريقي الذي غص في حلقي مرات ومرات وأنا أقرأ لك .. فترقرقت عيناك الزرقاوان ، ثم انتفضتَ ، وصرختَ بي : يلعن أبو الغربة و ... و.... و ....

وحين وجدتني أكثرَ منكَ ضيقا بها وشجَنا ، حتى تفجَّرَا من عيني رغما عني ، هدأتَ ، ولملمتَ عن وجهي آثارَ كلامكَ ، وحزني ..

أتذكـُر ؟؟

لقد افترقنا كثيرا ، وطويلا في بعض المرات ، لكننا لم نفترق إلا بمقدار المسافة بين البؤبؤين أو البوّابين ..

☼☼☼

كنتَ ريحانة جمعيتنا ، وقرنفلتها الأنيقة العطرة ..

وكنتَ البسمة واللطف والهدوء والتعقل والأناة والحلم الذي نهلنا جميعُنا منه ، ولم ينقص مقداره عندك شعرة ..

وكنتَ الصوتَ الذي لا يجرح ، واللسانَ الذي لا يقدح ..

وكنتَ الحريصَ علينا جميعا كما لو كنتَ مسؤولا عنا ..

وكنتَ السبَّاق لما لا يُطلب منك ، ولِما لا تـُكلـَّفُ به ، إعزازا لك وتقديرا ..

لم نكن نطرب لنغمات وآهات " أبو عزيز " ، إلا على تمايلك وذوبانك بين الجميع وفيهم ..

ولم تكن تأكل لقمة إلا تخيّرْتَ أحسَنها ، فقدَّمْتـَها بأصابعك لمجاوريك ..

أنا أعرف ، أن الياسمين لا يُبكى في بلادي ..

فكيف أبكيك ؟؟!!

أعرف أن الياسمين خـُلق لينشرَ عبيرَه على المحبين ، منذ بزوغ أول خيوط الولادة ، حتى غياب الحياة ، في سرير الموت .. وقد فعلتَ ..

فشكرًا لكل الذين رفـّعوني إلى رتبة " صديقك " كرمى لك ..

شكرًا لكل الذين منحوني وسام الصداقة ، في خيمة عزائنا ، كرمى لك ..

شكرًا لكل مَن واسى " الصداقة " بنا ، وعزّاها ، واعترف برابطها المقدس ، كرمى لك ..

شكرًا لكَ ، صديقي ، فبفضلكَ ، رفـّعني محبّوكَ لهذه المرتبة الغالية المباركة ..

شكرًا لك ، أخي وصديقي مهدي ، فلقد كنتَ إنسانا يعمر الإيمانُ قلبَه وعقله .. فاقتبسنا منك ما ملأنا به عقولنا أنسًا ومحبة وتسامحًا ، ورصّعْنا به صدورَنا قلائدَ عزّ وفرح ..

وكنتَ مواطنا صالحًا ، ومناضلا عنيدًا صبورًا ، تحت كل الظروف والضغوط والمنعرجات ..

وكنتَ صديقا وفيًّا كما يليق بالوفاء وأهله .. ونقيا كالزلال الطهور ، شغوفا أكثر من شِغافك ، ومحبًّا من أخمصك ، حتى أجمل شعرة شقراء ، داعبتها نسماتُ " قلعة سمعان " ذات مساء .. أتذكـُر ؟؟

قدَرُكَ ، أخي وصديقي مهدي ، أن تنتظرني هناك ، كما انتظرتني هنا ..

وبالتأكيد ، لا أعرف إن كنتُ سأتأخر عليك كعادتي ، أم لا ..

تلك إرادة العلي القدير ..

الآن .. عزّت الذكرى ، وعزّ اللقاء أيها الصديق الفقيد ..

(( يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي ، وادخلي جنتي )) ..

تغمدك الله بواسع رحمته ، وعظيم مغفرته ..

لك الرحمة ، ولنا ولجميع ذويك ومحبيك العزاء والصبر والسلوان ..

(( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ..

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..

☼☼☼

(( لقد سميتها الإجازة الأنحس ، لسببين :

الأول : فقدان الصديق المرحوم مهدي ، في أول يوم منها ..

والثاني : فقدان الأخ المرحوم حج عباس حنيف طبرة في نهايتها ..

وكنت أجريت لقاء مطولا معه في 08/09/2010 ، وسافرت ، حتى كان مساء 15/12/2010 ، حين كنا في خيمة العزاء الأول ، حضر معزيا ، فحيَّا صديقي أبا محمد ، ومَن على يمينه ، وجلس دون أن ينتبه لوجودي في زحمة المعزين .. وعندما همّ بالمغادرة ، خطا نحوي ، فتعانقنا ، وعزاني ، واعتذر عن عدم انتباهه لحضوري غير المتوقع .. ومضى .. ولم نلتق بعدها حتى انتقل إلى جوار ربه ، في 29/12/2010 ..

تغمده الله بواسع رحمته ، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان )) ..

وظلَّ الموت مستمرا .. لم يتوقف طيلة أيام الإجازة ، رغم وعورة الطرق وأوحالها ومخاضاتها في البلدة ، وكثرة الحفر ، والخنادق ، وفوضى وازدحام المرور ..

ورغم توقف الاتصالات السلكية مع كل هطول مطري ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

الأحد ـ 09/01/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق