الثلم الأعوج من مبارك
في النظام السياسي العربي عموما ، لا يوجد حدود فاصلة بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية ، بل تتداخل وتتماهى ..
ومع مرور الوقت الطويل ، تختلط الاختصاصات والصلاحيات ، وتتحول ممارسة السلطة ، من واجب وطني ومهمة وأمانة ، إلى ممارسة " بحكم العادة " ، بدل أن تكون " بحكم الضرورة " ، وشتان بين هاتين الممارستين ، لما ينتج عن كل منهما من نتائج ذات أبعاد وتأثير كبير على صعيد الحياة الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد ومواطنيها ..
فالرئيس ، وبحكم النصوص الدستورية ، هو رأس السلطة التنفيذية ، وهو القائد الأعلى للجيش ، وهو المسؤول عن عمل كافة السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وما يرتبط بها من أجهزة ، وتناغمها بما يؤدي إلى تسيير أمور المواطنين والسهر على حفظ حقوقهم ، وتأمين متطلبات العيش ، وتوفير كافة الخدمات الضرورية لهم من خلال عمل الوزارات وبقية الجهات العامة ..
وتتمركز بيد الرئيس كثير من الصلاحيات الأخرى المنوطة بالأجهزة الحكومية ، إلا أن رؤساء تلك الأجهزة غالبا ما لا يستطيعون اتخاذ أي قرار أو إجراء هام يتعلق بمؤسستهم دون الرجوع إلى رأس الدولة ..
وهذا يعني أن السلطة كلها تتمركز في يد واحدة ، مما يعرقل حسن سير الأمور الإدارية والاقتصادية والسياسية ، ويشلها إذا لم يوقفها ..
وفي هذه الحال ، تصبح ممارسة السلطة " بحكم العادة " ، وهي أشبه بالارتجالية التي لا تخضع لا لقانون ولا لتشريع ، بل يتم تسيير السلطة أوتوماتيكيا ، فلا تـَلحَظ السلطة التغيرات التي تصيب المجتمع ، ولا تشعر بتأثيراتها وحاجاتها ، ولا تدرك مَواطن الخلل الحقيقية التي تنتج عن تلك الممارسة ، فتتفاعل وتتراكم تلك التغيرات ، حتى تغدو انعكاساتها على المواطنين شديدة التأثير السلبي ..
ومع الوقت ، تلتهب الجروح التي كانت سطحية في جسد المجتمع ، وتتقيح ، ويشتد الألم ، فتصير عصية على المُسَكنات والمُطهرات والمراهم وكل أنواع العلاجات التقليدية ، بل ، قد تزيدها التهابا إلى حد الانفجار ..
ولأن الألم لا يطيقه إلا المجانين ، فليس كل الشعب كذلك .. ومن هنا تبدأ نقطة الصفر ..
وهذا هو سبب ما آلت إليه الأمور في كل من تونس ومصر ، وربما يتعمم الأمر على اليمن مثلا ، والجزائر ..
ورغم أنها ليست بلادًا قليلة الموارد الطبيعية ، أو نادرة كالأردن ..
أما السلطة التي تمارَس " بحكم الضرورة " ، فهي السلطة المتابعة والدؤوبة التي تسهر على رعاية مصالح واهتمامات مواطنيها عن قرب ، ومن خلال التماس المباشر معها ، في كل الأماكن ، وفي كل الأوقات ..
فتراقب التطور الاجتماعي للنسيج الوطني كاملا ، باهتمام ووعي منها لدورها القيادي المسؤول ، وتتحسس حاجات مواطنيها ومتطلباتهم ، وتسارع إلى تلبيتها ، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ، تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية ، وأن تكون السلطة القضائية صمام أمان المجتمع ، يلجأ إليه المتضررون لاستعادة حقوقهم ممن اعتدى عليها ، أيا يكن موقعه أو مرتبته ..
وأن يكون هناك توازن مقبول بين الدخل الفردي والنفقة الضرورية لحياة كريمة ..
ومع اختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تلك البلدان ، إلا أنها تشترك فيما بينها في سمات السلطة السياسية التي تحولت إلى ممارسة من النوع الأول " بحكم العادة " ..
من هنا ، فإن الحديث التالي ، قد لا ينطبق على كل منها تماما ، لكن العموميات واحدة ، وإن كان ثمة خصوصية لهذا البلد أو ذاك ، ينفرد بها بعض الشيء عن غيره ..
حين استلم هؤلاء المسؤولون السلطة في بلدانهم ، أقبلوا عليها باندفاع ، واعتلوها وهم راغبون بها رغبة شديدة ، ساعون إليها سعيا حثيثا ، يحملهم شوقهم إليها على أجنحة الخيال ..
فأمسكوا بها إمساك الغريق برقبة منقذه ..
فتربّعوا .. وأطلقوا وعودا بالتطوير والإنعاش وتلبية حاجات المواطنين .. وعملوا بدأب لتوطيد أركان سلطانهم على الجيش والأمن والأحزاب والسلطات ، فتسلق عليهم الكثيرون من المنتفعين والمرتزقة والمطبلين والمزمرين تحت مسميات مختلفة كمستشارين وأعوان ، فحجبوا عن رؤسائهم مدى الرؤية الضروري لمتابعة الحياة العامة للبلاد ، فتقوقعوا ، وانشغلوا بتكتيكات داخلية أو خارجية تضمن لهم نفوذا طويل الأجل ، وتخففوا من بعض أعبائهم ومسؤولياتهم المباشرة لفريق ممن حولهم ، على أساس أنهم أكبر من أن ينشغلوا بصغائر الأمور ، وأنهم متفرغون للقضايا " الوطنية والمصيرية " الكبرى ..
في الوقت الذي لا يُسمح للسلطات الأخرى أن تمارس دورها الفعلي ، نظرا للمركزية وانعدام المبادرة الذاتية التي قد ترتب عليهم المساءلة ، من جهة ، ولوصاية بعض هؤلاء المستشارين على المراكز الحساسة ، بذرائع مختلفة ، تقمع بها مَن لا يسير وفق مصالحهم ، كونهم مقربين من مركز سلطة القرار ، من جهة ثانية ..
فكل العاملين تحت سلطته المباشرة ، هم مجرد موظفين يمارسون أدوارا مرسومة لهم ، فلا يجب عليهم تطويرها ولا إطلاق المجال لإبداعات تخفف الأعباء عن المواطنين ، بمقدار ما يكون العكس هو المطلوب ضمنا ..
وأحيانا كثيرة تنعدم الحافزية الشخصية عند هؤلاء خوفا من ردة الفعل التي قد تطيح بهم وبمصالحهم التي استفادوها من قربهم للنظام ..
فلا رئيس الوزارة رئيسها بحق ، ولا الوزير وزير في وزارته بحق ، ولا أي مسؤول ، مسؤول أمام سلطة حقيقية تحاسبه ، مع انتشار المحسوبيات والتدخلات من الأجهزة المتعددة والأحزاب الحاكمة والشخصيات المتنفذة ..
ومع الوقت ، تتكدس كل السلطات بيد الرئيس ، أو بمن يفوّضه بشيء منها ، كأن يكون " ابنه " مثلا ، أو صهره ، فيلجأ هؤلاء المفوضون إلى فرض نوع من الشراكة هي أقرب إلى التقاسم " المجاني " للثروات الشخصية التي يملكها كبار التجار والملاكين ، تحت طائلة أنواع من الضغوط التي يجدون أنفسهم منصاعين لها ، خوفا على ثرواتهم ، وإلا ...
فيصبح المفوَّضون شركاء في امتلاك الثروات الكبرى على مساحة كبار الملاك والتجار وأصحاب الشركات والمستثمرين وغيرهم ، على حساب تراجع حاد في مستوى الدخل الفردي الضروري لحياة الناس ..
وذلك كله ، في ظل حماية كاملة من النظام ، ورجاله الأخطبوطيين ، الذين لا يقصرون أيضا في ترتيب أوضاعهم ، والهبش من جثة الوطن ، بما يكفل لهم تكدس أرصدة هامة تؤمن لهم مستقبل عائلاتهم لثلاثين جيلا قادما ..
ومع تزايد الهوّة بين أبناء المجتمع ، وتفشي الفساد بكل أشكاله ، وأنواعه ومستوياته ، ينفرز المجتمع إلى طبقتين :
ـ طبقة تملك كل شيء ، وتحكم ، وهي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جدا من أبناء المجتمع ..
ـ بينما تتكوّن الغالبية الكبرى من الطبقة المسحوقة التي لا تجد كفافها اليومي ، وهي قلقة على مستقبلها ومستقبل أبنائها ، غير آمنة على نفسها من شر التسلط والفساد والمحسوبيات ، في ظل تراجع مستوى الخدمات الضرورية العامة ، كالطبابة والتعليم ، مترافقة مع جباية ضريبية جائرة ، وغلاء فاحش لأسعار السلع الغذائية والدوائية ، والعقارات ومواد البناء وغير ذلك ..
فكيف لا ينفجر الشعب في الشوارع التي ليس له ، حتى ، حق المشي فوقها بحرّية ؟؟!!
كيف لا تندفع الجموع غير آبهة بالرصاص الحي وبالدبابات ؟؟!!
كيف لا يحطم الجائع واجهة محل ليأخذ منه ما يأكله ؟؟!!
" أنا لا أعلل ولا أسوِّغ مظاهر التخريب المُدانة بكل أشكالها ، والتي يستغلها بعض الرّعاع ، لكن أيضا ، يوجد من يفعل ذلك لأنه جائع أو مريض أو محتاج ، ولم تؤمن له حكومته ما يسد به رمقه " ..
كيف لا يخرج الناس وقد رأوا بأم أعينهم كيف تم تزوير الانتخابات النيابية ، فصودرت حقوقهم ، وأحسوا بطعم المهانة ؟؟!!
كيف لا يخرج الناس محتجين على الفرز الطبقي الهائل ، وعلى الغلاء وعلى عدم تأمين رغيف الخبز ؟؟!!
إذن .. ما حاجة الشعب لكل هذه السلطة وهي عاجزة عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة له ؟؟!!
كيف لا يتظاهر الشعب وهو يرى حكامه يعادون الأمة العربية كلها ، ويتآمرون مع الأعداء ضد الأشقاء ، ويفرطون بأمنهم الوطني والقومي لصالح الصهاينة وأسيادهم ؟؟!!
كيف لا يفقد الناس عقولهم ، وهم يرون الحصار الظالم والجائر واللاإنساني الذي يفرضه النظام المصري على أشقائهم في غزة ، بينما يفرش السجاد الأحمر لقاتليه وجلاديه من الصهاينة ؟؟!!
كيف لا يخرجون وهناك ملايين العاطلين عن العمل والجائعين والمشردين في العشوائيات تحت أقسى الظروف التي لا يحتملها إنسان ؟؟
وكيف ؟؟ وكيف ؟؟ وكيف ؟؟
كثيرة هي الأسئلة التي لا يجد الشعب المكبوت جوابا لها ، فيخرج قافزا على كل الخوف والرعب والإرهاب السلطوي ، ولو فقد حياته ، كي يُسقِط تلك الرموز العميلة المتسلطة العاجزة عن تحقيق أي شيء لصالحه ، والقادرة على تحقيق كل شيء لصالح أعدائه ..
تحية للشعب العربي التونسي ، صانع ثورة الياسمين ..
تحية للشعب العربي المصري ، صانع المعجزات ، في أيام غضبه التي لم يحسب لها النظام ولا حلفاؤه ولا أزلامه حسابا ..
لقد جاء يوم الحساب ، وبأسرع وأشد مما تصوره النظامان ..
وكما استهان السادات بالشعب ، نافيا إمكانية أن يثأر منه " أولاده " جرّاء خيانته لهم ، فنال جزاء سوء عمله ، جاء اليوم الذي يدفع فيه فرعون مصر ثمن ولوغه في خيانة المصالح الوطنية والقومية للأمة العربية والشعب العربي ..
السبت ـ 29/01/2011