•<strong> مهداة إلى طفلة لم تولد بعد ، اسمها : لينا
الأولاد ناموا .. ووعاء الطعام ما يزال ينتظر عودة أبيهم .. ولم يبقَ عندي عملٌ أقومُ به قضاءً لوقتٍ بدأ يتثاقل عليّ ..
" لا بد أن شيئًا قد حدث ، فمنعه من العودة حتى هذه الساعة .. "
ليس من عادته أن يتأخر .. وإلا ، فإنه يُعْلمني مسبقًا ، أو يبعث لي خبرًا مع جارنا الذي يقاسمه العملَ على آلة واحدة .. لكنه قال هذه المرة :
(( استدعاه مديرُ المعمل ، وشاهدناه يخرج مع ثلاثة آخرين في سيارة انطلقت مسرعة ..))
" منذ سنتين ، غاب ليلة كاملة عن البيت .. وفي الصباح التالي ، كان وجهُه غيرَ طبيعي .. تبدو عليه علامات الإرهاق الشديد .. وعندما سألتُه مستفسرة ، قال بجفاف :
كنتُ في سهرة عند صديق لي ، وتأخر بنا الوقت ، فقضيت الليل عنده " ..
صدّقته في كل ما قال ، فليس من العادة أن يخبئ أحدُنا شيئا عن الآخر .. لكنه حينما غاب يومًا كاملا بعد أيام قلائل من المرة الأولى ، تأهّبْتُ للهجوم عليه بكل قوتي ، لمعرفة المكان الذي قضى فيه ليلته .. لكن عينيْه الكسيرتيْن ، ووجهَه المُمْتقع ، وكتفيْه المتهدليْن كجناحيْن منكسريْن ، أنسوْني ما كنت أعاني منه ، وتسارعتُ لمساعدته .. فبسطتُ له فراشًا اندسَّ فيه بكل ثيابه ، وجلستُ قربه كئيبة ، فيما كان الأولاد يتحرّكون ، والحزن يغلف وجوههم .. فجلسوا في ركن من البيت يتمتمون ويتهامسون ..
قضيْتُ شطرًا من الليل أرقبُه وهو يتقلب ، منصتة إلى تأوّهاته المصحوبة بهذيان لم أفهمْ منه إلا كلمات متناثرة ، حتى حسبت أن مسًّا أصابَ الرجلَ في عقله .. وعندما حدّثته عن حالته صباحًا ، هزّ رأسه ، ومضى يتعثر بخطواته ..
ست مراتٍ تكرّرتْ تلك الفِعلة ، وفي كل مرة ، كنتُ أتهيّأ لمعرفة سر غيبته ، فأفاجَأ بسوء حالته ، فأزدَردُ الخيبة ، وأصمت ..
لكن المرة الأخيرة منها ، كانت أطولَ من سابقاتها جميعًا .. غاب فيها خمسَ ليال متوالياتٍ ، تسرّبتْ خلالها الوحشة إلى نفسي وعقلي ، وصارت الشكوك شوكةً تخزّني لتزيدَ في عذابي واضطرابي ..
مزّقني طولُ الليالي الخمس .. وضجَّ الأولادُ .. وخجلتُ من نفسي أمامهم ، وأنا أعِدُهم كل ليلة بعودته ، فيستيقظون ليركزوا أنظارَهم على الفراش .. فأزوَرُّ متشاغلة عنهم ..
" هل اختطفتْه امرأة أخرى " ؟؟!!
" مُحالٌ ذلك ، إنه يحبّني ، ويحبُّ أولادَه كثيرًا .. ثم إنه لم يجْرحْني ذات يوم بكلمة تدلُّ على سوءِ نيّة كهذه " ..
ذهبْتُ إلى جارنا ثانية أستزيدُه شيئا من الأخبار .. فتبادر إليه أننا ربما نكونُ بحاجة لمساعدته ، فمدّ يده إلى جيبه وهو يقول :
ربما كنتم ....... وقبل أن يتمَّ كلامَه ، تراجعْتُ ، ومشيْتُ بخطواتٍ واسعة ، هي أقربُ إلى الهرولة منها إلى المشي ..
" إن ما في البيت يكفينا يوميْن آخريْن ، أو ثلاثة ، إذا أجحَفْتُ أكثرَ في التقتير " ..
ظهر اليوم السادس ، عاد زوجي .. كان نبتة صغيرة ذابلة ، انقطعَ عنها الماءُ في نهارات صيفٍ قائظٍ ..
قبَّلَ الأولادَ بحرارة وشوق ولهفة ، وهو يواري وجهه عنهم .. وعني .. ثم غفا بثيابه أيضا .. وتركته وحيدًا في الفراش رغم قلقي عليه ، ونمْتُ مع الأولاد ، تلبية لرغبته ، وأنا أجهَدُ في حبس دمعاتٍ تتسابقُ لتنفرَ من عينيَّ ..
" ما به ؟! .. يقتلني الشوق إليه ، وأراه عازفا عني !! "
استيقظ متأخرًا ، ورفضَ أنْ أدخلَ الحمّام معه ، وبقينا ثلاثة أشهر لم يجْمعْنا فراشٌ واحدٌ .. أرهقتْني خلالها الحيرة ، وأنا ألهث وراء تفسير يقنعني بتصرفاته ..
" ألمْ تعدْ لديْه رغبة بي ؟!
" ألم يعد قادرًا على معاشرتي ؟!
" إذا كان ذلك صحيحًا ، فما السبب ؟!
" أين فحولته التي أضاءت سوادَ ليالينا ؟!
" إن إصرارَه على النوم وحيدًا ، وانزواءَه ، وتجاهله لرغباتي ، أمورٌ تؤكد لي أن شيئًا ما مسّ رجولته في الصميم ..
" وإذ أحاولُ استفسارَه عما جرى ، يرفضُ الرّدَّ ، ويُرغي ويزبدُ كالملسوع ، وقد يهرب من البيت ..
وإذ يستفزني طولُ الصبر والهجر ، يكفهرُّ وجهُه ويقطب مُطرقا ومزورًّا عني ، ثم يرتجف كله ويهتز بعنفٍ وهو يكبت إجهاشه .. فأستاءُ من نفسي ، وأحاولُ استرضاءَه بأي ثمن .. ألتصق بظهره وأتمسّح به ، حتى يهدأ .. لكن الشوكة تخزّني بين الحين والآخر .. فأتحمّلها ، وقد أتردّدُ ، فتؤلمني الوخزة أكثر .. فتنطلق الكلماتُ من فمي ، فيغتاظ ، ويكفهرّ ، فأندم ، وأعود ثانية لأكفّرَ عن ذنبي ..
إلى أنْ تناسيْتُ كلَّ شيءٍ ..
" هل استجدّت الأسبابُ التي غيّبتْه في تلك الأيام " ؟!
فالليل مرتعٌ خصبٌ ، ينتشرُ فيه صمتُ الأشياء ..
وفيه تتفجّرُ ينابيعُ الألم ، والذكرياتُ الموجعة ..
وفيه أيضًا ، تبقى السيادة للخوف ، والخفافيش ، والرطوبة النتنة ..
كانون الثاني / يناير /1978
يوسف رشيد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق