السبت، 15 مايو 2010

ابنة الآغا - قصة قصيرة

أطبق شفتيه على سيكارة ، وانطلق يشق طريقه بين طالباته اللواتي رحْنَ يتسابقْنَ للوقوف في طريقه ، فتسأله هذه عن نقطة لم تفهمْها في الدرس ، وتسأله تلك عن مَرَاجِع الوظيفة الشهرية ، وثالثة عن اللون الذي يفضله ..

لقد ألِفَ منهنّ مثلَ هذه الأسئلة المفتعلة .. ولم تعد ْ خافية عليه..
((إنه في وادٍ آخرَ ، بعيدٍ عما حوله .. يجول في أفكاره أقطاب الأرض ..))
توجّه إلى غرفة المديرة .. راجَعَها في موضوع عابر.. وارتشف فنجان قهوة ، بينما كانت تثرثر إليه بكلمات تعيد معظَمَها للمرة الخامسة ، وفي رأسه أشياء يعتبرها أعظم بكثير مما تحدّثه به ((راضية خانم))..

فُتِحَ باب الغرفة عن إحدى المدرّسات ، خَطَتْ باتجاه الداخل .. اصطدمت بوجود ((ذَكرٍ)) داخل الغرفة .. ارتدّتْ مذعورة كهاربة من لفحِ نارٍ .. وصفعت الباب وراءها ..
قهقها معا داخل الغرفة .. ورفعتْ المديرة يديْها إلى شعرها تضغط عليه برفق ، وهي تقول : إنها مدرّسة العلوم الطبيعية .. ثم أضافت متسائلة : كيف قضت سنيّ حياتها الدراسية في الجامعة ؟؟!!..
لم يجبْها بشيء ..كانت عيناها ما تزالان تضغطان على جسده من كل أطرافه .. ها هما أمامه .. المديرة كلها تصبح عيونا تحملق فيه ..الطاولة كذلك .. والجدران .. والمقاعد .. كل ما حوله عيون ترمقه بنظرات تحمل معانيَ تاه في تفسيرها ..
وحينما وصلت نار السيكارة إلى أصابعه ، انتفض بقوةِ جملٍ ذُبِحَ لتوّه .. فدوّت في الغرفة قهقهة ((راضية خانم)) بينما افتّرتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة ، ولعناتٍ متكررةٍ متلاحقة ، فيما عقب السيكارة يموت سَحقا تحت قدمه ..

تمنّى ـ في سرّه ـ لو استطاع سحق تينك العينين ..
إنهما تؤرقانه ، وتزرعان في صدره الحقد الذي يذكّره ((بابنة الآغا))..

فرح لرنين الجرس ، إنه يخلصه من السجن المنفرد مع المديرة ، لكن ، لا ليذهبَ إلى الفضاء الرّحب الذي يفضله ، إنما إلى سجن آخر يضمه مع ثلاثٍ وأربعين طالبة ، لهن ست وثمانون عينا ..

لكن ثمة عينين اثنتين تكفيانه عن عشرة أمثال العدد الكلي ..

(( لقد كره عيني ابنة الآغا حينما كانت تنظر حولها ، فتزرع الرعبَ والرهبة في القلوب الطيبة الوادعة .. إنها تشمئز من رؤيتها لأقل مظهر من مظاهر بؤس هؤلاء الفلاحين المنزرعين أشجارا ، حسبهم عطاء الثمار ..))

(( كانت ـ آنذاك ـ تسخر منه بمرارة ، لا يشفع لها قولها : إنه وردة من شوكة .. معلقةً بذلك على حسن قراءته ، ونباهته .. ))
(( كانت توليه شيئا من اهتمامها ، وتتحيّن الفرص لتتحدّث إليه بتعالٍ ظاهرٍ .. إنه الفلاح ابن الفلاح الذي يملكه أبوها ، ملكه للثيران والأغنام التي تغصّ بها اسطبلاتهم وزرائبهم .. ))
(( لطالما كانت تثير في نفسه القرفَ والاشمئزازَ اللذيْن لا يقلاّن عن رؤية جرذٍ في فم قطٍّ شرس..))
(( في نفس الوقت ، كان ثمة شيءٌ ما يشده إليها ، حاول أن يكتشفه مرارا ، لكنه استعصى عليه ..كانت الأشعة من بريق عينيها ، تخترق رأسه ، وصدره ، وتنطلقان عبر السهول الخضر التي يملكها أبوها ..))
(( كان ـ في نظرها ـ ثوبا ترتديه وتنزعه متى تشاء ..))

***

أومأ لهنّ بالجلوس ، وتوجّه إلى السبورة ، خطّ عليها عنوان الدرس الجديد ، وانطلق لسانه ثورا هائجا في فمه .. تهدر الكلمات دون تلكؤ ، متحاشيا النظر إلى المقعد الثالث عن يمينه ..
إلا أن ذلك لم يكن ليعطيَه أمانا كافيا ..إنه عبد لهاتين العينين اللتين كره نظرتهما ، وكره النظر إليهما .. إنه يخمّن أنها تنظر إليه هكذا ، بشكل مقصود ، وكأنها تعرف أن في ذلك غيظا له ، فبَدَتْ لناظريه متمادية متعنتة ..

إنّ في وجهها استدارةً جذّابةً .. وشعرها حالك حلكة ليل قريته .. في جبينها اتساع نتناسق .. وعلى خدّيْها حمرةٌ باهتةٌ ..
عند إحدى نقاط الدرس ، توقف ، فألقى سؤالا ، وتحركتْ قدماه بين المقاعد .. إنه راغب في رؤية لون عينيها عن قربٍ ، لعل نظرتهما تختلف بقرب المسافة ..
انشدَّ إلى محاذاة مقعدها ، التفتَ إليها ، ومدّ اصبعه ـ كأنه يتهمها بجريمة لا علم لها بها ـ طالبا إليها الإجابة على سؤاله ..
نهضتْ واقفةً بأدبٍ جمٍّ .. أطرقتْ قليلا .. اهتاج في داخله .. لقد سألها لتنظر إليه لا لتخبّئ عينيها في صدرها .. ودَّ لو يمدُّ يده إلى وجهها ، يرفعه للأعلى قليلا كي يحملق مليا في عينيها .. يبحر .. يكتشف ذلك السر اللعين الكامن وراء نظراتها الشبيهة بنظرات ابنة الآغا ..
استند إلى المقعد ، وعيناه تتفحصان النصف البارز من خلفه .. ينتظر ارتفاع وجهها عن صدرها .. (( كأنه عاشق ستحييه نظرة من عينيْ فتاته ..))
شفتاها تتحركان بهدوء ، وهو يتعجل سرعة لقاء عينيها بعينيه ..
وحينما التقت نظراتهما ، طاف عقله في رحلة بحثٍ شاقةٍ عن السرّ الذي أجْهَدَهُ ، وأحرقَ وافرًا من أعصابه ..

لم يعِ إجابتها .. رأسه يهتزّ تلقائيا ، موحيا بموافقته على ما تقول .. نسي أنه في صفّ أنثوي ، وهؤلاء لهنّ ميزة الانتباه إلى الشاردة والواردة أمامهن ..
طالتْ وقفته قليلا .. أدرك ما يمكن أن يثيرَه ذلك من تهامس بينهن .. فتدارك بسؤال آخر ، ولم تلتفتْ عنه .. عيناها في عينيه ، وشفتاها تتسابقان في تصدير الكلام ، وأذناه في منأى عما تقول ..
سكتَتْ .. فجاء صوت من الخلف .. التفتَ إلى صاحبته مكرها ، وأنصتَ إليها ..
ثم أذِنَ لثالثة بالكلام .. وعاد إلى السبورة ، خطَّ عليها سطرين ، فتعالت الأصوات تستنكر ما كتب ، ضمن غوغائية ضاحكة ، ضجَّ الصف بها ..
التفت إليهن .. استغرب الضجيج .. هزّ رأسه بإيحائية خاصة ، وخطاه تتجه نحو مؤخرة الصف .. أعاد قراءة ما كتب .. لم يكن فيها ما يستوجب إثارة الضجيج ، فطلب إليها تفسير سبب هذه الغوغائية ، وقد أجهَدَ نفسه في تفهّم ما ستقوله ..
قالت : إن ما كتَبْتَه مناقض كليا لما أجبنا رغم صواب الإجابة ..
في نفسه غمغم : بأي شيءٍ أجَبْنَ ؟؟
لم يستحسن فكرة مطالبتهن بإعادة الإجابة .. سينعكس ذلك فكرة سيئة .. فكان لا بد من الصمت ..

إن خيبة الأمل التي لاقاها ، أفقدتْه كثيرا من توازنه .. لقد افتقد الصور التي تمنّى رؤيتها في عينيها ، افتقد سهولَ القرية ، وأبيات َ الطين ، والأزقةَ الضيقة الموحلة ، وشجرةَ الزيتون اليتيمة ، وبابَ دارهم القصبي الأصفر ، وقصرَ الآغا ، وابنته في الشرفة ترسل نظراتها شواظا لاهبة ..

أعادت الطالبة ما تحدّثتْ عنه ، وكأنها أدركت موقع أستاذها الحرج ، عندها قال بفرح :
إن الذي تقولين ، هو موضوع الفقرة التالية .. وطلب إليها أن تكتب ذلك على السبورة ..
(( إن ثمة شبها كبيرا بين شكلها من الخلف ، وشكل ابنة الآغا .. لاسيما أن طوليهما متقارب ، إن لم يكن متساويا ..))
(( كانت ابنة الآغا ، تناديه ليقرأ عليها فصولا من قصص زاخرة بالقصور والفخامات ، ومظاهر الأبهة.. وكانت تمشي جيئة وذهابا ضمن مسافة قصيرة تسمح لها بسماع صوت قراءته , وكان يسترق النظر إلى ظهرها .. لكن سرعان ما كانت نظراتها تعود إليه رماحا تتغلغل في أجزائه .. فيهرب ـ كارها ـ بين السطور ، تمقته تعليقاتها .. فكانت تقول :
حقير ، كيف تسمح له أخلاقيته للتزوج من فلاحة خادمة لديه ؟؟!!
وفي موضع آخر تقول :
حقا إنهم يستأهلون القتل أولئك الفلاحين المتمردين !!..
وفي موضع ثالث تردد بعصبية :
أمر عجيب ، يطالبون بالأرزاق وكأنهم أسياد الأرض لا عبيد لها !! ..
***
صمم أن تعفيَه المديرة من الدخول إلى ذلك الصف .. فابتسمت له بمكر قائلة : هل حدث مكروه ؟؟
قال ينفي التهمة عن نفسه : لا شيء أبدا .. إلا أنني لا أشعر بارتياح في إلقائي الدروس ، بل ،إني متألم لعدم قدرتي على العطاء التام ، نتيجة لجوٍّ خاصٍّ أشعر به هناك ..

بينها وبين نفسها ، ظلت المديرة في شك من المسوِّغات التي أدلى بها المدرِّس .. ومع ذلك ، فقد اعتذرتْ له بلطفٍ عن عدم إمكانية تحقيق ذلك ، وانطلقت معه في حديث مثالي عن التفاني في الواجب ، وبلوغ رضا الضمير ..
لعنها في داخله ، وصفق الباب خلفه ، متوجها إلى صف آخر ..
***
وحينما سارتْ به قدماه إلى موقف الباص ، فوجئ بوجودها هناك ..
قبل هذه المرة لم يلمحْها في هذا المكان .. فما الذي أتى بها الآن ؟؟ !! ..
ــ لن أنتظر الباص ، سأتابع ماشيًا .. قال في نفسه ، وأسرعَ خطاه متجاهلا وجودها إلى يساره ، كان يشعر بعينيها تثقبان كل جزء من جسده ، فيما كانت عيناه تثقبان الأرض عبر بوز حذائه ..

كانت سرعته دليلا قاطعا على جدِّيته في مواصلة المسير ، لكنها تقدّمتْ تقطع عليه الطريق .. إن في رأسها علامات استفهام كثيرة ، كان مبعثها حادثة اليوم ، إضافة إلى موقفه الدائم منها ، حتى إنها اعتبرتْ هدوءَها واحترامَها دافعيْن له في تصرفاته المتمادية هذه ..

كانت ـ خارج المدرسة ـ تشعر أنها في حِلِّ من العلاقة بين المدرِّس وطالبته ..إنها الآن لا تختلف عن أي فتاة ممن حولها ..
وحينما صار على بُعدِ خطواتٍ منها ، تراجعَتْ عن عزمها في الحديث معه ، بعد طول إصرار ، فاكتسى وجهها كآبةً ، واستدارتْ عن ملاقاته ، وتركتْ له ظهرها الذي يشبه ظهر ابنة الآغا ..
شيء من الارتباك اعترى خطواتِه ، بينما لم تترددْ نظراتُه في اختراق ظهرها .. إنها رائعة لولا أن في عينيها شيئا من ابنة الآغا ..
روعتُها لا يمكن أن تُفَوَّتَ .. ولكن .. زفرَ ، وهو يرمي بعقب سيكارته بعيدا عنه ..

(( كانت تحتقرني ، لكنها ترغب في أن أكونَ كلبا لها يصاحبها حيث تشاء ..))

(( كان والدي يدفعني بكلتا يديه للقائها ، هامسًا في أذني :
قلْ لها ألاّ يأخذوا شيئا من محصول القمح .. إنه لن يكفيَنا هذا العام ..))

(( كنت أحسب أن نظرات ابنة الآغا لي ، إنما كانت امتهانا يمتزج بقليل من الشفقة المتعالية .. لكني أستطيع ـ الأن وببساطة ـ أن أضيف إليها معنى آخرَ ، يعكس هذه النظرات على شخصها بذاته .. لأنها كانت تشمئز من نحافتي ، ومن ثيابي المهلهلة ..وكان كبرياؤها وصَلَفُها يأبيان عليها الجلوس والحديث مع هذا الصبي.. لكنّ ذكائي وتعفّفي وهدوئي ، جعلتْ مني أثيرا لديها بحظوة خاصة .. ))
(( لقد صار في مقدوري أن أبصقَ في وجهها ، دون أن أخاف عقوبة أو وعيدا ،، عساني أراها .. ))

***

كاد يضلّ الطريقَ إلى غرفته الجديدة ، وهو في غمرة من هذه التهويمات .. تلفّتَ حوله حينما وصل بداية الشارع المقصود ، في محاولة لاستكشاف نقاط ارتكاز تعينه على الوصول ، وتهديه إلى غرفته دونما جهد .. فرفع رأسه إلى أعلى في محاولةِ إحصاءٍ للطوابق التي تؤلف المبنى الذي يسكن فيه ..

في الطابق الثاني ، كان ثمة فتاة تنظر إليه باسمة ، حملق فيها ليتأكد من صدق ما تريه عيناه .. وقبل أن يكمل عملية الإحصاء ، مدَّ خطواتِهِ ، وأسرعَ يجتازُ ـ نزولا ـ الدرج المعتم إلى عمق المبنى ...

1977

فازت هذه القصة بالجائزة الثالثة
في مسابقة مجلة الثقافة الأسبوعية بدمشق ،
ونشرت في عددها /13/ تاريخ 26/آذار/1977

18/آذار/2010 يوسف رشيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق