1 ـ زهدان :
بين جنبات الوديان المترامية ، يتردد الصدى قويًا رجراجًا ،
يزيده الليل قوةً ومهابة .. فيصير للعتمة طعم آخر ، وترتسم في المخيلة صورٌ تتحرك مسرعة ، وفق تواتر يخلخل توازن الأعصاب ، ويبعث في النفس ذعرا مقيتا ..
تسارعتْ خطاه تجاه مصدر الصوت ، عرَفَه آتيا من طاحونة ضخمة .. جاءها من الخلف ، ثم دنا من بابها ، واسترق نظرة إلى الداخل من فتحة ضيقة فيه .. تواردتْ إلى عقله أفكار لا يجمع بينها سوى أنها وردتْ في لحظة واحدة ، وفي مكان واحد .. مدَّ يدًا مترددةً إلى الباب ، أحسَّ أن حجرَ الرّحى صارت تدور فوق رأسه .. وعربدت أمام عينيه آلافٌ من الخيول الجامحة ..
" إذ بين الدخول وعدمه ، تتحدّد المعالم ويتقرر المصير "
.
تراجع عن الباب مرتعدًا ، والتجأ إلى جداريْن واطئين خلف الطاحونة ، تكوّرَ بينهما ، واسترخى ..
أشرقت الشمس من عينيه .. نام وقتا أطولَ من سنوات عمره الثلاثين .. كان حوله بغال وحمير ترعى في مرج أخضر واسع .. تلفّتَ حوله ، تجمّعَتْ في رأسه مشاريع كثيرة .. ذهب إلى بغل ضخم .. قفز إلى ظهره ، ولكزه بكعبيه ، فانطلق يجري جامحا ، وصوت الطاحونة يلاحقه ، والخضرة تزداد قتامة أمام ناظريه .. والطريق طويلة .. فأين تكون النهاية ؟.
إن ثمّة عارًا ينتظره ، ليرميَه في حضيض آسن ، فيما إذا ألقي القبض عليه قبيل ابتعاده ..
يتناهى صوتُ الطاحونة إلى أذنيه كضربات تتساقط على رأسه بانتظام رتيب ، لكنه ألفى نفسَه وقد استدار به البغل عائدا ، وراحت قدماه تلكزانه في خاصرتيه ..
قرب الطاحونة ، رأى رجلا ضئيلَ الجسم ، لم يتوقف البغل إلا بجانبه .. كانت على وجهه علامات ضِيق مشروع ..
قال بصوتٍ عالٍ متجاهلا ردّ السلام :
أتعرف لمن البغل ؟
أجاب بهدوء : لا أعلم ..
فقال الرجل الضئيل بنفس اللهجة الحمقاء : وكيف تركبه ؟؟!!
قال : أريد شراءه .
ــ ومنْ قال لكَ إنني سأبيعه ؟؟!!
لم ينتظر جوابًا ، سَحَبَ البغلَ ، ومشى تجاه باب الطاحونة ، وشفتاه ترسلان كلمات تضيع في صخب وضجيج ..
" إنه لمن المناسب أن أعمل في هذه الطاحونة .. هل يسمح لي صاحبها ؟.. أيكون بحاجة لعامل مثلي ؟؟ "
" أين سأذهب إذا أُغلقَ الباب في وجهي ؟؟ "
" لن تكلفني المحاولة شيئا .. إنها مجانية .. "
تقدّمَ إلى واجهة الطاحونة ، كان رجال كثيرون يتكلمون بأصوات عالية مع رجل مُغْبَرِّ الثياب والوجه والشعر .. تجاهلهم وعبَرَ البابَ إلى الفسحة الداخلية .. تلفّتَ في المكان .. تحرَّكَ بين الأكياس والدلو والفوهة .. قام بما تستلزمه المهنة كطحان عتيق .. أفرَغ كيسا في الدلو، حين فاجأه الرجل المغبرُّ سائلا : هل هذا كيسُكَ ؟؟ .. كان السؤال عاديا ، فلم يترك في نفسه شيئا من الرهبة، وأجابه بهزّة نفْي من رأسه ..
ــ من أنت ؟ ماذا تفعل هنا ؟؟
كان وقع السؤال أقوى من ضربات الطاحونة الهادرة .. يتكرر صداه في أذنيْه متجاوبا مع دقاتها ..
أيُفصِح له عن اسمه ؟؟ وأي شيء يِجدي نفعا غير ذلك ؟؟
" فإذ تضيق الأرض ، تصبح أصغر من خيمة عاشقيْن " .
خرجَتْ من شفتيه كلماتٌ أخفى صوت الطاحونة ما فيها من تردد ووجل :
ــ اسمي زهدان .. وجئتُ أعمل لديكم أجيرًا ، لعلمي أنكم بحاجة ...
ظلت الطاحونة وحدها تتكلم بلغتها الخاصة ، وبصوتها القوي المتميز ، فيما يتبادلان نظراتٍ متوجّسة ، ثم أشار الرجل المغبرُّ ـ صاحب المطحنة ـ له بيده أن يتابع العمل ..
۞۞۞
تكاثفَ الطحين على وجهه وشعره وثيابه ، فبانَ كالأشيب الهرم .. وعُرِفَ ب "زهدان الطحان" ..
شعر بطمأنينة وأمان ، حتى ذاب في الطاحونة .. صار قطعة منها ، بينما كان صاحبها "عبد المولى" قد ابتنى لنفسه بيتا في سفح الجبل الغربي ، وضمَّ إليه زوجتيْه وأولاده ، واشترى فرسا رشيقة ، زيّنها بسرج مزركش جميل ..
وأُلحِقتْ بالواجهة غرفة صغيرة ، ينام فيها زهدان ، تُؤنسُه في لياليه (بارودة كسرية) ، استلمها من عبد المولى ملفوفة بكيس ملطخ ببقع الزيت ..
ولما تعرّف إلى " أم حليمة " أطلقَ اسمها على البارودة ، فازداد فرحُه بها ، وهي إلى جانبه في الفراش ، تمنّيه بأم حليمة ، بأنوثتها المهفهفة ..
(( كانت المرأة الوحيدة التي تتردّد على الطاحونة كل شهرين مرة .. وكانت لغزا لم يستطع الإمساك بمفتاح أولي له ..لأن في مجيئها غرابةً قصوى ، لا سيما أن الطاحونة تبعد عنها ساعتين مسيرا ، ولم يسبق أن جاءت أخرى بكيسها للطاحونة كما تفعل أم حليمة ..))
أرّقه بعدُها عنه .. فتقصّد مرة أن يؤخر لها دورها ، حتى يخف الزحام ، عساه يظفر بإشارة تهديه إلى رأس الخيط ..
۞۞۞
2 ـ أم حليمة :
كانت زوجة سعيدة لشاب قوي البنية ، عنيد الرأس ، عصبي المزاج ، طيب القلب .. نال ابنَ صاحب الأرض بضرباتٍ موجعة حين لمح في عينيه نظرات غدر تجاه زوجته ..
فأوثقه الدرك إلى جذع شجرة في فناء إحدى زرائب صاحب الأرض ، وانهالوا عليه بالسياط ، ثم أغرقوه في الحوض الذي تشرب من الحيوانات ..
نام بعدها أكثر من ستين يوما طريح الفراش ، فتقرّحت جروحه ، وأصابته حمى شديدة في رأسه ، وتوقف لسانه عن كل شيء إلا الهذيان ، حتى تجمّع أهل القرية على أصواته ، حين بدأت الروح تنسلّ رويدا من أطرافه ..
وكانت حاملا في شهرها الرابع ، فأنجبتْ حليمةَ هذه ، وكانت هزيلة ، دقيقة العود ، أخذتْ عن أمها استدارةَ الوجه ، وبياضَه ، واتساعَ العينين ، رغم أنها تحمل كثيرا من صفات أبيها ..
لكنّ الإهانة كانت أكبر من موته ، فلم يكتفوا بضحية واحدة ، بل حالوا بينها وبين الزواج ، حتى كادوا يقتلون "سعيدا" لإصراره وعناده ، لكنه تراجع حين رأى الموت في نصل سكين حادة ..
إنها جميلة ووديعة ، يقدّرُها الناس لإبائها وأنفتها عن كل ما قُدِّمَ لها من مغريات ..
فيها أنوثة امرأة في أوائل الثلاثينيات ، تشع وتتوهج ، لكنها تلسع حين الضرورة ..
(( لن يعتلي صهوتك فارسٌ إلاي، أيتها الفرس الحرون ..))
تلمّظ زهدان بعد أن انتشى لذلك الخاطر الذي نقله إلى دفء الحنين المنتظر ، وبقي في مكانه عمودا أزليا ، حتى غابتا في منعطف بعيد ..
دخل غرفته ، تمدّدَ قليلا .. لم تطقِ الأرضُ جلوسه ، عاد إلى الطاحونة ، جابَ أنحاءها ، حاول أن يقوم بعمل ما ، لكنه لم يجد ما يمكن أن يفعله .. كانت صورتها في عينيه لا تفارقهما .. تكوّنتْ له شمسًا أنارت الظلام في معمورته الشخصية ..
" ليس أصعب من انتظار شهرين آخرين .. وقد تسمح له الفرصة بحديث آخر ، وقد لا تسمح .. والذهاب إليها محال" ..
" أيكون الغَرَقُ في الخضمّ محتّما ؟؟ "
أجابه وقع حوافر فرس عبد المولى ، خرج إليه ، تحدّثَا بكلمات سريعة مبتورة ، وسأله إن كان بحاجة لشيء .. ثم انطلقت به فرسه سريعا .. وبقي زهدان وحيدا مع الليل والطاحونة وعواء الذئاب ..
أحسّ ـ لمرة الأولى ـ انه سجين مؤبد .. وبدأت الهواجس تنتابه ، وتؤرقه ، حتى فكر في أن يسترشد برأي عبد المولى ، لكنه تراجع أمام احتمال الرفض الذي قد يواجهه به ..
وبقي الانتظار .. إنه الخِيار الأصعب ، لكنْ ، لا سبيل لغيره ..
بين جنبات الوديان المترامية ، يتردد الصدى قويًا رجراجًا ،
يزيده الليل قوةً ومهابة .. فيصير للعتمة طعم آخر ، وترتسم في المخيلة صورٌ تتحرك مسرعة ، وفق تواتر يخلخل توازن الأعصاب ، ويبعث في النفس ذعرا مقيتا ..
تسارعتْ خطاه تجاه مصدر الصوت ، عرَفَه آتيا من طاحونة ضخمة .. جاءها من الخلف ، ثم دنا من بابها ، واسترق نظرة إلى الداخل من فتحة ضيقة فيه .. تواردتْ إلى عقله أفكار لا يجمع بينها سوى أنها وردتْ في لحظة واحدة ، وفي مكان واحد .. مدَّ يدًا مترددةً إلى الباب ، أحسَّ أن حجرَ الرّحى صارت تدور فوق رأسه .. وعربدت أمام عينيه آلافٌ من الخيول الجامحة ..
" إذ بين الدخول وعدمه ، تتحدّد المعالم ويتقرر المصير "
.
تراجع عن الباب مرتعدًا ، والتجأ إلى جداريْن واطئين خلف الطاحونة ، تكوّرَ بينهما ، واسترخى ..
أشرقت الشمس من عينيه .. نام وقتا أطولَ من سنوات عمره الثلاثين .. كان حوله بغال وحمير ترعى في مرج أخضر واسع .. تلفّتَ حوله ، تجمّعَتْ في رأسه مشاريع كثيرة .. ذهب إلى بغل ضخم .. قفز إلى ظهره ، ولكزه بكعبيه ، فانطلق يجري جامحا ، وصوت الطاحونة يلاحقه ، والخضرة تزداد قتامة أمام ناظريه .. والطريق طويلة .. فأين تكون النهاية ؟.
إن ثمّة عارًا ينتظره ، ليرميَه في حضيض آسن ، فيما إذا ألقي القبض عليه قبيل ابتعاده ..
يتناهى صوتُ الطاحونة إلى أذنيه كضربات تتساقط على رأسه بانتظام رتيب ، لكنه ألفى نفسَه وقد استدار به البغل عائدا ، وراحت قدماه تلكزانه في خاصرتيه ..
قرب الطاحونة ، رأى رجلا ضئيلَ الجسم ، لم يتوقف البغل إلا بجانبه .. كانت على وجهه علامات ضِيق مشروع ..
قال بصوتٍ عالٍ متجاهلا ردّ السلام :
أتعرف لمن البغل ؟
أجاب بهدوء : لا أعلم ..
فقال الرجل الضئيل بنفس اللهجة الحمقاء : وكيف تركبه ؟؟!!
قال : أريد شراءه .
ــ ومنْ قال لكَ إنني سأبيعه ؟؟!!
لم ينتظر جوابًا ، سَحَبَ البغلَ ، ومشى تجاه باب الطاحونة ، وشفتاه ترسلان كلمات تضيع في صخب وضجيج ..
" إنه لمن المناسب أن أعمل في هذه الطاحونة .. هل يسمح لي صاحبها ؟.. أيكون بحاجة لعامل مثلي ؟؟ "
" أين سأذهب إذا أُغلقَ الباب في وجهي ؟؟ "
" لن تكلفني المحاولة شيئا .. إنها مجانية .. "
تقدّمَ إلى واجهة الطاحونة ، كان رجال كثيرون يتكلمون بأصوات عالية مع رجل مُغْبَرِّ الثياب والوجه والشعر .. تجاهلهم وعبَرَ البابَ إلى الفسحة الداخلية .. تلفّتَ في المكان .. تحرَّكَ بين الأكياس والدلو والفوهة .. قام بما تستلزمه المهنة كطحان عتيق .. أفرَغ كيسا في الدلو، حين فاجأه الرجل المغبرُّ سائلا : هل هذا كيسُكَ ؟؟ .. كان السؤال عاديا ، فلم يترك في نفسه شيئا من الرهبة، وأجابه بهزّة نفْي من رأسه ..
ــ من أنت ؟ ماذا تفعل هنا ؟؟
كان وقع السؤال أقوى من ضربات الطاحونة الهادرة .. يتكرر صداه في أذنيْه متجاوبا مع دقاتها ..
أيُفصِح له عن اسمه ؟؟ وأي شيء يِجدي نفعا غير ذلك ؟؟
" فإذ تضيق الأرض ، تصبح أصغر من خيمة عاشقيْن " .
خرجَتْ من شفتيه كلماتٌ أخفى صوت الطاحونة ما فيها من تردد ووجل :
ــ اسمي زهدان .. وجئتُ أعمل لديكم أجيرًا ، لعلمي أنكم بحاجة ...
ظلت الطاحونة وحدها تتكلم بلغتها الخاصة ، وبصوتها القوي المتميز ، فيما يتبادلان نظراتٍ متوجّسة ، ثم أشار الرجل المغبرُّ ـ صاحب المطحنة ـ له بيده أن يتابع العمل ..
۞۞۞
تكاثفَ الطحين على وجهه وشعره وثيابه ، فبانَ كالأشيب الهرم .. وعُرِفَ ب "زهدان الطحان" ..
شعر بطمأنينة وأمان ، حتى ذاب في الطاحونة .. صار قطعة منها ، بينما كان صاحبها "عبد المولى" قد ابتنى لنفسه بيتا في سفح الجبل الغربي ، وضمَّ إليه زوجتيْه وأولاده ، واشترى فرسا رشيقة ، زيّنها بسرج مزركش جميل ..
وأُلحِقتْ بالواجهة غرفة صغيرة ، ينام فيها زهدان ، تُؤنسُه في لياليه (بارودة كسرية) ، استلمها من عبد المولى ملفوفة بكيس ملطخ ببقع الزيت ..
ولما تعرّف إلى " أم حليمة " أطلقَ اسمها على البارودة ، فازداد فرحُه بها ، وهي إلى جانبه في الفراش ، تمنّيه بأم حليمة ، بأنوثتها المهفهفة ..
(( كانت المرأة الوحيدة التي تتردّد على الطاحونة كل شهرين مرة .. وكانت لغزا لم يستطع الإمساك بمفتاح أولي له ..لأن في مجيئها غرابةً قصوى ، لا سيما أن الطاحونة تبعد عنها ساعتين مسيرا ، ولم يسبق أن جاءت أخرى بكيسها للطاحونة كما تفعل أم حليمة ..))
أرّقه بعدُها عنه .. فتقصّد مرة أن يؤخر لها دورها ، حتى يخف الزحام ، عساه يظفر بإشارة تهديه إلى رأس الخيط ..
۞۞۞
2 ـ أم حليمة :
كانت زوجة سعيدة لشاب قوي البنية ، عنيد الرأس ، عصبي المزاج ، طيب القلب .. نال ابنَ صاحب الأرض بضرباتٍ موجعة حين لمح في عينيه نظرات غدر تجاه زوجته ..
فأوثقه الدرك إلى جذع شجرة في فناء إحدى زرائب صاحب الأرض ، وانهالوا عليه بالسياط ، ثم أغرقوه في الحوض الذي تشرب من الحيوانات ..
نام بعدها أكثر من ستين يوما طريح الفراش ، فتقرّحت جروحه ، وأصابته حمى شديدة في رأسه ، وتوقف لسانه عن كل شيء إلا الهذيان ، حتى تجمّع أهل القرية على أصواته ، حين بدأت الروح تنسلّ رويدا من أطرافه ..
وكانت حاملا في شهرها الرابع ، فأنجبتْ حليمةَ هذه ، وكانت هزيلة ، دقيقة العود ، أخذتْ عن أمها استدارةَ الوجه ، وبياضَه ، واتساعَ العينين ، رغم أنها تحمل كثيرا من صفات أبيها ..
لكنّ الإهانة كانت أكبر من موته ، فلم يكتفوا بضحية واحدة ، بل حالوا بينها وبين الزواج ، حتى كادوا يقتلون "سعيدا" لإصراره وعناده ، لكنه تراجع حين رأى الموت في نصل سكين حادة ..
إنها جميلة ووديعة ، يقدّرُها الناس لإبائها وأنفتها عن كل ما قُدِّمَ لها من مغريات ..
فيها أنوثة امرأة في أوائل الثلاثينيات ، تشع وتتوهج ، لكنها تلسع حين الضرورة ..
(( لن يعتلي صهوتك فارسٌ إلاي، أيتها الفرس الحرون ..))
تلمّظ زهدان بعد أن انتشى لذلك الخاطر الذي نقله إلى دفء الحنين المنتظر ، وبقي في مكانه عمودا أزليا ، حتى غابتا في منعطف بعيد ..
دخل غرفته ، تمدّدَ قليلا .. لم تطقِ الأرضُ جلوسه ، عاد إلى الطاحونة ، جابَ أنحاءها ، حاول أن يقوم بعمل ما ، لكنه لم يجد ما يمكن أن يفعله .. كانت صورتها في عينيه لا تفارقهما .. تكوّنتْ له شمسًا أنارت الظلام في معمورته الشخصية ..
" ليس أصعب من انتظار شهرين آخرين .. وقد تسمح له الفرصة بحديث آخر ، وقد لا تسمح .. والذهاب إليها محال" ..
" أيكون الغَرَقُ في الخضمّ محتّما ؟؟ "
أجابه وقع حوافر فرس عبد المولى ، خرج إليه ، تحدّثَا بكلمات سريعة مبتورة ، وسأله إن كان بحاجة لشيء .. ثم انطلقت به فرسه سريعا .. وبقي زهدان وحيدا مع الليل والطاحونة وعواء الذئاب ..
أحسّ ـ لمرة الأولى ـ انه سجين مؤبد .. وبدأت الهواجس تنتابه ، وتؤرقه ، حتى فكر في أن يسترشد برأي عبد المولى ، لكنه تراجع أمام احتمال الرفض الذي قد يواجهه به ..
وبقي الانتظار .. إنه الخِيار الأصعب ، لكنْ ، لا سبيل لغيره ..
۞۞۞
3 ــ زهدان وأم حليمة :
قالت له : قد يقتلونك ..
قال : أتحدّاهم ..
قالت : في المرة القادمة نقرر ..
قال بإصرار وتأكيد : تذهبين اليوم ، وتعودين غدا أنتِ وابنتكِ .. ولا أقبل بغير ذلك ..
نظرتْ إليه بغرابة ، ظنتْه يمازحها ، أو يسخر منها ، لكنها أدركتْ صدق كلامه ، وجِدّيته ، حين كرّر بحرارة ولهفة :
ــ غدا سنكون أسعدَ زوجيْن ..
قالت وكأنها تشكك في كلامه : وحليمة ؟؟ !!
قال : هي ابنتي ..
أدارت ظهرها ومضت حليمة في إثرها ، بينما كان صوته يلاحقهما : لا تنسَيْ أن لكِ زوجًا ينتظركَ ..
۞۞۞
تلك الليلة ، كان طفلا لم يذق طعم الشقاء بعد .. نسي أن حياته قد لا تطول لساعة أخرى .. ولم تعد تعني له كل الأحداث الماضية شيئا .. وها هو يغني لنفسه في ليل زفافه .. وغدًا ستضمهما هذه الغرفة الواطئة السقف ، وسيشهد على ذلك مصباح الكاز الصغير ، الذي لم يجرؤ على إطفائه هذه الليلة ..
حدّق في السقف : " هل ستسأله عن أهله وقريته ؟ "
" أيُعقَلُ أن تكون قد اطمأنت إليه بهذه السرعة ؟ "
" هل يحكي لها عن حبه لأمينة ، وأنه مطارد ومهدد بالقتل ثارا لها ؟؟ "
" هل ستوافق على الزواج من رجل يتهدده الموت ؟؟ أما كفاها موت زوجها الأول ؟؟ "
" لماذا لا يخفي عنها كل ذلك ؟؟ "
" لكن ؟، أتعود غدا ؟؟ "
" لاشيء في الأفق ينفي أو يؤكد .. "
۞۞۞
غير بعيد ، في الطريق الترابية بين القرية والطاحونة ، كان ثمة رجال الدرك راكبين خيولهم الرامحة ، وعبد المولى يجر فرسه ، وعلى ظهرها جثة تعرّفتْها أم حليمة من الثياب التي تجمّدت على أجزاء منها بقعُ دم داكنة .. فيما لم يكن للطحين أي أئر عليها ..
1978
نشرت في مجلة الثقافة الأسبوعية ،
العدد 23ـ تاريخ 05/حزيران/1982
الخميس ـ الأول من نيسان ـ 2010
يوسف رشيد
3 ــ زهدان وأم حليمة :
قالت له : قد يقتلونك ..
قال : أتحدّاهم ..
قالت : في المرة القادمة نقرر ..
قال بإصرار وتأكيد : تذهبين اليوم ، وتعودين غدا أنتِ وابنتكِ .. ولا أقبل بغير ذلك ..
نظرتْ إليه بغرابة ، ظنتْه يمازحها ، أو يسخر منها ، لكنها أدركتْ صدق كلامه ، وجِدّيته ، حين كرّر بحرارة ولهفة :
ــ غدا سنكون أسعدَ زوجيْن ..
قالت وكأنها تشكك في كلامه : وحليمة ؟؟ !!
قال : هي ابنتي ..
أدارت ظهرها ومضت حليمة في إثرها ، بينما كان صوته يلاحقهما : لا تنسَيْ أن لكِ زوجًا ينتظركَ ..
۞۞۞
تلك الليلة ، كان طفلا لم يذق طعم الشقاء بعد .. نسي أن حياته قد لا تطول لساعة أخرى .. ولم تعد تعني له كل الأحداث الماضية شيئا .. وها هو يغني لنفسه في ليل زفافه .. وغدًا ستضمهما هذه الغرفة الواطئة السقف ، وسيشهد على ذلك مصباح الكاز الصغير ، الذي لم يجرؤ على إطفائه هذه الليلة ..
حدّق في السقف : " هل ستسأله عن أهله وقريته ؟ "
" أيُعقَلُ أن تكون قد اطمأنت إليه بهذه السرعة ؟ "
" هل يحكي لها عن حبه لأمينة ، وأنه مطارد ومهدد بالقتل ثارا لها ؟؟ "
" هل ستوافق على الزواج من رجل يتهدده الموت ؟؟ أما كفاها موت زوجها الأول ؟؟ "
" لماذا لا يخفي عنها كل ذلك ؟؟ "
" لكن ؟، أتعود غدا ؟؟ "
" لاشيء في الأفق ينفي أو يؤكد .. "
۞۞۞
غير بعيد ، في الطريق الترابية بين القرية والطاحونة ، كان ثمة رجال الدرك راكبين خيولهم الرامحة ، وعبد المولى يجر فرسه ، وعلى ظهرها جثة تعرّفتْها أم حليمة من الثياب التي تجمّدت على أجزاء منها بقعُ دم داكنة .. فيما لم يكن للطحين أي أئر عليها ..
1978
نشرت في مجلة الثقافة الأسبوعية ،
العدد 23ـ تاريخ 05/حزيران/1982
الخميس ـ الأول من نيسان ـ 2010
يوسف رشيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق