السبت، 15 مايو 2010

نبليات 3

نـُبُّـليّـااااااات
3

( في البدء ، لا بد من توضيح بسيط ، يرجى تذكره جيدا :

* إن الكلمات التالية تتناول مرحلة زمنية ، لا يمكنني تحديد بدايتها تماما ، لكن نهايتها محددة حتما ، وهي مطلع عام 1950 من القرن العشرين ، وعليه ، فإن ورود بعض الأسماء (فيما سيأتي لاحقا) منوط بمعاصري تلك المرحلة حصرا ، أو ممن ولدوا قبل ذلك بقليل ، وكان لهم تأثير فيما بعد ॥ اقتضى التنويه .. )
من الأمور التي ما زلت أشعر بالأسى الشديد لها ، أنني لا أذكر شيئا من سنوات طفولتي الثلاث ، التي قضيتها في الضيعة قبل أن ينقلنا والدي إلى حلب ، بُعَيد منتصف القرن الماضي ، في هجرة داخلية لا تبعد أكثر من خمسة وعشرين كيلو مترا ، لكنها كانت بالنسبة لي ـ آنذاك ـ أبعد من النجوم ، وربما تهون أمامها الآن أي هجرة أخرى خارجية أو داخلية ولو لآلاف الكيلو مترات ...

لذلك كان طموحي وهدفي وغايتي ومناي وأملي ورجائي أن أفِرّ إلى الضيعة ، كلما سنحت لي الفرصة ، في كل الفصول وفي كل الأوقات وفي كل الظروف وفي كل المناسبات ..
وبقيت الضيعة في مخيلتي ملاذا هادئا وأمينا ومحببا وآسرا ، يهون أمامه كل شيء ..

فإذا ذهبتُ في الشتاء أستعيرُ من ابن عمتي جزمتة طويلة الساق ، كي أخبّ في أخاديد الماء والوحل الناتجة عن عجلات التراكتورات ، وفي الصيف أستأنس بالنوم على البيدر مع أبناء عمتي ، وأنتظر موسم ( بسبسة الكشك وتقطيعه ) بفارغ الصبر ، وكثيرا ما كنت أعود إلى حلب مريضا بسبب التلبك المعوي الناتج عن تناولي كمية كبيرة من الكشك الذي أحبه بكل حالاته ومراحله .. كما كان الخروج باكرا إلى حقول (الصيفي ) أمرا خرافيا محببا لي ، أعدّ له من المساء وأرجوهم أن يوقظوني ، فأركب الحمار خلف أحدهم ونمضي ( بأسرع مما هي عليه طائرات اليوم ) ونحن نحاول أن نسبق ظلنا إذا كان أمامنا ، ومع ذلك كنت فاشلا جدا في العثور على ما يمكن أن أحوشه من خطوط الصيفي ، عجورا كان أو قتة أو فضالا ...
وفي الربيع لا بد من مشوار متواضع إلى القريعة مع كعك التنور والبيض المسلوق المكمّد بالكمون المجروش ، بالإضافة إلى ورق البصل الأخضر .. وحين كنت أنتبه لنفسي أجد الطين الأحمر قد وصل لنصف ظهري ، فيما لم تسلم منه بقية أجزاء ملابسي ، رغم حرصي الشديد على تجنب ذلك ، لكن أين المفر؟؟!! ولأنه ليس معي ملابس احتياطية لتبديل ما تلطخ بالطين منها ، كانوا كل يوم يغسلون ملابسي وينشفونها قرب نار الأثفية ، فآوي إلى الفراش قربها مستمتعا بدفئها وشكل لهيبها ، فيما يتعكنن سقف البيت الطيني بالدخان ، وينطلق السعال من هنا وهناك ، فأتلقى عتابا من أقراني ، بأنه لو حافظت على نظافة ثيابي لما كنا مجبرين على تحمل هذا الغَبّ من الدخان ...

***
كل ذلك كوم ، وإذا زارَنا من الضيعة أحدُ الأقارب ، كومٌ آخر.. عندها لا بد من أن أتحايل على أمي ـ رحمها الله ـ كي تسمح لي بالذهاب إليها معه .. وكانت ترفض أن تتحمل مسؤولية الموافقة ، ولا سيما أيام الدوام المدرسي ، أما إذا كان أبي في البيت ، فالأمر شبه مستحيل ، لكني أبكي بحرقة وأجهش أمام أمي ـ وأنا صغيرها المدلل ـ فيرق قلبها وتتدخل لدى والدي ، وتهوّن عليه الأمر بأنني لن أغيب عن المدرسة ، وأنها ستدثرني بكثير من الملابس ـ إذا كنا في الشتاء ـ وتطلب مني أمامه محذرةً ، أن لا أخبّ في الوحل وأن لا أتعرض للبرد كي لا أعود إليهم مريضا ككل مرة ... وهكذا حتى أنال الموافقة بعد جهد جهيد .. فإذا نلتها كان ذلك عيد الأعياد ، فأمضي للاستعداد بعين قوية وسط حسد أخواتي لي ، وأنا أجهز نفسي بسرعة البرق ، وانطلق متغندرا لا تسعني الأرض كلها فرحا وغبطة ، فأنا ذاهب إلى الضيعة وكفى ....

وإذا ما فشل مسعى أمي ، أغافل أبي أو أتصيد لحظة ما ، أو أتذرع بأمر ما ، فأتوارى عن أنظارهم خارج البيت ، حتى إذا شاهدت الضيف مغادرا ، أركض وراءه زاعما أن أهلي وافقوا على ذهابي معه ، غير مكترث بالغياب عن المدرسة أو بتأنيب أمي أو بعقوبة أبي ..

وفي ذلك الوقت ، كان الخارج من بيته يعد مفقودا حتى يثبت العكس أويعود إليه.. فلا هواتف ولا موبايلات ولا هم يحزنون.. لذلك كثيرا ما كنت أسبب القلق الشديد لأهلي بهروبي إلى الضيعة وحيدا ـ في مرحلة لاحقة ـ أو مع أي عائد إليها من ضيوفنا وزوارنا ..
لكنهم في نهاية الأمر ، اعتادوا على ذلك ، وصارت أخواتي يتندّرْن علي ويتوقعْن غيابي عن البيت بمجرد ظهور ملامح الاضطراب والقلق عليّ ، وأنا أتعجل لحظة مغادرة الضيف بيتنا قبل عودة أبي من العمل ، لأن ذلك سيكون أسهل في إقناع أمي ، أو في التملص منها ..

***
ولعلي أذكر جيدا أن الضيعة كانت بسيطة جدا ، صغيرة جدا، فقيرة جدا، هادئة جدا ، حميمية جدا ، متواضعة جدا ، فإذا فرح أحد يفرح أناسها كلهم معه ، وتدق الطبول وتضرب العيارات النارية ، ويرقصون الدبكة والديلانة ، ويحمل الطعام فوق الرؤوس بالصواني والأطباق ليأكل جميع الحاضرين من طعام أهل الفرح ، وإذا دخل الحزن بيتا ، تحزن الضيعة وأناسها ، ويداري البعض ـ باستحياء وخجل ـ فرحة بسيطة طارئة هنا أوهناك احتراما وتقديرا للمشاعر الحزينة السائدة وراء خوخات الأبواب ومداخن الأثافي وتنانير الضيعة وشوارعها وبيوتها الساكنة وأزقتها الموحلة التي لا يستطيع البط عبورها ॥ ويُمضي الناس أمسياتهم مع كوب من الشاي ، يُقدم إلى الضيف على صينية من الألمنيوم الرقيق المسودّ ، فينتشله من خضم المُوح ـ الذي يملأ الصينية ـ سعيدا به ، مستأنسا بحكاية المجند عن بطولة خرافية أدّاها لنيل الإجازة ، وكيف استطاع إيجاد مكان له على سطح الهوب هوب من دمشق إلى حلب ....

" كل شيء في الضيعة كان قليلا ونادرا إلا الفقر والحرمان فقد كانا معششين في البيوت والأشجار والحقول والزرائب "

كل شيء كان قليلا ونادرا إلا الطين شتاء، والغبار صيفا والريح التي تصفر كيوم يبعث في الصُّور ... إنها مفتقرة لكل مقومات الحياة ، حتى بمعايير تلك المرحلة الزمنية ، فهي بلا هواء نقي ولا ماء نقي (إلا في جب الدولة) ، بلا كهرباء، ولا طرق ولا شوارع إسفلتية (إلا الكروزة) ، ولا أرصفة ولا مجار ولا هواتف ولا تلفزيون (حَسْبًُ بعضهم راديو ترانزيستور صغير) ولا مخفر ولا أفران ولا مستوصف ولا مدرسة إعدادية ولا منازل صحية ولا عيادات ولا صيدلية ولا محلات مناسبة ولا ولا ولا ولا ولا ولا ..........

· لذلك غادرها عدد لا بأس به من مواطنيها ، ممن رأوا في المدن القريبة والبعيدة بابا للرزق ، وعالما آخر ، رحبا ، متنوعا .. فسعوا لكسب رزقهم هناك ، كلٌّ لما خُلق له ، حتى صارت المدينة ملاذا للكثيرين الذين يبحثون عن قوتهم اليومي ، في ظروف معيشية غاية في القسوة من كل النواحي ...



يتبع ....


يوسف رشيد
24/1/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق