الصفحة الأولى :
كنت صغيرا ، وكان لي إخوة كثيرون ، يملؤون قلبي حبا ، وأراهم يغمرونني بدفء حبهم ، وكان والدي يفيض عليّ حبّا زائدا ، فانعكس ذلك ضِغنا في صدور إخوتي تجاهي ..
لكني ـ يعلم الله ـ لم أكنْ أحمل لهم إلا الحب ، كل الحب والمودة كل المودة ...
ولشدة تلهّفِ والدي عليّ ، كان يمانع في ذهابي مع إخوتي ، أو اللعب معهم بعيدا عن ناظريه .. أو لنرعى الأغنام ..
ذات مرة قال لي : ((إني لا أطيق صبرا على ابتعادك عني )) ..
كنت أخمّنُ أنه بذلك يحاول تسويغ إبقائي تحت جناحيه ، في سجن أراه مزعجا في غالب الأحيان .. ولم تثمرْ لديه كلّ محاولاتي للفرار ـ ولو إلى وقت قصير ـ من هذا السجن .. أقول عنه ، إنه سجن ، لأنكَ لو قيّدتَ الطفل في مكان تترامى أطرافه اتساعا ، لكنه مقفل الأبواب ، لوجدتـَه يضيق بكل ما حوله ، ويقف وراء الباب ، يطرق بقبضتيه ، لعل أحدا يفتح له ، وينطلق بعيدا ..
وفي تلك المشاوير القصيرة التي أقضيها بصحبة أبي ، ممسكا بيدي ، كنت أرى النسوة يتلصّصْنَ بنظراتهن من خلف الأستار أو الأبواب كي يريْنني دون أن يراهن أبي .. وقد انفتحتْ شفاهُهن عن أفواهٍ فاغرةٍ ، وعيونُهن تتطلّع إليّ بِنَهَم عطِش ، فكان يحلو لي الوقوفُ لأتحدى تلك العيون ، وأعرفَ السرّ الكامن وراء تلك النظرات .. وأحيانا ، كان المارة يقفون في ذهول لا يقلّ عن ذهول النسوة وراء الأبواب ، فأحاول الوقوف أيضا ، إلا أنّ يدَ والدي القوية كانت تشدّني بقسوة لمواصلة السير ..
الحاشية الأولى :
على وجوه الأطفال أقرأ خارطة الوطن ، وألملم الجزن من شزارع الموت المزروع خلف أكياس الرمل ، وبين أطلال المباني ، حيث الروائح النتنة تسيطر على الأجواء ، والغربان ترتفع وتحط فرحة .. ومجموعة أخرى من الأطيار تحلق في الأعالي ، تبكي عِشاشها وصغارها .. وثمة حشرات أخرى نشكل غطاء جويا يحمي القوات المهاجمة من نيران الأعداء .
الصفحة الثانية :
لم تكن تفوتني فرصة إلا عبّرْتُ فيها لوالدي عن رغبتي في اللعب بعيدا عن عينيه ، وكان في كل مرة يختلق لي عذرا ،
يريد إقناعي به ، يشجعني في ذلك دعوات إخوتي لي باللعب معهم ، والألعاب الحلوة التي يلعبونها ..
لكنني في بعض الأحيان كنت أرى وجوه إخوتي تنقط سمّا ، وهم ينزوون في مكان بعيد ، يتكلمون همسا ، وتلعب عيونهم في محاجرها ، فاذهب إليهم مستطلعا الأمر ، فيلوذون بالصمت وهم ينظرون إليّ مبتسمين ابتسامة طالما شعرت بتكلفها .. ثم ينفرط العقد ...
الصفحة الثالثة :
((يا أبانا ، دعْ أخانا يذهبْ معنا ، إننا سنفرح به كثيرا ، وسيفرح باللعب معنا ..إننا نحبه ..وسنسعد جميعا .. ))
الحاشية الثانية :
ما يزال الوطن جيفة ملقاة على بوابات القصور الكبرى .. وأشياء كثيرة تُقال .. وأشياء كثيرة تحدث .. وأشياء كثيرة تُخلَق من النهايات ..
الصفحة الرابعة :
كانت شمسُ الصحراء ترسلُ للرمال أشعة لاهبة ـ بناء على طلب خاص من هذه الرمال ـ وكنا قد قطعنا شوطا بعيدا عبر الكثبان .. وتينُ الصبار التوَتْ أعناقها تجاه الأرض ..
وعندما ابتسمتْ لنا الصحراء ، كان ثمة فوهة تتسرب منها رطوبة ناعمة ، فابتسم إخوتي عن أسنان حادة ، ثم جعلنا مجموع قمصاننا حبلا ، أمسكتُ به وتدليْتُ إلى قاع البئر ـ هكذا أشار كبيرنا ـ ..
عَبَبْتُ جرعاتٍ من الماء على عجلٍ ، فإخوتي عطاشى ينتظرون صعودي ، ورفعتُ رأسي إلى أعلى ، ويدي تبحث عن حبل الثياب ..
ـ لعلهم جالسون قرب الحافة .. قلتُ ذلك في نفسي ، وانتظرتُ قليلا ، ثم ناديتُ أحدهم ، صوتا ، صوتين ، ثلاثة .. لم يردْني شيءٌ يوحي بوجوده .. ناديْتُ الآخرَ .. فالآخرَ .. لكنّ صوتي ظلّ وحيدا يتردّد بين جنبات البئر ، فتسقط حبات من الرمل على رأسي ووجهي وسطح الماء ، فتتسع الدوائر ، وتتلاشى ، حتى اتخذتُ من خيالي مؤنسا لي ، والهاجسُ يدعوني لإرواء ظمأ الصحراء ...
هامش :
(( إن معظم عبارات هذه الصفحة ، كانت مطموسة ، وكادت تضيع معالمها ..))
الصفحة الخامسة :
(( كنا نستبق يا أبانا ، (وتركنا يوسفَ عند متاعنا) ، ولما عدنا وجدنا قِطعا من جسده وثيابه .. وها قميصُه ملوث بدمه .. ))
غامَتْ عينا أبيهم ، بينما كانوا يتباكَوْن من حوله .. وانزوى في ركن يُُجمّل نفسَه بالصبر والسلوان ..
الصفحة السادسة :
(( أستصرخ فيكم النخوة يا رجالَ الحي .. أستصرخ فيكم المروءة والإباء والنجدة ..إني ههنا ، في قاع البئر أنازع البقاء .. فهلمّوا إليّ قبل أن تفترسني الأفاعي ، والديدان ، والطحالب ، والضفادع ، وكلاب الماء ..
أستصرخ فيكم ضمائركم يا رجال الحي .. أسرعوا .. ))
ابتلعْتُ شيئا من الظلمة والرطوبة مع هواء الشهيق .. ثم زفرتُ ألمَ الغدر ، وقد ابتدأتُ أفهم سرّ نظرات أبي التي كانت تتنقل بيني وبين إخوتي ..
في الصفحة الأخيرة :
كان ثمة كلمات مكتوبة بخط مغاير للخط الذي كُتِبَتْ فيه الصفحاتُ السابقة ، وفي ذيل الصفحة إشارات متعددة لمؤرخين وعلماء سابقين تشكّكُ في صحة ما وردَ فيها ، وتنسبه إلى شخصيات مجهولة ..
(1977)
يوسف رشيد
كنت صغيرا ، وكان لي إخوة كثيرون ، يملؤون قلبي حبا ، وأراهم يغمرونني بدفء حبهم ، وكان والدي يفيض عليّ حبّا زائدا ، فانعكس ذلك ضِغنا في صدور إخوتي تجاهي ..
لكني ـ يعلم الله ـ لم أكنْ أحمل لهم إلا الحب ، كل الحب والمودة كل المودة ...
ولشدة تلهّفِ والدي عليّ ، كان يمانع في ذهابي مع إخوتي ، أو اللعب معهم بعيدا عن ناظريه .. أو لنرعى الأغنام ..
ذات مرة قال لي : ((إني لا أطيق صبرا على ابتعادك عني )) ..
كنت أخمّنُ أنه بذلك يحاول تسويغ إبقائي تحت جناحيه ، في سجن أراه مزعجا في غالب الأحيان .. ولم تثمرْ لديه كلّ محاولاتي للفرار ـ ولو إلى وقت قصير ـ من هذا السجن .. أقول عنه ، إنه سجن ، لأنكَ لو قيّدتَ الطفل في مكان تترامى أطرافه اتساعا ، لكنه مقفل الأبواب ، لوجدتـَه يضيق بكل ما حوله ، ويقف وراء الباب ، يطرق بقبضتيه ، لعل أحدا يفتح له ، وينطلق بعيدا ..
وفي تلك المشاوير القصيرة التي أقضيها بصحبة أبي ، ممسكا بيدي ، كنت أرى النسوة يتلصّصْنَ بنظراتهن من خلف الأستار أو الأبواب كي يريْنني دون أن يراهن أبي .. وقد انفتحتْ شفاهُهن عن أفواهٍ فاغرةٍ ، وعيونُهن تتطلّع إليّ بِنَهَم عطِش ، فكان يحلو لي الوقوفُ لأتحدى تلك العيون ، وأعرفَ السرّ الكامن وراء تلك النظرات .. وأحيانا ، كان المارة يقفون في ذهول لا يقلّ عن ذهول النسوة وراء الأبواب ، فأحاول الوقوف أيضا ، إلا أنّ يدَ والدي القوية كانت تشدّني بقسوة لمواصلة السير ..
الحاشية الأولى :
على وجوه الأطفال أقرأ خارطة الوطن ، وألملم الجزن من شزارع الموت المزروع خلف أكياس الرمل ، وبين أطلال المباني ، حيث الروائح النتنة تسيطر على الأجواء ، والغربان ترتفع وتحط فرحة .. ومجموعة أخرى من الأطيار تحلق في الأعالي ، تبكي عِشاشها وصغارها .. وثمة حشرات أخرى نشكل غطاء جويا يحمي القوات المهاجمة من نيران الأعداء .
الصفحة الثانية :
لم تكن تفوتني فرصة إلا عبّرْتُ فيها لوالدي عن رغبتي في اللعب بعيدا عن عينيه ، وكان في كل مرة يختلق لي عذرا ،
يريد إقناعي به ، يشجعني في ذلك دعوات إخوتي لي باللعب معهم ، والألعاب الحلوة التي يلعبونها ..
لكنني في بعض الأحيان كنت أرى وجوه إخوتي تنقط سمّا ، وهم ينزوون في مكان بعيد ، يتكلمون همسا ، وتلعب عيونهم في محاجرها ، فاذهب إليهم مستطلعا الأمر ، فيلوذون بالصمت وهم ينظرون إليّ مبتسمين ابتسامة طالما شعرت بتكلفها .. ثم ينفرط العقد ...
الصفحة الثالثة :
((يا أبانا ، دعْ أخانا يذهبْ معنا ، إننا سنفرح به كثيرا ، وسيفرح باللعب معنا ..إننا نحبه ..وسنسعد جميعا .. ))
الحاشية الثانية :
ما يزال الوطن جيفة ملقاة على بوابات القصور الكبرى .. وأشياء كثيرة تُقال .. وأشياء كثيرة تحدث .. وأشياء كثيرة تُخلَق من النهايات ..
الصفحة الرابعة :
كانت شمسُ الصحراء ترسلُ للرمال أشعة لاهبة ـ بناء على طلب خاص من هذه الرمال ـ وكنا قد قطعنا شوطا بعيدا عبر الكثبان .. وتينُ الصبار التوَتْ أعناقها تجاه الأرض ..
وعندما ابتسمتْ لنا الصحراء ، كان ثمة فوهة تتسرب منها رطوبة ناعمة ، فابتسم إخوتي عن أسنان حادة ، ثم جعلنا مجموع قمصاننا حبلا ، أمسكتُ به وتدليْتُ إلى قاع البئر ـ هكذا أشار كبيرنا ـ ..
عَبَبْتُ جرعاتٍ من الماء على عجلٍ ، فإخوتي عطاشى ينتظرون صعودي ، ورفعتُ رأسي إلى أعلى ، ويدي تبحث عن حبل الثياب ..
ـ لعلهم جالسون قرب الحافة .. قلتُ ذلك في نفسي ، وانتظرتُ قليلا ، ثم ناديتُ أحدهم ، صوتا ، صوتين ، ثلاثة .. لم يردْني شيءٌ يوحي بوجوده .. ناديْتُ الآخرَ .. فالآخرَ .. لكنّ صوتي ظلّ وحيدا يتردّد بين جنبات البئر ، فتسقط حبات من الرمل على رأسي ووجهي وسطح الماء ، فتتسع الدوائر ، وتتلاشى ، حتى اتخذتُ من خيالي مؤنسا لي ، والهاجسُ يدعوني لإرواء ظمأ الصحراء ...
هامش :
(( إن معظم عبارات هذه الصفحة ، كانت مطموسة ، وكادت تضيع معالمها ..))
الصفحة الخامسة :
(( كنا نستبق يا أبانا ، (وتركنا يوسفَ عند متاعنا) ، ولما عدنا وجدنا قِطعا من جسده وثيابه .. وها قميصُه ملوث بدمه .. ))
غامَتْ عينا أبيهم ، بينما كانوا يتباكَوْن من حوله .. وانزوى في ركن يُُجمّل نفسَه بالصبر والسلوان ..
الصفحة السادسة :
(( أستصرخ فيكم النخوة يا رجالَ الحي .. أستصرخ فيكم المروءة والإباء والنجدة ..إني ههنا ، في قاع البئر أنازع البقاء .. فهلمّوا إليّ قبل أن تفترسني الأفاعي ، والديدان ، والطحالب ، والضفادع ، وكلاب الماء ..
أستصرخ فيكم ضمائركم يا رجال الحي .. أسرعوا .. ))
ابتلعْتُ شيئا من الظلمة والرطوبة مع هواء الشهيق .. ثم زفرتُ ألمَ الغدر ، وقد ابتدأتُ أفهم سرّ نظرات أبي التي كانت تتنقل بيني وبين إخوتي ..
في الصفحة الأخيرة :
كان ثمة كلمات مكتوبة بخط مغاير للخط الذي كُتِبَتْ فيه الصفحاتُ السابقة ، وفي ذيل الصفحة إشارات متعددة لمؤرخين وعلماء سابقين تشكّكُ في صحة ما وردَ فيها ، وتنسبه إلى شخصيات مجهولة ..
(1977)
يوسف رشيد
هذه القصة كتبت في عام 1977 ونشرت في جريدة المسيرة الدمشقية في 26/6/1977 العدد 131
كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أشد استعارها ، وقد نفض معظم العرب أيديهم مما يحدث ، ومصر السادات في تنسيق تام مع إسرائيل وأمريكا لصب الزيت على النار في لبنان نكاية في سوريا التي رفض رئيسها الراحل حافظ الأسد أن يؤيد السادات في مشروعه الاستسلامي .. وكانت هذه القصة صرخة إدانة للحرب الأهلية ، وتنديدا ببعض الأشقاء العرب الذين فعلوا ما فعلوه آنذاك ..
والآن أرى أن التاريخ يعيد نفسه ـ مع الأسف ـ لكن في أماكن وأشكال أخرى ، لا يمكن أن تغيب عن عاقل إذا ما استعرض الخريطة السياسة العربية من المحيط إلى الخليج ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق