1
في الزمن الموحش ، بين عَجَلة البقاء ، ودوامة الهروب ، وعلى شاطئ بحرٍ
جافٍ ، تصبُّ فيه أنهارٌ من القَطْر المرّ ، وعندما تتساقط أوراق الشجر في ربيع الزمن ، ثم تـُورق الأشجارُ من جديدٍ في الخريف الأبدي ، نتلاقى ، نتكلم ..
تتحرّكُ العواطفُ الكاذبة ، الصادقة ، لا تهمّنا الأسماء .. نتصَبّبُ عَرقًا .. نرتجف .. نرقص .. نغني ، نبكي فرحا ، حزنا .. جنونا .. لا تهمنا الأسماء أيضا .. يعيش البعض طويلا ، وقد تأكل الديدان لحمَ الإنسان قبل أن يلفظ النفس الأخير .
إننا في الزمن الغريب .. تشرق شمسُنا في الثانية عشرة ليلا .. وتغيب في الثانية عشرة ظهرا .. وقد لا تظهر .. ولا تغيب .. فلم تعد الشمس مقياسا لأيامنا ..
صارت الأرض تدور حول القمر ، لا العكس ..وصرنا نقتات الحجارة ونشرب الرمال العطشى ..ونلتحف أوراق الشجر المتساقطة ، ونفترش أجساد بعضنا البعض . سيّان بين الحياة والموت ، بين الحب والكراهية ، بين البعد العاشر والقرب المتلاصق .. صار الكل جزءا ، والجزء كلا ..
2
لاقاني هَرِمٌ ، يبحث في شعر صدره الأشيب عن زوجه المفقودة .. كما قال .. وأضاف بصوتٍ يرتجف قسوة :
ـ كانت هنا منذ قليل .. وشعرتُ بحرارةٍ ودفءٍ تدبّ في أوصالي من جسمها البضّ .. وصمَتَ .. أردتُ أن أقهقه .. لكنّ نظرة في عينيه نفذت إلى عيني لتخطفَ بصري كما البرقُ الساطعُ .. أدركتُ أني أمام إلهٍ حجري فَقَدَ عقله عندما شاهدَ أنّ الناسَ صارتْ تأكلُ آلهتـَها .. فامتطى صهوة جوادٍ أميري .. بعد أنْ عبَّ جرةَ خمرٍ معتـّقٍ ..وانطلق يريد عالما آخر ..
وأين يريد ؟!!..
3
في الزمن الموحش ، وبين القبور المهترئة شكلا وباطنا .. يستطيع المرءُ إيجادَ كلّ الهاربين ، وكلّ المقتولين ظلما من ساعة أنْ قتلَ الأخُ أخاه .. وكلّ الذين ماتوا دون أن تدركـَهم أمانيهم أو دون أن يدركوها ؟
هل عرفتم يا سادتي كم شيّقٌ الحديثُ مع الأموات ؟ ..
لكن .. مَنِ الأمواتُ يا سادتي ؟..
هل هؤلاء الذين يموتون على موائد السلطان ، وبين جنبات القصور ؟. أم هؤلاء الذين تـُضرَبُ أعناقـُهم في يوم الشؤم ؟..
أم الذين حَفروا قبورَهم تحت الأرض بمئات الأمتار ، فدُفنوا فيها ؟..أم هؤلاء الذين امتزجَتْ أشلاؤهم بالأحجار والكتبِ والدفاتر والأقلام والطباشير ؟..
4
سألتـُهُ : وجَدْتـَها ؟ ..
تكوّمَ على نفسِه في ظلِّ جدارٍ حَتـَّتـْْهُ الريحُ ، وألقى إليّ بنظرةٍ لم أدركْ مغزاها .. ثم قال :
ـ ويحكَ يا هذا ..كيف عرفتَ أني أبحث عنها ؟..
قلتُ بفرح : حدّثْتَني منذ عصر قديم عنها .. تنَهَّدَ بحسرةٍ وألم وقال : لا بد أني واجدُها ..
5
كان الحبُّ شراعًا في مركبٍ هوائي ، وكان الصمتُ يبعثُ صوتا ورنينا هادئيْن في الأرجاء الفسيحة ..
وحينما اقتربْتُ من المركب أريدُ بلوغ الحُبِّ ، هبَّتْ عاصفة شديدة ، اقتلعتِ الشراعَ ومزقته ، وأغرقتِ المركبَ في الموج العَتِيِّ ..ووضعتْني في عمودٍ ترابي حَمَلني في دَوَرانِه الشديد ..
عندما أفقْتُ من غيبوبتي .. ساورني الشكُّ في أني كنتُ في يقظة .. لكن قِطَعَ الشراعِ الممزق كانت تلتفُّ حول جسدي ..
الاثنين/15/آذار/2010
يوسف رشيد
نشرت هذه القصة في جريدة الثورة .
دمشق 27/شباط/1975 ـ العدد/ 3688/.
وفي مجلة الثقافة الأسبوعية .
دمشق – 25/حزيران/1977العدد /26/ .
تتحرّكُ العواطفُ الكاذبة ، الصادقة ، لا تهمّنا الأسماء .. نتصَبّبُ عَرقًا .. نرتجف .. نرقص .. نغني ، نبكي فرحا ، حزنا .. جنونا .. لا تهمنا الأسماء أيضا .. يعيش البعض طويلا ، وقد تأكل الديدان لحمَ الإنسان قبل أن يلفظ النفس الأخير .
إننا في الزمن الغريب .. تشرق شمسُنا في الثانية عشرة ليلا .. وتغيب في الثانية عشرة ظهرا .. وقد لا تظهر .. ولا تغيب .. فلم تعد الشمس مقياسا لأيامنا ..
صارت الأرض تدور حول القمر ، لا العكس ..وصرنا نقتات الحجارة ونشرب الرمال العطشى ..ونلتحف أوراق الشجر المتساقطة ، ونفترش أجساد بعضنا البعض . سيّان بين الحياة والموت ، بين الحب والكراهية ، بين البعد العاشر والقرب المتلاصق .. صار الكل جزءا ، والجزء كلا ..
2
لاقاني هَرِمٌ ، يبحث في شعر صدره الأشيب عن زوجه المفقودة .. كما قال .. وأضاف بصوتٍ يرتجف قسوة :
ـ كانت هنا منذ قليل .. وشعرتُ بحرارةٍ ودفءٍ تدبّ في أوصالي من جسمها البضّ .. وصمَتَ .. أردتُ أن أقهقه .. لكنّ نظرة في عينيه نفذت إلى عيني لتخطفَ بصري كما البرقُ الساطعُ .. أدركتُ أني أمام إلهٍ حجري فَقَدَ عقله عندما شاهدَ أنّ الناسَ صارتْ تأكلُ آلهتـَها .. فامتطى صهوة جوادٍ أميري .. بعد أنْ عبَّ جرةَ خمرٍ معتـّقٍ ..وانطلق يريد عالما آخر ..
وأين يريد ؟!!..
3
في الزمن الموحش ، وبين القبور المهترئة شكلا وباطنا .. يستطيع المرءُ إيجادَ كلّ الهاربين ، وكلّ المقتولين ظلما من ساعة أنْ قتلَ الأخُ أخاه .. وكلّ الذين ماتوا دون أن تدركـَهم أمانيهم أو دون أن يدركوها ؟
هل عرفتم يا سادتي كم شيّقٌ الحديثُ مع الأموات ؟ ..
لكن .. مَنِ الأمواتُ يا سادتي ؟..
هل هؤلاء الذين يموتون على موائد السلطان ، وبين جنبات القصور ؟. أم هؤلاء الذين تـُضرَبُ أعناقـُهم في يوم الشؤم ؟..
أم الذين حَفروا قبورَهم تحت الأرض بمئات الأمتار ، فدُفنوا فيها ؟..أم هؤلاء الذين امتزجَتْ أشلاؤهم بالأحجار والكتبِ والدفاتر والأقلام والطباشير ؟..
4
سألتـُهُ : وجَدْتـَها ؟ ..
تكوّمَ على نفسِه في ظلِّ جدارٍ حَتـَّتـْْهُ الريحُ ، وألقى إليّ بنظرةٍ لم أدركْ مغزاها .. ثم قال :
ـ ويحكَ يا هذا ..كيف عرفتَ أني أبحث عنها ؟..
قلتُ بفرح : حدّثْتَني منذ عصر قديم عنها .. تنَهَّدَ بحسرةٍ وألم وقال : لا بد أني واجدُها ..
5
كان الحبُّ شراعًا في مركبٍ هوائي ، وكان الصمتُ يبعثُ صوتا ورنينا هادئيْن في الأرجاء الفسيحة ..
وحينما اقتربْتُ من المركب أريدُ بلوغ الحُبِّ ، هبَّتْ عاصفة شديدة ، اقتلعتِ الشراعَ ومزقته ، وأغرقتِ المركبَ في الموج العَتِيِّ ..ووضعتْني في عمودٍ ترابي حَمَلني في دَوَرانِه الشديد ..
عندما أفقْتُ من غيبوبتي .. ساورني الشكُّ في أني كنتُ في يقظة .. لكن قِطَعَ الشراعِ الممزق كانت تلتفُّ حول جسدي ..
الاثنين/15/آذار/2010
يوسف رشيد
نشرت هذه القصة في جريدة الثورة .
دمشق 27/شباط/1975 ـ العدد/ 3688/.
وفي مجلة الثقافة الأسبوعية .
دمشق – 25/حزيران/1977العدد /26/ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق