كثيرًا ما سبّبَ لي سوءُ فهم تصرفاتي ، شيئًا من الإرباك ، حتى بتّ أشعر أنني مراقَبٌ ممن حولي في كل حركاتي وسكناتي ..
فإذا حملقت في وجهٍ ما ، فسّروا ذلك اهتماما أو تطفلا ، إو إعجابًا أحيانا ..
وإذا شُدّتْ أصابعي على يدٍ طريةٍ أثناء المصافحة ، جعلوا لها ألف تفسير وتفسير ..
وإذا طلبْتُ صاحبَ أو صاحبة العلاقة ـ وهذا حق لي ـ لا أنجو أيضًا من ألسنتهم التي تمتد وتتطاول عليّ كأفعى ..
وإذا حاولتُ المطابقة بين الأوصاف المثبتة على الوجه الخلفي للهوية ، وبين صاحبها ، تذمّرَ صاحب أو صاحبة العلاقة ، والتململُ بادٍ على محيّاه ، فيما أرى عينيه تنظران إليّ بعبثية حينا ، وبازدراء أو تضجّر وتذمر أحيانا أخرى ..
وكثيرًا ما ألمحُ في الوجوه التي تقف أمامي كالأصنام ، وفي العيون المندهشة والخابية ، انزعاجًا يصل إلى حدّ القرفِ المقيت .. ولستُ أدري هل القرف من شكلي ـ وأنا لا أكتمكم أنه في أحسن الأحوال ليس على ما يرام ـ أم القرف من روتينية العمل ؟؟!!
المهم .. هذا بعض ما حدث ، ويحدث معي باستمرار ..
وسأحاول أن أسردَ لكم جزءًا من خصوصياتي ، لعلكم ترشدونني إلى منفذٍ أجدُ متنفّسًا فيه ..
منذ أيام ، أنهيْتُ مرحلة هامة من حياتي .. إذْ تجاوزْتُ سنَّ الأربعين على خير ما يرام ..وقد وطِئتْ قدمي العام الأول من مرحلة حياتي الثانية ، ولا شك أنكم تعلمون مدى الخطورة التي تحيق بمنْ يتجاوز هذه السن ..
وبهذه المناسبة ، لن أحدّثكم عن مظهري الخارجي ، وحسن هندامي .. فأنا ممن يحبذون ارتداءَ اللباس الرسمي كاملا ، ابتداءً من الحذاء والجورب ، وانتهاءً بربطة العنق وتسريحة ما تبقى من شعري الأسود الجميل ، دون أن أنسى عطري المفضل ..
أمَّا بَشَرَتي ، فتميل إلى السُّمرة الداكنة ، لكني لسْتُ أسودَ ، كما يحرص منْ حولي على تسميتي ، فهم يظلمونني حتى في مثل هذه المسألة ..
وفي وجهي طولٌ ظاهرٌ ، على عكس قامتي النحيفة ..
وعيناي صغيرتان ، تقبعان خلف نظارة سميكة غامقة ، ذات إطار أسود ، وقد رافقتني أكثرَ من عشرين سنة ، وهي التي تساعدني على الرؤية ، لما في عينيَّ من ضعفٍ شديدٍ .. وهذا ما يفسِّر لكم سببَ حملقتي الزائدة ـ أحيانا ـ في الوجوه التي أصادفها ..
ولعلّ أسناني أجملُ ما في وجهي .. فهي بيضاءُ ، منضّدة ، قاطعة بشكل جيد ، ما تزال تحتفظ بقوّتها تمامًا ، رغم أني اضطررْتُ ـ تحت ضغط الألم ـ للاستغناء عن ثلاثة منها ، لكنها ليست ظاهرة ..
وأنا ، ككلّ المواطنين الشرفاء أمثالكم ، أمضيْتُ ستة عشر عامًا في هذه الدائرة .. دخلتُها موظفًا في قسم المحفوظات والأرشيف ، وتسلسلتُ في جميع المناصب ـ بعدئذٍ ـ حتى جلسْتُ على كرسي المدير منذ سنتين تقريبا ، بجدارةٍ تامةٍ كما ترَوْن ..
وخلال هذه الرحلة الطويلة من عمري ، فقدْتُ والديَّ ، وتزوّجَتْ أخواتي الثلاث ، وهاجرَ أخي الأصغر ، وتزوّجَ وأنجب هناك .. وبقيتُ وحيدًا في البيت الذي ورثتُه عن أبي ـ رحمه الله ـ في حارةٍ متواضعة ، تمتلئ شوارعُها بالأطفال والعربات والقاذورات نهارًا ، وبالجرذان والقطط ليلا ، وكلٌّ يبحث عن رزقه فيها ..
وتحت إلحاح نوازع الرجولة ، قبلتُ أنْ تساعدني عمّتي في مشروع الزواج ، بل اندفعْتُ متحمِّسًا في البداية ، مستعرضًا إمكانياتي وقدراتي الواسعة ، لكن إخفاقَ عمتي ، خفّفَ كثيرًا من حماسي ، حتى تلاشى بالتدريج ، فرجوْتُها أن تكفَّ عن البحث رأفة بسنوات عمرها السبعين ..
وفي الواقع ، لا أعرف سببًا وجيهًا يسوِّغُ لهنّ عزوفهن ، وإعراضهنّ عني ، حتى إنّ عمتي نقلتْ لي كلام إحداهن قائلة :
" يستحيلُ أن تقبلَ بي زوجًا ، ولو ربَطتْ شعرَها جدائلَ بيضًا " ..
وأخرى قالت : " لن تتزوّجَني ولو وُضِعْتُ في قبر معها " ..
علمًا أني ـ كما قلت ـ مقطوع من شجرة ..
أما في الحي ، فلا أعتقد أن أحدًا له ملاحظات على سلوكي ..
فأنا بسيط في حياتي .. لا أخالط ولا أزور أحدًا ، حتى ، ولا في المناسبات .. ولا يُطرَقُ بابي إلا خطأ ..
ونظرًا لحياتي التي أعيشها منفردًا ، فقد التجأتُ إلى عدة كتبٍ ، تتحدّث عن فن الطبخ وتحضير الطعام ، فقرأتُها مرارًا ، وعملتُ بإرشاداتها ، مع شيءٍ من قلة الإسراف والتبذير الذي تشيرُ به هذه الكتب عادة ..
وحين لا يكون لديّ عمل في المطبخ ، أقوم بسقاية أحواض الحديقة ورعايتها وتقليمها ، وشتل ورودٍ جديدةٍ ..
إن ساحة الدار لا تضاهيها أجملُ حدائق المدينة ، بورودها الزاهية ، وأشجارها ودواليها .. حتى إن أهلَ الحي كتبوا بخطٍ عريض على جدرانها الخارجية : " حدائق الفردوس " ..
كما أنهم يعدّون بيتي سرًّا من الأسرار المبهمة .. فيه غموضٌ كالغموض الذي يكتنف المزاراتِ وقبورَ الصالحين .. وكثيرًا ما يتسلق الأولاد على جدرانه العالية ، بدافع الفضولُ ، ليتسللوا بأنظارهم إلى محتوياتها .. أو يقذفون بالكرة من فوق السور إلى الداخل ، عن سابق إصرار وتصميم ، كي ينسلوا إليها .. لكني أدركت مراميَهم ، فصرتُ أقذفها لهم فورًا من فوق الجدار ..
ومرة ، سقط أحد المتسلقين ، فتكسّرَتْ عظامُه ، وتهشمَ رأسُه ، وأجريَتِ التحقيقاتُ معي ، وكادوا يرمونني بالسجن ، لو لم يتدخلْ أهلُ الحي عند أبيه لإسقاط حقه الشخصي .. وكان رجلا فقيرًا حقا ، فدفعْتُ له كلفة العلاج ، رغم أني غيرُ مُلزَم بذلك .. ووضعْتُ على الجدار قطعة حديدية بيضاء ، كتبتُ عليها بخط أحمر : " لسنا مسؤولين عن الحوادث التي تقع بسبب تسلق السور " ..
وفي مكان آخر منه ، علقتُ لوحة تقول : " ممنوع التسلل خطر الموت " .. ورسمتُ عليها جمجمة ، وعظمتين متقاطعتين ..
أما عملي ـ وهنا بيت القصيد ـ فأنا مديرٌ للسجل المدني في المدينة .. أوقّعُ في اليوم مئات المعاملات ، إضافة إلى توقيعَيْ بدء الدوام وانتهائه .. وهذان أهمُّ توقيعيْن في العمل الوظيفي ..
ولي معاون مُفْرط في أناقته وزينته ، كعارضات الأزياء ، يرفض أن يوقع أيَّ معاملة ما دمتُ موجودَا .. وإذا غبْتُ قليلا ، غاب ، أو أقفلَ بابَ مكتبه بالمفتاح من الداخل ، وقبع فيه ، غير مكترث بتعطيله مصالح المواطنين ..
إنه يتهرَّبُ دومًا من مسؤولياته .. همُّه شربُ القهوة وطقُّ الحَنك ، (( وأقسم لكم بأن الفرصة لا تسمح لي بتذوقها ساخنة )) ..
ثم يخرج من مكتبه ليتجوّل بين الموظفاتِ والموظفين .. يتضاحكون ويتسهسكون بصوتٍ عال فجّ .. يضيقُ به كل الحاضرين والمراجعين .. وفوق ذلك ، يصطاد منْ يصطادُ منهن ، ويمرّرُ معاملاتِ معارفه وأصدقائه ، ولا أدري إنْ كانت لوجه الله تعالى أم لغيره .. وهو مفروض عليّ بعَجَره وبَجَره ، ومحسوبٌ معاونا لي ..
أما رؤساء الدوائر والشُّعَب ، فإنني ألمحُ في وجوههم الرياءَ والتزلفَ في تعاملهم معي .. لاعتقادهم بأن كرسيَّ المدير حقٌ لأحدهم حصرًا ، ولا يليق بشخصية مثلي .. وكأن الإدارة ـ برأيهم ـ لا تليق إلا بحِسان الوجوه والقامات ..
وهم حاقدون علي دائما ، لأن بابَ مكتبي مفتوحٌ دوما للمواطنين والمراجعين بلا حارس ولا بوّاب .. فالتقطوا لي صورة ، كنت حينها أتفرّسُ في وجه صبيةٍ جميلةٍ ، لأطابقَ بين ملامحِها الشخصية وأوصافِها في الهوية .. وطبعوا عن الصورة نسخا كثيرة ، ووزعوها على الجميع ، زاعمين بأني أهمُّ بتقبيل الفتاة .. واتهموني بالإخلال بشرف المهنة والإساءة إليها ، وأوصلوا الأمرَ إلى أعلى الجهات المسؤولة والرقابية .. وحينما حققوا معي بذلك ، تبيّنَ لهم أن نظارتي السميكة الغامقة ، هي السبب ، فوَصَلني كتابٌ رسميٌّ ممهورٌ بخاتم وتوقيع ، يتضمَّن أمرًا عاجلا ، باستبدال نظارتي بأخرى شفافة ، تسهيلا للعمل ، وإنهاءً للقضية ..
لكن الموظفين عندي لم ييْأسوا .. فدفعوا إليّ بمنْ تصافحني .. وكانت يدُها طرية ناعمة ، بيضاءَ كالجبن الطازج ، وكان كلٌّ منا له أسبابُه الخاصة في استبقاء يد الآخر في يده .. فصافحتها بحرارةٍ وتودّدٍ ، متشجّعًأ بنظراتها الجريئة ، وبالبريق الضاحك المشعّ من عينيْها الواسعتيْن الساحرتيْن ..
لم أدرِ كمْ طالَ بنا الوقتُ ، وأنا مأخوذ بموسيقا صوتها وهي تتكلم إليّ بما لم أفهمْ منه أيَّ حرف ، ولم تحاولْ أن تسحبَ يدَها من يدي .. فيما كانت تسري في أعضائي نشوة لم أسعدْ بمثلها من قبل ، وعيناي مبهورتان وهما تتجولان في مفاتن الوجه وتضاريس الجسد .. وفجأة أصحو من حلمي الواقعي ، على أصواتٍ تتعالى بالتصفيق والضحك الهازئ والصفير ، فارتميْتُ على الكرسي ، وغارت الفتاة ، كأن الأرضَ ابتلعتها .. ولستُ أبالغُ إذا قلتُ لكم : إنني مازلتُ أتفرّسُ بعضَ الوجوه بحثا عنها ، ويشهدُ الله أن نيّتي سليمة ، وقصدي شريف ..
ولم يتوقفوا عند هذا الحد .. بل حاولوا توريطي في عمليات تزوير مقصودة ، يقبضون ثمنها ، ويرسلون بالمعاملة إلي خالية من توقيعهم .. فإذا وقعْتها بلا انتباه ، صارت وثيقة إدانة لي بالتزوير ..
في البدء ، أخذتُ الأمرَ بحُسْن نيّة ، لزحمة العمل وكثافته .. لكن محاضرَ التحقيق ولجانَ التفتيش والرقابة ، جعلتني أشك حتى في نفسي ..
وحين نجوْتُ من كل مكائدهم ، صاروا يعاملون المواطنين بجفاء وقسوة ، ويربكونهم ويعقدون أمورهم ، بإجراءات وطلبات ما أنزل الله بها من سلطان ، مما أضجَرَ المراجعين وأرهقهم ، فجاؤوا يشتكون تعقيداتِ الموظفين وسوء معاملتهم ، فنبّهْتهم أولا ، ثم أنذرْتهم ، ثم حسمْتُ من رواتبهم .. ولم يتغير أي شيء .. وكأنني أحرثُ في البحر ..
يتأخرون في الصباح ، ويخرجون قبل نهاية الدوام الرسمي ، ويحتالون في التوقيع عمن يغيب بلا استئذان ..
حاولت أن أستقطب بعضا منهم إلى جانبي بوسائل الترغيب تارة ، وبالترهيب تارة أخرى .. فلم أفلح ..
اجتمعْتُ بهم ، وسألتهم عن رغباتهم ، فلم يطلبوا أي مطلب .. بل أثنَوْا على حُسْن الإدارة ، وسير العمل ، وانتظام الدوام ، وتسهيل أمور المواطنين ، وكادوا يقولون في ذلك شعرا ..
كتبْتُ إلى المدير العام ، فأرسل لجنة تحقيق ، بقيَتْ أسبوعًا بيننا ، أحسنْتُ لها الضيافة ، وبالغْتُ في الإكرام ، حتى اختلتْ ميزانيتي، وودّعتُهم بكثير من الفرح والهدايا .. وها قد مضت شهور خمسة ، ولم يتغيرْ شيءٌ ..
ماذا أفعل ؟؟
وكيف سأستأصل هذا السرطان المستفحل ؟؟
كلهم يريدون إزاحتي والحلول مكاني .. حتى تناسوْا كل خلافاتهم ، واتحدوا في مواجهتي والتآمر عليّ ..
ثم إني لست متشبثا بهذه الإدارة المهلهلة المرهقة ..
لكني لا أرغبُ أن أسقط فريسة لأنيابهم ومخالبهم المسمومة ، وخدعِهم ومؤامراتِهم التي ـ كموج البحر ـ لا تنتهي ..
وهم ليسوا بأكفأ مني .. وليسوا عارفين بأمور الإدارة وإجراءاتها وقوانينها ، قدر ما أعرف ..
وأنا أقدمهم وظيفيا ، ويمتلئ ملفّي الشخصي بالثناءات وكتب الشكر التي وصلتني من المدراء السابقين والوزراء المتعاقبين ..
فهل ، بعد كل هذا وذاك ، أكون مقصّرًا ؟؟!!
أنتم احكموا ، أيها السادة ..
لكن أرجوكم أن تسمعوا أولا ما سأتلوه عليكم :
قرار رقم 94696
إن المدير العام :
وبناء على ضرورات المصلحة العامة :
يقرر ما يلي :
المادة (1) : يُنهى مفعولُ قرارنا رقم 7485 تاريخ الأمس
ويُنقل عمل السيد عبد السلام محمد رمضان إلى قسم المحفوظات والأرشيف في المديرية العامة للأحوال المدنية .
المادة (2) : يُنقل السيد فهمي القصير من وظيفة معاون مدير السجل المدني ، إلى وظيفة مدير السجل المدني ، اعتبارًا من تاريخه .
المادة (3) : يُنشر هذا القرار في الجريدة الرسمية ، ويبلغ من يلزم ، لتنفيذ مضمونه .
الخاتم والتوقيع
المدير العام للأحوال المدنية
آذار / 1981
يوسف رشيد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق