الثلاثاء، 15 يونيو 2010

نبليات ـ حَكايا حمدو

كثيرًا ما تمر في الحياة شخصياتٌ ، هي من البساطة ، بحيث يكاد لا يشعرُ أحدٌ بوجودها ، ولا بغيابها ..
وكثيرًا ما تكون حياة مثل أولئك ، حياة ضنكٍ وشقاءٍ ..
فهم على هامش الحياة الاجتماعية ، لا يقيم أحدٌ وزنا لهم ، لأنهم يرونهم أخفَّ من وزن الريشة ، ولا يهتم أحدٌ بأمرهم ، ولا يكون لهم قولٌ أو رأيٌ .. فإذا قالوا شيئا أو عبّروا عن رأي ، صاروا محلَّ استهزاءِ وسخريةِ القوم ، ولا يرَوْن فيهم إلا نموذجًا ساذجًا .. حقهم من الحياة أقلُّ من النصف ، ونصيبهم من العقل أقلُّ من ذلك بكثير ..
يجب عليهم أن ينفذوا فقط ما يُطلبُ منهم بلا تغيير ولا تبديل ، فإذا اجتهد واحدُهم بفعلٍ ما ولم ينجحْ ، حمّلوهُ أخطاءَ الدنيا كلها ، وإذا نجحَ ، صغّروه ، واستكثروا عليه نجاحَه ، واتهموه بما يُضيّع عليه متعته .. وهو مكسر عصا للجميع ..
ولو أنّ ذلك لن يزيدَ عليه إلا الوبال ..
وليس لهم حقّ الاعتراض أو التذمر .. وليس من حقهم بالتأكيد أن يطلبوا ثمنا لأتعابهم أو خدماتهم .. فإذا تفضّل الذواتُ بمنحهم شيئا ، عليهم أن يشكروا ويحمدوا ، وإنْ لم يتفضلوا ، وَجَبَ عليهم تقبيل الأيادي ، والدعاء لهم بالعمر المديد والرزق الوفير ..
وأحيانا ، لا يكتفي الذوات بكل ذلك ، بل يسحبون الأمر على أبناء أولئك المساكين وزوجاتهم ، وكأن الجميع خُلقوا عبيدًا لهم ..

***

لا أعرف إن كانت الصورة المرسومة في ذاكرتي ، هي للرجل المقصود أم لغيره .. لكني سأرسُمها هنا ببعض الكلمات ، وفاءً لذكراه ونباهته ورجاحة عقله وحسن تصرفه في المواقف ، التي يعجز الكثير منا على إدراك كنهها ، أو فهم منعرجاتها ..
كل ذلك يفعله رجلٌ أمّيٌ فقير ٌ معدَمٌ ، وهو من وزن الريشة ، في زمن ومجتمع هو كالذي سبق توصيفه ..

حمدو رجل نحيف ، يُضربُ المثلُ بطول قامته ، أحْنتِ الأيامُ ظهرَه وهو يركض خلف سراب لقمة العيش .. دومًا يحمل في ذراعه اليسرى قرطلا (سلة ) ، يضع فيه أشياءه ، وكأنه في ترحال دائم .. يجول على بيوت الأرامل والمطلقات والعجائز ، يشتري منهن ما توفر من بيض بلدي ( ولم يكن غيره موجودا آنذاك ) ليبيعه للميسورين ، فإذا حصّل رأسماله ، وزاد معه بيضة أو اثنتان ، حمِدَ الله وشكرَه على هذا الربح الوفير ..

عيناه زرقاوان صغيرتان ضيقتان ، مريضتان برَمَدٍ أزلي لا يبرحهما ..
والشمسُ لوّنت وجهَه بسمرةٍ داكنةٍ ، وأحرقتْ له جلدَ أنفه ..
ملابسه لم تتغير : ( شروال وملتان وسكوي كالحة ولفّاحة بلون الغبرا ومشاي مرقعة ) ..


روى حمدو : كنت أحمل قرطل عنب بدراعي هَيْ ، وما اشتراها حدا مني تحت الجيمع ( الجامع ) .. ولبّت الشمس فوقي ، وجُبّ الدولي بعيد .. أجا عبد الله يتدردب ، نيزل من طرف التل للساحة .. قلت لحالي : يمكن يشتري العنبات مني .. مشيت لعندو وأنا ميسك عنقود من وج القرطل : بتشتري هالعنبات ؟؟
سألني : بكم ؟ قلت : بورقة ..
قال : أف ، بورقة ؟! .. بربع ..
المهم اتفقنا ع نص ورقة .. ومدّيتلو كفي تا يقبضني بعد ما اسناول القرطل مني ..
فقال : ما معي ولا قرش .. بكرا من الصبح تعا لعندي بعطيك القرطل ونص ورقة وفوقن حبة مسك .. ولا تريدو إلا صحيح ..
قلت لحالي بعد ما مشيت : أحسن ما آخذ العنب ع البيت وتفرقو كحلا ( زوجته ) هون وهون ..
تاني يوم من الصبح بكير ، رحت ع بيتو .. دقيت الباب ..
ـ تفضل ..
ـ الله يصبحك بالخير .. عَطيني القرطل وحق العنبات ..
ـ خود القرطل .. بس والله ما تيسر معي اليوم .. تعا بكرا بعطيك ..
رحت تالت يوم ، ما هو موجود ..
رحت رابع يوم ، صبّحت عليه ، طلع عليّ بالعيلي وصار يزعّق بوجي (بوجهي) : قاللي : الله لا يصبحك بالخير ، اللي بشوفك بشوف الخير ؟! .. العمى ضربك ، بدنا ناكلن عليك .. كل يوم رايح جي رايح جي ؟؟ اش صرلك .. هِيّ نص ورقة .. فضحتنا في الحارة ..
قلتلو : لا فضحتك ولا شي .. ما عليش .. نص ورقة نص ورقة فهمنا .. طيب عَطيني هِيّ وخلصنا من هالشغلي ..
قال : ما معي تعا بكرا ..
ما كدّبتْ خبر .. رحت بكير .. رجع قال : ما معي .. تعا بكرا .. وطبق الخوخا بوجّي ..
قال أحد المستمعين : يعني أنت ضروري تتطوطح وتروح كل يوم تصبحو وترندحلو .. غِبْ لك يومين وروح ..
ـ يا حجي .. بخاف لو ما رحت كل يوم ، يضربلي كف بكف ، ويقوللي : لهْ .. لهْ .. لهْ .. لو جيت مبيرحة كان معي نص ورقة ، وكنت عطيتك هِي .. بس اليوم ما معي , ليش ما جيت امبيرحة ؟ .. بيكون الحق معي ، بيصير عليّ ..
ياحجي هيك ناس بيكدبوا كتير .. بسْ يوم ما رحت ، بتروح النص ورقة كلا ( كلها ) عليّ ..


رحِمَ الله الجميع .. وصدق منْ قال : لا تؤجلْ عملَ اليوم إلى الغد ..
وإلى اللقاء في حكاية أخرى ..

الثلاثاء ـ 15/حزيران/2010

يوسف رشيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق