أدونيس
مقتطفات من حواره مع عبده وازن
في جريدة الحياة
قد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر أدونيس إلى مقدمة، فالشاعر يقدّم نفسه هنا، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقا. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثا عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حينا وسلبي حينا آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجها آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى. إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيرا ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة.
هذا الشاعر الكبير الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحيانا في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكنا حصره داخل تخوم الشعر والقصيدة، فهو مفكر أيضا، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور ويتمرّد... ولا يهادن.
هذا الشاعر الذي يختصر عصرا بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادرا ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين بعينه.
> كيف تنظر إلى والدتك، خصوصا أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في حياتك؟
- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة إلى الأب الذي هو دائما في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصا أنها لا تقرأ ولا تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلا في العُطَل المدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو «تربيتي العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البدأية، جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءا من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معا. وعندما يحدث أن يموت الأب باكرا، وتبقى الأم بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلا، أين تسكن الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس الحضور.
ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابنا يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي، غالبا، «ثقافة» الأم، و «الثقافة» التي هي غالبا «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.
> أشعر أنك تتكلّم عن الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل تركت أثرا؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟
- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائنا مفردا، مستقلا، منفصلا، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها إلى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن لشاعر أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعا» أو «شيئا»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.
> وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ إلى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثرا وجدانيا فيك؟
- تقصد شعريا؟ هذا البكاء الشعري، بالأحرى يضحكني.
> هل عَنتْْ لك الأمُّ شيئًا كامرأة؟
- أيضا هذه من المشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من عمري كنت جزءا من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي، أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة. المدينة ابتكار إنسانيٌّ عظيم، لكن نحن أبناء الريف لم نعرفه إلا متأخرين جدا. لذلك الأمور عندنا مختلفة. هناك فرق كبير بين حياة الريف وقيمه وحياة المدينة وقيمها. هناك فجوة يمكن أن تكون السبب في كون حياتي اليوم حتى سن العشرين نوعا من التذكر، نوعا من الاستعادة أكثر مما هي جزء مكوّن من حياتي أعيه وأستطيع أن أحلله أو أتأمل فيه.
> متى خرجتَ على ثقافة العائلة والبيئة والقرية؟
- بدأ هذا الخروج مع عملي في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان، وأعتقد أنه لا يزال حتى الآن، يمارس الحياة المدنية داخل صفوفه، وفي العلاقات ما بين أعضائه.
> من الشخص الأول الذي ربطك بالحزب؟
- لم أدخل الحزب بتبشير من شخص بعينه، وإنما دخلته، مصادفة، بفعل الحادثة التي أشرتُ إليها، وأعني طرد طُلاب ينتمون إليه، من المدرسة – اللاّئيك. غير أن المسؤول الذي تولى إدخالي رسميا كان الأستاذ إلياس جرجي قنيزح.
> هل تعرّفت إلى أنطون سعادة شخصيا؟
- قابلته مرتين. الأولى، عام 1947 كما أتذكر، في أثناء زيارته اللاذقية، أو 1948. كان ذلك في حفلة استقباله، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ولعل قيادة الحزب هي التي شاءت أن أتعرّف إليه، لأنني كنت بدأت أبرز في الحركة الطلابية، لا شاعرا «قوميا»، فقط، بل ناشطا فعّالا، أيضا، في صفوف الطلاب. رجل ساحر: هذا هو انطباعي عنه في هذه المرة.
المرة الثانية، كانت في مكتبه في بيروت، عام 1948. المناسبة هي أنني فزت بجائزة «العروة الوثقى» الأولى، في مسابقة شعرية تدور حول موضوع «اليتيم». كان حلما، بالنسبة إليّ، أن آتيَ إلى بيروت. أن ألقي قصيدتي في قاعة «الوست هول» في الجامعة الأميركية، كما أخبرني المشرفون على الجائزة. وقد نَظّم مسؤولو الحزب في اللاذقية أمرَ مجيئي إلى بيروت، وكانوا مسرورين جدا. ونظّم لي مسؤولوه في بيروت أمر زيارة الزعيم، كما كنا نسمّيه، في مكتبه. هكذا، منذ وصولي إلى بيروت، وقبل ذهابي إلى الجامعة الأميركية، زرته، وبقيت معه فترة قصيرة، لم أعد أذكر شيئا مما قاله لي. أذكر أنني أصغيت إليه، مأخوذا به – بشخصه، وتواضعه، وبساطته، وحضوره المُدهش. ولم أكن قرأت من كتاباته إلا أشياء قليلة.
في الجامعة، أصرّ القوميون على أن ألقي القصيدة، واضعا شعار الزوبعة. لكن، عندما رآه أعضاء الرابطة، غضبوا ورفضوا أن ألقيها وأنا أضعه. وعندئذٍ حدثت شبه معركة بينهم وبين القوميين تدخل فيها رئيس الجامعة وقتذاك، الدكتور قسطنطين زريق. وحلّت المسألة بانتصار القوميين، ويبدو أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الفاعلة بين طلاب الجامعة. كانت معركة شكلية، يمكن تفاديها. منذ ذلك الحين، أخذت أقرأ أنطون سعادة، خصوصا كتاباته حول الأدب، مثلا كتابه المهم: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وقد أثّر فيّ كثيرا. في كل ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والأسطورة، وبينه وبين القارئ. وكانت له في هذا الصدد مقولة بالغة الأهمية، وهي أن الشعر يجب أن يكونَ منارة لا مِرآة.
جذبني في الحزب، في تلك الفترة، الجانب المسلكي، النظريّ والعمليّ. فقد كان أعضاؤه يعيشون في ما بينهم مبادئهم في العلمانية، واللاطائفية، وحرية التديّن أو اللاتديّن، واحترام المرأة والنظر إليها بوصفها، كالرجل، حقوقا وحريات وواجبات. حتى أن بعض القوميين كانوا يتزوجون مدنيا، في ما بينهم، قبل أن يسجّلوا زواجهم، رسميا أو شرعيا. وزواجنا، خالدة وأنا، تمّ أولا في الحزب، ثم سجّلناه، طبقا لأعراف الزواج الرسمية. وجذبتني أيضا بعض الأفكار، كمثل موقف أنطون سعادة من العروبة، واللغة العربية. وكمثل رأيه في شخصية أو هوية المجتمع السوري، وفي النظر إلى ثقافة الغرب أو الحضارة الغربية.
> هل توضح هنا ما تقصد إليه؟
- مثلا، كان يقول، وهذا في صلب دستور الحزب، إن الأمة السورية أمة عربية، وإن الثقافة العربية جزءٌ أساسي ومكمّل للثقافات التي سبقتها في سورية: الكنعانية، الفينيقية، والبابلية – الأشورية، والسومرية... إلخ، وإن هذه الثقافات كلها تشكل وحدة لا تتجزأ. لكن، بما أن الثقافة العربية واللغة العربية آخر ما احتضنته سورية، فإن الثقافة السورية ثقافة عربية، ولغتها هي اللغة العربية. كان أنطون سعادة، للمناسبة، يعشق اللغة العربية. وقيل لي إنه كان يتحدث في البيت مع أطفاله باللغة الفصحى.
> هل لديكَ مثلٌ آخر؟
- نعرف جميعا أن هذه البلاد تتألّف بشريا من أقوامٍ متعددين في أصولهم وثقافاتهم. وردا على العِرْقية في النظر إلى الشعب، كما كان يقول دعاة القومية العربية، الذين نظّروا لها كأنها نوعٌ من العنصرية، ابتكر مفهوما جديدا هو «السلالة التاريخية»، قائلا إن الشعب السوري مزيج مركّب فريد من السريان والآشوريين والأكراد والأرمن والعرب وغيرهم، وأنهم تمازجوا عبر التاريخ بحيث يشكلون سلالة تاريخية واحدة، في ما وراء الأعراق. وهكذا يكون العرب جزءا لا كُلا. ويزول كذلك مفهوم الأقليات. ومن أجل ذلك قال بانتساب الشعب إلى الأرض التي يعيش عليها، لا إلى اللغة، ولا إلى الدين، ولا إلى العِرْق. فالناس الذين يسكنون في سورية هم شعبٌ سوري، لا فرق بين فرد أو آخر، وبين أصل عِرقيّ أو آخر. الوطن واحد، والشعب واحد. والمواطنية هي الأصل. لا الانتماء المذهبيّ أو العِرقي أو اللغوي. والمخجل أن بعض كتّاب اليسار لا يزالون يتّهمونه بالنازية.
> الشائع أنه هو الذي اختار لك اسم أدونيس...
- هذا خطأ. فأنا نفسي اخترت هذا الاسم. ولهذا الاختيار قصة رويتُها كثيرا، ولا أريد أن أكررها.
> كيف كانت علاقتك ببعض القوميين الكبار من أمثال فؤاد سليمان وغسان تويني؟
- كان لهما احترامٌ كبير عندي. لم أكن أجتمع بهما، غير أنني تتلمذت عليهما في أشياء كثيرة. أذكر أنني زرت فؤاد سليمان في مستشفى الجامعة الأميركية، في أواخر حياته. شعرت أنه فرح جدا بهذه الزيارة التي كانت الأخيرة. أما غسان تويني فقد توثقت علاقتي به، بعد أن تخلّى كلانا عن العمل الحزبي. عرفت كذلك سعيد تقي الدين، وكان إنسانا فريدا. ساعدني كثيرا في حياتي الأدبية، وهو الذي كتب مقدمة لقصيدة «قالت الأرض».
> مَن مِنَ القوميين أيضًا كان لهم حضورٌ في حياتك؟
- هشام شرابي. يوسف الخال، وكان قد ترك الحزب عندما التقيته في بيروت، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. محمد يوسف حمود، وكان شاعرا شديدَ الالتزام بالحزب. وكان هناك شعراء انفصلوا عن الحزب، قبل أن أعرفه، غير أنني قرأتهم وأَفَدْتُ منهم كثيرا، مثل سعيد عقل وصلاح لبكي.
> هل كان لديكَ موقفٌ نقدي معيّن من أنطون سعادة؟ هل حاولت أن تعيدَ قراءته، على ضوء العلوم الجديدة، والمعطيات السوسيولوجية الجديدة؟
- أبدا. الحقيقة أنني لم أنتقده، وإنما حاولت فهمه وتأويله، بطريقة خاصة، ومختلفة. مثلا، في ما يتعلق بآرائه في الأدب، وفي الدين، وفي الاقتصاد، وفي السياسة. لكن تأويلي هذا لم يكن يلاقي، غالبا، التأييد أو التحبيذ.
مرة، مثلا، كتبتُ افتتاحية في جريدة «البناء»، في أواخر الخمسينات، بعنوان: «يسارية الحزب القومي الاجتماعي»، فأحدثت ضجة، وغضب عليّ بعض قادة الحزب، مثل أسد الأشقر، وإنعام رعد. والغريبُ أنهما، بعد فترة، أخذ كلاهما يتحدث عن يسارية الحزب، ويبشّر بها، ويدافع عنها. مقابل ذلك، كنت أنتقد كثيرا، وباستمرار، الممارسة الحزبية القيادية، وبخاصة، على الصعيدين السياسي والثقافي. وهو انتقادٌ أدّى في الأخير إلى أن أنفصل نهائيا عن العمل الحزبي، وعن الحزب. وصرت أنظر إلى أنطون سعادة، بوصفه مفكرا، وفي استقلال كامل عن الحزب الذي أنشأه وكنت عضوا فيه.
> هل شعرتَ بأنكَ أصبحتَ أكبرَ من أن تكون حزبيا؟
- لم أطرح بهذه الطريقة مسألة علاقتي بالحزب، خصوصا أنني كنت، طوال بقائي في الحزب، حرا في فكري وعملي.
> لم تشعرْ يوما أنك تنتمي إلى فكر أنطون سعادة؟
- لا يمكن أي عاقل يعمل لبناء مجتمع جديد، إلا أن يتبنى كثيرا من أفكار أنطون سعادة، في فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، ووحدة المجتمع في سلالة تاريخية، وفي العلاقة بالآخر، وفي كثيرٍ من قضايا الأدب، والثقافة بعامة. أقول: يتبناها، لكن طبعا، منظورا إليها دائما في أفق التغيّر والصيرورة. هكذا لا أزال، شخصيا، أَسْتضيء بكثير من آرائه.
> كيف كانت علاقتك بخليل حاوي؟
- معقدة ومرتبكة. لكن، لم أقل عنه كلمة واحدة سيئة، خلافا لما كان يقوله عنّي بين أصدقائه وتلامذته.
> هل أثرت السياسة في هذه العلاقة، فهو كان قوميًا عربيًا على ما بدا؟
- على العكس، كان سوريا قوميا. وكان عضوا بارزا في الحزب. المسألة بيننا كانت شعرية. كنتُ، لسبب أو آخر، أكثر حظوة منه في صفوف الحزب، على الصعيد الشعري. ولهذا كان يغار مني كثيرا. ولم تنشأ بيننا علاقة صداقة.
> متى انقطعتْ علاقتكما؟
- لم تكن هذه العلاقة، منذ البداية، أكثر من علاقة تعارف. وأكرر أنني من جهتي، لم أقم بأي عمل يمكن أن يسيء إليه، شخصا أو شعرا. كنت حريصا جدا على احترام مكانه ومكانته.
> كيف تستعيدُ صورة خليل حاوي الآن، بعد هذا الزمن، وهل تقرأه؟
- لا أقرأه. كما أنني لا أقرأ الشعراء الذين جايلتهم. غير أنني أرى في شعره أمرين مهمين: الأول، هو أنه كسر اللغة الشعرية المتأنقة الزخرفية القائمة بذاتها والتي تتمثل، أساسيا، في شعر سعيد عقل. وهو في ذلك يتابع شعر إلياس أبي شبكة. الثاني، هو أن الشعر عنده قائمٌ جوهريا على رؤية للإنسان والعالم، لا انفصال فيها بين الشعر والفكر. هكذا أحترم تجربة خليل حاوي، وإن كنت لا أتذوق شعريتها، جماليا.
> لكنّه تحوّل إلى القومية العربية؟
- لا أظن. لا أرى في كتاباته انعطافا نوعيا يفصله عن رؤية أنطون سعادة الثقافية. وهذا لا يعني أنه لم يتعاطَف سياسيا مع القضايا العربية.
> هل هذا ينطبق عليك؟ أصلا، أنتَ كنتَ خارجًا من الأساس لأنك اشتغلتَ كثيرًا على التراث العربي.
- قد نكون متفقين في ما يتعلق بالأمرين اللذين أشرتُ إليهما، على المستوى النظري. غير أن الشعر، كما تعرف، يفلت أخيرا حتى من النظرية التي يُكتَب باسمها، أو يصدر عنها. والأساس إذا في نقد الشعر أو تذوّقه لا يُلتمس في اتجاه الشاعر أو في النظرية التي يقول بها، وإنما يُلتمَسُ في نسيج الشعر ذاته، في طريقة تعبيره، وفي بنيته اللغوية – الجمالية. وفي هذا نحن مختلفان.
> ماذا باتت تعني لك القومية، السورية أو العربية أو غيرهما في زمن العولمة؟ لقد فقدت القومية في العصر الراهن مسوّغاتها، حتى بات الانتماء القومي أشبه بالتهمة؟
- لا أظن أن الانتماء القومي انتهى، أو سينتهي. ربما يحصل ذلك عند أفراد. لكن، أستبعد ذلك عند الشعوب.
في ما يتعلق بي صرتُ بعيدًا جدًا عن النظر إلى القومية نظرة أيديولوجية سياسية. لكن الانتماء إلى لغة وشعب وثقافة شيء آخر، وهو أمرٌ مفروض بحكم الطبيعة والواقع.
> هل يمكن القول إن أنطون سعادة صار من التراث؟
- هو من التراث، بالمعنى الإيجابي العميق. وهو لذلك، لا يزال حاضرا، وحيّا. لكن، بوصفه مفكّرا ورائيا، لا بوصفه مؤسسة حزبية.
> إلى أيٍّ من شعراء الحزب السوري القومي، كنتَ تميل؟
- نشأ في الحزب شعراء كثيرون. بعضهم لم أعرفهم إلا بشعرهم. أشرت إلى بعضهم ممن سبقوني، وتعلّمت منهم كثيرا. وبعضهم من جيلي. وبعضهم من جيل لاحق. أحببت شعر محمد الماغوط، وسنية صالح، وكمال خير بك، وأورخان ميسّر، تمثيلا لا حصرا.
> الشاعر السوري بدوي الجبل، كيف كانت علاقتك به؟
- علاقة إعجاب، من جهتي. أما من جهته هو، فلم يكن مرتاحا إلى اتجاهَي الحديث في الشعر. ولا أعرف إن كنت تعرف أنه قريبي. فهو ابن خال أمي، عائليا.
> بدوي الجبل، ترك فيك أثرا؟
- ربما. وقد يكون أثره فيَّ أكيدا. غير أنني لا أعي ذلك، ولا أعرفُ أن أدلّ عليه. بدوي الجبل هو بالنسبة إليّ، آخر شاعر كلاسيكي عربي كبير.
> كيف كانت علاقتك مع سعيد عقل الذي كتب، كما يقال، نشيد الحزب القومي؟ وكيف تنظر الآن إلى شعره؟ في أي موقع تضعه، هو الشاعر الطالع من صميم اللغة العربية. وما رأيك في دعوته إلى القومية اللبنانية وإلى الكتابة بالحرف اللاتيني؟
- لم تكن علاقتي بسعيد عقل الشخص، جيدة. مع أنني رأيته أكثر من مرة. غير أنني أفدت من لغته الشعرية في سنواتي الكتابية الأولى. كانت امتدادا متألقا للغة شاعرين أحببتهما: أبي تمام، وأبي نواس. فقد قبضَ فيهما على مفتاحٍ تخييلي – ذهني، أوصله في النتيجة إلى أن «يسجن» لغته في «غرفة العناية الفائقة»، مفصولة عن العالم وأشيائه. غير أنه ابتكر القصيدة القصيرة التي تبدو كأنها تتدلى على صدر اللغة كمثل «عقد فريد». أما قيمة هذه القصيدة، تجربة ومعرفة وكشفًا، فأمرٌ آخر يصعب الآن الدخول فيه. وقد بالغ في اللعب، والتقليبِ والصقل، بحيثُ انحصَر شعره بين عتبتين: «امتلاء» اللغة، و «فراغ» التجربة. وليست دعوتُه إلى القومية اللبنانية إلا نوعا من الأصيص الوطني لهذه اللغة – الزهرة. أصيصٌ بلا ماء.
أما دعوته إلى الحرف اللاتيني فدعوة شاعر يُنكِرُ هو بنفسه ما خَلقَ له هويته الشعرية وجعله هو هو. دعوة شاعرٍ يخرجُ من شعره ومن نفسه على السواء. وهي إلى ذلك دعوة منْ يرى الوجود، إنسانا وشعرا وفكرا، في «الحَرف». كأنه يريد أن يُحِلَّ الأداة – الآلة، محلَّ خالِقها، الإنسان. إن مشكلة اللغة ليست لغوية. إنها عقلية – إبداعية. مشكلة اللغة في العقل الذي يستخدمها، لا في الحروفِ التي تُشكّلها.
> فوجئ القراء وأصدقاؤك بأنك بنيت لك مقبرة في القرية وكأنك تريد أن تعود، بعد عمر طويل، إلى القرية. ماذا يعني خط العودة هذا؟
- أظن أن الرغبة في العودة إلى التراب الذي مسته قدماي للمرة الأولى، هو نوع من الاعتراف بالأمومة، نوع من العودة إلى الأمومة لا إلى الأبوّة. طبعا لم أبنِ قبرا كما قيل وإنما أشرت إلى أنني أحب أن أقبر في زاوية من مكان معين، في حديقة البيت.
> أذكر إحدى مقولاتك الشهيرة: «لا أستطيع أن أكون لبنانيا، ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانيا». ما قصدت بهذه العبارة؟
- الإنسان في لبنان مُمتهَنٌ، فهو يُقَوَّم في الدولة، في الحياة المدنية، بمعيار طائفي، وبانتمائه الطائفي، لا بمعيار إنسانيته ومواطنيته، وكفاءته. بعض البلدان العربية أقل سوءا على هذا الصعيد. الإنسان فيها يقوّم إجمالا، بحسب ولائه للنظام القائم، أو عدم ولائه، في معزل، إجمالا، عن انتمائه المذهبي أو الطائفي. ويزداد الأمر سوءا في لبنان بتقويم اللبناني، داخل طائفته نفسها، بمدى قربه أو بعده من زعيمها. على هذا المستوى، لا أستطيع أن أكون لبنانيا.
غير أن لبنان، من جهة ثانية، خلافا للبلدان العربية أو لمعظمها، يتكوّن من مادة بشرية فريدة: إثنيات، وأديان، وثقافات متنوعة. وهذا يقدّم مكانا لبناء مجتمع تعددي أو تنوعيّ يندرُ مثيله في العالم. وهو، إذا، مشروعٌ منفتح يبدو فيه لبنان، كمثل الحب أو كمثل الشعر، لا نهأية له، يُبتكر ويُعاد ابتكاره باستمرار. ويبدو في إطار العالم العربي ضروري الوجود، ضرورة مطلقة. وعلى هذا المستوى، لا أستطيع إلا أن أكون لبنانيا.
> هل حصلتَ على الجنسية اللبنانية بسهولة، أم خضتَ معركة؟
- كان الأمر سهلا. اكتشفت، بفضل بعض الأصدقاء، خصوصا المحامي الراحل نعمة حمادة، والنائب الراحل أحمد إسبر، أنّ لي أرومة عائلية في قرية حجولا، قضاء جبيل. وقد ساعدني كثيرًا في هذه المسألة الراحل الصديق ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية. هكذا أخذتُ الجنسية اللبنانية استنادًا إلى هذه الأرومة. كانت بمثابة استعادة.
> خلال هذه الفترة، بدأتم بإنشاء مجلة «شعر». الآن، يقال إن المؤسس هو يوسف الخال. وأحيانا يقال أدونيس يوسف الخال. أو يوسف الخال وأدونيس.
- صدر العدد الأول من المجلة، شتاء 1957. والتقيته في بيروت للمرة الأولى، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. كان يعمل في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ضمن البعثة اللبنانية التي كان يرئسها أستاذه شارل مالك. كنت أعرفه بالاسم، ولم أكن قرأت له شيئا. في سنة 1954، نشرت قصيدة طويلة في جريدة «البناء» التي كانت تصدر في دمشق، بعنوان «الفراغ»، نشرت، في ما بعد في مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار مجلة «شعر»، بعنوان «قصائد أولى». قرأ القصيدة وهو في نيويورك، ويبدو أنها أعجبته. اتصل بي، وكان كما بدا لي، من حديثه، أنه يفكّر بإنشاء مجلة خاصة بالشعر. وقال إنه فرح بالقصيدة، خصوصا بخروجها على التقاليد الوزنية. واتفقنا على أن نلتقي في بيروت. هكذا التقينا في أواسط تشرين الأول 1956، في «مقهى نصر» وحدّثني عن مشروع المجلة.
هو، إذا، صاحب الفكرة، والعامل الأول على تأسيسها. غير أننا عملنا سويا، بوصفنا فريقا واحدا، منذ العدد الأول الذي صدر بعد حوالي شهرين أو أكثر قليلا، في شتاء 1957. وعندما نتصفح العدد الأول نرى أنني هيّأت شخصيا حوالي نصف صفحات العدد، وتحديدا42 صفحة من أصل 109 صفحات. وقد حرصتُ، خلافا لرغبته، على ألا يظهر اسمي في هيئة تحرير المجلة، وأن يكتفى باسمه وحده، لأسبابٍ خاصة متنوّعة.
> وهو كان صاحب الامتياز؟
- لا. كمال الغريّب كان صاحب الامتياز.
> لم يظهر اسمك في العدد الأول! لماذا؟
- لم يظهر، في هيئة التحرير، كما أشرت. لكن ظهرت لي في العدد قصيدة «مجنون بين الموتى»، وهي ذات شكل مسرحي، كتبتها في سجن القنيطرة العسكري، في سورية، عام 1955، وكان أشدَّ قسوة من سجن المزّة في دمشق. إضافة إلى كثير من المواد الشعرية الأخرى، وبخاصة المواد المترجمة التي لم أوقعها باسمي الشخصي.
> سجنت بتهمة سياسية؟
- نعم. ولكن دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك إلى الحزب السوري القومي جرمًا. غير أنني خرجت من السجن، دون محاكمة، كما كان الشأن في خروجي من سجن المزّة.
> متى ظهر اسمك في هيئة تحرير مجلة «شعر»، رسميًا؟
- بعد صدور العدد الأول، كان يوسف يصرّ باستمرار على وضع اسمي إلى جانب اسمه، قائلا: هذا حق، وضروري. والأفضل أن يظهر اسمانا معًا رئيسين أو مديرين للتحرير، وصاحبي المجلة. وكنت دائما أجيبه: ننتظر قليلا. أخيرا، بدءًا من العدد الرابع الذي ظهرت فيه ترجمة «ضيّقةٌ هي المراكب»، قبلت أن يظهر اسمي سكرتيرًا للتحرير. وفي بداية السنة الرابعة، العدد 14، قبلت أن يظهر اسمي مديرًا للتحرير. وحلّ شوقي أبي شقرا محلي، سكرتيرًا لهيئة التحرير. وفي هذا العدد نفسه نشرت المجلة، للمرة الأولى، ثلاث قصائد نثر لأنسي الحاج. ثم انضمّ في بداية السنة الخامسة، العدد 17، 1961، إلى هيئة تحريرها. وبدءًا من شتاء 1962، العدد 21، صار اسمانا يوسف الخال وأنا يظهران مقترنين على هذا النحو: «صاحبا المجلة ورئيسا تحريرها: يوسف الخال وأدونيس». تلك هي الوقائع. ولا أقدر، مع ذلك، أن أمنع الآخرين نقادًا ومؤرخين وشعراء، من أن يتحدثوا عن المجلة وتأسيسها، كما يَحلو لهم.
> كيف تنظر الآن إلى يوسف الخال؟ ما العلاقة التي ربطتك به، علما أنكما شخصان مختلفان تمام الاختلاف؟
- عن الشق الثاني من سؤالك أقول كنا متفقين، على الرغم من اختلافنا في أشياء حول إعادة النظر في الثقافة العربية، والشعر بخاصة، والتأسيس لصورة جديدة لهما، وحول الحرية الكاملة في النظر والتأسيس. ولم تكن آراؤنا في التفاصيل متطابقة دائما. وقد ارتقى اتفاقنا هذا في الممارسة إلى مُستوى الصداقة. كنا صديقين، بالمعنى العميق لكلمة صداقة. وقد أعطت لهذه الصداقة بعدًا عمليًا واجتماعيًا وسياسيًا، قناعتنا المشتركة بالعلمنة، ومدنية المجتمع، والتعددية الثقافية والانفتاح على الآخر وثقافاته. أما عن الشق الأول من السؤال، فأرى أن ليوسف الخال أهمية كبيرة أوجزها في ثلاثة أمور:
الأمر الأول شعري، وهو أنه أول شاعر عربي حديث كتب قصيدة موزونة مدوَّرة، وغير مقفّاة. وكتبها بشعر قريب إلى النثر، أو كأنه النثر – أعني قريب إلى الحياة اليومية ولغة الحياة اليومية، دون انفعالية أو حماسية متضخمة وفضفاضة. هكذا كسر للمرة الأولى، فنيا، لغة التأنق الشعري اللبناني: لغة سعيد عقل وأمين نخلة، على سبيل المثال، والتي وصلت إلى درجة قتَلت الشعر، وأصبحت رنرنة لفظية.
الأمر الثاني ثقافي، وهو أنه، من ناحية أولى، صدر في كتابة الشعر عن رؤية توحد بين الشعر والفكر. خلافا للنظرة التقليدية السائدة التي تفصل بينهما فصلا كاملا. وأنه، من ناحية ثانية، أدخل البُعْدَ المسيحي في الشعر، بوصفه عنصرا مكونا من عناصر الثقافة العربية، وجزءا عضويا منها، جماليا وفكريا وأن فهم الثقافة العربية، في معزل عن هذا البعد، إنما هو فهمٌ ناقصٌ وسطحيٌ.
والأمر الثالث لغوي، فهو يقترح أن نكتب اللغة كما ننطقها. لا يتبنَّى اللغة الدارجة، ولا الحرف اللاتيني، وإنما يتبنّى اللغة الفُصحى نفسها لكن من دون حركاتها الإعرابية.
وهو اقتراحٌ متقدمٌ ورائدٌ، إذا قيس بالمقترحات الأخرى في هذا الإطار. وأنا شخصيا، لا أوافق عليه. لأنني أرى باختصار أن ما يسمى بمشكلة اللغة العربية من حيث تراجعها، لا تُحلّ لغويا. المشكلة اللغوية هنا هي، في المقام الأول، عقلية – ثقافية. حين يموتُ عَقْلُ أمة تموت لغتها. واستخدام اللغة الدارجة أو المبسّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يُعيدُ لها عقلها. كيف نستيقظ عقليا؟ تلك هي المسألة.
> لكن، إلى أي مدى ترى أن يوسف الخال جدد القصيدة؟
- أولا، من حيث الشكل والبنية، هو بين أوائل الذين نظّروا للخروج على الوزنية التقليدية، فكتب قصيدة غير شطرية، قائمة على الجُملة، وكتب قصيدة مدوّرة بلا قافية، ونَثْرنَ شِعرية الوَزْن، إضافة إلى أنه كتب بدارجةٍ جديدة هي اللغة الفُصحى دون حركات إعرابية. ثانيا، من حيث المضمون، جَرّد الشعر من انفعاليته وتأوهاته العاطفية الغنائية، بالمعنى البكائي السطحي، وأنينه الذاتي الفردي، ورَبطه برؤية إنسانية حضارية. ثالثا، أسس لمناخ مفتوح يستقبل الشعراء وبخاصة الشبّان، يدعمهم ويشجعهم وينشر لهم، خالقا هكذا حركة ثقافية – فنية، كانت أكثر نضجا ووعيا وفاعلية من جميع الحركات التي سبقتها، على أهميتها التاريخية. واليوم، دون أي مبالغة، يمكن أن نقسّم تاريخ الشعر إلى قسمين: الشعر قبل مجلة «شعر»، والشعر بعدها.
> إلى منْ كنتَ أقربَ في مجلة «شعر»، ما عدا يوسف الخال؟
- إلى أنسي الحاج. وبعده، في مرحلة لاحقة، إلى بدر شاكر السيّاب.
> كنتَ أولَ المرَحّبين بأنسي في رسالتك الشهيرة.
- طبعا. كان بشارة، كما بدا لي آنذاك، لكتابة عربية جديدة، رؤية وبنية.
> ثم واكبتَ أعماله. واختلفتما فترة، أم ماذا؟
- حدث بيننا جفاءٌ، منذ أن تركتُ مجلة «شعر». وأسندَ إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمْرَ مُهاجَمتي بسبب انفصالي عن المجلة. ثم جاءت الحرب الأهلية، وهجرتي من بيروت إلى باريس. هذا كلّه أحدث نوعا من القطيعة على صعيد اللقاء، لكن، على صعيد الكتابة كنت حريصا دائما على قراءته، ولا أزال.
> قلت أكثر من مرة إنك تفضل أنسي على محمد الماغوط. ما السبب؟
- شعر الماغوط طائر جميل مغرّد. شعر أنسي سِرْبٌ من الطيور الجميلة المغرّدة. شعر الماغوط «واحد». شعر أنسي «كثير»: أغنى، وأعمق، وأكثر تنوّعا.
> نستطيع أن نتكلّم عن انقطاع في العلاقة بينك وبين محمد الماغوط ، علمًا أنك كنتَ أولَ من قدّمه في مجلة «شعر»؟
- جميع الذين قدمتهم شعريا، بدءًا من عملي في مجلة «شعر»، ووفرتُ لهم كثيرًا من فُرص التفتّح والنموّ، انقلبوا ضدي. ولا ألوم، هنا، ولا أشكو وإنما ألاحظ.
> أعود إلى محمد الماغوط. متى بدأت العلاقة بينك وبينه تسوء، حتى إنه استمر في مهاجمتك، دون توقف؟
- تعرف طبعا أنني كعادتي مع آخرين كثيرين، لم أرد عليه، ولم أقل عنه أي كلمة مسيئة. كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنيّة صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه، منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحيانا إلى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضًا، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودودًا، ونادمًا، خصوصًا في ما يتعلق بتهجماته عليّ.
> الآن، كيف تقرأ محمد الماغوط؟
- لا أحس بأي حاجة ملحّة لقراءته. مع أنه، كما أظن، يستهوي كثيرا من الشبان. وفي الواقع، استطرادًا، أنني لا أحس بمثل هذه الحاجة لقراءة أي شاعر من شعراء جيلي. خصوصا ذلك الذي كان يملأ دنيا التقدم واليسار والشيوعية، عبد الوهاب البياتي.
> هاجمك البياتي بعنف؟
- لا علاقة لهجومه بما أقول. أقول ذلك، موضوعيا.
> هل تعتقد أن البياتي انتهى كما يقول بعضهم؟
- يصعب عليّ إصدار أحكام من هذا النوع، لذلك، لا أقول: انتهى. أقول إن شعره ضَحلٌ، وليست له أي أهمية فنية – جمالية، بالمعنى الحَصْري للعبارة.
> على عكس السيّاب؟ السيّاب تحبّه؟
- كتب السيّاب عشرَ قصائد، على الأقل، هي بين أجمل القصائد العربية التي كتبت، منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. هذا يكفي لكي يبقى. وهذا يكفي لكي أحبه.
> هل كانت بينك وبين بدر صداقة شخصية؟
- نعم. وبيننا رسائل متبادلة. وأنا، شخصيا، اخترتُ قصائدَ ديوان «أنشودة المطر» من بين القصائد الكثيرة التي وضعها بين يديّ، وفوّضني بالاختيار.
> أين تكمن حداثة السيّاب برأيك؟
- في مُقارَبته للأشياء، وفي طريقة تعبيره عنها. وفي لغته الشعرية، بخاصة: كأنه داخل اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها في آن: فلحظة يبدو لبعضهم «قديما»، يبدو، في العمق» «حديثا» بكامل المعنى. كأنه من التراث كالموجة العالية من البحر: لا هي هو، ولا هي غيره.
وتلك هي «المعادلة» العالية التي نعرفها عند شعراء الحداثة الغربية الكبار.
> نازك الملائكة، ألا ترى أن جزءًا من أسطورتها كان واهيًا؟
- تكتسب نازك أهميتها الشعرية من كونها أولا شاعرة في مجتمع يتردد كثيرًا في الاعتراف باستقلالية المرأة، وحريتها.وتكتسب، ثانيًا، أهميتها من كونها امرأة مثقفة. أعطت للرومنطيقية بعدًا غنائيًا أنثويًا كان جديدًا في وقتها. كانت تتويجًا للغنائية آنذاك، والتي كان يمثلها أفضل تمثيل الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.
> كيف تنظر إليها كناقدة ومنظّرة للشعر؟ هل قرأت كتابها «قضايا الشعر»؟
- طبعًا قرأته. كان عندها في هذا الكتاب زادٌ معرفي، وآراء ثاقبةٌ في كثيرٍ من القضايا التي طرحتها.
> نشرتم لشاعر من الشعراء المهمّين هو سعدي يوسف. كيف تنظر إليه، وإلى تجربته؟
- منذ البداية، قدّرت هذا الشاعر. افتتحنا بقصيدة له العدد الأول من مجلة «شعر»، وازددت، مع الوقت، تقديرًا له ولتجربته. واستحسنت كثيرًا تأثره، في ما بعد، بالشاعر اليوناني ريتسوس، الذي عرفته شخصيًا في بيته، في أثينا، واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية. وهو اتجاهٌ بارزٌ، اليوم، في الكتابة الشعرية العربية، يعيد الصلة بكثير من الشعراء العرب القدامى الذين اهتموا في شعرهم بهذه التفاصيل، بدءًا من الشاعر الكبير ابن الرومي، مرورًا بالصنوبري، والشعراء الآخرين الذين سُمّوا بشعراء «يتيمة الدهر» للثعالبي.
> سنية صالح، كيف تجدها كشاعرة؟ هل ترى أنها أهم من محمد الماغوط وكما يقال أحيانا؟- أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنيّة شاعرة مهمة جدا، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كليا في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيّرت بين الماغوط أو سنيّة؟ لأجبتك: سنيّة.
> طالما تحدثنا عن مصر، لماذا نلاحظ أن بينك وبين الحداثة المصرية حالا من القطيعة؟ مثلا، لم تكتب مرة عن أحمد عبد المعطي حجازي، أو أمل دنقل، أو صلاح عبد الصبور. كيف تنظر إلى هذه الحداثة المصرية؟
- لستُ ناقدا لكي أكتب عن الشعراء. أقوم بين وقت وآخر بتحية لشعراء أقدّرهم. وهذا ما فعلته، بالنسبة إلى صلاح عبد الصبور، ويبدو أنك لم تقرأ ما كتبته عنه.
ثم، من أين أتيتَ بالقطيعة التي تشير إليها؟ معظم المبدعين المصريين في مختلف الميادين، فنونا تشكيلية، وشعرًا، وقصة، ورواية، ونقدًا، تربطني بهم علاقات وصداقات متينة. وأظن أن ما قلته عن صلاح عبد الصبور أساسي، ولم يكشف عنه أحدٌ قبلي: كسر لغة شوقي، السيدة المهيمنة، على صعيد الذائقة، وعلى صعيد المؤسسة، معًا. وهذا مهم جدًا، فكريًا ولغويًا وجماليًا. إضافة إلى الأهمية الشعرية، بحصر الدلالة. فقد كان ذلك بداية النقلة من أفقٍ شعري، إلى آخر مختلف كليًا.
> لكن، ألا تعتقد أنه كانت هناك مرحلة وسيطة بينه وبين شوقي؟
- حتى لو سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فقد كان صلاح عبد الصبور الأكثر جذرية، خصوصًا على صعيد اللغة الشعرية.
> وأمل دنقل؟
- موهبة شعرية عالية. وأنا أقدّر هذه الموهبة كثيرًا، دون أن يعني ذلك، أنني أُعجَبُ بمنجزها الشعري. فالرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالبًا وظيفية – سياسية. وهذا مما جعل شعره وصفا للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، لكن، مهذبة، مُنقحة.
أميل، شخصيًا، إلى الشعر الذي لا يعيد إنتاج الأشياء، وإنما يهدمها برؤية جديدة وشاملة، ويعيد تكوينها، مبتكرًا عالما آخر، بلغة أخرى، وفي أفقٍ آخر.
> عموما، كيف تنظر إلى الحداثة الشعرية في مصر؟ يحاول النقاد المصريون والشعراء أنفسهم في مصر أن يخلقوا حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر إلى هذه الحالة؟
- لا أرى مثل هذه الحالة. الحداثة في مصر جزءٌ عضوي من الحداثة في البلدان العربية كلها. ربما كان هناك تنويع، لكنه حتى الآن، ليس واضحًا، لي على الأقل.
في كل حال، ليست الحداثة، شعريًا أو فنيًا أو فكريًا أو أدبيًا، مصالحة أو توفيقا. الحداثة انشقاق وقطيعة. لكنها، قبل ذلك، رؤية للمستقر الموروث، مغايرة، وجذرية، وشاملة للحياة والإنسان والعالم.
مجرّد الكتابة بالنثر، أو قصيدة النثر، في هذا الإطار، لا تعني في حد ذاتها شيئا. ما يعني هو الآفاق التي تصدر عنها الكتابة، والآفاق التي تفتحها – فنيا وجماليًا وفكريًا.والحداثة العربية، على هذا المستوى، لا تزال في بداياتها. وما يلفت النظر في هذه الحداثة هو نسيان الجمالية ولغتها، أو هو إهمالها. قلّما نجد دراسة تُعنى بجمالية الكتابة العربية الحديثة أو بلغتها، تراكيب وصورًا وموسيقى. الدراسات كلها تعنى بما هو ثانوي: الموضوعات والاتجاهات... الخ. فهذه لا تأخذ أهميتها إلا بكيفية التعبير عنها، أي بمستوى لغتها وجماليتها. وهذا ما نهمله جميعا، تقريبا، شعراء ونقّادًا. أي إننا نهمل ما لا يقوم الشعر إلا به.
> كيف تقرأ أحمد عبد المعطي حجازي؟
- أقرؤه في سياق الشعر المصري الغنائي الذي يمثله، على نحوٍ خاص، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي. فهو في شعره استمرارٌ لهؤلاء مع شيء من التنويع، شكلا ومضمونا، يرتبط بالحدث السياسي – النضالي، وبالحدث الواقعي الاجتماعي. وسواءٌ قرأت شعره، من حيث بنية القصيدة، أو بنية اللغة الشعرية، أو من حيث الرؤية الفنية، بعامة، فإنني لا أجد فيه مُنعطفا، على غرار ما أجد، مثلا، في شعر صلاح عبد الصبور.
> ماذا عن الشعر الفلسطيني؟ كيف تنظر إلى طابعه الإشكالي؟
- هو الآخر جزءٌ من الشعر العربي، غير أنه يتحرّك في مدار من خصوصية المأساة الفلسطينية: شعراء فلسطين يعيشونها، ونحن الشعراء العرب، خارج فلسطين، نُعايشها. والفرق كبير. وهذا يلقي مسؤولية كبيرة وخاصة على الشعراء الفلسطينيين.الخلل، كما يبدو لي هنا، وهذا ما قلته مرارًا، ومن زمن طويل، هو أن فلسطين تحوّلت في الشعر العربي كله، لا في الشعر الفلسطيني وحده، إلى «موضوع» – بدلا من أن تتحول إلى «تجربة»، كما كان مُفترضا.
فلسطين انفجارٌ مأسوي – كارثي في الحياة العربية، اجتماعًا وسياسة. فنا وفكرًا. انفجارٌ يأخذ أبعادًا كونية. ولا أرى أن شعرنا ارتقى إلى مستوى هذا الانفجار.
> ألا تعتقد أن محمود درويش استطاع أن يحقق هذا الإنجاز في شعره الأخير؟
- عَرف محمود درويش، بذكاءٍ كبير، كيف يستقطبُ اهتمامًا كبيرًا، عربيًا وأجنبيًا، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا يتقاطع في شخصه الشاعر والسياسي، البعد الواقعي للنضال الفلسطيني وبعده الرمزي. غير أن شعره في حد ذاته مسألة أخرى. وأجد، شخصيًا، صعوبة في الكلام على شعره، بسبب أساسي من صداقتنا في أثناء إقامته في بيروت، وبخاصة في أثناء إقامته بباريس. وقد كان، كما تعرف، عضوًا في هيئة تحرير «مواقف»، فترة، ثم أنشأ مجلته «الكرمل». ذلك أن الصداقة قد تكون حجابًا، في حالات كثيرة، بينها مثل هذه الحالة.
في كل حالٍ محمود وارثٌ ذكيٌّ لمن سبقه من العرب: نزار قباني، سعدي يوسف وأدونيس. هذا على صعيد طرائق التعبير. أما على صعيد المضمون فهو أيضًا وارثٌ ذكي للثقافة العربية، خصوصًا كما تُعاش في الحياة العربية اليومية. ومعنى ذلك أن شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقا لجميع الأنظمة، بدءًا من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزًا شعريًا وطنيًا، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعًا ذاتيا فنيًا: لا التراث، ولا اللغة، ولا الدين، ولا الذات، ولا الآخر. حتى المشكلات التي كان يطرحها أحيانا، كالموت والمنفى أو غيرهما، إنما كان يطرحها، ثقافيا، وفي إطار ثقافي معروف. شعره مكتوبٌ بلغة الجمع، ورؤية الجمع. غير أنه مكتوبٌ بذكاء غير عادي. يشهد لذلك «الإجماع» عليه.
وفي رأيي أن هذا «الإجماع» يشهد، شعريًا، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع.
> والغنائية لديه، كيف تنظر إليها؟ لا تحب الغنائية أو لست بميالٍ إليها؟
- لستُ مَيّالا إلى غنائية البكاء والندب، غنائية الرثاء الذاتي أو المدح الذاتي. لكن كل شعر عظيم إنما هو شعر غنائي من حيث إنه يحوّل الكون كله إلى نشيد، والإنسان إلى صوتٍ وموسيقى.
> هل استوقفتك تجارب أخرى في الشعر الفلسطيني؟
- هناك، لا شك، كتابات مهمة، خصوصًا تلك التي تُفلت من الغنائية السهلة. تابعت بعضها، لكن يؤسفني أنني لم أقدر أن أُتابعها كلها.
> هل قرأت سميح القاسم؟
- قرأتُ ما وقعت يدي عليه. هو في طليعة شعراء جيله.
> والشعراء الفلسطينيون الجدد؟
- طبعًا، هناك شعراء فلسطينيون آخرون. ويؤسفني أنني لم أقرأ لمعظمهم إلا قصائد متفرقة، محدودة لا تسمح لي، أو لا تُجيز لمن يحترم الشعراء والشعر، أن يُصدر أحكامًا، سلبًا أو إيجابًا.
> سنتحدث عن الشعر المغاربي. أقول مغاربي، قصدًا، لأن الشعرية هناك، في المغرب العربي، في شكل عام، تختلف عن الشعرية المشرقية. هل توافقني على هذا التقسيم أنت الذي تعرف الشعر المغاربي جيدًا، وأنت الحاضر جدا في المغرب العربي؟
- لا أظن أن في المغرب وحدة شعرية، فنيا. ما يُكتب باللغة العربية في تونس مثلا يتميز عما يُكتب في المغرب والجزائر. فهو الأكثر قربًا إلى اللغة الشعرية المشرقية. وما كتب أو يُكتب باللغة الفرنسية، يختلف كليًا عما يُكتب بهذه اللغة في لبنان، مثلا. هذا أولا.
ثانيًا، الكتابة المغاربية الأدبية، الشعرية والروائية، باللغة الفرنسية أكثر قوة منها باللغة العربية، إجمالا. لا نجد في الدول المغاربية حتى الآن روائيين أو شعراء باللغة العربية في مستوى كتابها باللغة الفرنسية: كاتب ياسين أو محمد ديب أو رشيد بوجدرة، أو ياسمينة خضرة، أو آسيا جبار، أو محمد خير الدين أو عبد الكبير الخطيبي، تمثيلا لا حصرًا.
ثالثا، الشعر المغاربي، باللغة العربية – وأعني شعر الأجيال الراهنة الشابة، أعمقُ ثقافة، وأقلّ هجْسًا بالذاتية (وهما مِزيتان)، من شعر الأجيال الراهنة الشابة في المشرق العربي.
رابعًا، وإذا ربطنا بين الشعر والفكر، في المغرب والمشرق، فإن الفكر في المغرب، متمثلا في محمد أركون، وعبد الله العروي، وهشام جعيط تمثيلا لا حصرًا، أكثر غنىً وعمقا من الفكر المشرقي.
خامسًا، تتجلى الإبداعية المغاربية، بشكلها الأكثر خصوصية، في الفنون التشكيلية، وسؤالي هنا هو: ما يكون في هذه الظاهرة، دور التوترات، والصراعات اللاواعية والواعية، التي تعيشها «لغات» المغرب العربي، غير التشكيلية: العربية الفصحى، العربية الدارجة، الأمازيغية، اللغة الفرنسية؟
> أتذكر هنا توفيق صايغ. كيف ترى إلى هذا الشاعر؟
- توفيق صايغ حالة خاصة في كتابة الشعر نثرًا. فهو، فنيًا، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر عن جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بُِنيَةٌ إنكليزية بألفاظٍ عربية. وهو، مضمونيًا أو فكريًا، يصدر عن ثقافة سيكولوجية – مسيحية مُغَربَنَة حضاريًا، أكثر مما يصدر عن مسيحية مشرقية – عربية تشحنُها التجربة الذاتية بغَربٍ مُشَرْقَن. وفي هذا ما يجعل «هويته» في كتابته الشعرية تبدو وكأنها «ثقافية» أكثر منها جمالية. ويجعل شعرَه سَفرًا في الأفكار، أكثر منه سَفرًا في أرض اللغة التي يكتب بها، أو في «جسدها» و «ما وراءه».
مع ذلك، تبقى كتابته، كما يبدو لي، ظاهرة تدفعنا، شعريا وإنسانيا، إلى أن ندرس معنى « الجسر» الذي حاول أن يقيمه بين اللغة العربية وثقافة كونية لا يَبدو فيها من محيط الثقافة العربية إلا «قاربٌ» لغوي، شعري عائمٌ، غائمٌ، بعيد ..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق