قلتُ في رسالتي إلى ماري :
" أحدُ أيام أيلول الماضي ، كان يومًا رائعًا ..لم تكنْ إشراقة الشمس كما كانت قبله .. الفرحة طاغية على كل ما حولنا .. احتوتْنا أشجار الغوطة .. صفّقتْ لنا .. غرّدتْ عصافيرها .. صار خريرُ مائها أجمل ..
لماذا لم يتوقف الزمن آنذاك " ؟!
صار خوفي من حسد الآخرين واقعا ، جعل ماري تتوارى في غيبة متعمدة .. لم أكن أدرك سببا مباشرا .. كل ما أعرفه ، أنها وعدتني ، وأخلفَتْ ..
طار صوابي ، إذ ليس صعبا على ماري أن تعتذر صراحة .. ولستُ ممن لا يتقبلون الحقائق رغم مرارتها .. وليس ثمة ما يدعو إلى عدم الوفاء بالوعد ، خاصة ، إذا كانت صاحبته فتاة مثل ماري .. بشخصيتها ، وكيانها ، وعقلها ، وجرأتها ..
لقد كنا صريحيْن منذ أن التقت عيوننا في ممرات فندق تشرين ، وكنا صريحين وصادقين في التعبير عما في داخلنا أثناء مراسلاتنا ..
وكنا في غاية الشوق واللهفة حين التقينا .. وخلاله ، كنا متفقين تقريبا على كل ما تناقشنا فيه ..
" ألم تكوني راغبة في معرفتي تماما ؟!
" ألم أكنْ لكِ كتابًا مفتوحًا ؟!
" هل أجدُ عند ماري أسبابا مقنعة ، تسوِّغ بها جفاءَها ؟!
إنني أرمي بآخر سهم في جعبتي ، لأني أدركُ مصيري تماما .. وأدرك أن الهلاك محتم ..
قالت ماري في رسالتها إلي :
لا أدري الآن مع من أتكلم !!
أمعَ الذي راسلني ؟ أم مع الذي قابلني ؟
إن كنتَ الأولَ ، فعليَّ أن أعتذرَ منك مسبقا .. لأن كلماتي ستكون قاسية ..
أما إذا كنتَ الثاني ، فلا أدري مدى تأثير هذا عليك !!
لن أتكلمَ بالألغاز ، لذا دعني أوضح :
" كان الظرف الذي احتوانا منذ عامين ، مناسبة لتعارفنا ..
فماذا رأيتُ ؟
كنتَ إنسانًا فيّاضا بالحساسية ، ذا حسّ مرهفٍ ، وشفافية رائعة ..
أحببْتُ فيكَ الصديقَ الذي يعيش واقعه بصراحة وجرأة .. أستأنسُ بحديثه وكلماته ..
كان البريق الذي في عينيه معبرا عما في رأسه ..
شدّ انتباهي بحيوية ونشاط متميزيْن بين جميع أعضاء الوفود الأخرى .. لمناقشاته وقعٌ في الآذان وقوة في الإقناع ..
أحسست به قريبا من نفسي وأفكاري ، حتى كاد يلازمني ، وكأننا روحان في جسد واحد .. كأنني أعرفه منذ آلاف السنين ..
احترمْتُه أولا .. ثم أعجبت به ، فارتقى إلى مكانة لم يصل إليها أحدٌ غيره ..
تمنيت أن يظل هناك .. نتناجى .. أحلم بالوصول إليه .. فلا أستطيع .. أحث الخطى .. فلا أستطيع أيضا ..
لكن الحلم تحقق .. ورأيته أمامي على طاولة واحدة .. كانت فرحتي باللقاء أكبر من أن أصفها .. استبدّتْ بي نشوة عارمة .. صارت النسمات الرقيقة تنقلني على أجنحتها إلى عالم ذابت فيه القيود ، وانداحت الحواجز ..
كان الجو لطيفا ، وكل ما حولنا يوحي بالهدوء والطمأنينة .. استمتعت بالنظر إليه دقائق قليلة .. تبدّتْ لي لوحة الطبيعة في أبهى كمال وجمال ..بدأنا نتكلم .. بل الأصح ، أخذ هو يتكلم .. ويتكلم .. ويتكلم ..
كان كمن يحاول أن يبوح بكل ما في رأسه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ..
أصغيْت .. لم أرغب في الاعتراض .. لكني لم أستطع أن أحتمل المزيد .. تمنيت أن أصرخ بوجهه ليسكت ..ليكف عن الهدير .. ليخلد إلى برهة صمت تصل ما انقطع من نظراتنا الرقيقة ..
لا أدري لماذا شعرت بالارتياح عندما افترقنا .. أحسست بالندم .. لكني فرحت لأن الطريق التي قطعتها ، قصيرة ولا تستحق الندم ..
فكرْتُ فيما عساه أن يحتمل الخطأ والصواب في تقديري ن شككت في أني أعرف هذا الذي قابلته اليوم ..
إني أعرف إنسانا آخر .. نقيضا ..
كنت أستبعد أي خيال يقودني إلى تصوره في حالة خطأ ..
فكيف وقد لمسْت فيه جملة منها ..
هل يكون الإنسان متناقضا إلى هذا الحد الفاضح ؟!
هل يعيش مثاليته في واد ، وماديته في واد آخر ؟!
أشفقت عليه .. حتمْتُ أن فصامًا حادًّا يقسم كيانه ..
لكن هذه الحتمية أرعبتني .. فقررت أن أعترف بأن شخصا آخر كنت أعرفه ، وكان يراسلني .. وكان يحتل مكانته تلك من نفسي وعقلي ومشاعري .. حتى بدأت أهرب من الحلم المرعب الذي تحقق ..
قلت في رسالة ثانية لها :
" أذكر ، أننا كنا متفقيْن بُعَيْدَ اللحظات القليلة التي تلتْ بداية اللقاء ..
وأذكر أنني كنت كمن يحاول أن يلفظ كل ما في رأسه ، في لحظاتِ ما قبل النهاية .. ولأنني إنسان ، بل إنسان عادي أيضا ، فأنا أحب وأكره .. أجوع وأشبع ..
لكن الحياة فرضت أطرًا وقيودًا .. بحيث كنت أتصرف بما لا أشك في صحته ..بينما كنتِ ترَيْنَ العكس فيه ..
" لم تكن الأيام قد عركتْكِ .. كان الصراع حادًّا داخل رأسكِ ، حتى بات مسرحا ، يعجُّ بممثلين ، يتصايحون ، ويتحركون بشكل آلي مضحك ..
لذلك ، ستشقيْنَ كثيرًا قبل أن تجدي لكِ مكانا على هذه البسيطة ، التي لا ترحم ضعيفا أو مهزوزا ..
قالت في رسالة ثانية إلي :
لا يسبح إنسانٌ في نهر مرتين .. هكذا أنا ..
أرّقني الأمر شهورًا ॥ نظرت إليه بعقلانية أكبر ، بمنظار حقيقي طبيعي .. لا يصغّر ولا يجسّم .. اقتربْت من النار حتى لسعتني .. وابتعدت عنها حتى لسعني البرد .. أدركت أنني أجور عليكَ إذ أضعكَ في مكان ، معتقدة أنكَ إنسانٌ ليس كمثله إنسان ..
تشرين الأول / 1981
يوسف رشيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق