الخميس، 24 فبراير 2011

مناجاة هموم التعب وشجون الغربة

مناجاة هموم التعب وشجون الغربة

كان ذابلا ، شرودا ، ساهما ، مهموما ، كئيبا ، أشعث ، ممتقع الوجه كالمحنط ، متهدل الكتفين كأنه جُرِّدَ من الخوافي والقوادم ، عيناه غائرتان في محجريهما الناتئين كأنفه الذي يغطي نصف وجهه ، قفاه كحنظلة ناجي العلي ، وظهره كأحدب نوتردام ، مكسور الهمة ، خائر القِوى ، يجرجر ساقيه إلى مشنقة الحياة ، أو مقصلة الوظيفة ..

سألته : ما بك ؟؟

قال ببطء شديد : تعبت ..

ـ ممَّ ؟؟

جاءني صوته خافتا ، متراخيا كمسجّل نفدت طاقته :

ـ من كل شيء ؟؟

سألته باهتمام : من العمل ؟؟

قال ـ نعم ..

قلت : من البيت ؟؟

قال : نعم ..

ـ من أصدقائك ؟؟

ـ نعم ..

ـ مني ؟؟

ـ نعم ..

قلت له بسأم : إذن ، سأسألك عن القليل الذي لم تتعب منه ، لأعرف الكثير الذي أتعبك ..

قال : معك حق .. لكنك متفائل جدا ..

قلت بإصرار : نعم .. أنا متفائل .. هل يغيظك هذا ؟؟

قال : ما فائدة أن تسبر أغواري ؟؟ إنك تفتش عما لا يعنيك .. فقد تسمع ما لا يرضيك ..

قلت : لا باس يا صديقي .. المهم أن نصل إلى نتيجة مقبولة تخلـِّصك مما أنت فيه ..

بدا على شفتيه ظِلُّ ابتسامة هازئة ، وقال :

ألم أقل لك : إنك متفائل ؟؟!! أي نتيجة تريد أن تصل إليها ؟؟ ومن أي شيء ستخلصني ؟؟ وكيف ؟؟ ألا ترى أنك تستهين بالأشياء ، ولا تقدّر حجمها الصحيح ؟؟!!

قلت : دعْك من هذا .. وقل لي : ما الذي أتعبك ؟؟

قال : أمستعد أنت لتسمعني ؟؟!!

قلت : بكل تأكيد ..

قال : يا صديقي ، سأبدأ معك من أكثر الأمور سهولة :

فقد قال أبو العلاء المعري :

" تعبٌ كلها الحياة " .. وهذا حالي ..

فقد تعبت من الحياة كلها .. ألا تكفيك هذه العبارة ؟؟

قلت : كلا .. أريده بالتفصيل الممل ..

خذ إذن .. افتح أذنيك جيدا .. واسمعني ..

" يا صديقي ، أنا تعبت من الكون ، ومن غزو الفضاء .. ومن الشمس والقمر والنجوم والكواكب والأفلاك والشهب والأجسام الطائرة ومركبات الفضاء والثقوب الأوزونية والانحباس الحراري والتغيّر المناخي وذوبان جبال الجليد ..

تعبت من الليل والنهار .. من الصباح والضحى والظهيرة والعصر والمساء والسهرة والفجر والهجير والحر والبرد والمطر والثلج والغيوم والرعود والبروق .. ومن ألوان قوس قزح وخطوط الأفق والاستواء والمدارين ..

تعبت من المد والجزر .. والبحار والمحيطات والأنهار والبحيرات والمستنقعات .. ومن الطوفان والسيول والعواصف .. من التماسيح والدلافين والهامور والهمامير وحتى من سمك التونا والسردين والسلمون ..

تعبت من الحِلِّ والترحال .. من التغرب والتشرق .. ومن الذهاب والإياب .. من السفر والوداع واللقاء وجواز السفر والأختام والتأشيرات والمسموحات والممنوعات والجمارك والحدود والتفتيش والطرق الطويلة والصحراء والطوز والرمال والمطبات والجمال العابرة والداشرة ومحطات البترول ومطاعم البرياني والحمامات القذرة والمياه المرة والرطوبة الخانقة والشمس التي تحرق ذنب الطير ..

تعبت من الحيوانات والحشرات والطيور والزواحف والمائيات والبرمائيات والديدان والجراثيم والفيروسات ..

تعبت من الصحة ومن المرض .. من التنفس .. من الشهيق والزفير والعطس والسعال والتثاؤب والتنحنح ..

تعبت من الطعام والشراب .. ومن الأكل والشرب والمضغ والبلع والهضم والإقياء والتقيؤ والتبرز والتبول والاستنجاء والاستبراء والغسل والاغتسال ..

تعبت ـ يا صديقي ـ من الحياة والموت ، ومن الزواج والطلاق ، ومن التزاوج والإنجاب والتربية والتضحية والتعليم والتقديم والتفضيل والإيثار والإنكار والجحود ..

تعبت من الراحة ومن التعب .. من الجلوس والوقوف .. من الركض والعدو والهرولة والمشي والزحف والإقعاء والاستلقاء والانبطاح والانحناء والركوع والتمدد والانكماش والانتفاخ ..

تعبت من الفرح ومن الحزن .. من الهدوء والضجيج .. من السكينة والجمود والهيجان والصعود والهبوط والانزلاق والتزحلق والتسلق والتبرج والبهرجة والتمسّح والتمسيح والتمسحة ..

تعبت من التكلم ومن الصمت .. ومن الهمس والغمز واللمز والحملقة والاندهاش والاستغراب والاستفهام والاستعجاب والتوكيد والإيجاب والنفي والنهي والأمر والامتناع والإنشاء والخبر ..

تعبت من القراءة والتصفح والاستظهار والإملاء والإملاءات والشروط والتعليمات والقوانين والفقه والتفقه القانوني والأخلاقي والفيسبوكي واليوتيوبي والتويتري والتواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية والاتصال والاتصالات ..

تعبت من الأفعال التامة والناقصة وأسمائها .. المبنية والمعربة .. المبنية للمعلوم والمبنية للمجهول ، الماضية والحاضرة والمستقبلة والآمرة والناهية والأحرف الناسخة والناسخ والمنسوخ ..

تعبت من الأسماء والأفعال والأحرف والأدوات .. من المبتدأ والخبر وأنواعه .. من أدوات الشرط والجزم والاستفهام والأسماء الموصولة والمقطوعة ..

تعبت من المرفوعات والمنصوبات والمجرورات وحروف الجر والنصب والاحتيال والجزم والمجزومات والصفات والأحوال والتمييز والبدل ..

تعبت من نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة والمتوسطة .. ومن نون النسوة وتاء التأنيث ولام الجحود ..

تعبت من الضمائر الغائبة والمتكلمة والمخاطبة ..

تعبت من لو ولولا وحتى ولأن ..

تعبت من أين ومتى وكيف ولماذا ..

تعبت من أنْ ولن وكي وحتى ولام التعليل وأن المصدرية ..

تعبت من لم ولمّا ولام الأمر ولا الناهية ..

تعبت من سيبويه وابن جني ومدارس بغداد والبصرة والكوفة ..

تعبت من الجاحظ والقالي وابن خلدون وابن قتيبة والأصفهاني ..

تعبت من المهلهل وامرئ القيس والنابغة وزهير وعنترة ..

تعبت من طرفة وعمرو بن كلثوم وأمه .. ومن عمرو بن هند وأمه ..

تعبت من الشنفرى ولاميته .. ومن عروة وتأبّط شرًّا ..

تعبت من المناذرة والغساسنة .. من زهير وهَرِم بن سنان ..

تعبت من داحس والغبراء ..

تعبت من الحِيرة ونجد والحجاز .. من العدنانيين والقحطانيين ..

تعبت من جرير والأخطل والفرزدق وسيف الدولة والمتنبي وأبي فراس ..

تعبت من الروم والفرس والبيزنطيين والعرب والعجم ..

تعبت من الحمدانيين والبويهيين والسلاجقة والأتراك والمغول ويأجوج ومأجوج ..

تعبت منك ومن اللي خلـّفوك .. تعبت من حماقتك وغلاظتك وسماجتك وأسئلتك واستفساراتك وتعليقاتك وتلميحاتك ..

تعبت .. تعبت .. تعبت ..

تعبت من الرحمة ومن التراحم .. ومن الشفقة والرأفة واللين والقسوة والصد والرد والهجر والوصال والمديح والهجاء والغزل والنسيب والفخر والفخفخة ..

تعبت من الحياة بما فيها .. لكني لم أشبع منها .. فلن أستسلم للإحباط .. ولن أنهزم ، ولن أموت إلا واقفا ..

فليس أقسى من الغربة سوى النفي ..

هل ما زلت تسمعني يا صديقي ؟؟

أووووه ........ "

الجمعة ـ 25/02/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق