نبليات ـ حكايا حمدو ـ 6
كان يحمل القرطل في ذراعه اليسرى ، مد يمناه إلى جوفه ، تحسس العجورات ، وعدّها ، ثم استخرج أكثرها ذبولا ، مسحها بطرف " سكويته " وقضم العقب وبصقه جانبا ، ثم جسّها بطرف لسانه ، تقزز .. كانت مرّة الطعم ، لعنَها وضرَبَ بها الأرض ، وبصق مرارتها فوقها ..
وحين ظفر بعجورة غير مرة الطعم ، كان قد وصل إلى بيتها ، فقضم نصفها سؤيعا ، ولاكه بين أسنانه النخرة ..
عبَرَ البابَ الخارجي بلا استئذان ، فالممر ، حتى وصل إلى ظل شجرة التوت الكبيرة في باحة الدار .. أنزل القرطل من ذراعه ، واقترب من الجب .. نتح دلوا من مائه البارد ، غسل يديه ووجهه ، ثم مسح كتفي سكويته وصدريها ، قبل أن تنتبه " شعبو " لوجوده في ساحة دارها ، وكانت فوق السّلـّم تنفض الغبار عن زنار من الرفوف الخشبية المحيطة بجدران الغرفة ، فصاحت به من العتمة التي وراء حديد الشباك :
" ريتا سم وهريا في معلاءك يو حمدو .. ليش انضربت عا قلبك ودخلت لهون ؟ اش بدك " ؟؟
لم يتحرك حمدو حتى جفف الماء عن وجهه بحطاطة كانت بيضاء متسخة منذ زمن ، فزادها البلل اتساخا واحمرارا ، ثم التفت مضيِّقا عينيْه الصغيرتين المريضتين برمدٍ أزلي مزمن ، باحثا عن مصدر الصوت .. لكنهما لم تستطيعا التسلل لما وراء حديد الشباك الذي تقف شعبو وراءه ..
فاستسلم ، وجلس مستندا إلى جذع التوتة ، بعدما التقط حباتٍ منها ..
لم تكن شعبو تعرف شيئا عن سرِّ هذه الزيارة المفاجئة .. فخمّنت أن يكون حاملا إليها بعض الأغراض التي اعتاد أخوها أن يرسلها إليها معه .. لكنها استغربت جلوسه ، وأدركت أن شيئا ما وراء هذه " الحركات " غير المألوفة ، وهي الأرملة التي تعيش مع ابنتها الوحيدة ، لاسيما بعد أن بدا لها القرطل فارغا متأرجحا ، تهزه هبات هوائية لاهبة ..
صاحت به : " أوم انئلع برَّا .. ليش إيعد " ؟؟
لم يتحرك ، كأنه لم يسمع ، ولم يكترث لصياحها ، لكنه استطاع أن يراها هذه المرة وراء حديد الشباك بعد أن حدّق مليًّا ، فقال بقوة وبسرعة وبلا تردد ، كأنه ينطق شهادة سَكـَراتِ الموت : شعبو .. بتتجوزيني ؟؟
كان ذلك السؤال آخر ما تتوقع " شعبو " سماعه من رجل " مسخّم معدَم " كهذا ، وهي التي لم يسلم الرجال الحقيقيون من لسانها وتهكمها ، فلا توفر مناسبة دون أن تعلق عليها ، ولا يمر أمام عينيها مشهد دون أن تقلده ، ولا تسمع حديثا إلا وترويه بدقائقه وتفاصيله ولو بعد حين ..
تمتلك ذاكرة وقادة ، وقدرة تمثيلية وتعبيرية هائلة ، ولا ينقصها الوعي ولا النضج ولا سرعة البديهة ولا حضور النكتة ، رغم بساطتها التي تصل ـ أحيانا ـ إلى درجة السذاجة ، وهي الأمّية التي ما عرفت شكل أي حرف من حروف الهجاء ، ولا كيفية فكـّه أو تركيبه ، ولا ميّزت يوما بين الألِف والعصا ـ كما يقال ـ ..
ولأنها كانت تصغي جيدا لأخيها الأكبر حين يقرأ في البيت قصص الزير سالم ، وألف ليلة وليلة ، وتغريبة أبي زيد الهلالي ، وغيرها من القصص الشعبي الذي كان سائدا في ثلاثينيات القرن العشرين ، فقد حفظتها كلها ، وحفظت سيناريوهاتها ، وكثيرًا من أشعارها وحواراتها وأحداثها ومداليلها وعبرها .. فكانت تتندّر بتلك القصص وتسترسل بترديد أشعارها .. وقد تستحضر بعض المقاطع أحيانا للاستشهاد بها في موقفٍ ما إذا لزم الأمر ..
هذه شعبو ، وهذا حمدو الذي جاء يطلبها مباشرة للزواج ..
وحين سمع صوتها العالي يزجره ، ويطرده ، تـَلـَمْلـَمَ ، ونهض مستعينا بجذع التوتة ..
دكّ ذراعه اليسرى يحمل السلة ، ونفض قفاه بيمناه .. وقبل أن يخطو باتجاه الممر ، قال كمن يريد أن ينتقم لنفسه : سوف تندمين .. سوف تندمين ..
فتبعه صوت شعبو الغاضب المستهزئ :
" يندمك عمى يعميلك هالعينين أكتر ما هني معميات .. انئلع ولا بئيت تورّيني طولك هون أبدا .. بدك جازي ومجوزة ما تخليلك ولا عضمي ساغ .. اشباع اللئمي أنت بعدين دوِّر ع كلبة تنئبر معك .. كلابين ياخدك ع الموت هلأ أبل بكرا ..
والله لأكسّر إجليك ان بئيت دست هون يا بيس ولك ..
ولم تستطع أن تصيبه " بفردة المشاي " التي قذفتها عليه ، كما قذف " الزيدي " فردتي حذائه في وجه بوش ..
الإثنين ـ 21/02/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق