صفحة نيجاتيف من دفاتري العتيقة
كأنك حين تكون برفقة صديق أو صديقة ، حبيب أو حبيبة ، تبدو لك الأشياء لماعة براقة مزهزهة على غير حقيقتها ، وتتحول أمام ناظريك ملامحُ وصورٌ كثيرة لم تكن تأبه لها ، أو لم تكن تعني لك شيئا .. وفجأة .. تحس بوجودها لصيقة بك ، بل ، وتحسّها هامّة في لحظةٍ ما ، وقد تندفع للاحتفاظ بها لو كان بالإمكان ذلك ..
لماذا ؟؟
ما السبب التي يجعل كيمياءك تتغير بهذه السرعة ؟؟
وما السر الذي تتلطى خلفه وأنتَ تغيّر موقفك مما لم تكن تحسه أو تراه ؟؟
وهل هذا التغير طبيعي أم مصطنع ؟ دائم أم مؤقت ؟ مستحسن أم مذموم ؟
وهل في العلاقات الإنسانية الحميمية كيمياء خاص بها أو فيزياء مثلا ؟؟
في الحقيقة ، أنا لا أعرف الجواب عن هذا السؤال ..
ولا أريد أن أدخل في تلك الزواريب التي تشبه مضائق الشرايين ..
فالمسألة ـ برأيي ـ في غاية البساطة ..
ولأضرب مثلا ..
كنا نسمع لمغن شعبي جدا بعض مواويله وعتاباته ، فأعجب صديقي به .. وأخذه .. وبعد أن سافرت وعدت ، إذا به يقول : ما هذا الشريط ؟؟ لم أستطع أن أسمعه بعد ذاك اليوم ..
أحيانا ، تـُعجَبُ بلوحةٍ أو منظر أو وجهٍ أنثوي ، لتفاجأ بعد مدة أن اللوحة التي أعجبتَ بها ، عادية ، وأن المنظر الذي أدهشك ، يبدو الآن أقل من عادي .. وأن الوجه الأنثوي الذي سحركَ في لحظةٍ ما ، يثير فيك الآن مشاعرَ نقيضة تماما لتلك ..
ولو بحثتَ عن الأسباب ، لوجدتَ عددا منها ، فإن جمعتـَها إلى بعضها ، لم تكن كلها كافية لتفسير الحالة .. ويبقى شيء آخر غامض هو الذي ، ربما ، يكون وراء هذا التناقض الذي وقعتَ فيه ..
وقد مررتُ بكثير من هذه الحالات ، إلى درجة أنني ألوم نفسي أحيانا ، عندما أتذكر أنني في لحظة من اللحظات أعجبتُ بهذه اللوحة أو بهذا المنظر أو بهذا الشخص أو تلك " الشخصاية " ..
فأسارع إلى محو الصورة من تلافيفي ومن خيالي ..
قبل سنوات طويلة ، كنت في مكتبي عندما رن الهاتف .. جاءني صوت سيدة تسأل عن شخص قالت إنه قال لها : سيكون عندي وعلى هذا الرقم بعد ساعة .. وقد حان الوقت ، ويجب أن يكون الشخص قد وصل إلى مكتبك ..
وكان واضحا من كلامها أنها تعرف اسمي وعملي .. وأن الشخص الذي تسأل عنه قادم إليّ في زيارة ودية .. وحين فوجئتُ باسمه وعمله ، ونفيتُ لها معرفتي به ، شكرتني ، وقالت : هل يمكن أن أعطيك رقم هاتفي ليتصل بي من عندك حين يصل ؟؟ قلت : لا بأس ..
وبعد وقت ، اتصلتْ ثانية تسأل عن الرجل الذي لم يأتِ ..
في الحقيقة ، ساورتني شكوك عما يكون وراءها ، وبدأت أخمن ظروفا وأحداثا ، وأستعرض سيناريوهات يمكن أن تكون على جدول أعمال من سيزورني بلا سابق معرفة بيننا ..
في النهاية ، لم يأت الرجل ذاك اليوم ، ولا فيما تلاه ، واستمرت تلك السيدة بالاتصال بذرائع واهية ، ممزوجة بشيء من الشطط النسوي الناعم والطري أحيانا ، مما أجج فضولي لمعرفة ما وراء ذلك ..
إلى أن اتصلت مرة ، وقالت : إن فلانا سيكلمك ..
حاول الرجل أن يذكـّرني بنفسه ، وبدا أنه بالفعل ، يعرفني عن قرب ، وقال : إننا التقينا مرات متعددة في عيادة صديق مشترك ..
جاملته ورحبت بزيارته لي في أي وقت يشاء .. لكنه أصر أن أتناول القهوة معه الآن في البيت الذي يتكلم منه .. ولم يتوان في إعطائي تفاصيل العنوان ، وأنه سينتظرني على الشرفة بعد نصف ساعة ..
ذهبت .. كانت سيدة بانتظاري على الشرفة في الطابق الخامس المطابق لإحداثيات العنوان .. قلت لعله في الداخل .. كانت على الباب حين وصلت لاهثا ، فتسمرت قدماي ، لم أعد قادرا على الدخول ، ولا على التراجع .. لكني استطعت مصافحتها ، فشدتني برفق إلى الداخل بما لا يشبه اللقاء الأول ..
وقفت قرب الباب وأنا أحاول التقاط أنفاسي ، واستعادة توازني ، بعد أن شعرت أن " كمينا ما " وقعت فيه برجلي ..
سألتها : أين أبو الفوز ؟؟
قالت وهي تدعوني ، وتمشي أمامي إلى الغرفة المطلة على الشارع : لقد اتصل بمكتبه فقيل له عنده ضيوف مهمون من الشام ، فاضطر للذهاب ..
قلت في سرّي : جاءني الفرج .. سأجد عذرا ينقذني ..
كان في الغرفة رجل مسن يجلس على كرسي متحرك ، رحب بي ودعاني للجلوس ، وهي تقول لي : أبي ..
صافحته ، وجلستُ على أريكة مواجهة له ، وجلستْ هي بجانبه ..
كان ودودا ولطيفا .. وطلب لي منها شرابا باردا وهو يرى العرق يتصبب مني ..
ذهبتْ وعادتْ بسرعة ، تحمل كوبين فيهما ماء غازية شفافة ، يتصاعد الرذاذ منها ، وقالت : ما رأيك أن نجلس على الشرفة ، فالجو ألطف هناك ..
استأذنت أباها ونهضت خارجا .. تنفست بعمق ، وبقيت واقفا رغم إلحاحها علي بالجلوس ..
شربت الكوب دفعة واحدة ، وسألتها : هل أستطيع إجراء مكالمة هاتفية ؟؟
تبعتها إلى مكان الهاتف ، أجريت اتصالا خلبيا ، وبدأت أتكلم على مسمع منها ، مدعيا أن ثمة ضرورة تستدعي وجودي في البيت ، لأن أمي في حالة صحية صعبة تستوجب نقلها للمستشفى ..
بدا عليها الإحباط لوهلة ، لكنها شاركتني بالحالة القلقة التي اصطنعتها ، وتركت لي تقدير الظرف حسبما يريحني .. وكان هذا غايتي تماما ، إلا أنها لم تفسح لي الطريق ، قبل أن تأخذ مني وعدا بالاتصال لطمأنتها عن حالة أمي ، وأن هذه الزيارة الخاطفة غير محسوبة ، ولا بد من تكرارها بأسرع وقت ، وفي أي موعد أراه مناسبا لي ..
فهي مستعدة لاستقبالي على مدار الساعة ..
كنت أهز برأسي موافقا على كل ما طلبت ، إلى أن تنحّت عن الباب ، وخرجت أقفز على الدرج ثلاثا ثلاثا ، يلاحقني صوتها بضرورة الاتصال بها عاجلا ..
تنفست الصعداء عند الباب الخارجي للمبنى ..
كان شارع محطة بغداد قد بدأ يكتظ بالمتمشورين على رصيفيه قبيل غياب الشمس ..
تساءلت : هل قصد أبو الفوز توريطي بشيء ما ؟؟
لم يبدُ على حركاتها ، ومن حديثها أنها تضمر أو تتعجل تصرفا سيئا تجاهي ..
لكنكَ أن تكون مع أنثى ليس فيها من الأنوثة سوى صوتها ، يجعلك تتعلق ولو بخيط العنكبوت للتهرب مما أنت فيه .. فكيف إذا اجتمع ذلك الشكل المخيف المرعب بأحداث مبهمة منذ لحظتها الأولى ، وحتى غياب أبي الفوز المفاجئ !! ..
ومع شعوري بالنجاة من ورطة متوقعة ، تذكرت قول الشاعر بشار بن برد :
يا قوم ، أذني لبعض الحيِّ عاشقة والأذنُ تعشقُ قبلَ العين أحيانا
الإثنين ـ 28/02/2011