•<strong> مهداة إلى طفلة لم تولد بعد ، اسمها : لينا
الأولاد ناموا .. ووعاء الطعام ما يزال ينتظر عودة أبيهم .. ولم يبقَ عندي عملٌ أقومُ به قضاءً لوقتٍ بدأ يتثاقل عليّ ..
" لا بد أن شيئًا قد حدث ، فمنعه من العودة حتى هذه الساعة .. "
ليس من عادته أن يتأخر .. وإلا ، فإنه يُعْلمني مسبقًا ، أو يبعث لي خبرًا مع جارنا الذي يقاسمه العملَ على آلة واحدة .. لكنه قال هذه المرة :
(( استدعاه مديرُ المعمل ، وشاهدناه يخرج مع ثلاثة آخرين في سيارة انطلقت مسرعة ..))
" منذ سنتين ، غاب ليلة كاملة عن البيت .. وفي الصباح التالي ، كان وجهُه غيرَ طبيعي .. تبدو عليه علامات الإرهاق الشديد .. وعندما سألتُه مستفسرة ، قال بجفاف :
كنتُ في سهرة عند صديق لي ، وتأخر بنا الوقت ، فقضيت الليل عنده " ..
صدّقته في كل ما قال ، فليس من العادة أن يخبئ أحدُنا شيئا عن الآخر .. لكنه حينما غاب يومًا كاملا بعد أيام قلائل من المرة الأولى ، تأهّبْتُ للهجوم عليه بكل قوتي ، لمعرفة المكان الذي قضى فيه ليلته .. لكن عينيْه الكسيرتيْن ، ووجهَه المُمْتقع ، وكتفيْه المتهدليْن كجناحيْن منكسريْن ، أنسوْني ما كنت أعاني منه ، وتسارعتُ لمساعدته .. فبسطتُ له فراشًا اندسَّ فيه بكل ثيابه ، وجلستُ قربه كئيبة ، فيما كان الأولاد يتحرّكون ، والحزن يغلف وجوههم .. فجلسوا في ركن من البيت يتمتمون ويتهامسون ..
قضيْتُ شطرًا من الليل أرقبُه وهو يتقلب ، منصتة إلى تأوّهاته المصحوبة بهذيان لم أفهمْ منه إلا كلمات متناثرة ، حتى حسبت أن مسًّا أصابَ الرجلَ في عقله .. وعندما حدّثته عن حالته صباحًا ، هزّ رأسه ، ومضى يتعثر بخطواته ..
ست مراتٍ تكرّرتْ تلك الفِعلة ، وفي كل مرة ، كنتُ أتهيّأ لمعرفة سر غيبته ، فأفاجَأ بسوء حالته ، فأزدَردُ الخيبة ، وأصمت ..
لكن المرة الأخيرة منها ، كانت أطولَ من سابقاتها جميعًا .. غاب فيها خمسَ ليال متوالياتٍ ، تسرّبتْ خلالها الوحشة إلى نفسي وعقلي ، وصارت الشكوك شوكةً تخزّني لتزيدَ في عذابي واضطرابي ..
مزّقني طولُ الليالي الخمس .. وضجَّ الأولادُ .. وخجلتُ من نفسي أمامهم ، وأنا أعِدُهم كل ليلة بعودته ، فيستيقظون ليركزوا أنظارَهم على الفراش .. فأزوَرُّ متشاغلة عنهم ..
" هل اختطفتْه امرأة أخرى " ؟؟!!
" مُحالٌ ذلك ، إنه يحبّني ، ويحبُّ أولادَه كثيرًا .. ثم إنه لم يجْرحْني ذات يوم بكلمة تدلُّ على سوءِ نيّة كهذه " ..
ذهبْتُ إلى جارنا ثانية أستزيدُه شيئا من الأخبار .. فتبادر إليه أننا ربما نكونُ بحاجة لمساعدته ، فمدّ يده إلى جيبه وهو يقول :
ربما كنتم ....... وقبل أن يتمَّ كلامَه ، تراجعْتُ ، ومشيْتُ بخطواتٍ واسعة ، هي أقربُ إلى الهرولة منها إلى المشي ..
" إن ما في البيت يكفينا يوميْن آخريْن ، أو ثلاثة ، إذا أجحَفْتُ أكثرَ في التقتير " ..
ظهر اليوم السادس ، عاد زوجي .. كان نبتة صغيرة ذابلة ، انقطعَ عنها الماءُ في نهارات صيفٍ قائظٍ ..
قبَّلَ الأولادَ بحرارة وشوق ولهفة ، وهو يواري وجهه عنهم .. وعني .. ثم غفا بثيابه أيضا .. وتركته وحيدًا في الفراش رغم قلقي عليه ، ونمْتُ مع الأولاد ، تلبية لرغبته ، وأنا أجهَدُ في حبس دمعاتٍ تتسابقُ لتنفرَ من عينيَّ ..
" ما به ؟! .. يقتلني الشوق إليه ، وأراه عازفا عني !! "
استيقظ متأخرًا ، ورفضَ أنْ أدخلَ الحمّام معه ، وبقينا ثلاثة أشهر لم يجْمعْنا فراشٌ واحدٌ .. أرهقتْني خلالها الحيرة ، وأنا ألهث وراء تفسير يقنعني بتصرفاته ..
" ألمْ تعدْ لديْه رغبة بي ؟!
" ألم يعد قادرًا على معاشرتي ؟!
" إذا كان ذلك صحيحًا ، فما السبب ؟!
" أين فحولته التي أضاءت سوادَ ليالينا ؟!
" إن إصرارَه على النوم وحيدًا ، وانزواءَه ، وتجاهله لرغباتي ، أمورٌ تؤكد لي أن شيئًا ما مسّ رجولته في الصميم ..
" وإذ أحاولُ استفسارَه عما جرى ، يرفضُ الرّدَّ ، ويُرغي ويزبدُ كالملسوع ، وقد يهرب من البيت ..
وإذ يستفزني طولُ الصبر والهجر ، يكفهرُّ وجهُه ويقطب مُطرقا ومزورًّا عني ، ثم يرتجف كله ويهتز بعنفٍ وهو يكبت إجهاشه .. فأستاءُ من نفسي ، وأحاولُ استرضاءَه بأي ثمن .. ألتصق بظهره وأتمسّح به ، حتى يهدأ .. لكن الشوكة تخزّني بين الحين والآخر .. فأتحمّلها ، وقد أتردّدُ ، فتؤلمني الوخزة أكثر .. فتنطلق الكلماتُ من فمي ، فيغتاظ ، ويكفهرّ ، فأندم ، وأعود ثانية لأكفّرَ عن ذنبي ..
إلى أنْ تناسيْتُ كلَّ شيءٍ ..
" هل استجدّت الأسبابُ التي غيّبتْه في تلك الأيام " ؟!
فالليل مرتعٌ خصبٌ ، ينتشرُ فيه صمتُ الأشياء ..
وفيه تتفجّرُ ينابيعُ الألم ، والذكرياتُ الموجعة ..
وفيه أيضًا ، تبقى السيادة للخوف ، والخفافيش ، والرطوبة النتنة ..
كانون الثاني / يناير /1978
يوسف رشيد
الاثنين، 31 مايو 2010
السبت، 29 مايو 2010
أتنفّس غضَبًا من رئتيْ
" أديش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملوا شمسية وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني " ..
كل كلمة تقولها فيروز تنقلني إلى سطح داركَ ..
" بوابي العتيقة عم تلوح لي وصوت النهورة ينده الغياب وعيون ع شبابيك تنده لي ، صحاب عم بتقول نحنا صحاب "
لا أستطيع إلا أن أفكرَ بكَ .. رغم أنفي .. حتى وأنا غاضبة منك ، أفكر بك ..
لا أستطيع أن أصِفَ فرحتي عندما أحسستُ في يوم ، أنّ هناك من يهمّه أمري ..
كان شعورًا رائعًا ، أن تغار عليَّ ، أو تقلقَ عليَّ أو تشتاقَ لي .. هذا كله يفرحُني .. يسعدُني .. يجعلني أتنفسُ من رئتي وليس من أنفي ..
كنتُ سعيدة بك .. بآرائك .. بتقبلك لآرائي .. سعيدة بمناقشتك .. كنتُ سعيدة ، سواء وافقتَ على سفري أو لم توافق .. المهم هناك .. أنا ... خارج أناي .. هناك من يقرر عني ، ومن أهمُّه ويهمُّني رأيه ؟؟
لو رفضتَ بشدة ، ساعتها ، لم أكنْ سأغضبُ .. بل سأصمتُ .. سأتقبّلُ قسوتك .. قد تقبّلني بعدها لتعتذرَ لي ، وتبرّر رأيك بأنكَ تحبّني .. سوف أحتضنك وأقولُ لك : .... بالدنيا كلها ما عداكَ أنتَ .. أنتَ يا أنا .. لكن عدولك عن رأيك ، لم يكنْ منك .. بل كان من شخص لا يمتُّ لي بصِلة .. أنا رضيتُ بها ولن أرضى به مطلقا .. إنها غريمتي شرعًا ، وقد يكون موقعها أقوى مني .. بتاريخها .. بالأولاد .. بالعِشرة .. بالصورة الاجتماعية ...
إنما هو .. لا لا لا .. لن أقبلَ أن يؤثرَ على حبيبي الذي خرجتُ به حتى من نفسي ، ومن العالم بأسره ..
لا تقلْ : إن صديقكَ هو صديقي ، وإنه يجبُ أن أحبَّ من تحبَُّ ..
لا يوجدُ ما يسوّغ تدخله السافر والتأثير عليك .. فعلاقتي بكَ أقدسُ وأسمى من أن يتدخلَ بتفاصيلها أحد .. أريدُ لحياتي معكَ قدسية من نوع لم يألفْه أحد .. ولا أريدُ أنْ يحيا أحدٌ مثلي ، أو يحبّ أحدٌ مثلي ..
***
أكتبُ لكَ وأنا قلقة ، متوترة ، عصبية .. أسمعُ فيروز بطعم آخر ، ونكهةٍ أخرى ..
كله لأني غاضبة منك ..
حتى وُريْقات البارحة التي تحملُ لكَ طِيبَ العواطف ، مزقتها من شدة غيظي .. لن تتصورَ كيف استطعتُ كبتَ غيظي عندما أخبرتني بأنه يجبُ أن أعدلَ عن فكرة السفر ..
امتحانك غدًا هو من كبَحَ جماح غضبي وردَّني عن مناقشتك ..
" كنا نتلاقى من عشية ، نقعد على الجسر العتيق ..
يا سنين اللي رح ترجعي لي .. ارجعي لي شي مرة ارجعي لي .. ردي لي ضحكات اللي راحوا ..اللي بعدا بزوايا السحاب .. انسيني ع باب الطفولة تا أركض بشمس الطرقات " ..
***
كل كلمة تقولها فيروز تنقلني إلى سطح داركَ ..
" بوابي العتيقة عم تلوح لي وصوت النهورة ينده الغياب وعيون ع شبابيك تنده لي ، صحاب عم بتقول نحنا صحاب "
لا أستطيع إلا أن أفكرَ بكَ .. رغم أنفي .. حتى وأنا غاضبة منك ، أفكر بك ..
لا أستطيع أن أصِفَ فرحتي عندما أحسستُ في يوم ، أنّ هناك من يهمّه أمري ..
كان شعورًا رائعًا ، أن تغار عليَّ ، أو تقلقَ عليَّ أو تشتاقَ لي .. هذا كله يفرحُني .. يسعدُني .. يجعلني أتنفسُ من رئتي وليس من أنفي ..
كنتُ سعيدة بك .. بآرائك .. بتقبلك لآرائي .. سعيدة بمناقشتك .. كنتُ سعيدة ، سواء وافقتَ على سفري أو لم توافق .. المهم هناك .. أنا ... خارج أناي .. هناك من يقرر عني ، ومن أهمُّه ويهمُّني رأيه ؟؟
لو رفضتَ بشدة ، ساعتها ، لم أكنْ سأغضبُ .. بل سأصمتُ .. سأتقبّلُ قسوتك .. قد تقبّلني بعدها لتعتذرَ لي ، وتبرّر رأيك بأنكَ تحبّني .. سوف أحتضنك وأقولُ لك : .... بالدنيا كلها ما عداكَ أنتَ .. أنتَ يا أنا .. لكن عدولك عن رأيك ، لم يكنْ منك .. بل كان من شخص لا يمتُّ لي بصِلة .. أنا رضيتُ بها ولن أرضى به مطلقا .. إنها غريمتي شرعًا ، وقد يكون موقعها أقوى مني .. بتاريخها .. بالأولاد .. بالعِشرة .. بالصورة الاجتماعية ...
إنما هو .. لا لا لا .. لن أقبلَ أن يؤثرَ على حبيبي الذي خرجتُ به حتى من نفسي ، ومن العالم بأسره ..
لا تقلْ : إن صديقكَ هو صديقي ، وإنه يجبُ أن أحبَّ من تحبَُّ ..
لا يوجدُ ما يسوّغ تدخله السافر والتأثير عليك .. فعلاقتي بكَ أقدسُ وأسمى من أن يتدخلَ بتفاصيلها أحد .. أريدُ لحياتي معكَ قدسية من نوع لم يألفْه أحد .. ولا أريدُ أنْ يحيا أحدٌ مثلي ، أو يحبّ أحدٌ مثلي ..
***
أكتبُ لكَ وأنا قلقة ، متوترة ، عصبية .. أسمعُ فيروز بطعم آخر ، ونكهةٍ أخرى ..
كله لأني غاضبة منك ..
حتى وُريْقات البارحة التي تحملُ لكَ طِيبَ العواطف ، مزقتها من شدة غيظي .. لن تتصورَ كيف استطعتُ كبتَ غيظي عندما أخبرتني بأنه يجبُ أن أعدلَ عن فكرة السفر ..
امتحانك غدًا هو من كبَحَ جماح غضبي وردَّني عن مناقشتك ..
" كنا نتلاقى من عشية ، نقعد على الجسر العتيق ..
يا سنين اللي رح ترجعي لي .. ارجعي لي شي مرة ارجعي لي .. ردي لي ضحكات اللي راحوا ..اللي بعدا بزوايا السحاب .. انسيني ع باب الطفولة تا أركض بشمس الطرقات " ..
***
الجمعة، 28 مايو 2010
القوارض ـ قصة قصيرة
ملأتُ الحقيبة ، ثم أحكمْتُ إغلاقها .. رفعْتُها بين يديّ ، ومضيْتُ أنوء بها ..
كانتْ رُفاة أعز مخلوق لدي .. أنقلها بين ذراعيّ وكتفيّ .. أسندُها إلى جدار ريثما أستعيد شيئا من الراحة ، ثم أحملها ، وأتابع ..
الوقت بُعيْد الغروب .. والشوارع تغصّ بالناس .. والطريق طويلة أكثر مما عهدتها .. آلاف المرات قطعتها .. لم تكن كذلك .. اختلّ توازني ، فتعثرتْ خطاي .. أطرقتُ أرضًًا متحاشيًا النظرَ إلى عيني صديق لي .. تواريْتُ عنه في منعطفٍ مجاور ..شعرْتُ بضيق في صدري ، وصارت رقبتي أضعفَ من أن تحتملَ رأسي المُثقل .. تلمسْتُ عنقي ، تمترسَتْ فيه غصّة خانقة ، فاحتبسَ الهواءُ في حنجرتي .. تاهت قدماي في الطريق .. هممْتُ بالوقوف .. لكني تابعْتُ .. فلا بدّ من أن أصِل .. سأرمي بهذا الرفاة في أقرب مكان مناسب .. سأتخلص منه ، ولو إلى الجحيم ..
دلفتُ إلى أول مكتبة صادفتني .. وضعتُ الحقيبة على الطاولة .. فتحتها بتؤدة ، أخرجْتُ كتابًا ، فخرجت مني شهقة ، كانت تتوضَّعُ في أعماقي .. قلبته بين أصابعي .. قرأتُ بعضَ ما خطته يدي على الحواشي .. تداعتْ ذكرياتٌ كثيرة .. ارتعدتُ لها .. مادت الأرض بي .. اختطفه من يدي ورماه ـ بلا اكتراث ـ على الطاولة .. زاغت عيناي بينهما .. دنا من الحقيبة .. مدَّ إليها يدًا خشنة .. أمسَكَ بمجموعة مما بداخلها ، سَحَبَها .. اندفعتْ يداي إليه تستلطفه .. لم يأبه .. أخرجَ مجموعة ثانية .. " كأنه لا يسمع أصوات اعتراضي " .. انتثرت الكتب بعشوائية .. اتجهَ إليها .. أعادَ ترتيبها ، بينما كان يحصيها ..
رفع رأسه إلى أعلى ، وتركز بصرُه على نقطة محددة من السقف ، وشفتاه تتمتمان بما لم أسمعْ منه شيئا .. انخفض برأسه .. حدّق في وجهي .. كرهْتُ عينيْه .. استدرْتُ عنهما .. خِلتُه يتحدثُ إليّ ، فالتفتُّ ..
أرعبَتْني ملامحُ وجهه ، استندتُ على الجدار خلفي .. أحصى الكتبَ ثانية ..
دققها واحدًا واحدًا .. سخرَ مني بابتسامة خبيثة ، وقال :
ـ " أعطيكَ ثمانين ليرة " ..
أطبقتْ عليّ السماءُ .. تلاشتْ صورته .. صار سرابًا شفافا ..
ضجّت في أذنيّ صرخاتُ استغاثةٍ مثيرة ..
وتدافعتْ إلى جوفي أطنان من الهواء العفِن .. تشبّثتُ بالجدار .. سمعتُه يكرِّرُ كلماتِه .. تردّدَ صداها في المكان .. لملمْتُ نفسي ، واندفعْتُ إلى الكتب دونما كلام .. أعدْتُها إلى الحقيبة ، بينما كان يهرف قائلا :
ـ " لقد أعطيْتُكَ أعلى سعر يمكنُ أن ْ يدفعَه لك أيُّ تاجر آخر .. ثم إن هذه الكتب جميعًا غيرُ رائجة في سوقنا ، وستكون بضاعة كاسدة لا أمل في بيعها على المدى القريب ، وسيكون شرائي لها مغامرة كبرى " ..
بحثْتُ في فمي عن شيءٍ من الرطوبة أبلل بها شفتيّ .. استقبلتْني لفحةٌ باردة عند الباب .. وعندما وطِئتْ قدمي أرضَ الشارع ، انسلخْتُ عن كل ما اعتراني ، وارتضيْتُ أن يقفَ بي الزمان في هذه الفسحة ..
كان الثاني أشدَّ قسوة من الأول .. مزّق غلافا حين امتدّتْ يدُه لتخرجَ الكتبَ ..وسعّرَها بستين ليرة فقط .. ورأيْتُ في وجهه ذعرًا لم ألحظْه قبل ذلك .. انصبّتْ نظراتُه عليّ ، ورمى الكتبَ من يديه ، وتراجعَ إلى أبعد نقطة عني .. وقفَ هناك ، وصمَتَ ..
نهضْتُ متثاقلا .. أعدْتُ الكتبَ إلى الحقيبة ، وخرجتُ أشدَّ حزنًا ومرارة ..
(( أربعة شهور لم أدفعْ لها قرشا واحدًا .. وغدًا تنتهي فترة التسجيل .. والوصفة في جيبي لم تعدْ تحتملُ تأخيرًا أكثر من ذلك .. وأدوات مخبرية لا أستطيع دخول المخبر بدونها .. والسَّمّان .. والخبّاز .. وأحمد .. وسليم .. ))
(( إن عشرة أضعاف ذلك المبلغ ، لا تكفي .. فأين أنا منه ؟))
أفرغتُها بسرعةٍ حين نطقتْ شفتاهُ : بمئة ليرة .. وتظاهرْتُ بأني لم اسمعْها منه .. فأعادَها ثانية .. خشيْتُ أنْ يَعدِلَ عن رأيه .. التقطتُها منه .. تأملتها على الضوء .. أدنيتُها من أنفي ، بينما كان منشغلا بترتيب الكتب على الرفوف .. ثنيْتها برفق .. ثم أخفيتها في جوف محفظتي الصغيرة وأنا أتلفت حولي ..
تراقصت المحفظة بين يديّ فرحًا بأول مبلغ كبير يتوارى في أحضانها .. أحكمْتُ سترتي حول جسدي والمحفظة ، واندفعت مسرعًا ..
" لا شك أن كل أولئك سيحسدونني على ما أملك .."
ضحكتُ .. انتبه إليّ أحد المارة ، فتأمّلني بعينين تمتزجُ فيهما مشاعرُ كثيرة .. لكنها مبهمة .. تجاوزْتُه .. كان ثمة زهوّ يملأ عليّ رأسي ..
(( كم قالت لي : أمنيتي أن أراكَ خارج دائرة الحصار التي خلِقْتَ بداخلها ..))
(( ستغنّي طويلا .. وستقدّم لي باقة من السنابل .. يغمرُها فرحٌ أخضر .. ويلتهبُ خدّاها .. وتنفذ نظراتها عبر أوردتي .. فأنتشي ..))
(( قِسط الجامعة أولا .. وبعده كلُّ شيءٍ تافهٌ ..))
كتَبَ أخي يقول :
(( لقد اقترضَ أبوكَ مبلغا من جارنا أبي محمود ، اشترى به بغلة هزيلة ، حَرَثَ عليها ثلاثة أيام بالأجر .. فماتت ..))
(( والآن يبحث عمّن يقرضه مبلغا آخر ليدفع نفقات علاج أمك .. إنها طريحة الفراش منذ أيام .. ولا أمل بشفائها قريبًا ..))
(( ضِيقٌ .. ألمٌ .. جوعٌ .. وزمنٌ كافر ..))
القوارضُ تفتت كبدي .. والوصفة تنتظر أربعين ليرة .. والمشافي باتت أضيقَ من أن تتسعَ مكانا لي داخل أسوارها .. في الحديقة .. في الممر .. في المطبخ .. في الحمام .. في ... ))
(( لو يشاهدونني أين أنام ، وعلى أي شي .. وكيف ؟؟ لاستكثروا علي مَكْمَنَ قذاراتهم ..))
***
تتآلفُ خيوطُ الصباح ونسماته مع العصافير .. فتنشد لها ألحانا هادئة وناعمة .. فأغفو .. ليوقظني رعدٌ ينبعث من فم العجوز .. تهدّدُ وتنذر .. أنهضُ مرغما .. وأمضي متواريا عنها .. يلاحقني صوتها بالشتائم والسِّباب ..
تسللتُ عبر طرقاتٍ متطرِّفة ومظلمة ، تتراكضُ فيها قططٌ وجرذان وهوامُّ أخرى ..
أحملُ الحقيبة ثقيلة .. تصبّبَ عرقٌ لزجٌ من جبهتي .. امتدّ لساني .. تجلدْتُ .. دفعتها أمامه بوجوم ، أفرغَها .. أحصاها .. ثم تأمّلها منضّدةً فوق بعضها .. اتجهَ إلي .. ضيّق عينيه ..
ابتسمْتُ له مُكرَها .. انفقأتْ عيناي بشواظٍ لاهبٍ يمتد عبر أجيال سحيقة .. ارتجفَ جسدي ألمًا .. توَضّعَتْ فيه عذاباتُ العالم .. ارتميْتُ على كرسي قريب .. انحنى على الكتب ، ثم استقامَ وخَطا إلى خزانة حديدية .. فتحَ بابَها الخارجي بمفتاحيْن مختلفيْن .. وفتحَ البابَ الداخلي بمفتاح آخر .. سحبتْ أصابعُه برشاقةٍ ، ورقتيْن .. عاد .. بسَطهُما أمامي على زجاج الطاولة المتسخ .. بانتْ أنيابُه وهو يقول :
" مبلغٌ محترمٌ .. أليس كذلك ؟؟ .. وتابع :
أهلا بكَ دوما .."
أجبْتُ بالصمت .. حملتُ الحقيبة فارغة ، وانسللتُ غيرَ آبهٍ ..
اشتريْت خضارًا وخبزًا ومعلباتٍ .. وتأملتُ الزجاجات المتنوعة في الواجهة المُضاءة .. هززتُ رأسي ، وبللتُ شفتيّ بطرف لساني ، وتحسّسْتُ موضعَ كبدي ، فيما توجّهْتُ إلى الصيدلية .. ضمَمْتُ الدواءَ إلى صدري .. أسكتُّ فمَ صاحبة البيت بجزءٍ من استحقاقها .. بدتْ عليها علائمُ اشمئزاز وقرفٍ .. بينما كانت تدسّها في كيس سحَبَتْهُ من صدرها ..
أقفلتُ بابَ غرفتي من الداخل .. استلقيْت .. أغمضْتُ عينيّ ..
(( كانت دومًا تحبُّ عينيَّ مغمضتيْن حين نستلقي معًا في الحقول .. تقطفُ زهورًا وسنابلَ .. تنثرها فوق وجهي .. ثم تلتقطها بفمها .. لتنثرها من جديد .. تلفحني أنفاسٌ متلاحقة .. تهمس .. تضحك .. ثم تستلقي بجانبي .. ونلتقي وجها لوجه ..))
أخذتُ الجرعة المحددة من الدواء .. بدقائقَ ارتفعت الحرارة في جسدي .. وتحشرجتْ أنفاسي .. ثم انقلبتْ إلى سعال جافٍّ هزّني بعنفٍ حتى تقيّأتُ ما بجوفي .. انتابتني قشعريرة مريرة .. ورافقها انقباضٌ في معدتي .. أحسسْتُ أن ثمة قوارضَ لا حصرَ لها تنهشُ في كبدي وتفتته .. انثنيْتُ على بعضي ..))
((دثريني ، ودعيني أرقدْ على صدرك ..))
تكوّرْتُ تحت اللحاف .. أمسكتُ بطرفه بين أسناني .. صار العالم قشة في فم طير جائع .. حلقتُ معه .. تسامَرْنا .. حكى لي أشياءَ كثيرة عن الوطن والحبيبة ، ثم بكى .. وتوارى عن عينيَّ ..
بللني عرقٌ باردٌ ، فنهضت .. خطوْتُ خطواتٍ قليلة .. تكالبت القوارضُ ، فنزفَ دمٌ من شفتي .. لذتُ بالدواء .. أخذتُ جرعة أخرى .. واستلقيْتُ على بطني .. ودفنْتُ وجهي في الوسادة المتحجّرة .. استعدْتُ آلامَ الكيّ ..
(( كان ذلك منذ سنواتٍ .. وكانت أمي هي التي تداوي أهلَ القرية بالكيِّ ، لكنها كانت أضعفَ من أن تحتملَ لسْعِي بفتيل ملتهبٍ في جسدي النحيل .. فأخذني أبي إلى امرأةٍ في قريةٍ مجاورةٍ .. صرختُ عاليًا قبل أن تقتربَ مني .. لكني غدوْتُ ذلك الحَمَلَ الوديع بين يديها ، حين لمحْتُ في وجه أبي ضِيقا وتفجُّعًا .. فرفعْتُ طرفَ ثوبي ، جمَعْتُه ، ووضعته بين فكيّ .. فانغرزتْ أسناني في طرفه .. فثقبَتْه ..
(( عيناكَ .. وصدرُها .. مقبرتان لآلامي ..))
***
تفتحَتْ أجفاني .. انتظرْتُ شتائمَ الصباح ..
(( أنسيتِ واجبكِ أيتها العجوز ؟؟ أم إن نشوة مبلغ الأمس ما تزال تسيطر عليكِ ؟؟ ))
طالَ انتظاري لشتائمها .. فغّفوْتُ ، لأستيقظَ من جديد على القوارض تمارس مهمتها ..
أسرعتُ إلى الدواء .. غسلت فمي بقطعة خبز مملحة ، ثم تقرفصْتُ .. استمعت إلى حفيف أوراق الدالية ..
(( قريب منها حفيف السنابل .. لكني وحيدٌ مع الألم ..))
تنفسْتُ بعمق .. استكانت القوارض .. نهضتُ .. مشيت بهدوء .. وصلتُ إلى الملاذ الوفي .. وجوهٌ نضِرةٌ .. وأجسادٌ لينةٌ تتثنّى .. أصواتٌ .. ضحكٌ .. نظراتٌ لهْفَى .. وشجرةٌ كبيرة وارفة تنتصب .. تعاني من هجر قاتل ..
استندتُ إلى جذعها .. ابتسمت لخيوط الشمس المتكسرة عبر أغصانها ..استحالت الابتسامة شهقة اقشعرّ لها جسدي .. ضمَمْتُ الكتبَ إلى صدري بقوة .. توتّرتْ أعصابي .. تكوّنتْ عند الأفق أغصانُ ليْلكٍ كثيفة .. ماجتِ الأغصانُ من فوقي بفعل هبّةٍ رقيقة ..استيقظتِ الشمسُ بعد رُقادها خلف غيمة داكنة .. فارتفعَتْ يدي تلوِّحُ لها بتلقائية .. لوَّحتْ بكلتا يديها .. تتمايلُ راقصةً .. فصفّقتُ بشدة .. وهاجتِ الأغصانُ .. انشدّتْ قدماي إلى الأرض .. امتلأتِ السماء بأسرابٍ من الحَمام والعصافير الملونة .. أمي تدنو مني .. تحتضنني ..أغفو على صدرها .. تقبّلني بحرارة ولهفة .. فأبكي .. أبتعدُ عنها .. أركضُ في حقول القمح .. يصدُّني هواءٌ شديدٌ .. أقاومُه ، وأسرعُ .. أتلفّتُ في كل مكان .. أجدُها تمسكُ بخروفٍ صغير يرضع من ثدْي أمه .. نستلقي .. أغمضُ عينيّ .. تغمرني بالأزاهير والسنابل .. أشدّها إلي .. نتعانق .. يتجمّعُ خلقٌ كثيرون حولنا .. تشتدّ ذراعاي حول جسدها .. تقسوان ، فتتأوّهُ .. ترمقني .. " كان في عينيْها اتّساعٌ غيرُ متناهٍ "
تعصفُ ريحٌ .. تقتلعنا .. تنقلنا بعيدًا عبر سهوبٍ جرداءَ قاحلة .. أفتحُ عينيّ .. كانت الشمسُ ما تزال ترقص .. وثمة جموعٌ تغني لمواسم البيادر والعصافير المهاجرة ..
05/نيسان/1978
يوسف رشيد
* فازت القصة بالجائزة الثانية في الموسم الثقافي المركزي
للاتحاد الوطني لطلبة سورية ، في جامعة تشرين ، ونشرت في جريدة " جيل الثورة " ـ دمشق ـ العدد 72 ـ تاريخ 09/05/1978
كانتْ رُفاة أعز مخلوق لدي .. أنقلها بين ذراعيّ وكتفيّ .. أسندُها إلى جدار ريثما أستعيد شيئا من الراحة ، ثم أحملها ، وأتابع ..
الوقت بُعيْد الغروب .. والشوارع تغصّ بالناس .. والطريق طويلة أكثر مما عهدتها .. آلاف المرات قطعتها .. لم تكن كذلك .. اختلّ توازني ، فتعثرتْ خطاي .. أطرقتُ أرضًًا متحاشيًا النظرَ إلى عيني صديق لي .. تواريْتُ عنه في منعطفٍ مجاور ..شعرْتُ بضيق في صدري ، وصارت رقبتي أضعفَ من أن تحتملَ رأسي المُثقل .. تلمسْتُ عنقي ، تمترسَتْ فيه غصّة خانقة ، فاحتبسَ الهواءُ في حنجرتي .. تاهت قدماي في الطريق .. هممْتُ بالوقوف .. لكني تابعْتُ .. فلا بدّ من أن أصِل .. سأرمي بهذا الرفاة في أقرب مكان مناسب .. سأتخلص منه ، ولو إلى الجحيم ..
دلفتُ إلى أول مكتبة صادفتني .. وضعتُ الحقيبة على الطاولة .. فتحتها بتؤدة ، أخرجْتُ كتابًا ، فخرجت مني شهقة ، كانت تتوضَّعُ في أعماقي .. قلبته بين أصابعي .. قرأتُ بعضَ ما خطته يدي على الحواشي .. تداعتْ ذكرياتٌ كثيرة .. ارتعدتُ لها .. مادت الأرض بي .. اختطفه من يدي ورماه ـ بلا اكتراث ـ على الطاولة .. زاغت عيناي بينهما .. دنا من الحقيبة .. مدَّ إليها يدًا خشنة .. أمسَكَ بمجموعة مما بداخلها ، سَحَبَها .. اندفعتْ يداي إليه تستلطفه .. لم يأبه .. أخرجَ مجموعة ثانية .. " كأنه لا يسمع أصوات اعتراضي " .. انتثرت الكتب بعشوائية .. اتجهَ إليها .. أعادَ ترتيبها ، بينما كان يحصيها ..
رفع رأسه إلى أعلى ، وتركز بصرُه على نقطة محددة من السقف ، وشفتاه تتمتمان بما لم أسمعْ منه شيئا .. انخفض برأسه .. حدّق في وجهي .. كرهْتُ عينيْه .. استدرْتُ عنهما .. خِلتُه يتحدثُ إليّ ، فالتفتُّ ..
أرعبَتْني ملامحُ وجهه ، استندتُ على الجدار خلفي .. أحصى الكتبَ ثانية ..
دققها واحدًا واحدًا .. سخرَ مني بابتسامة خبيثة ، وقال :
ـ " أعطيكَ ثمانين ليرة " ..
أطبقتْ عليّ السماءُ .. تلاشتْ صورته .. صار سرابًا شفافا ..
ضجّت في أذنيّ صرخاتُ استغاثةٍ مثيرة ..
وتدافعتْ إلى جوفي أطنان من الهواء العفِن .. تشبّثتُ بالجدار .. سمعتُه يكرِّرُ كلماتِه .. تردّدَ صداها في المكان .. لملمْتُ نفسي ، واندفعْتُ إلى الكتب دونما كلام .. أعدْتُها إلى الحقيبة ، بينما كان يهرف قائلا :
ـ " لقد أعطيْتُكَ أعلى سعر يمكنُ أن ْ يدفعَه لك أيُّ تاجر آخر .. ثم إن هذه الكتب جميعًا غيرُ رائجة في سوقنا ، وستكون بضاعة كاسدة لا أمل في بيعها على المدى القريب ، وسيكون شرائي لها مغامرة كبرى " ..
بحثْتُ في فمي عن شيءٍ من الرطوبة أبلل بها شفتيّ .. استقبلتْني لفحةٌ باردة عند الباب .. وعندما وطِئتْ قدمي أرضَ الشارع ، انسلخْتُ عن كل ما اعتراني ، وارتضيْتُ أن يقفَ بي الزمان في هذه الفسحة ..
كان الثاني أشدَّ قسوة من الأول .. مزّق غلافا حين امتدّتْ يدُه لتخرجَ الكتبَ ..وسعّرَها بستين ليرة فقط .. ورأيْتُ في وجهه ذعرًا لم ألحظْه قبل ذلك .. انصبّتْ نظراتُه عليّ ، ورمى الكتبَ من يديه ، وتراجعَ إلى أبعد نقطة عني .. وقفَ هناك ، وصمَتَ ..
نهضْتُ متثاقلا .. أعدْتُ الكتبَ إلى الحقيبة ، وخرجتُ أشدَّ حزنًا ومرارة ..
(( أربعة شهور لم أدفعْ لها قرشا واحدًا .. وغدًا تنتهي فترة التسجيل .. والوصفة في جيبي لم تعدْ تحتملُ تأخيرًا أكثر من ذلك .. وأدوات مخبرية لا أستطيع دخول المخبر بدونها .. والسَّمّان .. والخبّاز .. وأحمد .. وسليم .. ))
(( إن عشرة أضعاف ذلك المبلغ ، لا تكفي .. فأين أنا منه ؟))
أفرغتُها بسرعةٍ حين نطقتْ شفتاهُ : بمئة ليرة .. وتظاهرْتُ بأني لم اسمعْها منه .. فأعادَها ثانية .. خشيْتُ أنْ يَعدِلَ عن رأيه .. التقطتُها منه .. تأملتها على الضوء .. أدنيتُها من أنفي ، بينما كان منشغلا بترتيب الكتب على الرفوف .. ثنيْتها برفق .. ثم أخفيتها في جوف محفظتي الصغيرة وأنا أتلفت حولي ..
تراقصت المحفظة بين يديّ فرحًا بأول مبلغ كبير يتوارى في أحضانها .. أحكمْتُ سترتي حول جسدي والمحفظة ، واندفعت مسرعًا ..
" لا شك أن كل أولئك سيحسدونني على ما أملك .."
ضحكتُ .. انتبه إليّ أحد المارة ، فتأمّلني بعينين تمتزجُ فيهما مشاعرُ كثيرة .. لكنها مبهمة .. تجاوزْتُه .. كان ثمة زهوّ يملأ عليّ رأسي ..
(( كم قالت لي : أمنيتي أن أراكَ خارج دائرة الحصار التي خلِقْتَ بداخلها ..))
(( ستغنّي طويلا .. وستقدّم لي باقة من السنابل .. يغمرُها فرحٌ أخضر .. ويلتهبُ خدّاها .. وتنفذ نظراتها عبر أوردتي .. فأنتشي ..))
(( قِسط الجامعة أولا .. وبعده كلُّ شيءٍ تافهٌ ..))
كتَبَ أخي يقول :
(( لقد اقترضَ أبوكَ مبلغا من جارنا أبي محمود ، اشترى به بغلة هزيلة ، حَرَثَ عليها ثلاثة أيام بالأجر .. فماتت ..))
(( والآن يبحث عمّن يقرضه مبلغا آخر ليدفع نفقات علاج أمك .. إنها طريحة الفراش منذ أيام .. ولا أمل بشفائها قريبًا ..))
(( ضِيقٌ .. ألمٌ .. جوعٌ .. وزمنٌ كافر ..))
القوارضُ تفتت كبدي .. والوصفة تنتظر أربعين ليرة .. والمشافي باتت أضيقَ من أن تتسعَ مكانا لي داخل أسوارها .. في الحديقة .. في الممر .. في المطبخ .. في الحمام .. في ... ))
(( لو يشاهدونني أين أنام ، وعلى أي شي .. وكيف ؟؟ لاستكثروا علي مَكْمَنَ قذاراتهم ..))
***
تتآلفُ خيوطُ الصباح ونسماته مع العصافير .. فتنشد لها ألحانا هادئة وناعمة .. فأغفو .. ليوقظني رعدٌ ينبعث من فم العجوز .. تهدّدُ وتنذر .. أنهضُ مرغما .. وأمضي متواريا عنها .. يلاحقني صوتها بالشتائم والسِّباب ..
تسللتُ عبر طرقاتٍ متطرِّفة ومظلمة ، تتراكضُ فيها قططٌ وجرذان وهوامُّ أخرى ..
أحملُ الحقيبة ثقيلة .. تصبّبَ عرقٌ لزجٌ من جبهتي .. امتدّ لساني .. تجلدْتُ .. دفعتها أمامه بوجوم ، أفرغَها .. أحصاها .. ثم تأمّلها منضّدةً فوق بعضها .. اتجهَ إلي .. ضيّق عينيه ..
ابتسمْتُ له مُكرَها .. انفقأتْ عيناي بشواظٍ لاهبٍ يمتد عبر أجيال سحيقة .. ارتجفَ جسدي ألمًا .. توَضّعَتْ فيه عذاباتُ العالم .. ارتميْتُ على كرسي قريب .. انحنى على الكتب ، ثم استقامَ وخَطا إلى خزانة حديدية .. فتحَ بابَها الخارجي بمفتاحيْن مختلفيْن .. وفتحَ البابَ الداخلي بمفتاح آخر .. سحبتْ أصابعُه برشاقةٍ ، ورقتيْن .. عاد .. بسَطهُما أمامي على زجاج الطاولة المتسخ .. بانتْ أنيابُه وهو يقول :
" مبلغٌ محترمٌ .. أليس كذلك ؟؟ .. وتابع :
أهلا بكَ دوما .."
أجبْتُ بالصمت .. حملتُ الحقيبة فارغة ، وانسللتُ غيرَ آبهٍ ..
اشتريْت خضارًا وخبزًا ومعلباتٍ .. وتأملتُ الزجاجات المتنوعة في الواجهة المُضاءة .. هززتُ رأسي ، وبللتُ شفتيّ بطرف لساني ، وتحسّسْتُ موضعَ كبدي ، فيما توجّهْتُ إلى الصيدلية .. ضمَمْتُ الدواءَ إلى صدري .. أسكتُّ فمَ صاحبة البيت بجزءٍ من استحقاقها .. بدتْ عليها علائمُ اشمئزاز وقرفٍ .. بينما كانت تدسّها في كيس سحَبَتْهُ من صدرها ..
أقفلتُ بابَ غرفتي من الداخل .. استلقيْت .. أغمضْتُ عينيّ ..
(( كانت دومًا تحبُّ عينيَّ مغمضتيْن حين نستلقي معًا في الحقول .. تقطفُ زهورًا وسنابلَ .. تنثرها فوق وجهي .. ثم تلتقطها بفمها .. لتنثرها من جديد .. تلفحني أنفاسٌ متلاحقة .. تهمس .. تضحك .. ثم تستلقي بجانبي .. ونلتقي وجها لوجه ..))
أخذتُ الجرعة المحددة من الدواء .. بدقائقَ ارتفعت الحرارة في جسدي .. وتحشرجتْ أنفاسي .. ثم انقلبتْ إلى سعال جافٍّ هزّني بعنفٍ حتى تقيّأتُ ما بجوفي .. انتابتني قشعريرة مريرة .. ورافقها انقباضٌ في معدتي .. أحسسْتُ أن ثمة قوارضَ لا حصرَ لها تنهشُ في كبدي وتفتته .. انثنيْتُ على بعضي ..))
((دثريني ، ودعيني أرقدْ على صدرك ..))
تكوّرْتُ تحت اللحاف .. أمسكتُ بطرفه بين أسناني .. صار العالم قشة في فم طير جائع .. حلقتُ معه .. تسامَرْنا .. حكى لي أشياءَ كثيرة عن الوطن والحبيبة ، ثم بكى .. وتوارى عن عينيَّ ..
بللني عرقٌ باردٌ ، فنهضت .. خطوْتُ خطواتٍ قليلة .. تكالبت القوارضُ ، فنزفَ دمٌ من شفتي .. لذتُ بالدواء .. أخذتُ جرعة أخرى .. واستلقيْتُ على بطني .. ودفنْتُ وجهي في الوسادة المتحجّرة .. استعدْتُ آلامَ الكيّ ..
(( كان ذلك منذ سنواتٍ .. وكانت أمي هي التي تداوي أهلَ القرية بالكيِّ ، لكنها كانت أضعفَ من أن تحتملَ لسْعِي بفتيل ملتهبٍ في جسدي النحيل .. فأخذني أبي إلى امرأةٍ في قريةٍ مجاورةٍ .. صرختُ عاليًا قبل أن تقتربَ مني .. لكني غدوْتُ ذلك الحَمَلَ الوديع بين يديها ، حين لمحْتُ في وجه أبي ضِيقا وتفجُّعًا .. فرفعْتُ طرفَ ثوبي ، جمَعْتُه ، ووضعته بين فكيّ .. فانغرزتْ أسناني في طرفه .. فثقبَتْه ..
(( عيناكَ .. وصدرُها .. مقبرتان لآلامي ..))
***
تفتحَتْ أجفاني .. انتظرْتُ شتائمَ الصباح ..
(( أنسيتِ واجبكِ أيتها العجوز ؟؟ أم إن نشوة مبلغ الأمس ما تزال تسيطر عليكِ ؟؟ ))
طالَ انتظاري لشتائمها .. فغّفوْتُ ، لأستيقظَ من جديد على القوارض تمارس مهمتها ..
أسرعتُ إلى الدواء .. غسلت فمي بقطعة خبز مملحة ، ثم تقرفصْتُ .. استمعت إلى حفيف أوراق الدالية ..
(( قريب منها حفيف السنابل .. لكني وحيدٌ مع الألم ..))
تنفسْتُ بعمق .. استكانت القوارض .. نهضتُ .. مشيت بهدوء .. وصلتُ إلى الملاذ الوفي .. وجوهٌ نضِرةٌ .. وأجسادٌ لينةٌ تتثنّى .. أصواتٌ .. ضحكٌ .. نظراتٌ لهْفَى .. وشجرةٌ كبيرة وارفة تنتصب .. تعاني من هجر قاتل ..
استندتُ إلى جذعها .. ابتسمت لخيوط الشمس المتكسرة عبر أغصانها ..استحالت الابتسامة شهقة اقشعرّ لها جسدي .. ضمَمْتُ الكتبَ إلى صدري بقوة .. توتّرتْ أعصابي .. تكوّنتْ عند الأفق أغصانُ ليْلكٍ كثيفة .. ماجتِ الأغصانُ من فوقي بفعل هبّةٍ رقيقة ..استيقظتِ الشمسُ بعد رُقادها خلف غيمة داكنة .. فارتفعَتْ يدي تلوِّحُ لها بتلقائية .. لوَّحتْ بكلتا يديها .. تتمايلُ راقصةً .. فصفّقتُ بشدة .. وهاجتِ الأغصانُ .. انشدّتْ قدماي إلى الأرض .. امتلأتِ السماء بأسرابٍ من الحَمام والعصافير الملونة .. أمي تدنو مني .. تحتضنني ..أغفو على صدرها .. تقبّلني بحرارة ولهفة .. فأبكي .. أبتعدُ عنها .. أركضُ في حقول القمح .. يصدُّني هواءٌ شديدٌ .. أقاومُه ، وأسرعُ .. أتلفّتُ في كل مكان .. أجدُها تمسكُ بخروفٍ صغير يرضع من ثدْي أمه .. نستلقي .. أغمضُ عينيّ .. تغمرني بالأزاهير والسنابل .. أشدّها إلي .. نتعانق .. يتجمّعُ خلقٌ كثيرون حولنا .. تشتدّ ذراعاي حول جسدها .. تقسوان ، فتتأوّهُ .. ترمقني .. " كان في عينيْها اتّساعٌ غيرُ متناهٍ "
تعصفُ ريحٌ .. تقتلعنا .. تنقلنا بعيدًا عبر سهوبٍ جرداءَ قاحلة .. أفتحُ عينيّ .. كانت الشمسُ ما تزال ترقص .. وثمة جموعٌ تغني لمواسم البيادر والعصافير المهاجرة ..
05/نيسان/1978
يوسف رشيد
* فازت القصة بالجائزة الثانية في الموسم الثقافي المركزي
للاتحاد الوطني لطلبة سورية ، في جامعة تشرين ، ونشرت في جريدة " جيل الثورة " ـ دمشق ـ العدد 72 ـ تاريخ 09/05/1978
الأربعاء، 26 مايو 2010
شهرزاد والأبجدية
أتعرف بماذا أفكر ؟؟
أفكر بكَ ..
أتعرف شهريار ؟؟
أنا لا أعرف عنه الكثير ، سوى أن شهرزاده كانت تحكي له آلاف القصص المثيرة ، لتلهيَه عن قتلها ..
أما أنا ، فأدعوكَ إلى عوالمَ لم تحلمْ أن تنقلك إليها امرأة في يوم من الأيام ..
سوف أدعوكَ إلى جنتي المسحورة ، أختلف مع شهرزاد في السبب ، لأني ـ بخلافها ـ أحبك ..
وأدعوك لتحبني أكثر .. ولكي أتنفس معك نفس ذرات الأوكسجين ، وأرى ، وترى بعين واحدة ، دنيانا الجميلة ..
لن أتوانى عن فعل المستحيل من أجل إسعادكَ ..
ستراني يومًا فلاحة من زوجات كتبكَ ..تضفر شعرَها وتكلمكَ شعرا ، يقطر عسلا ..
وفي يوم آخر سأكون "جانيت" تلك الفرنسية الشقراء بقواميس " نزار " ، حرة طليقة ذات ثياب ضيقة ..
وأحيانا كثيرة ، ستراني تلك البنت الرافضة لقيم وتقاليد رخيصة ومعتقدات ليس لها ثمن في سوق الفكر ..
ستراني يوما ، كالبركان الثائر ضد كل شيء ، حتى أنت ..
وبعدها ، أهدأ ، لتراني تلك الصغيرة البريئة التي تحتويك فرحة ، مهللة .. تركض خلفك أينما ذهبت ، بنظراتها ، بإحساسها .. تحيطكَ بحنان أمٍّ لطفلها المدلل ، ومن ذلك تستمد الحنان ، يا طفلي الكبير..
أحارُ ماذا أكتب لك !!
فأنتَ الأبجدية التي أريدُ أنْ أتعلمها .. أنتَ حروفي التي سأصوغها كما أشاء بحرّيةٍ لن يتدخلّ بها أحد ..
قد لا أفهم أنا نفسي ماذا أكتب ، لكني في حالة حب ، إذا وُزعَتْ على العالم بأسره ، لكان الكل فيها سعيدًا مثلي ..
اليوم أشعر بأنوثتي ، وبأنني امرأة كاملة النضوج ..
اليوم أشعر أنني كلُّ نساء الأرض .. وأنت الرجل الوحيد الذي أختارُه من بين رجال العالم .. وأؤمن به حتى العبادة ، أؤمن بما يقول وبما لا يقول .. بما يريد وبما لا يريد ..
أهو الحب يا ترى ؟؟ ...
فليكن .. ولتمطرْ كشكًا .. " فلن أغمض عيني عن الجنة ، ففيها متسع لكل الخاطئين " ..
***
أفكر بكَ ..
أتعرف شهريار ؟؟
أنا لا أعرف عنه الكثير ، سوى أن شهرزاده كانت تحكي له آلاف القصص المثيرة ، لتلهيَه عن قتلها ..
أما أنا ، فأدعوكَ إلى عوالمَ لم تحلمْ أن تنقلك إليها امرأة في يوم من الأيام ..
سوف أدعوكَ إلى جنتي المسحورة ، أختلف مع شهرزاد في السبب ، لأني ـ بخلافها ـ أحبك ..
وأدعوك لتحبني أكثر .. ولكي أتنفس معك نفس ذرات الأوكسجين ، وأرى ، وترى بعين واحدة ، دنيانا الجميلة ..
لن أتوانى عن فعل المستحيل من أجل إسعادكَ ..
ستراني يومًا فلاحة من زوجات كتبكَ ..تضفر شعرَها وتكلمكَ شعرا ، يقطر عسلا ..
وفي يوم آخر سأكون "جانيت" تلك الفرنسية الشقراء بقواميس " نزار " ، حرة طليقة ذات ثياب ضيقة ..
وأحيانا كثيرة ، ستراني تلك البنت الرافضة لقيم وتقاليد رخيصة ومعتقدات ليس لها ثمن في سوق الفكر ..
ستراني يوما ، كالبركان الثائر ضد كل شيء ، حتى أنت ..
وبعدها ، أهدأ ، لتراني تلك الصغيرة البريئة التي تحتويك فرحة ، مهللة .. تركض خلفك أينما ذهبت ، بنظراتها ، بإحساسها .. تحيطكَ بحنان أمٍّ لطفلها المدلل ، ومن ذلك تستمد الحنان ، يا طفلي الكبير..
أحارُ ماذا أكتب لك !!
فأنتَ الأبجدية التي أريدُ أنْ أتعلمها .. أنتَ حروفي التي سأصوغها كما أشاء بحرّيةٍ لن يتدخلّ بها أحد ..
قد لا أفهم أنا نفسي ماذا أكتب ، لكني في حالة حب ، إذا وُزعَتْ على العالم بأسره ، لكان الكل فيها سعيدًا مثلي ..
اليوم أشعر بأنوثتي ، وبأنني امرأة كاملة النضوج ..
اليوم أشعر أنني كلُّ نساء الأرض .. وأنت الرجل الوحيد الذي أختارُه من بين رجال العالم .. وأؤمن به حتى العبادة ، أؤمن بما يقول وبما لا يقول .. بما يريد وبما لا يريد ..
أهو الحب يا ترى ؟؟ ...
فليكن .. ولتمطرْ كشكًا .. " فلن أغمض عيني عن الجنة ، ففيها متسع لكل الخاطئين " ..
***
الاثنين، 24 مايو 2010
صُوَرٌ ناطقة
ـ شَفَقُ المغيب ليس دمًا .. ولكنه حنّاءٌ في قدم امرأة ..
(الطيب صالح : روايته : موسم الهجرة إلى الشمال )
ـ لا يلتصقُ الرجلُ بالمرأة إلا إذا حَمَلَ مسؤولياتِها ..
( إحسان عبد القدوس : روايته : لا شيء يهم )
ـ الناقد الجيدُ ، لا يمكنُ أنْ يكونَ أديبًا جيدًا ..
ـ الجَمالُ : هو اللذة التي تحدُثُ من إدراك صفاتِ الشيءِ ، سواء كان هذا الشيء امرأةً ، أو شعرًاً ، أو فكرةً ، أو حركة ، أو عملا ..
ـ الحبُّ : كالحمّى .. له دور ينتهي إليه ..
ـ إنَّ كلَّ شيءٍ في الرواية صادقٌ إلا الأسماء والتواريخ .. وكلُّ شيءٍ في الحياة كاذبٌ إلا الأسماء والتواريخ ..
ـ يقول شيكسبير : إنَّ المجنونَ والمحبَّ والشاعرَ ، يتفقون في قوة الخيال ..
( أحمد أمين : كتابه : النقد الأدبي )
ـ إذا أعطتِ المرأةُ شفتيْها ، فلم يبقَ لها ما تمنعُه ..
ـ ترى ؟ لماذا يكونُ للمرأة ـ وحدها بين المخلوقات ـ هذا الوضعُ في الوصال ، ظهرُها إلى الأرض ، ووجهُها إلى السماء ..
ـ العبيدُ بحاجة إلى ( بيك ) ولو غصبًا عنه ..
( توفيق يوسف عواد : روايته : طواحين بيروت )
ـ يجبُ أنْ لا تضَعَ البيضَ كلَّه في سلةٍ واحدة ..
ـ من المستحيل تحضيرُ العجّة ، دون كسر البيض ..
ـ أفضّلُ الحصانَ الجموحَ على الحصان الوديع ، إذ من الممكن كبحُ جماح الأول ، إذا كنا نعرفُ الوقتَ الذي يجبُ أنْ نشدَّ له اللجامَ ..
ـ لا تضغطْ على عدوِّكَ عندما يصبحُ ظهرُه مسنودًا على الجدار ..
(أسرار الغزو الإسرائيلي للبنان ـ عملية كرة الثلج ..
شيمون شيفر ـ ترجمة : حسان يوسف )
ـ ما أبهجَ الحياةَ في ظلال امرأةٍ عاشقةٍ !! ..
( حيدر حيدر : روايته : وليمة لأعشاب البحر )
ـ إذا اعترَضَكمُ الليل ، فأزيحوه بأيديكم .. ماوتسي تونغ
ـ الوَرَثة غالبا ما يبيعون أرواح آبائهم .. دودويل
ـ اصنعْ جناحين للوقت ، ثم تعَلّقْ به .. مَثلٌ ألباني
(الطيب صالح : روايته : موسم الهجرة إلى الشمال )
ـ لا يلتصقُ الرجلُ بالمرأة إلا إذا حَمَلَ مسؤولياتِها ..
( إحسان عبد القدوس : روايته : لا شيء يهم )
ـ الناقد الجيدُ ، لا يمكنُ أنْ يكونَ أديبًا جيدًا ..
ـ الجَمالُ : هو اللذة التي تحدُثُ من إدراك صفاتِ الشيءِ ، سواء كان هذا الشيء امرأةً ، أو شعرًاً ، أو فكرةً ، أو حركة ، أو عملا ..
ـ الحبُّ : كالحمّى .. له دور ينتهي إليه ..
ـ إنَّ كلَّ شيءٍ في الرواية صادقٌ إلا الأسماء والتواريخ .. وكلُّ شيءٍ في الحياة كاذبٌ إلا الأسماء والتواريخ ..
ـ يقول شيكسبير : إنَّ المجنونَ والمحبَّ والشاعرَ ، يتفقون في قوة الخيال ..
( أحمد أمين : كتابه : النقد الأدبي )
ـ إذا أعطتِ المرأةُ شفتيْها ، فلم يبقَ لها ما تمنعُه ..
ـ ترى ؟ لماذا يكونُ للمرأة ـ وحدها بين المخلوقات ـ هذا الوضعُ في الوصال ، ظهرُها إلى الأرض ، ووجهُها إلى السماء ..
ـ العبيدُ بحاجة إلى ( بيك ) ولو غصبًا عنه ..
( توفيق يوسف عواد : روايته : طواحين بيروت )
ـ يجبُ أنْ لا تضَعَ البيضَ كلَّه في سلةٍ واحدة ..
ـ من المستحيل تحضيرُ العجّة ، دون كسر البيض ..
ـ أفضّلُ الحصانَ الجموحَ على الحصان الوديع ، إذ من الممكن كبحُ جماح الأول ، إذا كنا نعرفُ الوقتَ الذي يجبُ أنْ نشدَّ له اللجامَ ..
ـ لا تضغطْ على عدوِّكَ عندما يصبحُ ظهرُه مسنودًا على الجدار ..
(أسرار الغزو الإسرائيلي للبنان ـ عملية كرة الثلج ..
شيمون شيفر ـ ترجمة : حسان يوسف )
ـ ما أبهجَ الحياةَ في ظلال امرأةٍ عاشقةٍ !! ..
( حيدر حيدر : روايته : وليمة لأعشاب البحر )
ـ إذا اعترَضَكمُ الليل ، فأزيحوه بأيديكم .. ماوتسي تونغ
ـ الوَرَثة غالبا ما يبيعون أرواح آبائهم .. دودويل
ـ اصنعْ جناحين للوقت ، ثم تعَلّقْ به .. مَثلٌ ألباني
السبت، 22 مايو 2010
بطاقتان وحوار
13/03/1983
في الصباح ، أتناول مع طيفكِ فنجان القهوة ..
وفي الظهيرة ، أغفو على سحر كلماتك ..
وفي الليل ، تسبح عيوني مع الأفلاك ، لتحرسَ إغفاءات شعرك المنسدل بيرقا من رايات النصر ، على وسادة الريش الأبيض ...
***
2
19/04/1984
عندما تصحو ، وتشربُ قهوتكَ الصباحية ..
لا بأس من أن تدخنَ ..
وتقبّلَ زوجتك ..
ثم ، لا تنسَ ، وأنتَ تنسّقُ ثيابكَ ..
من أن تذكرني .. وترسمَ على شفتيكَ
ابتسامة .. وتحلمَ بزهرة أو حبيبة ..
عندما تعود ثانية للنوم .. وتشرب فنجان الشاي ..
لا بأس من أن تقرأ بعضًا من كتاب ..
وتضمَّ زوجتك ، وتنام ..
ولا بأس من أن تحلمَ في النوم ، بربيع ، وحبيبة ..
حوار
19/03/1983
همسَتْ في أذني : تحبُّني ؟..
قلتُ : لماذا ؟ ..
قالت : هل في الحب ، لماذا ؟؟!!
قلت : هكذا يزعم منظرو الحب الأعوج ، وبوّابو مواخير الشعر المزيف ، ذي البوابات العاطفية الصدئة ..
قالت : وأنت ؟؟
قلت : حين أحب مثلهم ، يمكن أن أفسِّر ..
أما حين أحب كما أشاء ، فإن حبي لا تفسير له ..
إنه الحب وكفى .. ومن لا يؤمن بذلك ، فلن يكون مواطنا صالحا في هذه المملكة ..
فما رأيكِ ؟؟
***
" من لا يعشق تراب الوطن ..
لا يستطيع أن يعشق عيني امرأة .. "
***
في الصباح ، أتناول مع طيفكِ فنجان القهوة ..
وفي الظهيرة ، أغفو على سحر كلماتك ..
وفي الليل ، تسبح عيوني مع الأفلاك ، لتحرسَ إغفاءات شعرك المنسدل بيرقا من رايات النصر ، على وسادة الريش الأبيض ...
***
2
19/04/1984
عندما تصحو ، وتشربُ قهوتكَ الصباحية ..
لا بأس من أن تدخنَ ..
وتقبّلَ زوجتك ..
ثم ، لا تنسَ ، وأنتَ تنسّقُ ثيابكَ ..
من أن تذكرني .. وترسمَ على شفتيكَ
ابتسامة .. وتحلمَ بزهرة أو حبيبة ..
عندما تعود ثانية للنوم .. وتشرب فنجان الشاي ..
لا بأس من أن تقرأ بعضًا من كتاب ..
وتضمَّ زوجتك ، وتنام ..
ولا بأس من أن تحلمَ في النوم ، بربيع ، وحبيبة ..
حوار
19/03/1983
همسَتْ في أذني : تحبُّني ؟..
قلتُ : لماذا ؟ ..
قالت : هل في الحب ، لماذا ؟؟!!
قلت : هكذا يزعم منظرو الحب الأعوج ، وبوّابو مواخير الشعر المزيف ، ذي البوابات العاطفية الصدئة ..
قالت : وأنت ؟؟
قلت : حين أحب مثلهم ، يمكن أن أفسِّر ..
أما حين أحب كما أشاء ، فإن حبي لا تفسير له ..
إنه الحب وكفى .. ومن لا يؤمن بذلك ، فلن يكون مواطنا صالحا في هذه المملكة ..
فما رأيكِ ؟؟
***
" من لا يعشق تراب الوطن ..
لا يستطيع أن يعشق عيني امرأة .. "
***
تنويعات من البث المباشر
كان في قلبي سعيرٌ أهوج ، حملتُه طيلة يومين ..
حاولتُ إطفاءَه بشتى السُّبل .. بالنزهة .. بالماء البارد .. بالحديث مع الأصدقاء والصديقات .. بالنرجيلة .. بالقهوة ..
بكل ما يمكن أن يخطر ببالكِ .. لكن السُّدى وحده هو الذي جنيتُ ..
هل أعجبتْكِ اللعبة ؟؟
هل تنفسْتِ الصعداء ؟؟
هل كنتِ سعيدة ؟؟
هل أحسستِ بالتحرر من القيود التي كنتِ أسيرتها ؟؟
هل أخمدْتِ النارَ بصبِّ الزيتِ فوقها ؟؟
نرجيلتي تقرقر وتجيبني بالنفي على كل الأسئلة السابقة .. ولولا ذلك ما استطعْتُ قراءة كلمة في الكتاب الذي أمامي ..
لكن القرقرة هدّأتْ رَوْعي ، ومنحتني قدرة الانتظار للغد ..
فهل سيطول انتظاري ؟؟!! ..
05/05/1990
الأربعاء، 19 مايو 2010
أوتوغرافها
الخميس 04/06/1982
إليكَ يا سيدي، أكتبُ كلماتي ، التي تكاد تخرج من داخلي كالعاصفة ، تدوي لتملأ كل مكان ..
باختصار شديد .. أنا لن أقولَ هذه الكلمات لكَ بالذات ، أنا أقولها إلى ذاك الشخص الذي كبر معي وساعدني على مثابرة الطريق .. إنه الإنسان الذي لم أفكر قط ، أني سوف أجده على أرض الواقع .. لكن لحسن حظي ـ وليس دائما ـ وجدته ..
وجدته فيك يا أملي .. نعم .. أملي ..
لأنك بعثتَ الأملَ والحبَّ في نفسي ، بعد أن أيقنتُ أنه ليس في الوجود شيءٌ اسمه : حب ..
لكنني أحببتك .. أحببتك في فترة كنتُ في حاجة إلى مثل هذا الحب .. وكم أنا سعيدة لأنني وجدتُ الحبَّ الذي طالما بحثتُ عنه ..
وأنا لا أطلبُ منك شيئا أبدا .. أريدُك أن تعلمَ فقط ، أنني أكنّ لكَ من الحبّ ما يملأ الدنيا ..
أحبكَ .. لأجلي فقط .. فمهما تكنْ مكنوناتُ نفسك ، ومهما تكن أهدافك وغاياتك .. لا يعنيني ذلك بشيء لأنني لا أطلب منك شيئا ، ولا أطلبُ منك أن تبادلني نفسَ العاطفة التي أكنُّها لك ..
يكفيني أنني عشتُ أجملَ اللحظات التي طالما رسمتُ لها ، وتصورتُها .. ( في خيالي ، وليس بكاميرتك ..) .
في هذا اليوم : الخميس 04/06 ، وبعد الكلام الذي فضَحَ ما يستقرُّ في داخلي .. وفي طريق العودة إلى البيت ، تسارعت الخواطرُ إلى ذهني .. تارة إيجابية ، بالنسبة لك ، وتارة سلبية .. منها :
قلتُ لنفسي : ربما يعتقدُ نفسَه أنه يستطيعُ السيطرة على أي فتاة من بناتِ حواء ، ومهما يكنْ عمرها ، ومهما يكن الفارق بينها وبينه .. ولكني عدتُ وقلتُ : ليقلْ ما يقول .. يكفي أنني أحسستُ معه بالصدق ..
كلماتٌ وأحاديث لن أنساها أبدا ..
والشيء الذي يزيد إعجابي في هذا الموضوع ، هو أنني أنا التي جَرَتْ بالقرب منك ، نوعًا ما .. حتى لو كنتَ انتهازيا أو زير نساء .. ( عفوًا ) ..
شيءٌ وحيدٌ أعرفه ، ولا أشك فيه : أنني أحتاجُ إليكَ بشكل كبير .. وليتني رأيتكَ منذ فترة ، لأنني بحاجة كبيرة لك ..
لا أشك في لحظة أنني ارتحتُ إليك ، وأعجبْتُ بك .. وربما في بعض اللحظات ، أقول بأني : أحبك .. نعم أقولها بصراحة : أحبك .. أحبك ..
أشعر بالذنب لهذا الكلام ، ربما أكثر منه أيضا ..
ففي فترة الامتحان ، أي الفترة التي رأيتك فيها لم يخطرْ على بالي .. مع أني في فترة تتطلبُ مني عكسَ ذلك ، وأنا في نهاية خطبتي .. وأيام قليلة ، وأنخلع من هذا الواقع الذي لم أصدّق أنه بين يدي ..
صدقني .. لا أعرفُ كيف حصل كلُّ هذا .. كيف تجمَّعتْ وتكونت المشاعر والأحاسيسُ في أيام قليلة ..
صدقني .. إنني لم أعرفْ شيئا سوى أنني ، في لحظة من اللحظات ، قلتها وبصدق .. أحبك ..
وأقسمتُ أنني مهما تطلبْ مني سوف أجعله مباحًا لك .. لأنني أيقنتُ أن المبادئَ والقيمَ التي كنتُ أتحلى بها ، ليستْ إلا نقطة الضعف ، والعصا الغليظة التي يستندُ إليها كلُّ ضعيفٍ لا يستطيعُ أن يغيّر من الواقع والتقاليد شيئا ، فينسبُ ضعفَه إلى المبادئ والقيم ..
أما القويُّ ، فليس بحاجة إلى عصا ليستند عليها .. إنه يقف على قدميه قويا ، متحديا ، بلا مبادئ ولا مُثل عليا ..
( أكتبُ هذه الخواطر بسرعة كبيرة ، ولا أعرف لماذا ؟؟ )
إني لا أصدّق ما أنا فيه .. إنه كالحلم .. كالطيف الجميل السريع ..
أعلمُ بأنكَ تشعرُ بكبرياء ، وعزة نفس ، عندما تسمعُ مثل هذه الكلمات توَجَّه إليك ، وبأنكَ تشعرُ بالانتصار والفوز ..
( على فكرة : معك حق .. )
***
مهما قلتُ ، ومهما نسبْتُ لكَ من سلبياتٍ ، فإن ذلك لا يغيّر شيئا مما بداخلي .. فأنا أريدُ أنْ أقولَ هذه الكلمات التي ربما تمسُّكَ بشيء ، لأنني أرفض أفكاري ..
فخيالكَ بين طابقة الجفون .. وذكرُكَ في الخواطر والسكون .. وحبّكَ قد جرى في العظم مني ، كجري الماء في ثمر الغصون ..
ويوم لا أراك ، يضيق صدري ، وتغدرني العوازل في شجوني ..
أيَا مَنْ قد تملكني هواه ، وزادَ على محبته ، جنوني ..
خفِ الرحمن فيَّ ، وكنْ رحيمًا هواك إذ أتتني ريبُ المنون ..
وداعُكَ مثلُ وداع الحياة .. وفقدُكَ يشبه فقدَ النديم ..
أكتب هذه الخواطر ، بعد أن وضعتُ كاسيت عبد الحليم ، وخاصة أغنية ( الليالي ) .. وكما أحب هذه الأغنية من قبل ، والآن أحبُّها أكثر .. وخاصة المقطع الأخير منها ، إذ يقول فيه :
" يا حبيبي عشت أجمل عمر في عينيك الجميلة ، عشت أجمل عمر ..
أوصل الأيام مع الأحلام بقوة شوق جميلة .. للرموش السمر ..
يا حبيبي ، كفاية أحبك ، وأرتوي من عطف قلبك ..
وأنسى بكره ، وأنسى بعده ، وأفتكر بس ، أني جنبك .."
صدقني .. كل كلمة من هذا المقطع ، لها أصول في نفسي وخاطري ..
وكل كلمة وكل شيء في هذا الكتيب ، له معنى في نفسي ..
لقد وجدتُ أن هذه الأبيات من الشعر الحديث لنزار قباني ، تعبّر عما في خاطري .. فأرجو أن تتقبلها مني :
"يا سيدي العزيز ..
هذا خطابُ امرأة حمقاء ..
هل كتبَتْ إليكَ قبلي امرأةٌ حمقاء ؟؟
اسمي أنا ..
دعْنا من الأسماء ..
رانية ، أمْ زينب ، أمْ هند ، أمْ هيفاء ..
أسخفُ ما نحمله يا سيدي : الأسماء ..
يا سيدي :
أخاف أن أقولَ ما لدي من أشياء ..
أخافُ ـ لو فعلتُ ـ أن تحترقَِ السماء ..
فشرقكم يا سيدي العزيز ..
يصادر الرسائلَ الزرقاء ..
يصادرُ الأحلامَ من خزائن النساء ..
يمارسُ الحَجْرَ على عواطف النساء ..
يستعملُ السكين .. والساطور ..
كي يخاطبَ النساء ..
ويذبحُ الربيعَ والأشواقَ والضفائرَ السوداء ..
شرقكم ، يا سيدي العزيز ..
يصنعُ تاجَ الشرفِ الرفيع من جماجم النساء ..
لا تنقدْني سيدي ..
إن كان خطي سيئا ..
فإنني أكتبُ .. والسيّافُ خلفَ بابي ..
وخارجَ الحجرة صوتُ الريح والكلاب ..
يا سيدي !
عنترة العبسي خلف بابي .. ( مع العلم ، أحب أشعار عنترة )
يذبحُني إذا رأى خِطابي
يقطعُ رأسي لو أنا
عبّرتُ عن عذابي
فشرقكم يا سيدي العزيز
يبايعُ الرجالَ أنبياء
ويطمرُ النساءَ في التراب ..
لا تنزعجْ !
يا سيدي من سطوري
لا تنزعجْ !
إذا كسرْتُ القمقمَ المسدودَ من عصور ..
إذا نزعتُ خاتمَ الرصاص من ضميري ..
إذا تمردْتُ على موتي .. على قبري .. على جذوري ..
لا تنزعجْ يا سيدي ..
إذا أنا كشفتُ عن شعوري
فالرجلُ الشرقيُّ .. لا يهتمُّ بالشعر ولا الشعور ..
(حذفتُ أبياتا هنا لأني لا أريدُ أنْ أقولها لكَ )
معذرة يا سيدي ..
إذا تطاولتُ على مملكة الرجال ..
فالأدبُ الكبير ـ طبعا ـ أدبُ الرجال ..
والحبُّ ـ كان دائما ـ من حصة الرجال ..
خرافةٌ حرية النساء في بلادنا ..
فليسَ من حريةٍ أخرى سوى حريةِ الرجال ..
يا سيدي !
قلْ كلَّ ما تريدُه عني .. فلن أبالي ..
سطحية .. غبية .. مجنونة .. بلهاء ..
فلمْ أعدْ أبالي ..
لأنَّ من تكتبُ عن همومِها
في منطق الرجال ، تدعى : امرأة حمقاء ..
ألمْ أقلْ في أول الخطاب :
إني امرأة حمقاء ؟؟!!" ( لكن .. أنا لستُ كذلك ..)
***
لا أحبُّ اللونَ الأصفر ، لأنه يدل على الأنانية ..
وأنا لست كذلك .. فيما أنت لا أعلم ..
لذلك ، لن أكتبَ عليه ، سوى هذه الصفحة ..
***
مقتطفات نثرية :
ـ إن العمرَ لا يُحتسَبُ بالسنين ، ولكن ، يحتسب بالإحساس ..
والإحساسُ لا يكتمل ولا ينضج إلا بالحب ..
إحسان عبد القدوس
قال جبران خليل جبران :
إذا حجَبَ الظلامُ الأشجارَ والرياحينَ عن العين ، فالظلامُ لا يحجُبُ الحبَّ عن النفس ..
***
على فكرة :
أنا في فترة من الفترات التي مررتُ بها ، كنتُ من أشد المغرمين بكتب " جبران " ، فلقد قرأتُ عددًا كبيرًا من قصصه ..
" إن للألم غبطته ، ولليأس لذته ، وللموت عظته ، وكل شيء جميل ، وكل شيء لذيذ ..
كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة ، وللأرض هذه الخضرة ، وللورد هذا الشذى ، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب ، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان ؟؟!!
كيف نضجر وفي الدنيا منْ نحبه ، ومنْ نعجَب بهم ، ومن يحبوننا ، ومن يُعجَبون بنا ؟؟!! "
" نجيب محفوظ
زقاق المدق "
هذه المقتطفات ، لم أخترْها من لاشيء .. بل إن لكل منها معنىً وهدفًا ، للعلاقة التي نحن في صددها ..
هل أستطيع أن أسميَها كذلك ؟؟
لا .. لن أسميَها كذلك ، لأنني في حالة نفسية ، لم أعتدْ أن آخذ القرارات في مثل هذه الحالات ..
لكن شيئًا وحيدًا أفهَمُه ، هو أني أعجبْتُ بشخصِكَ .. وأني ......... لا أستطيع أن اكتبها خوفا من عدم قدرتي على الحفاظ عليها ..
ولكنْ في هذه اللحظة ، أنا متأكدة منها ، وربِّ الكائنات متأكدة ..
أجمل الأبيات التي قلتها لك في ذاك اليوم 04/06
إن تناسيتما ودادَ أناس فاجعلاني في بعض من تذكران
اذكرني
سلامٌ كثيرُ المسك يهديه خاطري
إليكم ، وأشواقي على البعد أكثر
فإنْ لم تكنْ عيني تراكم فإن لي
لسانًا بدالي بالدعاء ، ويشكر
إليكَ يا سيدي، أكتبُ كلماتي ، التي تكاد تخرج من داخلي كالعاصفة ، تدوي لتملأ كل مكان ..
باختصار شديد .. أنا لن أقولَ هذه الكلمات لكَ بالذات ، أنا أقولها إلى ذاك الشخص الذي كبر معي وساعدني على مثابرة الطريق .. إنه الإنسان الذي لم أفكر قط ، أني سوف أجده على أرض الواقع .. لكن لحسن حظي ـ وليس دائما ـ وجدته ..
وجدته فيك يا أملي .. نعم .. أملي ..
لأنك بعثتَ الأملَ والحبَّ في نفسي ، بعد أن أيقنتُ أنه ليس في الوجود شيءٌ اسمه : حب ..
لكنني أحببتك .. أحببتك في فترة كنتُ في حاجة إلى مثل هذا الحب .. وكم أنا سعيدة لأنني وجدتُ الحبَّ الذي طالما بحثتُ عنه ..
وأنا لا أطلبُ منك شيئا أبدا .. أريدُك أن تعلمَ فقط ، أنني أكنّ لكَ من الحبّ ما يملأ الدنيا ..
أحبكَ .. لأجلي فقط .. فمهما تكنْ مكنوناتُ نفسك ، ومهما تكن أهدافك وغاياتك .. لا يعنيني ذلك بشيء لأنني لا أطلب منك شيئا ، ولا أطلبُ منك أن تبادلني نفسَ العاطفة التي أكنُّها لك ..
يكفيني أنني عشتُ أجملَ اللحظات التي طالما رسمتُ لها ، وتصورتُها .. ( في خيالي ، وليس بكاميرتك ..) .
في هذا اليوم : الخميس 04/06 ، وبعد الكلام الذي فضَحَ ما يستقرُّ في داخلي .. وفي طريق العودة إلى البيت ، تسارعت الخواطرُ إلى ذهني .. تارة إيجابية ، بالنسبة لك ، وتارة سلبية .. منها :
قلتُ لنفسي : ربما يعتقدُ نفسَه أنه يستطيعُ السيطرة على أي فتاة من بناتِ حواء ، ومهما يكنْ عمرها ، ومهما يكن الفارق بينها وبينه .. ولكني عدتُ وقلتُ : ليقلْ ما يقول .. يكفي أنني أحسستُ معه بالصدق ..
كلماتٌ وأحاديث لن أنساها أبدا ..
والشيء الذي يزيد إعجابي في هذا الموضوع ، هو أنني أنا التي جَرَتْ بالقرب منك ، نوعًا ما .. حتى لو كنتَ انتهازيا أو زير نساء .. ( عفوًا ) ..
شيءٌ وحيدٌ أعرفه ، ولا أشك فيه : أنني أحتاجُ إليكَ بشكل كبير .. وليتني رأيتكَ منذ فترة ، لأنني بحاجة كبيرة لك ..
لا أشك في لحظة أنني ارتحتُ إليك ، وأعجبْتُ بك .. وربما في بعض اللحظات ، أقول بأني : أحبك .. نعم أقولها بصراحة : أحبك .. أحبك ..
أشعر بالذنب لهذا الكلام ، ربما أكثر منه أيضا ..
ففي فترة الامتحان ، أي الفترة التي رأيتك فيها لم يخطرْ على بالي .. مع أني في فترة تتطلبُ مني عكسَ ذلك ، وأنا في نهاية خطبتي .. وأيام قليلة ، وأنخلع من هذا الواقع الذي لم أصدّق أنه بين يدي ..
صدقني .. لا أعرفُ كيف حصل كلُّ هذا .. كيف تجمَّعتْ وتكونت المشاعر والأحاسيسُ في أيام قليلة ..
صدقني .. إنني لم أعرفْ شيئا سوى أنني ، في لحظة من اللحظات ، قلتها وبصدق .. أحبك ..
وأقسمتُ أنني مهما تطلبْ مني سوف أجعله مباحًا لك .. لأنني أيقنتُ أن المبادئَ والقيمَ التي كنتُ أتحلى بها ، ليستْ إلا نقطة الضعف ، والعصا الغليظة التي يستندُ إليها كلُّ ضعيفٍ لا يستطيعُ أن يغيّر من الواقع والتقاليد شيئا ، فينسبُ ضعفَه إلى المبادئ والقيم ..
أما القويُّ ، فليس بحاجة إلى عصا ليستند عليها .. إنه يقف على قدميه قويا ، متحديا ، بلا مبادئ ولا مُثل عليا ..
( أكتبُ هذه الخواطر بسرعة كبيرة ، ولا أعرف لماذا ؟؟ )
إني لا أصدّق ما أنا فيه .. إنه كالحلم .. كالطيف الجميل السريع ..
أعلمُ بأنكَ تشعرُ بكبرياء ، وعزة نفس ، عندما تسمعُ مثل هذه الكلمات توَجَّه إليك ، وبأنكَ تشعرُ بالانتصار والفوز ..
( على فكرة : معك حق .. )
***
مهما قلتُ ، ومهما نسبْتُ لكَ من سلبياتٍ ، فإن ذلك لا يغيّر شيئا مما بداخلي .. فأنا أريدُ أنْ أقولَ هذه الكلمات التي ربما تمسُّكَ بشيء ، لأنني أرفض أفكاري ..
فخيالكَ بين طابقة الجفون .. وذكرُكَ في الخواطر والسكون .. وحبّكَ قد جرى في العظم مني ، كجري الماء في ثمر الغصون ..
ويوم لا أراك ، يضيق صدري ، وتغدرني العوازل في شجوني ..
أيَا مَنْ قد تملكني هواه ، وزادَ على محبته ، جنوني ..
خفِ الرحمن فيَّ ، وكنْ رحيمًا هواك إذ أتتني ريبُ المنون ..
وداعُكَ مثلُ وداع الحياة .. وفقدُكَ يشبه فقدَ النديم ..
أكتب هذه الخواطر ، بعد أن وضعتُ كاسيت عبد الحليم ، وخاصة أغنية ( الليالي ) .. وكما أحب هذه الأغنية من قبل ، والآن أحبُّها أكثر .. وخاصة المقطع الأخير منها ، إذ يقول فيه :
" يا حبيبي عشت أجمل عمر في عينيك الجميلة ، عشت أجمل عمر ..
أوصل الأيام مع الأحلام بقوة شوق جميلة .. للرموش السمر ..
يا حبيبي ، كفاية أحبك ، وأرتوي من عطف قلبك ..
وأنسى بكره ، وأنسى بعده ، وأفتكر بس ، أني جنبك .."
صدقني .. كل كلمة من هذا المقطع ، لها أصول في نفسي وخاطري ..
وكل كلمة وكل شيء في هذا الكتيب ، له معنى في نفسي ..
لقد وجدتُ أن هذه الأبيات من الشعر الحديث لنزار قباني ، تعبّر عما في خاطري .. فأرجو أن تتقبلها مني :
"يا سيدي العزيز ..
هذا خطابُ امرأة حمقاء ..
هل كتبَتْ إليكَ قبلي امرأةٌ حمقاء ؟؟
اسمي أنا ..
دعْنا من الأسماء ..
رانية ، أمْ زينب ، أمْ هند ، أمْ هيفاء ..
أسخفُ ما نحمله يا سيدي : الأسماء ..
يا سيدي :
أخاف أن أقولَ ما لدي من أشياء ..
أخافُ ـ لو فعلتُ ـ أن تحترقَِ السماء ..
فشرقكم يا سيدي العزيز ..
يصادر الرسائلَ الزرقاء ..
يصادرُ الأحلامَ من خزائن النساء ..
يمارسُ الحَجْرَ على عواطف النساء ..
يستعملُ السكين .. والساطور ..
كي يخاطبَ النساء ..
ويذبحُ الربيعَ والأشواقَ والضفائرَ السوداء ..
شرقكم ، يا سيدي العزيز ..
يصنعُ تاجَ الشرفِ الرفيع من جماجم النساء ..
لا تنقدْني سيدي ..
إن كان خطي سيئا ..
فإنني أكتبُ .. والسيّافُ خلفَ بابي ..
وخارجَ الحجرة صوتُ الريح والكلاب ..
يا سيدي !
عنترة العبسي خلف بابي .. ( مع العلم ، أحب أشعار عنترة )
يذبحُني إذا رأى خِطابي
يقطعُ رأسي لو أنا
عبّرتُ عن عذابي
فشرقكم يا سيدي العزيز
يبايعُ الرجالَ أنبياء
ويطمرُ النساءَ في التراب ..
لا تنزعجْ !
يا سيدي من سطوري
لا تنزعجْ !
إذا كسرْتُ القمقمَ المسدودَ من عصور ..
إذا نزعتُ خاتمَ الرصاص من ضميري ..
إذا تمردْتُ على موتي .. على قبري .. على جذوري ..
لا تنزعجْ يا سيدي ..
إذا أنا كشفتُ عن شعوري
فالرجلُ الشرقيُّ .. لا يهتمُّ بالشعر ولا الشعور ..
(حذفتُ أبياتا هنا لأني لا أريدُ أنْ أقولها لكَ )
معذرة يا سيدي ..
إذا تطاولتُ على مملكة الرجال ..
فالأدبُ الكبير ـ طبعا ـ أدبُ الرجال ..
والحبُّ ـ كان دائما ـ من حصة الرجال ..
خرافةٌ حرية النساء في بلادنا ..
فليسَ من حريةٍ أخرى سوى حريةِ الرجال ..
يا سيدي !
قلْ كلَّ ما تريدُه عني .. فلن أبالي ..
سطحية .. غبية .. مجنونة .. بلهاء ..
فلمْ أعدْ أبالي ..
لأنَّ من تكتبُ عن همومِها
في منطق الرجال ، تدعى : امرأة حمقاء ..
ألمْ أقلْ في أول الخطاب :
إني امرأة حمقاء ؟؟!!" ( لكن .. أنا لستُ كذلك ..)
***
لا أحبُّ اللونَ الأصفر ، لأنه يدل على الأنانية ..
وأنا لست كذلك .. فيما أنت لا أعلم ..
لذلك ، لن أكتبَ عليه ، سوى هذه الصفحة ..
***
مقتطفات نثرية :
ـ إن العمرَ لا يُحتسَبُ بالسنين ، ولكن ، يحتسب بالإحساس ..
والإحساسُ لا يكتمل ولا ينضج إلا بالحب ..
إحسان عبد القدوس
قال جبران خليل جبران :
إذا حجَبَ الظلامُ الأشجارَ والرياحينَ عن العين ، فالظلامُ لا يحجُبُ الحبَّ عن النفس ..
***
على فكرة :
أنا في فترة من الفترات التي مررتُ بها ، كنتُ من أشد المغرمين بكتب " جبران " ، فلقد قرأتُ عددًا كبيرًا من قصصه ..
" إن للألم غبطته ، ولليأس لذته ، وللموت عظته ، وكل شيء جميل ، وكل شيء لذيذ ..
كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة ، وللأرض هذه الخضرة ، وللورد هذا الشذى ، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب ، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان ؟؟!!
كيف نضجر وفي الدنيا منْ نحبه ، ومنْ نعجَب بهم ، ومن يحبوننا ، ومن يُعجَبون بنا ؟؟!! "
" نجيب محفوظ
زقاق المدق "
هذه المقتطفات ، لم أخترْها من لاشيء .. بل إن لكل منها معنىً وهدفًا ، للعلاقة التي نحن في صددها ..
هل أستطيع أن أسميَها كذلك ؟؟
لا .. لن أسميَها كذلك ، لأنني في حالة نفسية ، لم أعتدْ أن آخذ القرارات في مثل هذه الحالات ..
لكن شيئًا وحيدًا أفهَمُه ، هو أني أعجبْتُ بشخصِكَ .. وأني ......... لا أستطيع أن اكتبها خوفا من عدم قدرتي على الحفاظ عليها ..
ولكنْ في هذه اللحظة ، أنا متأكدة منها ، وربِّ الكائنات متأكدة ..
أجمل الأبيات التي قلتها لك في ذاك اليوم 04/06
إن تناسيتما ودادَ أناس فاجعلاني في بعض من تذكران
اذكرني
سلامٌ كثيرُ المسك يهديه خاطري
إليكم ، وأشواقي على البعد أكثر
فإنْ لم تكنْ عيني تراكم فإن لي
لسانًا بدالي بالدعاء ، ويشكر
السبت، 15 مايو 2010
نبليات ونبليات مرة أخرى
نبليات ونبليات مرة أخرى
يا عوسجة الروح والنّهى ..
يا جلنارة (منْ يتشهّى وجهَ منْ عشقا)..
ياااااا زنبقة الدنيا ..
يا قرنفلة الهامات الشامخة عند معالي التاريخ وفوق ذراه ..
يا ياسمينة دموع المودعين بقلوب كسيرة ..
يا جورية الأمهات اللواتي كنَّ للسيف وللضيف ولغدرات الزمن ..
يا فلة المشتاقين بعد طول الغياب ..
يا شقائق الأبدية المنعَّمة ..
يا ريحانة الرياض والجنان ..
يا أقحوانة الأمجاد ..
يا نرجسة الأفئدة الولهى ..
يا سوسنة العمر البهي ..
يا زعفرانة الأماني العِذاب ..
يا أرجوانة العشاق ..
يا خزامية العينين المشعتين ..
يا رندة القد الميّاس ..
يا لبانة الفرحة الكبرى ..
يا خميلة الظمأى في الهجير ..
يا بيلسانة الحنين في قلبي ..
يا ، ريانة ، يا فتنة ..
يا حناء الأيدي المتعبة ..
يا رفيف أيامي الباقية ..
يا سنبلتي ، يا زهرتي ، يا داليتي
يا سدرة المنتهى ..
يا كحيلة العينين ..
أنتِ الدافئة كحليب أمي ..أنتِ العطوفة كذراعيْ أمي ..أنتِ المُحبة كفؤاد أمي ..
أنتِ الحنونة كصدر أمي ..أنتِ البهية ، أنتِ الجميلة ، أنتِ السّنية لا يتَشبّه بكِ أحدٌ .. أنتِ العليّة لا يطاولكِ شيءٌ في الدنيا..
أأنتِ أمي؟؟..
ألف نعم ونعم ..ألف أجلٍ وأجل ..إذ لا يمكن لمن يخرج من رحمك ، إلا أن يعود إليك والهًا ، يطير إليك على جناحين من نور وريح ..
فقد يتعب الجسد في الطريق إليكِ ..لكن الروح تهفو إليكِ وستبقى ، وأبدا لا ولن تتعب ..
ولا تتعب الروح من الحنين إلى أشعة شمسكِ ، ولا تنأى المسافات بيننا ، إنها أقربُ من حبل الوريد ، إنها ألصَقُ بالروح من حبل الوريد ..
يا سلسبيلُ من عسلٍ وطيب ..
لماذا حبك يتغلغل فينا مضمخا بعبق الحبق النبلي الطهور؟؟
لماذا نتسابق في الوصول إليكِ تسابق النحل والفراشات؟؟
لماذا يأسرنا الشوق إليكِ ونحن فرحى بلقياك وجذلى بعبيركِ ونشوى بطيب اللقيا ؟؟
ما عرف التاريخ أسيرا يهيم في حب الآسِر ، إلا أسير الأم ، وأسير الأرض ..
وها نحن أسراكِ بالفطرة ، ياأرضَنا ، يا أمَنا :
(إليكِ الشمس تهدي القبلة الأولى) وإليكِ نهدي قبلتنا الأولى والأخيرة ..
رحم الله الجواهري حين قال:
وما وجدتُ إلى لقياكِ مُنعَطـَـفا إلا إليكِ ولا ألفيْتُ مُفتَرَقا
وسرتُ قصدكِ لا كالمشتهي بلدا لكن،كمَنْ يتشهّى وجْهَ مَنْ عشقا
(مهداة للأخ جبرائيل ...مع محبتي .)
12/آذار/2010
يوسف رشيد
يا عوسجة الروح والنّهى ..
يا جلنارة (منْ يتشهّى وجهَ منْ عشقا)..
ياااااا زنبقة الدنيا ..
يا قرنفلة الهامات الشامخة عند معالي التاريخ وفوق ذراه ..
يا ياسمينة دموع المودعين بقلوب كسيرة ..
يا جورية الأمهات اللواتي كنَّ للسيف وللضيف ولغدرات الزمن ..
يا فلة المشتاقين بعد طول الغياب ..
يا شقائق الأبدية المنعَّمة ..
يا ريحانة الرياض والجنان ..
يا أقحوانة الأمجاد ..
يا نرجسة الأفئدة الولهى ..
يا سوسنة العمر البهي ..
يا زعفرانة الأماني العِذاب ..
يا أرجوانة العشاق ..
يا خزامية العينين المشعتين ..
يا رندة القد الميّاس ..
يا لبانة الفرحة الكبرى ..
يا خميلة الظمأى في الهجير ..
يا بيلسانة الحنين في قلبي ..
يا ، ريانة ، يا فتنة ..
يا حناء الأيدي المتعبة ..
يا رفيف أيامي الباقية ..
يا سنبلتي ، يا زهرتي ، يا داليتي
يا سدرة المنتهى ..
يا كحيلة العينين ..
أنتِ الدافئة كحليب أمي ..أنتِ العطوفة كذراعيْ أمي ..أنتِ المُحبة كفؤاد أمي ..
أنتِ الحنونة كصدر أمي ..أنتِ البهية ، أنتِ الجميلة ، أنتِ السّنية لا يتَشبّه بكِ أحدٌ .. أنتِ العليّة لا يطاولكِ شيءٌ في الدنيا..
أأنتِ أمي؟؟..
ألف نعم ونعم ..ألف أجلٍ وأجل ..إذ لا يمكن لمن يخرج من رحمك ، إلا أن يعود إليك والهًا ، يطير إليك على جناحين من نور وريح ..
فقد يتعب الجسد في الطريق إليكِ ..لكن الروح تهفو إليكِ وستبقى ، وأبدا لا ولن تتعب ..
ولا تتعب الروح من الحنين إلى أشعة شمسكِ ، ولا تنأى المسافات بيننا ، إنها أقربُ من حبل الوريد ، إنها ألصَقُ بالروح من حبل الوريد ..
يا سلسبيلُ من عسلٍ وطيب ..
لماذا حبك يتغلغل فينا مضمخا بعبق الحبق النبلي الطهور؟؟
لماذا نتسابق في الوصول إليكِ تسابق النحل والفراشات؟؟
لماذا يأسرنا الشوق إليكِ ونحن فرحى بلقياك وجذلى بعبيركِ ونشوى بطيب اللقيا ؟؟
ما عرف التاريخ أسيرا يهيم في حب الآسِر ، إلا أسير الأم ، وأسير الأرض ..
وها نحن أسراكِ بالفطرة ، ياأرضَنا ، يا أمَنا :
(إليكِ الشمس تهدي القبلة الأولى) وإليكِ نهدي قبلتنا الأولى والأخيرة ..
رحم الله الجواهري حين قال:
وما وجدتُ إلى لقياكِ مُنعَطـَـفا إلا إليكِ ولا ألفيْتُ مُفتَرَقا
وسرتُ قصدكِ لا كالمشتهي بلدا لكن،كمَنْ يتشهّى وجْهَ مَنْ عشقا
(مهداة للأخ جبرائيل ...مع محبتي .)
12/آذار/2010
يوسف رشيد
نبليات طارئة .. أنا العاشق
نبليات طارئة .. أنا العاشق الأبدي
يحرسُ العاشقُ غفوة النّنّ ، وسطوة المطرعلى مُحيّا حبيبته
يتفيأ العاشقُ رموشًا جندلتْه شهيدا في شرايين حبيبته
يتيه العاشقُ في سحر نظراتٍ كسيرةٍ وَلهَى من حبيبته
يحنّي العاشقُ بالطِّيب والآس سالفيْ شَعر حبيبته
يجدّله ويفلّه ، يشمّه ويلمّه ، لا يتعب من عبق مسكِ حبيبته
يلملمُ العاشقُ قطراتِ الندى وحبّاتِ الطلع عن أردان حبيبته
يهفو العاشقُ لهُنيْهَةٍ في أحضان خيالٍ قرمزي اللون لحبيبته
يرنو العاشقُ للأفق إذ تغشاه نبوءة بمرور ليلكة مهداةٍ من حبيبته
يحلم العاشقُ بتوقف الزمن عند خنصر قدم حبيبته
يهيم العاشقُ بلمسةٍ ، كنسمةٍ ، من بَنان حبيبته
يتجلى العاشقُ في محرابِ الرجاء ، ثم يتنحّى لحبيبته
يذوب العاشقُ في نغماتِ وغمغماتِ صدى صوتِ حبيبته
يُجَنُّ العاشقُ إذا ما انحسرَ فضاؤه المفعمُ بأريج حبيبته
يَجري العاشقُ بين سراباتٍ مذهّبة تتدحرج خلف خطى حبيبته
يُلقي العاشقُ بنفسه في الردى ، لو ضمِنَ السلامة لحبيبته
ينضوي العاشقُ تحت منسدل الشَعر ، وفي حنايا صدر حبيبته
يُرغي العاشقُ ويُزبد لو مسّ لسانٌ طرَفَ فستان حبيبته
يطير العاشقُ متعلقا بالمدى المفتوح بين حاجبيْ حبيبته
يَهَبُ العاشقُ فؤادَه مضمّخًا بهديل الحَمام والقرنفل لحبيبته
يرهن العاشقُ حاضرَه ومستقبله لغنج همسةٍ من حبيبته
يحارب العاشقُ الهواءَ وطواحينَه لو لامَسَ شعرَ حبيبته
يبتهج العاشق لطيفِِ ابتسامةٍ جذلى من أعطاف حبيبته
يتجمّد العاشقُ بردا إذا لم يتلفّعْ بدفء جوارح وذراعيْ حبيبته
يذوي العاشقُ لو رأى الظل مكسورا في مرآة أحلام حبيبته
يصحو العاشق لو حوّمتْ فراشة وردية فوقَ وسادةِ حبيبته
يغفو العاشق ، فقط ، كي يحلمَ بإغفاءةٍ بين هدبيْ حبيبته
يسمو العاشق مع سرمديةِ الأماني ، ولذيذِ أنّاتِ حبيبته
يحزن العاشق لو أقلقتِ العصافيرُ بزقزقتها هجوعَ حبيبته
يتألم العاشق لو ندّتْ غلالة أسىً من عيني حبيبته
يسعد العاشق في أتون لهيبِ عشقِ حبيبته
يشقى العاشق بطيفِ خيال لا يرى فيه صورة حبيبته
يغنّي العاشق مواويلَ الهوى ، وأسفارَ الفرح المسفوح عند مدامع حبيبته
يشدو العاشق ابتهالاتِ الصوفيين ، ينثرها هديلا لمناجاة حبيبته
***
يترنّم بأذكار الصباح لعلها تدغدغ البسملة في شفاه حبيبته يجري ، يسابق رياح الأربعينية ، ليصدها عن وجه حبيبته
يصعد أدراج الأسى ، يدحرجه بعيدا عن طريق حبيبته
ينزل أبيارَ العتمة والغيلان ، يقدمها قربانا لحناء أنامل حبيبته
يتلو "المعوّذتين ، وقل هو ، وآية الكرسي" وينفخُها وِرْدًا على جبين حبيبته
يقرأ شِعرَ المجنون وجميل وقيس ، ويسخر : إنه قليل لحبيبته
يحرسُ العاشقُ غفوة النّنّ ، وسطوة المطرعلى مُحيّا حبيبته
يتفيأ العاشقُ رموشًا جندلتْه شهيدا في شرايين حبيبته
يتيه العاشقُ في سحر نظراتٍ كسيرةٍ وَلهَى من حبيبته
يحنّي العاشقُ بالطِّيب والآس سالفيْ شَعر حبيبته
يجدّله ويفلّه ، يشمّه ويلمّه ، لا يتعب من عبق مسكِ حبيبته
يلملمُ العاشقُ قطراتِ الندى وحبّاتِ الطلع عن أردان حبيبته
يهفو العاشقُ لهُنيْهَةٍ في أحضان خيالٍ قرمزي اللون لحبيبته
يرنو العاشقُ للأفق إذ تغشاه نبوءة بمرور ليلكة مهداةٍ من حبيبته
يحلم العاشقُ بتوقف الزمن عند خنصر قدم حبيبته
يهيم العاشقُ بلمسةٍ ، كنسمةٍ ، من بَنان حبيبته
يتجلى العاشقُ في محرابِ الرجاء ، ثم يتنحّى لحبيبته
يذوب العاشقُ في نغماتِ وغمغماتِ صدى صوتِ حبيبته
يُجَنُّ العاشقُ إذا ما انحسرَ فضاؤه المفعمُ بأريج حبيبته
يَجري العاشقُ بين سراباتٍ مذهّبة تتدحرج خلف خطى حبيبته
يُلقي العاشقُ بنفسه في الردى ، لو ضمِنَ السلامة لحبيبته
ينضوي العاشقُ تحت منسدل الشَعر ، وفي حنايا صدر حبيبته
يُرغي العاشقُ ويُزبد لو مسّ لسانٌ طرَفَ فستان حبيبته
يطير العاشقُ متعلقا بالمدى المفتوح بين حاجبيْ حبيبته
يَهَبُ العاشقُ فؤادَه مضمّخًا بهديل الحَمام والقرنفل لحبيبته
يرهن العاشقُ حاضرَه ومستقبله لغنج همسةٍ من حبيبته
يحارب العاشقُ الهواءَ وطواحينَه لو لامَسَ شعرَ حبيبته
يبتهج العاشق لطيفِِ ابتسامةٍ جذلى من أعطاف حبيبته
يتجمّد العاشقُ بردا إذا لم يتلفّعْ بدفء جوارح وذراعيْ حبيبته
يذوي العاشقُ لو رأى الظل مكسورا في مرآة أحلام حبيبته
يصحو العاشق لو حوّمتْ فراشة وردية فوقَ وسادةِ حبيبته
يغفو العاشق ، فقط ، كي يحلمَ بإغفاءةٍ بين هدبيْ حبيبته
يسمو العاشق مع سرمديةِ الأماني ، ولذيذِ أنّاتِ حبيبته
يحزن العاشق لو أقلقتِ العصافيرُ بزقزقتها هجوعَ حبيبته
يتألم العاشق لو ندّتْ غلالة أسىً من عيني حبيبته
يسعد العاشق في أتون لهيبِ عشقِ حبيبته
يشقى العاشق بطيفِ خيال لا يرى فيه صورة حبيبته
يغنّي العاشق مواويلَ الهوى ، وأسفارَ الفرح المسفوح عند مدامع حبيبته
يشدو العاشق ابتهالاتِ الصوفيين ، ينثرها هديلا لمناجاة حبيبته
***
يترنّم بأذكار الصباح لعلها تدغدغ البسملة في شفاه حبيبته يجري ، يسابق رياح الأربعينية ، ليصدها عن وجه حبيبته
يصعد أدراج الأسى ، يدحرجه بعيدا عن طريق حبيبته
ينزل أبيارَ العتمة والغيلان ، يقدمها قربانا لحناء أنامل حبيبته
يتلو "المعوّذتين ، وقل هو ، وآية الكرسي" وينفخُها وِرْدًا على جبين حبيبته
يقرأ شِعرَ المجنون وجميل وقيس ، ويسخر : إنه قليل لحبيبته
يرسم عناقيدَ شوق أبدي ويذروها على أغطية سرير حبيبته
ينقع الترانيمَ الأسطورية بماء الورد النقي ويُترعها لحبيبته
يصفحُ لحوّاءَ خطيئتها الأولى ، كرمى عينيْ حبيبته
يخلق عرائشَ من نار ونور ، ويرميها مداسًا لقدميْ حبيبته
يتخلّق كهيئة النمام ، ويبني من الغمام مملكة الخلودِ لحبيبته
يجني من خوابي الملكاتِ أرواحَها ، ويذيبها شهدًا لحبيبته
يغرق في دياجير المُنى ويصرخ : آآآآآهٍ ، لعلها تصلُ لحبيبته
يسفُّ رملَ البوادي والهجير ، يستكين في مقلة الصباح الآتي ، تتوجّعُ الصبّاراتُ أسىً ، تميسُ قلائدُ النجوم ، يقطفها ، يرصّعها عشقًا سرمديًا لحبيبته
***
يتعقّل ، يهدأ ، يستكين ، يغيب ، يعفو ، يغفر، يروح ، يجيء ، يعمل ، يتغرّب ، يفرح ، يبكي ، يصادق ، يؤاخي ، يعشق ، يهيم ، يناوش ، يكابر ، ........ ، ........ ، ......... ،
ثم حيــن " يمتلئ بكلّ أسبابِ الغيابِ " ( كما قال محمود درويش في جداريته ) تكون الحبيبة المعشوقة في انتظاره هناك على أحرّ من الجمر .. يؤدّي الحاضرون واجبَهم ، يَدُسُّونه في حضنِها سريعًا ، وينفضُ المُهيلون الغبارَ عن أيديهم ، ويعودون ، ليعودوا في يوم رحيلٍ آخر ...
تلك حبيبتي ومعشوقتي الأبدية ...
وشكراااااااا
الاثنين /05/نيسان/2010
يوسف رشيد
ينقع الترانيمَ الأسطورية بماء الورد النقي ويُترعها لحبيبته
يصفحُ لحوّاءَ خطيئتها الأولى ، كرمى عينيْ حبيبته
يخلق عرائشَ من نار ونور ، ويرميها مداسًا لقدميْ حبيبته
يتخلّق كهيئة النمام ، ويبني من الغمام مملكة الخلودِ لحبيبته
يجني من خوابي الملكاتِ أرواحَها ، ويذيبها شهدًا لحبيبته
يغرق في دياجير المُنى ويصرخ : آآآآآهٍ ، لعلها تصلُ لحبيبته
يسفُّ رملَ البوادي والهجير ، يستكين في مقلة الصباح الآتي ، تتوجّعُ الصبّاراتُ أسىً ، تميسُ قلائدُ النجوم ، يقطفها ، يرصّعها عشقًا سرمديًا لحبيبته
***
يتعقّل ، يهدأ ، يستكين ، يغيب ، يعفو ، يغفر، يروح ، يجيء ، يعمل ، يتغرّب ، يفرح ، يبكي ، يصادق ، يؤاخي ، يعشق ، يهيم ، يناوش ، يكابر ، ........ ، ........ ، ......... ،
ثم حيــن " يمتلئ بكلّ أسبابِ الغيابِ " ( كما قال محمود درويش في جداريته ) تكون الحبيبة المعشوقة في انتظاره هناك على أحرّ من الجمر .. يؤدّي الحاضرون واجبَهم ، يَدُسُّونه في حضنِها سريعًا ، وينفضُ المُهيلون الغبارَ عن أيديهم ، ويعودون ، ليعودوا في يوم رحيلٍ آخر ...
تلك حبيبتي ومعشوقتي الأبدية ...
وشكراااااااا
الاثنين /05/نيسان/2010
يوسف رشيد
نبليات طارئة أنا .. والتل .. وفيروز
نبّليّات طارئة : أنا .. والتل .. وفيروز
(ملحوظة : لا ينتمي هذا الموضوع للمقالات المنشورة سابقا والتي تحمل عنوان : نبليات 1و2و3...) .
منذ أن عدتُ قبل أيام قلائل من الضيعة ، إلى منفاي الحالي ، وهذا العنوان يقضّ عليّ مضجعي ليل نهار ، ولم يسبق أن حصل معي ذلك وبهذه الحدّة، كما هو حاصل حاليا ، ولست أعرف سببا وجيها لمثل هذا الأمر، سوى أن بين التل وفيروز( مع حفظ الألقاب كما يقول أشقاؤنا اللبنانيون ) قاسما مشتركا أعظمَ ـ حسب ما أزعم ـ ، وإن كان الفارق كبيرا جدا بمنظور شخص حيادي ، لكني مع التل وفيروز لست حياديا أبدا ، ولي أسبابي في ذلك ، ربما تتوضّح من خلال ما سيأتي ...
من أين أبدأ ؟؟ هل أبدأ من عند فيروز، أم من عند التل؟؟
لعل البداية من عند التل أيسر وأسهل ، فهو : ( القديم ،العالي ، الضخم ، الأجرد ، المسكين ، المستكين ، الراسخ ، الهادئ ، الأبكم ، الباقي ) ..
هذه صفات عشر للتل العزيز ، ربما يستطيع غيري أن يصفه بعشر أخرى أو بعشرين أو أكثر ، لكني سأحاول أن أفصّل بعض الشيء في هذه الصفات ...
* فهو القديم حقا ، ولا أعرف تاريخا لهذا القِدم ، والذي ربما كان فيما مضى متراسا يصد هجمات المعتدين عبر العصور المتتالية ، ويحتمي به القاطنون وراءه وحوله وفوقه ، ويصعد إليه الحراس ليراقبوا الأفق من حوله ، قبل أن تدهمهم هجمات غازية مفاجئة ...
ولو لم يكن للتل مثل هذه الوظيفة ، لما كان للقِلاع المنتشرة في بلادنا تلك الأهمية العسكرية الفريدة ، التي استفاد منها كل من سيطر عليها ، سواء الأعداء أوالأصدقاء ...
* وهو العالي الذي لا يخبئ نفسه ولا يمكن أن يخبئه أحد ، وإلى وقت قريب مضى ، لم يكن يعلوه إلا مئذنة الجامع الكبير القريبة منه ، وهي ترنو إليه كأنها تتبادل معه ترانيم وابتهالات وآهات حرّى ، لا يسمعها أحد ، ولا يفهمها أحد وإن سمعها ، لأن لغة الكبار ليست كلغتنا ، وأحاسيس الكبار ليست كأحاسيسنا .. إنه العالي بنفسه ، المتعالي على الصغائر والمحن والإحن والحزازات والرياء والنفاق والغدر والنميمة والكذب والنهب والسرقة والعدوان والغصب ...
* وهو الضخم ، بل الأضخم بين كل أشياء الضيعة ، نحس بضخامته عندما نرمقه من الشرق والشمال ، ونراه مطواعا حين نقترب من سفحه جهة الغرب ، فهو الرابض كما لم يربض أبو الهول ، وهو الثابت الوحيد في الضيعة ، وكل ما عداه متغير متحول ..ولأنه الأضخم ، فهو الأرسخ في حياتنا قديمها وحديثها ، وهو الذي لم يتغير فيه شيء ، لولا نقصان حجمه قليلا على مر العصور ، لكن الجوهر باق : إن التل ما يزال تلا ..
* وهو الأجرد ، إذ لا تكسوه الأشجار كما يجب أن يكون ، وليس فيه من الظلال ما يمكن أن يقي من شمس حارقة، وكأنه لا يرغب أن يلجأ إليه أحدٌ ما ، إنه الأجرد من الدفء والحنان ، الأجرد من المحبة والمودة ، الأجرد من كل شيء ، إلا من بعض الأعشاب التي تقضمها الأغنام والماعز حين يعزّ العشب في مكان آخر ، كما يمكن أن يلجأ إليه نفرٌ من المتسكعين الذين يتوارون فيه بعيدا عن عيون مرتابة أو مراقبة..
* وهو المسكين الذي لا حول له ولا قوة ... لا يستطيع أن يدافع عن نفسه ولو أمام طفل يتبول فوق أديمه ..
ولا يستطيع أن يردع أولئك المتسكعين فوق بعض حشائشه مهما فعلوا .. كما لا يستطيع أن ينتصر لمظلوم اعتـُدي عليه أمام ناظريه ، وربما في وضح الظهيرة .. إن كل ما يفعله ذلك التل الوديع أنه يرمق أولئك بنظرة استهزاء ، تاركا للعقلاء منا قدرة التحرك والردع والعقاب ..
* وهو المستكين الذي دأبت النسوة من ضيعتنا على تقطيع أوصاله وتشريحه كالشاة المذبوحة بلا شفقة ولا رحمة ، منذ أن بنى الناسُ بيوتهم الطينية حوله .. فلطالما انتـُهكت حوافّ التل وجوانبه ، وحُمل ترابه إلى أنحاء الضيعة ، لتطريَ به النسوة القبابَ والجدرانَ بعد مزجه بالقصرين أوالتبن ، استعدادا لمطر الشتاء أو تمهيدا لموسم فرح آتٍ .. إنه المستكين الذي لم يصرخ ألما ولم يعترض على أحد ولم يستنجد بأحد ولم يردّ محتاجا أراد أن ينحت أطرافه ليطري بيته ويحسنه ويجمله ولو على حساب هدوئه وراحته وأمنه وسلامة أراضيه .. إنه المستكين حتى للزواحف والحشرات والديدان والكلاب الضالة .. إنه المستكين للعصافير والسنونو والطيور البرية التي نخرت جسده وبنت فيه بيوتها وأعشاشها ، واتخذت من الجرف الشرقي للتل ملاذا آمنا لها ، تأوي إليه مع الغروب ، فإذا تصادف مرورنا مع ذلك الوقت ، كان الفضاء يضجّ بأروع وأجمل وأحلى سيمفونية موسيقية تعزفها آلاف الطيور والعصافير ، فتتناغم مع أشعة شمس الغروب الحانية لترسم أبدع لوحة سمعية بصرية حسية ، يتجلى فيها بديع صنع الخالق جلّ وعلا.. حتى لكأن التل ينتشي لتلك السيمفونية ، فيغدو هينا لينا وديعا ، منسابا مع عذوبة الألحان ورقتها ..
* وهو الراسخ الذي ما غيّر مكانه ولا بدّله ، ولا استطاع أحدٌ أن يغير له مكانه أوينقله أو يزحزحه .. إنه الراسخ العنيد الذي صمد في وجه جميع العوامل الجوية منذ ولادته ، وما تزعزع ولا خارت قواه أمام جميع الحملات والحروب والغزوات التي تعرض لها عبر آلاف السنين .. إنه الأشم الذي لم تهزمه سيوف العدوان ومدافع المعتدين ، وإنما هزمناه نحن ، حين صار ملاذا للمقامرين والعابثين والهاربين والشذاذ .. و .. و ..
* وهو الهادئ الذي ما ثار يوما على أحد ، ولا غضب من متبول فوقه ، ولا تصرف برد الفعل مع أي من الذين داسوا فوقه وأهانوه ، سواء بالمقامرة أو بالمغامرة أو بالاعتداء أو بالنصب والاحتيال أو بالمجازفة أوالاستهتار من هيبته ووداعته ... لقد ظل هادئا عبر تاريخه الطويل ، ولم يُسَجّل أنّ بركانا ثار فيه وفاضت حِمَمُه على من أهانوه وحقروه .. ولم يعرف أحد عنه أن حالة عصبية انتابته قط .. ولم يره أحد وقد تملكه غضبٌ جارفٌ ، أو هيجان أرعن ، ولم يذكر أحد شيئا عن نخوة ثارت في رأسه ليدفع ظلما وقع على مظلوم فوق أرضه ..
* وهو الأبكم الوحيد في ضيعتنا منذ خُلقا .. فقد وُلد التل هكذا .. إنه يسمع حتى دبيب النمل وآهات المعذبين وصراخ المستنجدين وكل شيء ، يسمع ويسمع ويسمع .. كما أنه يرى كل شيء فوقه وتحته وحوله وما بين ذلك ، ويفهم كل ما يسمع وكل ما يرى ، لكن أنى للأبكم أن يتكلم ؟؟؟؟؟ هل ترون ذلك من حسن الطالع أم من سوء الطالع ؟؟!!! ترى لو كان التل ناطقا ، ماذا سيقول لنا عنـّا ؟؟؟ لا أريد أن أخمّن أو أتوقع شيئا ، لكني سأحمد الله أنه أبكم ...
* وأخيرا .. إنه الباقي ، الباقي الوحيد منذ وجوده إلى أن يشاء الله تعالى .. كم دالت دول وزالت !! كم تتالت الحروب والغزوات والهزائم والانتصارات !! كم تغيرت أماكن المقابر من حوله !! كم ورث الأبناء عن آبائهم وأجدادهم !! كم أنجبت النسوة وأرضعت وأنشأت ودفعت بفلذاتها إلى الحتوف !! كم تغير الزمان والمكان والناس والزرع والضرع !! كم امتلأ الفضاء حزنا وفرحا وعشقا وألما وحبا ومحبة ، كم تناوشنا النصر والهزيمة ، كم ضحكنا وبكينا ونمنا وأكلنا وقرأنا وعشقنا وأخفقنا ونجحنا !! كم لعبنا وركضنا وتسابقنا إلى الكروم والبيادر !!
*** أيها التل : هل وفيتك بعضا من حقك عليّ؟ ألا تعلم أني أحد أبنائك العاقين الجاحدين ؟! إني سأعترف لك بأني حاولت مرارا وتكرارا أن أزورك ولو لمرة واحدة عبر نصف قرن مضى ، لكني لم أفعل .. أتعرف لماذا ؟؟؟ أجزم بأنك لا تعرف ، ومن أين لك أن تعرف يا صديقي التل ؟!! لكني سأقول لك الآن ما لم أقله مسبقا ، وهنا بيت القصيد ....
لذااااااااااااااااا سأروي لك يا صديقي جانبا من حكايتي مع السيدة فيروز ...
فمنذ أواخر الستينيات عندما كانت حفلاتها الفنية تترافق مع معرض دمشق الدولي في أيلول من كل عام صادحة :
طالتْ نوىً وبكى من شوقه الوترُ خذني بعينيكَ واهربْ أيها القمرُ
هنا الترابات من طيبٍ ومن طربٍ وأين في غيرِ شامٍ يطربُ الحجرُ؟!
شآم أهلوكِ أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آنَ الكرم يُعتصَرُ
يا طيبَ القلبِ يا قلبي تُحَمّلني همّ الأحِبّة إنْ غابُوا وإنْ حَضَروا؟!
خذني آآآآه خذني ، خذني بعينيك واهربْ أيها القمرُ
وقتذاك ، كان عندي مذياع ترانزيستور صغير ، هو ما تبقى من أشياء المرحوم الشهيد فتح الله ، أضمه إلى صدري وأذني أحيانا وأنا أستمع صوت فيروز عبر حفلات المعرض التي تبثها إذاعة دمشق مباشرة :
شآم يا ذا السيف لم يغبِ يا كلامَ المجدِ في الكتبِ
قبلكِ التاريخُ في ظلمةٍ بعدكِ استولى على الشّهُبِ
و
قرأتُ مجدكِ في قلبي وفي الكتبِ شآم ، ما المجد؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ
إذا على بردى حَوْرٌ تأهّل بي أحسستُ أعلامكِ اختالتْ على الشّهُبِ
هذي لها النصرُ لا أبهى فما هُزِمَتْ وإن تـَهَدّدَها دهرٌ من النّوَبِ
شآم ، لفظ الشآم اهتز في خَلدي كما اهتزازُ غصونُ الأرْز في الهُدُبِ
تلك غيض من فيض كان يتدفق كل أيلول من كل عام ، وكانت هذه الأشعار وألحانها والصوت الشجي الذي يصدح بها ، جواز سفر إلى قلبي وعقلي كما الملايين ،
فنشأت بيني وبين صوتها ، وكلمات الرحابنة وألحانهم ، علاقة خاصة جدا جدا ، لم تنقطع ولم تهتز ولم تتوقف ولم تتأئر ، رغم أني لم أحضر أي حفل من حفلاتها في دمشق ، ولم يكن ذلك عسيرا عليّ آنذاك ، إلى أن جاءت فيروز إلى قلعة حلب في أواخر السبعينيات ، ولاقتها المدينة بترحاب مشوب بالحذر جراء الظروف الأمنية التي كانت تعيشها المدينة وقتها ، ومع ذلك وقفتُ أمام شباك القلعة في طابور طويل لأحصل على بطاقة للحفلة التي طالما كنت توّاقا لها في أي مكان من العالم ، وها هي الآن قاب قوسين أو أدنى ، كنت شغوفا حقا بأن أحضر حفلا كهذا قد لا تسمح لي الظروف لمرة أخرى ، وانتظرت طويلا حتى تناقص الطابور أمامي ، وكنت كلما اقتربت من الشباك أضطرب وأرتبك كما العاشق في اللحظات التي تسبق لقاءه الأول بمعشوقته ، وأحس بثقل كبير يضغط على صدري ورأسي ، وكأن شيئا ما ، لا أعرفه يريد أن يعيدني إلى الوراء ، وأن يمنعني من الحضور .. كنت أتلفت حولي فلا أرى سوى إقدام الناس وشوقهم للحضور والتزاحم على الشباك ، وكانت ندرة التذاكر خلقت سوقا سوداء لها ، فصارت تباع التذكرة بأضعاف ثمنها الحقيقي ..
وحين وصلت للشباك ، كان العرق يتصبب مني غزيرا ، وفقدت بعض أزرار القميص ، وانخلعت فردة حذائي اليمنى من قدمي ، وشعرت بألم فظيع في خاصرتي من شدة التزاحم ، فلم أسمع ما كان يقوله لي قاطع التذاكر ، كان المكان حولي صاخبا جدا ، لكني وغي غمرة اضطرابي وارتباكي غير المعهود ، أدركت بوضوح وعرفت الثقل الذي كان يحاول أن يعيدني إلى الوراء ، وفورا قررت ـ وأنا أشق الزحام متراجعا عن الشباك ـ بأنني غير قادر على أن أرى فيروز أمامي متجسدة لحما ودما ، أريدها أن تبقى الحلم الذي سرى إلي عبر صوتها ، فغدت الصوتَ الآسر واللحن الخلاب ، وبات صوتها مزيجا من نجاحي وإخفاقي ، من دراستي وعملي ونشاطي وصداقاتي ، من قراءاتي وكتاباتي ، من حبي وفرحي ، من حزني وألمي ، من سهري ونومي وصحوي ...
وإن أردت قول الحقيقة كاملة ، فلم يكن صوتها وحده صاحب هذا التأثير كله ، بل كانت كلمات وألحان كل من عاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني وكذلك محمد عبد الوهاب ومحمد محسن وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وسعيد عقل وغيرهم وغيرهم ، وراء كل ذلك التأثير الذي غلف كثيرا من أفكارنا بكثير من المعطيات والسلوكيات القومية والوطنية والإنسانية والأخلاقية ، بما فيها من صدق ومروءة وإيثار وإباء وشمم ومحبة وإخلاص ووفاء وحض على التسامي عن الصغائر والدنايا ، كل ذلك عبروا عنه بوضوح فكري أخاذ ، وأسلوب فني رائع قلّ نظيره ..
وبعد يا صديقي التل ....
سأعترف لك مجددا ، أنني ـ ومؤخرا على وجه التحديد ـ درتُ حولك مراتٍ ومراتٍ وأنا أرمق جوانبك وأطرافك المتآكلة ، كما عبرتُ الطريق الذي يمر من سفحك الغربي خلف البلدية مرات ومرات ، راغبا في الوصول إلى سفحك الأعلى ، لكن شيئا ما كان يمنعني من تسلق الطريق المؤدي إلى سفحك العالي المعشوشب بفعل شتائنا الربيعي هذا العام ، وقد حاولت أن أطلّ عليك من المبنى الجديد على جدارك الجنوبي ، كما فعلت الشتاء الماضي ، لكني لم أوفق .. حقا كأن قوة ما لا أعرف كنهَهَا لكنها قوية بالفعل ، منعتني من الوصول إلى سفحك الأعلى ، وحالت بيني وبينك ، ولم تستطع قدماي التقدم باتجاهك رغم محاولتي وإصراري ... أيكون ذلك لأننا نراك كبيرا جدا ، أم لأنك ترانا ما زلنا صغارا ؟؟
أرجو أن تعذرني يا صديقي التل ، فأنا أرى أن بينك وبين فيروز قاسما مشتركا أعظمَ :
إنكما كبيران في خيالي ، ولا أريد لأحدكما أن يتضاءل أمام واقع غير محسوب ....
مع حبي....
17/02/2010
يوسف رشيد
(ملحوظة : لا ينتمي هذا الموضوع للمقالات المنشورة سابقا والتي تحمل عنوان : نبليات 1و2و3...) .
منذ أن عدتُ قبل أيام قلائل من الضيعة ، إلى منفاي الحالي ، وهذا العنوان يقضّ عليّ مضجعي ليل نهار ، ولم يسبق أن حصل معي ذلك وبهذه الحدّة، كما هو حاصل حاليا ، ولست أعرف سببا وجيها لمثل هذا الأمر، سوى أن بين التل وفيروز( مع حفظ الألقاب كما يقول أشقاؤنا اللبنانيون ) قاسما مشتركا أعظمَ ـ حسب ما أزعم ـ ، وإن كان الفارق كبيرا جدا بمنظور شخص حيادي ، لكني مع التل وفيروز لست حياديا أبدا ، ولي أسبابي في ذلك ، ربما تتوضّح من خلال ما سيأتي ...
من أين أبدأ ؟؟ هل أبدأ من عند فيروز، أم من عند التل؟؟
لعل البداية من عند التل أيسر وأسهل ، فهو : ( القديم ،العالي ، الضخم ، الأجرد ، المسكين ، المستكين ، الراسخ ، الهادئ ، الأبكم ، الباقي ) ..
هذه صفات عشر للتل العزيز ، ربما يستطيع غيري أن يصفه بعشر أخرى أو بعشرين أو أكثر ، لكني سأحاول أن أفصّل بعض الشيء في هذه الصفات ...
* فهو القديم حقا ، ولا أعرف تاريخا لهذا القِدم ، والذي ربما كان فيما مضى متراسا يصد هجمات المعتدين عبر العصور المتتالية ، ويحتمي به القاطنون وراءه وحوله وفوقه ، ويصعد إليه الحراس ليراقبوا الأفق من حوله ، قبل أن تدهمهم هجمات غازية مفاجئة ...
ولو لم يكن للتل مثل هذه الوظيفة ، لما كان للقِلاع المنتشرة في بلادنا تلك الأهمية العسكرية الفريدة ، التي استفاد منها كل من سيطر عليها ، سواء الأعداء أوالأصدقاء ...
* وهو العالي الذي لا يخبئ نفسه ولا يمكن أن يخبئه أحد ، وإلى وقت قريب مضى ، لم يكن يعلوه إلا مئذنة الجامع الكبير القريبة منه ، وهي ترنو إليه كأنها تتبادل معه ترانيم وابتهالات وآهات حرّى ، لا يسمعها أحد ، ولا يفهمها أحد وإن سمعها ، لأن لغة الكبار ليست كلغتنا ، وأحاسيس الكبار ليست كأحاسيسنا .. إنه العالي بنفسه ، المتعالي على الصغائر والمحن والإحن والحزازات والرياء والنفاق والغدر والنميمة والكذب والنهب والسرقة والعدوان والغصب ...
* وهو الضخم ، بل الأضخم بين كل أشياء الضيعة ، نحس بضخامته عندما نرمقه من الشرق والشمال ، ونراه مطواعا حين نقترب من سفحه جهة الغرب ، فهو الرابض كما لم يربض أبو الهول ، وهو الثابت الوحيد في الضيعة ، وكل ما عداه متغير متحول ..ولأنه الأضخم ، فهو الأرسخ في حياتنا قديمها وحديثها ، وهو الذي لم يتغير فيه شيء ، لولا نقصان حجمه قليلا على مر العصور ، لكن الجوهر باق : إن التل ما يزال تلا ..
* وهو الأجرد ، إذ لا تكسوه الأشجار كما يجب أن يكون ، وليس فيه من الظلال ما يمكن أن يقي من شمس حارقة، وكأنه لا يرغب أن يلجأ إليه أحدٌ ما ، إنه الأجرد من الدفء والحنان ، الأجرد من المحبة والمودة ، الأجرد من كل شيء ، إلا من بعض الأعشاب التي تقضمها الأغنام والماعز حين يعزّ العشب في مكان آخر ، كما يمكن أن يلجأ إليه نفرٌ من المتسكعين الذين يتوارون فيه بعيدا عن عيون مرتابة أو مراقبة..
* وهو المسكين الذي لا حول له ولا قوة ... لا يستطيع أن يدافع عن نفسه ولو أمام طفل يتبول فوق أديمه ..
ولا يستطيع أن يردع أولئك المتسكعين فوق بعض حشائشه مهما فعلوا .. كما لا يستطيع أن ينتصر لمظلوم اعتـُدي عليه أمام ناظريه ، وربما في وضح الظهيرة .. إن كل ما يفعله ذلك التل الوديع أنه يرمق أولئك بنظرة استهزاء ، تاركا للعقلاء منا قدرة التحرك والردع والعقاب ..
* وهو المستكين الذي دأبت النسوة من ضيعتنا على تقطيع أوصاله وتشريحه كالشاة المذبوحة بلا شفقة ولا رحمة ، منذ أن بنى الناسُ بيوتهم الطينية حوله .. فلطالما انتـُهكت حوافّ التل وجوانبه ، وحُمل ترابه إلى أنحاء الضيعة ، لتطريَ به النسوة القبابَ والجدرانَ بعد مزجه بالقصرين أوالتبن ، استعدادا لمطر الشتاء أو تمهيدا لموسم فرح آتٍ .. إنه المستكين الذي لم يصرخ ألما ولم يعترض على أحد ولم يستنجد بأحد ولم يردّ محتاجا أراد أن ينحت أطرافه ليطري بيته ويحسنه ويجمله ولو على حساب هدوئه وراحته وأمنه وسلامة أراضيه .. إنه المستكين حتى للزواحف والحشرات والديدان والكلاب الضالة .. إنه المستكين للعصافير والسنونو والطيور البرية التي نخرت جسده وبنت فيه بيوتها وأعشاشها ، واتخذت من الجرف الشرقي للتل ملاذا آمنا لها ، تأوي إليه مع الغروب ، فإذا تصادف مرورنا مع ذلك الوقت ، كان الفضاء يضجّ بأروع وأجمل وأحلى سيمفونية موسيقية تعزفها آلاف الطيور والعصافير ، فتتناغم مع أشعة شمس الغروب الحانية لترسم أبدع لوحة سمعية بصرية حسية ، يتجلى فيها بديع صنع الخالق جلّ وعلا.. حتى لكأن التل ينتشي لتلك السيمفونية ، فيغدو هينا لينا وديعا ، منسابا مع عذوبة الألحان ورقتها ..
* وهو الراسخ الذي ما غيّر مكانه ولا بدّله ، ولا استطاع أحدٌ أن يغير له مكانه أوينقله أو يزحزحه .. إنه الراسخ العنيد الذي صمد في وجه جميع العوامل الجوية منذ ولادته ، وما تزعزع ولا خارت قواه أمام جميع الحملات والحروب والغزوات التي تعرض لها عبر آلاف السنين .. إنه الأشم الذي لم تهزمه سيوف العدوان ومدافع المعتدين ، وإنما هزمناه نحن ، حين صار ملاذا للمقامرين والعابثين والهاربين والشذاذ .. و .. و ..
* وهو الهادئ الذي ما ثار يوما على أحد ، ولا غضب من متبول فوقه ، ولا تصرف برد الفعل مع أي من الذين داسوا فوقه وأهانوه ، سواء بالمقامرة أو بالمغامرة أو بالاعتداء أو بالنصب والاحتيال أو بالمجازفة أوالاستهتار من هيبته ووداعته ... لقد ظل هادئا عبر تاريخه الطويل ، ولم يُسَجّل أنّ بركانا ثار فيه وفاضت حِمَمُه على من أهانوه وحقروه .. ولم يعرف أحد عنه أن حالة عصبية انتابته قط .. ولم يره أحد وقد تملكه غضبٌ جارفٌ ، أو هيجان أرعن ، ولم يذكر أحد شيئا عن نخوة ثارت في رأسه ليدفع ظلما وقع على مظلوم فوق أرضه ..
* وهو الأبكم الوحيد في ضيعتنا منذ خُلقا .. فقد وُلد التل هكذا .. إنه يسمع حتى دبيب النمل وآهات المعذبين وصراخ المستنجدين وكل شيء ، يسمع ويسمع ويسمع .. كما أنه يرى كل شيء فوقه وتحته وحوله وما بين ذلك ، ويفهم كل ما يسمع وكل ما يرى ، لكن أنى للأبكم أن يتكلم ؟؟؟؟؟ هل ترون ذلك من حسن الطالع أم من سوء الطالع ؟؟!!! ترى لو كان التل ناطقا ، ماذا سيقول لنا عنـّا ؟؟؟ لا أريد أن أخمّن أو أتوقع شيئا ، لكني سأحمد الله أنه أبكم ...
* وأخيرا .. إنه الباقي ، الباقي الوحيد منذ وجوده إلى أن يشاء الله تعالى .. كم دالت دول وزالت !! كم تتالت الحروب والغزوات والهزائم والانتصارات !! كم تغيرت أماكن المقابر من حوله !! كم ورث الأبناء عن آبائهم وأجدادهم !! كم أنجبت النسوة وأرضعت وأنشأت ودفعت بفلذاتها إلى الحتوف !! كم تغير الزمان والمكان والناس والزرع والضرع !! كم امتلأ الفضاء حزنا وفرحا وعشقا وألما وحبا ومحبة ، كم تناوشنا النصر والهزيمة ، كم ضحكنا وبكينا ونمنا وأكلنا وقرأنا وعشقنا وأخفقنا ونجحنا !! كم لعبنا وركضنا وتسابقنا إلى الكروم والبيادر !!
*** أيها التل : هل وفيتك بعضا من حقك عليّ؟ ألا تعلم أني أحد أبنائك العاقين الجاحدين ؟! إني سأعترف لك بأني حاولت مرارا وتكرارا أن أزورك ولو لمرة واحدة عبر نصف قرن مضى ، لكني لم أفعل .. أتعرف لماذا ؟؟؟ أجزم بأنك لا تعرف ، ومن أين لك أن تعرف يا صديقي التل ؟!! لكني سأقول لك الآن ما لم أقله مسبقا ، وهنا بيت القصيد ....
لذااااااااااااااااا سأروي لك يا صديقي جانبا من حكايتي مع السيدة فيروز ...
فمنذ أواخر الستينيات عندما كانت حفلاتها الفنية تترافق مع معرض دمشق الدولي في أيلول من كل عام صادحة :
طالتْ نوىً وبكى من شوقه الوترُ خذني بعينيكَ واهربْ أيها القمرُ
هنا الترابات من طيبٍ ومن طربٍ وأين في غيرِ شامٍ يطربُ الحجرُ؟!
شآم أهلوكِ أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آنَ الكرم يُعتصَرُ
يا طيبَ القلبِ يا قلبي تُحَمّلني همّ الأحِبّة إنْ غابُوا وإنْ حَضَروا؟!
خذني آآآآه خذني ، خذني بعينيك واهربْ أيها القمرُ
وقتذاك ، كان عندي مذياع ترانزيستور صغير ، هو ما تبقى من أشياء المرحوم الشهيد فتح الله ، أضمه إلى صدري وأذني أحيانا وأنا أستمع صوت فيروز عبر حفلات المعرض التي تبثها إذاعة دمشق مباشرة :
شآم يا ذا السيف لم يغبِ يا كلامَ المجدِ في الكتبِ
قبلكِ التاريخُ في ظلمةٍ بعدكِ استولى على الشّهُبِ
و
قرأتُ مجدكِ في قلبي وفي الكتبِ شآم ، ما المجد؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ
إذا على بردى حَوْرٌ تأهّل بي أحسستُ أعلامكِ اختالتْ على الشّهُبِ
هذي لها النصرُ لا أبهى فما هُزِمَتْ وإن تـَهَدّدَها دهرٌ من النّوَبِ
شآم ، لفظ الشآم اهتز في خَلدي كما اهتزازُ غصونُ الأرْز في الهُدُبِ
تلك غيض من فيض كان يتدفق كل أيلول من كل عام ، وكانت هذه الأشعار وألحانها والصوت الشجي الذي يصدح بها ، جواز سفر إلى قلبي وعقلي كما الملايين ،
فنشأت بيني وبين صوتها ، وكلمات الرحابنة وألحانهم ، علاقة خاصة جدا جدا ، لم تنقطع ولم تهتز ولم تتوقف ولم تتأئر ، رغم أني لم أحضر أي حفل من حفلاتها في دمشق ، ولم يكن ذلك عسيرا عليّ آنذاك ، إلى أن جاءت فيروز إلى قلعة حلب في أواخر السبعينيات ، ولاقتها المدينة بترحاب مشوب بالحذر جراء الظروف الأمنية التي كانت تعيشها المدينة وقتها ، ومع ذلك وقفتُ أمام شباك القلعة في طابور طويل لأحصل على بطاقة للحفلة التي طالما كنت توّاقا لها في أي مكان من العالم ، وها هي الآن قاب قوسين أو أدنى ، كنت شغوفا حقا بأن أحضر حفلا كهذا قد لا تسمح لي الظروف لمرة أخرى ، وانتظرت طويلا حتى تناقص الطابور أمامي ، وكنت كلما اقتربت من الشباك أضطرب وأرتبك كما العاشق في اللحظات التي تسبق لقاءه الأول بمعشوقته ، وأحس بثقل كبير يضغط على صدري ورأسي ، وكأن شيئا ما ، لا أعرفه يريد أن يعيدني إلى الوراء ، وأن يمنعني من الحضور .. كنت أتلفت حولي فلا أرى سوى إقدام الناس وشوقهم للحضور والتزاحم على الشباك ، وكانت ندرة التذاكر خلقت سوقا سوداء لها ، فصارت تباع التذكرة بأضعاف ثمنها الحقيقي ..
وحين وصلت للشباك ، كان العرق يتصبب مني غزيرا ، وفقدت بعض أزرار القميص ، وانخلعت فردة حذائي اليمنى من قدمي ، وشعرت بألم فظيع في خاصرتي من شدة التزاحم ، فلم أسمع ما كان يقوله لي قاطع التذاكر ، كان المكان حولي صاخبا جدا ، لكني وغي غمرة اضطرابي وارتباكي غير المعهود ، أدركت بوضوح وعرفت الثقل الذي كان يحاول أن يعيدني إلى الوراء ، وفورا قررت ـ وأنا أشق الزحام متراجعا عن الشباك ـ بأنني غير قادر على أن أرى فيروز أمامي متجسدة لحما ودما ، أريدها أن تبقى الحلم الذي سرى إلي عبر صوتها ، فغدت الصوتَ الآسر واللحن الخلاب ، وبات صوتها مزيجا من نجاحي وإخفاقي ، من دراستي وعملي ونشاطي وصداقاتي ، من قراءاتي وكتاباتي ، من حبي وفرحي ، من حزني وألمي ، من سهري ونومي وصحوي ...
وإن أردت قول الحقيقة كاملة ، فلم يكن صوتها وحده صاحب هذا التأثير كله ، بل كانت كلمات وألحان كل من عاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني وكذلك محمد عبد الوهاب ومحمد محسن وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وسعيد عقل وغيرهم وغيرهم ، وراء كل ذلك التأثير الذي غلف كثيرا من أفكارنا بكثير من المعطيات والسلوكيات القومية والوطنية والإنسانية والأخلاقية ، بما فيها من صدق ومروءة وإيثار وإباء وشمم ومحبة وإخلاص ووفاء وحض على التسامي عن الصغائر والدنايا ، كل ذلك عبروا عنه بوضوح فكري أخاذ ، وأسلوب فني رائع قلّ نظيره ..
وبعد يا صديقي التل ....
سأعترف لك مجددا ، أنني ـ ومؤخرا على وجه التحديد ـ درتُ حولك مراتٍ ومراتٍ وأنا أرمق جوانبك وأطرافك المتآكلة ، كما عبرتُ الطريق الذي يمر من سفحك الغربي خلف البلدية مرات ومرات ، راغبا في الوصول إلى سفحك الأعلى ، لكن شيئا ما كان يمنعني من تسلق الطريق المؤدي إلى سفحك العالي المعشوشب بفعل شتائنا الربيعي هذا العام ، وقد حاولت أن أطلّ عليك من المبنى الجديد على جدارك الجنوبي ، كما فعلت الشتاء الماضي ، لكني لم أوفق .. حقا كأن قوة ما لا أعرف كنهَهَا لكنها قوية بالفعل ، منعتني من الوصول إلى سفحك الأعلى ، وحالت بيني وبينك ، ولم تستطع قدماي التقدم باتجاهك رغم محاولتي وإصراري ... أيكون ذلك لأننا نراك كبيرا جدا ، أم لأنك ترانا ما زلنا صغارا ؟؟
أرجو أن تعذرني يا صديقي التل ، فأنا أرى أن بينك وبين فيروز قاسما مشتركا أعظمَ :
إنكما كبيران في خيالي ، ولا أريد لأحدكما أن يتضاءل أمام واقع غير محسوب ....
مع حبي....
17/02/2010
يوسف رشيد
مدينة نبل ـ الواقع والطموح
مدينة نُبُّل ـ الواقع والطموح
Nubbol city
(نبليات)
1 ـ مدينة نبل :
هي " مدينة نبل " حسب قانون الإدارة المحلية ..
وهي " ناحية نبل أو بلدة نبل " حسب التقسيمات الإدارية في سوريا ..
وهي " قرية نبل " حسب التقسيمات الإدارية السائدة في سبعينيات القرن العشرين ..
لكنها ما تزال تحمل اسمها الأصلي المحبب لدى أهليها : " ضيعة نبل " و " نبل الضيعة " ..
ـ إداريا : نبل هي إحدى نواحي منطقة اعزاز ، التابعة لمحافظة حلب ، والتي تقع ـ جغرافيا ـ في الشمال الغربي من الجمهورية العربية السورية ..
2 ـ تسمية المدينة :
اسم نبل ، اسم آرامي ، ككثير من الأسماء الآرامية المنتشرة في المنطقة ، ويذكر خير الدين الأسدي في موسوعته عن حلب : إن اسم (نبل) هو لنبات طيب الرائحة .. ويضيف : أطلق على نبل اسم ( نبل الشريفة ) ، بعد أن سكنها الأشراف " الذين ينتمون لآل بيت النبوة " القادمون إليها من حلب ، وذلك على غرار اسم " النجف الأشرف " ..
أما الشيخ كامل الغزي في كتابه : نهر الذهب في تاريخ حلب الجزء الثالث ، طبعة حلب سنة 1952 : فيذكر أن الاسم مشتق من اسم إله آرامي اسمه الإله ( نبو ) ، وهو إله العلم والمعرفة والسمو والرفعة عند الآراميين ..
كما يعدد أسماء عدد من المزارع المحيطة بمدينة نبل مثل : كفر حشيم ـ باطموس ـ القنطرة ـ النهرية ـ الزيدية ..
وهذه المزارع ما تزال إلى الآن تعرف بهذه الأسماء ..
3 ـ الطقس والمناخ والارتفاع :
ترتفع مدينة نبل عن سطح البحر حوالي 410 أمتار ، وترتفع مدينة حلب 385 مترا ..
مدينة نبل ، ذات مناخ معتدل يميل إلى البرودة ، لوقوعها مقابل ما يسمى ( فتحة باب الهوى) ، التي تجري عبرها رياح باردة نسبيا ، وفيها شيء من رطوبة البحر أحيانا ، وإن غلب على جوّها الجفاف ..
شتاؤها بارد ، وربيعها أخّاذ ، وصيفها حارّ نسبيا ، لكنه أبرد حرارةً من مدينة حلب ، لموقعها القريب من جبل ليلون ، وجبل سمعان ..
أمطارها متوسطة ، وتغطي الثلوجُ أقدامَها أحيانا لوقوعها على أطراف الجبال الشمالية ..
4 ـ الموقع وأهميته :
تقع مدينة نبل في شمال مدينة حلب ، وتبعد عنها حوالي 20 كم ، على الطريق العام الذي يربط مدينة حلب بمنطقتي اعزاز وعفرين ( شارع غازي عنتاب ) " وهو طريق دولي ذو اتجاهين ، تستكمل حاليا إنشاءاته وجسوره وعباراته ..
ولمدينة نبل طريق خاص لها ( أوتستراد ) مشجّر ومُضاء ، متفرع غربا من الطريق العام بطول 3 كم ، ويزين مدخلها قنطرة معمارية جميلة ..
ـ أهمِّية الموقع الجغرافي :
يُعدُّ موقع مدينة نبل الجغرافي ذا أهمية جغرافية وتاريخية كبيرة ، فهي مركز المدن التاريخية الأثرية الكثيرة التي تلتفُّ حولها في نصف دائرة ، قطرها حوالي 15 كم ، من شمالها إلى غربها إلى جنوبها ..
وترتبط مدينة نبل بهذه المدن الأثرية التاريخية كلها، بشبكة طرقية ، تمتد عبر السهول والجبال المحيطة بمدينة نبل ، وتلتقي هذه الطرق فيها ، لتكون همزة الوصل بينها وبين المناطق والبلدات والقرى الواقعة شرق مدينة نبل وشمالها ، من جهة ، وبينها وبين مدينة حلب جنوبا ، من جهة أخرى ..
5 ـ المدن المَنسيّة المحيطة :
وهذه المدن الأثرية التاريخية المنسية ، كثيرة جدا ، منها :
كيمار ، الكالوتي ، براد ( وفيها بقايا كنيسة مار مارون ) ، عين دارة ، عقيبة ، خراب شمس ، برج القاص ، برج حيدر ، وصولا إلى المكان الأبرز والأهم : قلعة وكنيسة سمعان ، وانتهاء بقصر المشبك الواقع على الطريق بين قلعة سمعان ومدينة حلب ..
وهذه المدن ما تزال شاهدا حيا على أهمية المنطقة ، ودورها عبر التاريخ ، بأوابدها وآثارها الرائعة ، والتي ما تزال تحتاج جهودًا كبيرة لإظهارها للعالم كإحدى البؤر المضيئة عبر تاريخ الحضارات الإنسانية ..
6 ـ شبكة الطرق الداخلية :
تتشعب في المدينة شبكة طرق داخلية معبدة في غالبيتها العظمى ، وتتفرع من مركز المدينة إلى أقصى بيوتها في كل الاتجاهات ، وهي في توسع مستمر تقتضيه ضرورات التطور العمراني المتنامي بوتيرة عالية ، وقد تم تخديمها بالإنارة والصرف الصحي ، ومُدّت فيها الشبكات الخدمية الأخرى ، كالمياه والكهرباء والهاتف ، بما يؤدي الغاية المرجوة من هذه التوسعات ، وارتبطت هذه الطرق ، بتلك التي تؤدي إلى القرى والمزارع المجاورة :
كالزيارة ، وبرج القاص ، وكفرحشيم ، والطامورة ، وغيرها ..
وقد كان مطلع الثمانينيات بداية موفقة وناجحة للتوسع وشق طرق خدمية جديدة ، وتوسيع الطرق القديمة ، وتعديل استقامتها ، بعد أن أزيلت العوائق ، حتى أخذ مخطط المدينة شكله الحالي ..
7 ـ التلُّ الأثري :
يتوسط مدينة نبل تل ترابي أثري ضخم أجرد ، يُعرف باسم ( تل نبل الأثري ) .. أطرافه الشمالية والجنوبية والشرقية مرتفعة عما حولها كالجرف ، فيما التصقت بأسفل أقدامه بيوت ومحلات عديدة ..
وتبدو جدران التل للناظر إليها ، مليئة بالثقوب التي اتخذتها العصافيرُ والحَمامُ البريُّ أعشاشًا لها ، فكانت زقزقتها وهديلها تتناغم في سيمفونية موسيقية رائعة تملأ الفضاء ، وتنقلها الريح لمسافات بعيدة صباحًا باكرًا وقبيل الغروب ..
كما عاشت في خندقه وجحوره أعداد هائلة من الهوامِّ والزواحف والقطط والكلاب الضالة وغيرها ، لكن ذلك صار من الماضي الآن ..
أما الجهة الغربية فتنبسط غربًا حتى تصبح بمستوى منسوب الأرض المحيطة ، وقد تغطّى سفحه أيضا بكثير من البيوت والمحلات ، التي حجبَت التلّ كله وراءها ، وبات من الصعب مشاهدة التل إلا من مكان مرتفع وبعيد ..
ولم تجر للتل ـ حتى الآن ـ أي عمليات مسح أو تنقيب أثري ، لاكتشاف مكنوناته التاريخية والأثرية ، وإن كنا نعتقد بأنه يخفي في أحشائه الكثير من تلك المكنونات ، شأنه في ذلك شأن جميع التلال التي تنتشر على مساحة الوطن كله .. .
8 ـ السّاحة العامّة ( المركز الإداري والحيوي للمدينة ) :
تقع الساحة العامة الكبيرة في السفح الغربي الجنوبي للتل ..
وفي غرب الساحة يقع جامعها الكبير بمئذنته المهيبة ، ويزين وسطَ الساحة نافورةٌ تجميلية تضفي على المكان أناقة ورونقا خاصا ، بمزروعاتها وأنوارها الليلية ..
ومن الساحة تتفرع شوارع رئيسية في الاتجاهات الأربعة ، ويوجد شارعان رئيسيان آخران بعرض 16 مترا ويمتدان في محور شرقي ـ غربي ، يؤديان خدمة كبيرة في انسيابية المرور أوقات زحام الساحة العامة ، أحدهما في القسم الشمالي من المدينة ، والآخر يوازيه في القسم الجنوبي منها .. إضافة إلى وجود ما يسمى ( شارع الكورنيش ) ، الذي يحيط بالمدينة كالسّوار ، لكنه لم يُستكمل في بعض أقسامه ، لإجراءات إدارية وفنية محضة ..
ويكون الاتجاه الشرقي " المدخل الرئيسي للمدينة " موصولا بشارع ( الشهيد باسل الأسد ) وهو الأوتستراد الذي يصل مدينة نبل بأوتستراد الطريق العام ، المسمى شارع ( غازي عنتاب ) ..
[ وقد صارت له أهمية كبيرة في ظل العلاقات المميزة التي تربط سوريا وتركيا ، ولا سيما بعد إلغاء سمة الدخول بين البلدين ، الأمر الذي سهّل الانتقال عبر نقطة حدود " السلامة " التي يوصلنا إليها هذا الأوتستراد عبر مدينة اعزاز ]..
9 ـ السّكـّان :
يتجاوز عدد سكان مدينة نبل 35000 نسمة ، وفيهم نسبة كبيرة من الفئة العمرية الشابة ..
كما يوجد أعداد كبيرة من المواطنين ممن تقتضي طبيعة عملهم السكنى في المدن الأخرى مثل (مدينة حلب التي هي المركز الإداري والحكومي الذي تنضوي تحته مدينة نبل ) وهي المدينة الأقرب (20) كم ، والأكثر تواصلا معها ، كونها مقرا رئيسيا وهاما للدوائر الحكومية والنشاطات الاقتصادية والتجارية والمصرفية والصحية والتعليمية والجامعية وقطاعات الخدمات الأخرى ... الخ ..
فيما يعمل كثيرون أيضا في مدينة حلب ، لكنهم يقطنون في مدينة نبل ، ويفضلون السكنى فيها ، بسبب غلاء المدينة بشكل عام ، إضافة إلى سهولة التنقل والتواصل بين حلب ونبل ، لقرب المسافة ، ولتوفر سيارات نقل الركاب على مدار الساعة ، ولتوفر وسائل الاتصال الهاتفي والخليوي ، ولكون مدينة نبل حافلة بمعظم الخدمات التي يحتاجها المواطنون في إقامتهم ومأكلهم وملبسهم وضرورات ومستلزمات الحياة اليومية ..
ومن المدن الأخرى التي اتخذها بعض الأهالي مقرا للسكن والعمل : دمشق ، الحسكة ، القامشلي ، طرطوس ، الثورة ، عفرين وغيرها ..
10 ـ الخدمات الحكومية في مدينة نبل :
تتوفر في المدينة خدمات عامة كثيرة وهامة ومتنوعة ، ففيها :
بلدية المدينة ومجلسها ومكاتبها المختلفة ، مدارس حكومية لجميع المراحل ، ومركز صحي مؤهل بالكوادر المناسبة ، ومركز للكهرباء ، ووحدة للمياه ، ووحدة إرشادية للزراعة ، ومقسم هاتفي حديث ومتطور ، ومركز ثقافي نشيط وفعّال ، ومركز لأمانة السجل المدني ، ومحاكم وقضاة لهم نظام عمل خاص ، ومبنى لمديرية الناحية ، وشعبة للتجنيد العام ، ومركز للأنشطة الشبيبية ، ومقرات للفرق الحزبية ، ومخبز احتياطي كبير تستفيد المدينة والقرى المحيطة من خبزه الممتاز ليل نهار ، ومركز للشركة العامة للتجزئة لبيع المواد التموينية ، ومركز لمؤسسة عمران لبيع مواد البناء ..
بالإضافة إلى بعض المنظمات الأهلية الخاصة ، كالنادي الرياضي ، وروضة المنار ، وجمعية الغدير الخيرية ، وبعض الجمعيات السكنية ..
11 ـ الخدمات الخاصة :
الخدمات الخاصة في مدينة نبل ، هي ذات الخدمات الموجودة في المدن الكبرى ، مع فارق الكم والحجم والنسبة .. ففيها : عيادات للطب العام والتخصصي ، عيادات مخبرية متخصصة ، وعيادات التصوير الشعاعي ، وصيدليات بالجملة ، أدوية زراعية وبيطرية ، ومكاتب هندسية ، ومكاتب محاماة ، ومكاتب تعليمية وروضات ، وفنيون متخصصون بكافة المجالات ..
12 ـ التعليم والمتعلمون في مدينة نبل :
بداية التعليم في المدينة قديمة جدا ، وتعود لعشرينيات القرن الماضي ، وقد كان للمتعلمين الأوائل فضل كبير في دفع الحركة التعليمية ، وتنشيطها ، مما ساهم في الإقبال الكبير على التعليم ، وساعد على ذلك ، وجود المدارس بجميع مراحلها ، للذكور وللإناث .. ( يوجد في المدينة/ 8/ مجمعات مدرسية حكومية ، تضم قرابة /15/ مدرسة ) وأكثر من روضة للأطفال ...
ويوجد مركز نشط لتدريس أصول الفقه الإسلامي ، ولتحفيظ القرآن الكريم ، ودراسة السنة النبوية الشريفة والسيرة العطرة للنبي الأكرم ( محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ) ..
وقد تحققت في مرحلة الثمانينيات قفزة نوعية كبيرة ، بعدد الطلاب والطالبات الذين دخلوا الجامعات والمعاهد ، فصار منهم الآن ، كثير من الأساتذة والمحاضرين الجامعيين الذين يحملون شهادة الدكتوراه من الجامعات السورية والعالمية : جامعات أمريكا وألمانيا وفرنسا وروسيا وبلغاريا وبولونيا وإيران والهند ..
ومنهم المدرسون المتخصصون لكافة المواد التعليمية ، وأطباء باختصاصات متميزة ، إضافة إلى الاختصاصات العلمية والمهنية الأخرى ، وكثير من هؤلاء يوظفون علمهم وخبراتهم في مؤسسات الدولة وشركاتها وقطاعاتها المختلفة ...
ومؤخرا حصل دارسٌ ودارسة من أبناء مدينة نبل على أول شهادتين علميتين متميزتين ، وبتقديرين ممتازين :
◄ شهادة الدَّارس هي : البورد الأمريكية في الأمراض الداخلية .
◄ وشهادة الدَّارسة هي: الدكتوراه في تقنية الحاسوب "الكومبيوتر " وبرمجياته الحديثة ، من فرنسا..
كما يوجد دارسون صاروا قاب قوسين أو أدنى من نيل شهادة الدكتوراه في التشخيص المخبري والصيدلة وغيرها ..
وهناك أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات من أبناء مدينة نبل يدرسون الآن في الجامعات والمعاهد السورية ، وفي العديد من الجامعات العالمية ..
وثمة عدد من المبدعين في المجالات الأدبية المتنوعة : كالرواية والشعر والقصة القصيرة والنقد الأدبي ، وفي فنون الرسم والنحت والموسيقا والتمثيل المسرحي والغناء الشعبي والتصوير الضوئي والديكور والخط العربي والدعاية والإعلام ..
تلك القفزة النوعية حققت لمدينة نبل اكتفاء ذاتيا في جميع الخبرات .. ومنها :
1 ـ اختصاصات الطب العام والطب المختص في :
جراحة القلب والعيون والأسنان والعظام وطب الأطفال والجلدية والجراحة العامة والجراحة البولية والأمراض النسائية والأذن والأنف والحنجرة ...
إضافة إلى الصيدليات ومخابر التحليل والأشعة وتعويضات الأسنان وغيرها ..
2 ـ الاختصاصات الهندسية :
المدنية والمعمارية والميكانيكية والمعلوماتية ... وما يتبعها من مساعدين فنيين ومهنيين ..
3 ـ الاختصاصات التعليمية :
اللغات الحية والعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية والاجتماعية والفنون والرياضة وغيرها ..
وكذلك معلمو ومعلمات مرحلتي التعليم الأساسي ..
وثمة فائض كبير في أعدادهم ، حيث يمارسون عملهم حاليا في المناطق المحيطة ، منتظرين إحداث مدارس جديدة في مدينة نبل ليعودوا إلى ظلال التل ، وأحضان الأهل ..
4 ـ الاختصاصات الإدارية :
إن جميع المسؤولين الإداريين المدنيين في مدينة نبل ، وعلى كافة المستويات والقطاعات الحكومية الخدمية ، هم من أبنائها ..
وعليه ، فقد غدت مدينة نبل مقصدا رئيسيا لسكان القرى المجاورة ، يأتونها للعلاج وشراء الأدوية والتصوير الشعاعي والتحليل المخبري ، أو للدراسة في مدارسها ، أوللعمل في قطاعات البناء وإكساءاته ، أوللتسوق وتسويق منتجاتهم ، أو للاستفادة من الخدمات العامة الأخرى المتوفرة في المدينة ، وهي كثيرة ، وسبق عرض لها ...
13 ـ الموقع الإلكتروني والمنتدى :
لمدينة نبل موقعها الإلكتروني الخاص على الشبكة العنكبوتية "الإنترنت " وهو :
www.nubbol.net
( شبكة نبل الإلكترونية )
الذي يرصد كل الأحداث المحلية والعربية والعالمية ، عبر صفحاته المتعددة العناوين والأطياف ..
( ولقد أخذنا جزءًا هاما من هذه المعلومات من الموقع المذكور ، من بحثٍ قيّم ودقيق ، أعدّه مدير الشبكة المهندس عماد علي زم ، ونشره في المنتدى ، بعنوان : مدينة نبل ... بين سطور التاريخ ، وذلك بعد أن سمح لنا بذلك مشكورا ..) ..
وينبثق عن شبكة نبل الإلكترونية ، موقع خاص بالمرأة :
www.nubbol.net/hawa
يهتم بقضاياها ونشاطاتها ، وهمومها ومشاكلها ، عبر قالب جذاب ورؤية حضارية ناضجة ومسؤولة ومدركة لأهمية دور المرأة في صنع المستقبل ، عائليا ووطنيا وإنسانيا ، كونها نصف المجتمع ، وأمه وأخته وزوجته وابنته وعمته وخالته .. بحيث أضاف لمسة هامة للشبكة ، وغطى جزءا حيويا من أجزاء النسيج الاجتماعي ..
أما منتدى شبكة نبل الإلكترونية ، فهو نقطة مضيئة وعلامة بارزة بين المنتديات ، لما له من دور فعال في ترسيخ القيم الوطنية لدى أعضائه ومرتاديه ، ولإسهاماته الفعلية في تنشيط الدور الإيجابي لفئة الشباب ، بما يخدم قضاياهم وهمومهم ومستقبلهم ، عبر كتاباتهم التي يسهمون فيها ، وعبر الحوارات والنقاشات الجادة ، والواعية بدورهم الطليعي في المجتمع وعلى مساحة الوطن..
ويعبرون فيه عن إيمانهم العميق بعروبتهم وانتمائهم لأرضهم ووطنهم وأمتهم ، بعيدا عن الانغلاق الفكري ، والتزمت والتعصب ..
14 ـ النشاط الزراعي :
الأرض الزراعية في مدينة نبل ، خصبة وطيبة ومعطاءة ، لكن مساحاتها قليلة جدا ، وقد تناقصت هذه المساحة كثيرا في السنوات العشرين الماضية ، نتيجة الزحف والتوسع العمراني غير المسبوق ، وفي كل الاتجاهات ، حتى تضاعفت كثيرا أعداد المباني السكنية ، على حساب تناقص الأراضي الزراعية القليلة أصلا ..
وهي زراعة بعلية أيضا ، لكن بعض المزارعين ، أسسوا منذ عقود لزراعة مروية ، ينتجون فيها أنواعا من الخضراوات والفواكه ، وقد حققت هذه الزراعات مردودا جيدا ، لكنها لم تتوصل إلى مرحلة تجارية متقدمة ، لعوامل كثيرة ..
أهمّها : ضيق المساحة ، وارتفاع كلفة الإنتاج ، ومكافحة الآفات الزراعية ، ومشكلات التسويق والتمويل ..
ولأن الأراضي الزراعية في المدينة قليلة و بعلية وغير مجمعة ، وبالتالي فهي ذات كلفة إنتاجية مرتفعة ، يقابلها ضعف المردود ، فقد عزف كثير من أصحابها عنها ، ولجأوا إلى فرص عمل أخرى أفضل دخلا برأيهم ، وصار الإنتاج الزراعي ، مصدر دخلهم الثانوي ، سواء بالاستفادة من المحصول في تخزين مؤن الحبوب والبقوليات ، أو في تأجير الأرض لفلاحين آخرين ..
أما الحيوانات الأليفة والماشية ، فليس لها ذلك الانتشار ، بسبب التحول الذي طرأ على شكل البيوت ، والذي لا يسمح بتربية أي نوع من أنواعها ، فيما عدا بعض مربي الأغنام أو الأبقار أو المتاجرين بلحومها ومنتجاتها الأخرى ، والذين بنوا الإسطبلات في أطراف المدينة ، بعيدا عن المناطق السكنية ..
كما هُدِّمَت مباني أبراج الحمام والطيور ، التي كانت منتشرة في وقت سابق ( ويا عيني على تلك الأبراج ) ، ولم يعد لها وجود ، فيما استعيض عنها بمزارع لتربية الدواجن ..
لذلك ، ما عادت مدينة نبل تنضوي تحت عنوان " الريف الزراعي " ، لأن ما تنتجه من المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية ، أقل بكثير جدا من احتياجاتها ..
15 ـ النشاط التجاري :
في السنوات القليلة الماضية تزايد النشاط التجاري بصورة ملحوظة ، حتى صارت المدينة سوقا كبيرة ومتنوعة تناسب جميع المداخيل والمستويات .. يستفيد من خدماتها سكان المدينة والمرتادون والعابرون من القرى والبلدات المحيطة :
ففيها محلات كثيرة للمواد الغذائية ، وللخضراوات والفواكه على تنوعها ومواسمها ، وللمكسرات والموالح ، وللحلويات والمعجنات والبوظة ، وللأطعمة والوجبات السريعة والبطيئة ، وللألبسة والأحذية بأنواعها ، ولأدوات التجميل ، وللتصوير ومستلزماته ، وللأدوات المدرسية والمكتبية والقرطاسية ، وللأدوات الكهربائية والمنزلية بأنواعها ، وللمفروشات ، وللديكور ، ولأدوات البناء ومستلزمات الإكساء وإكسسواراته ، وللذهب والصياغة ، وللكومبيوتر والانترنت ، وللاتصالات العادية والخليوية ، وللسيارات ( قطع تبديل ، وإصلاح ، وخدمات أخرى ) ، وللزراعة وأدواتها ، وللوازم المهنيين المتنوعة ...
وهناك مهن كثيرة أيضا :
الخياطون ، الحلاقون ، النجارون ، اللحامون ، الحدادون ، المطاعم ذات المأكولات المتنوعة ، مهنيون لكافة أعمال البناء ومستلزماته ، صناعيون ، حرفيون ، أفران للخبز والفطائر ...
أما السيارات فلها النصيب الأكبر والأهم من النشاط التجاري النبلي ، ذلك :
1 ـ لعدد السيارات الكبير ..
2 ـ لتنوع السيارات ( شاحنات وناقلات وصهاريج وبولمانات مختلفة الأحجام ، وسيارات نقل صغيرة للأشخاص أوالبضائع ..)
3 ـ لعدد الأشخاص العاملين في هذا القطاع ، والذي تعود بداياته لخمسين سنة مضت ، وهو قطاع متميز على مستوى المحافظة ، وربما أكثر ..
ختاما : إن مدينة نبل ومواطنيها ، تمثل ـ في محيطها ـ نموذجا هاما وحضاريا ، لتميز نشاطاتها ، وسرعة تكيفها مع التطور الزمني ، وتلقفها لكافة الإنجازات العلمية التي تساهم في نموها السريع ، بما يعود بالنفع على مجموع سكان المنطقة وزوارها ..
ولعل كل ما سردناه آنفا ، لا يرضي طموحات سكانها وأبنائها المخلصين بانتمائهم لأرضهم وشعبهم ووطنهم ، كجزء حيوي من الشعب العربي السوري ، وترابه الوطني المقدس .. فهم توّاقون دائما نحو مزيد من البناء والعطاء الشخصي والوطني ، بما يتوافق مع الرؤية الشاملة للدور الوطني والقومي والإنساني والحضاري والنضالي للجمهورية العربية السورية ..
الخميس/08/04/2010
((توضيح 1 : هذا المقال أعد للنشر في " يوكيبيديا الموسوعة الحرة " ، ونشر فيها بعنوان " مدينة نبل " لكنه خضع هناك لتنسيقات وإجراءات خاصة بالنشر في الموسوعة ، مع الاحتفاظ بنفس المحتوى..))((توضيح 2 : هذا المقال مكمل للمقال الذي نشره الأستاذ عماد زم في المنتدى ، كما أشير في الفقرة 13 أعلاه ..)) وشكرا ..
Nubbol city
(نبليات)
1 ـ مدينة نبل :
هي " مدينة نبل " حسب قانون الإدارة المحلية ..
وهي " ناحية نبل أو بلدة نبل " حسب التقسيمات الإدارية في سوريا ..
وهي " قرية نبل " حسب التقسيمات الإدارية السائدة في سبعينيات القرن العشرين ..
لكنها ما تزال تحمل اسمها الأصلي المحبب لدى أهليها : " ضيعة نبل " و " نبل الضيعة " ..
ـ إداريا : نبل هي إحدى نواحي منطقة اعزاز ، التابعة لمحافظة حلب ، والتي تقع ـ جغرافيا ـ في الشمال الغربي من الجمهورية العربية السورية ..
2 ـ تسمية المدينة :
اسم نبل ، اسم آرامي ، ككثير من الأسماء الآرامية المنتشرة في المنطقة ، ويذكر خير الدين الأسدي في موسوعته عن حلب : إن اسم (نبل) هو لنبات طيب الرائحة .. ويضيف : أطلق على نبل اسم ( نبل الشريفة ) ، بعد أن سكنها الأشراف " الذين ينتمون لآل بيت النبوة " القادمون إليها من حلب ، وذلك على غرار اسم " النجف الأشرف " ..
أما الشيخ كامل الغزي في كتابه : نهر الذهب في تاريخ حلب الجزء الثالث ، طبعة حلب سنة 1952 : فيذكر أن الاسم مشتق من اسم إله آرامي اسمه الإله ( نبو ) ، وهو إله العلم والمعرفة والسمو والرفعة عند الآراميين ..
كما يعدد أسماء عدد من المزارع المحيطة بمدينة نبل مثل : كفر حشيم ـ باطموس ـ القنطرة ـ النهرية ـ الزيدية ..
وهذه المزارع ما تزال إلى الآن تعرف بهذه الأسماء ..
3 ـ الطقس والمناخ والارتفاع :
ترتفع مدينة نبل عن سطح البحر حوالي 410 أمتار ، وترتفع مدينة حلب 385 مترا ..
مدينة نبل ، ذات مناخ معتدل يميل إلى البرودة ، لوقوعها مقابل ما يسمى ( فتحة باب الهوى) ، التي تجري عبرها رياح باردة نسبيا ، وفيها شيء من رطوبة البحر أحيانا ، وإن غلب على جوّها الجفاف ..
شتاؤها بارد ، وربيعها أخّاذ ، وصيفها حارّ نسبيا ، لكنه أبرد حرارةً من مدينة حلب ، لموقعها القريب من جبل ليلون ، وجبل سمعان ..
أمطارها متوسطة ، وتغطي الثلوجُ أقدامَها أحيانا لوقوعها على أطراف الجبال الشمالية ..
4 ـ الموقع وأهميته :
تقع مدينة نبل في شمال مدينة حلب ، وتبعد عنها حوالي 20 كم ، على الطريق العام الذي يربط مدينة حلب بمنطقتي اعزاز وعفرين ( شارع غازي عنتاب ) " وهو طريق دولي ذو اتجاهين ، تستكمل حاليا إنشاءاته وجسوره وعباراته ..
ولمدينة نبل طريق خاص لها ( أوتستراد ) مشجّر ومُضاء ، متفرع غربا من الطريق العام بطول 3 كم ، ويزين مدخلها قنطرة معمارية جميلة ..
ـ أهمِّية الموقع الجغرافي :
يُعدُّ موقع مدينة نبل الجغرافي ذا أهمية جغرافية وتاريخية كبيرة ، فهي مركز المدن التاريخية الأثرية الكثيرة التي تلتفُّ حولها في نصف دائرة ، قطرها حوالي 15 كم ، من شمالها إلى غربها إلى جنوبها ..
وترتبط مدينة نبل بهذه المدن الأثرية التاريخية كلها، بشبكة طرقية ، تمتد عبر السهول والجبال المحيطة بمدينة نبل ، وتلتقي هذه الطرق فيها ، لتكون همزة الوصل بينها وبين المناطق والبلدات والقرى الواقعة شرق مدينة نبل وشمالها ، من جهة ، وبينها وبين مدينة حلب جنوبا ، من جهة أخرى ..
5 ـ المدن المَنسيّة المحيطة :
وهذه المدن الأثرية التاريخية المنسية ، كثيرة جدا ، منها :
كيمار ، الكالوتي ، براد ( وفيها بقايا كنيسة مار مارون ) ، عين دارة ، عقيبة ، خراب شمس ، برج القاص ، برج حيدر ، وصولا إلى المكان الأبرز والأهم : قلعة وكنيسة سمعان ، وانتهاء بقصر المشبك الواقع على الطريق بين قلعة سمعان ومدينة حلب ..
وهذه المدن ما تزال شاهدا حيا على أهمية المنطقة ، ودورها عبر التاريخ ، بأوابدها وآثارها الرائعة ، والتي ما تزال تحتاج جهودًا كبيرة لإظهارها للعالم كإحدى البؤر المضيئة عبر تاريخ الحضارات الإنسانية ..
6 ـ شبكة الطرق الداخلية :
تتشعب في المدينة شبكة طرق داخلية معبدة في غالبيتها العظمى ، وتتفرع من مركز المدينة إلى أقصى بيوتها في كل الاتجاهات ، وهي في توسع مستمر تقتضيه ضرورات التطور العمراني المتنامي بوتيرة عالية ، وقد تم تخديمها بالإنارة والصرف الصحي ، ومُدّت فيها الشبكات الخدمية الأخرى ، كالمياه والكهرباء والهاتف ، بما يؤدي الغاية المرجوة من هذه التوسعات ، وارتبطت هذه الطرق ، بتلك التي تؤدي إلى القرى والمزارع المجاورة :
كالزيارة ، وبرج القاص ، وكفرحشيم ، والطامورة ، وغيرها ..
وقد كان مطلع الثمانينيات بداية موفقة وناجحة للتوسع وشق طرق خدمية جديدة ، وتوسيع الطرق القديمة ، وتعديل استقامتها ، بعد أن أزيلت العوائق ، حتى أخذ مخطط المدينة شكله الحالي ..
7 ـ التلُّ الأثري :
يتوسط مدينة نبل تل ترابي أثري ضخم أجرد ، يُعرف باسم ( تل نبل الأثري ) .. أطرافه الشمالية والجنوبية والشرقية مرتفعة عما حولها كالجرف ، فيما التصقت بأسفل أقدامه بيوت ومحلات عديدة ..
وتبدو جدران التل للناظر إليها ، مليئة بالثقوب التي اتخذتها العصافيرُ والحَمامُ البريُّ أعشاشًا لها ، فكانت زقزقتها وهديلها تتناغم في سيمفونية موسيقية رائعة تملأ الفضاء ، وتنقلها الريح لمسافات بعيدة صباحًا باكرًا وقبيل الغروب ..
كما عاشت في خندقه وجحوره أعداد هائلة من الهوامِّ والزواحف والقطط والكلاب الضالة وغيرها ، لكن ذلك صار من الماضي الآن ..
أما الجهة الغربية فتنبسط غربًا حتى تصبح بمستوى منسوب الأرض المحيطة ، وقد تغطّى سفحه أيضا بكثير من البيوت والمحلات ، التي حجبَت التلّ كله وراءها ، وبات من الصعب مشاهدة التل إلا من مكان مرتفع وبعيد ..
ولم تجر للتل ـ حتى الآن ـ أي عمليات مسح أو تنقيب أثري ، لاكتشاف مكنوناته التاريخية والأثرية ، وإن كنا نعتقد بأنه يخفي في أحشائه الكثير من تلك المكنونات ، شأنه في ذلك شأن جميع التلال التي تنتشر على مساحة الوطن كله .. .
8 ـ السّاحة العامّة ( المركز الإداري والحيوي للمدينة ) :
تقع الساحة العامة الكبيرة في السفح الغربي الجنوبي للتل ..
وفي غرب الساحة يقع جامعها الكبير بمئذنته المهيبة ، ويزين وسطَ الساحة نافورةٌ تجميلية تضفي على المكان أناقة ورونقا خاصا ، بمزروعاتها وأنوارها الليلية ..
ومن الساحة تتفرع شوارع رئيسية في الاتجاهات الأربعة ، ويوجد شارعان رئيسيان آخران بعرض 16 مترا ويمتدان في محور شرقي ـ غربي ، يؤديان خدمة كبيرة في انسيابية المرور أوقات زحام الساحة العامة ، أحدهما في القسم الشمالي من المدينة ، والآخر يوازيه في القسم الجنوبي منها .. إضافة إلى وجود ما يسمى ( شارع الكورنيش ) ، الذي يحيط بالمدينة كالسّوار ، لكنه لم يُستكمل في بعض أقسامه ، لإجراءات إدارية وفنية محضة ..
ويكون الاتجاه الشرقي " المدخل الرئيسي للمدينة " موصولا بشارع ( الشهيد باسل الأسد ) وهو الأوتستراد الذي يصل مدينة نبل بأوتستراد الطريق العام ، المسمى شارع ( غازي عنتاب ) ..
[ وقد صارت له أهمية كبيرة في ظل العلاقات المميزة التي تربط سوريا وتركيا ، ولا سيما بعد إلغاء سمة الدخول بين البلدين ، الأمر الذي سهّل الانتقال عبر نقطة حدود " السلامة " التي يوصلنا إليها هذا الأوتستراد عبر مدينة اعزاز ]..
9 ـ السّكـّان :
يتجاوز عدد سكان مدينة نبل 35000 نسمة ، وفيهم نسبة كبيرة من الفئة العمرية الشابة ..
كما يوجد أعداد كبيرة من المواطنين ممن تقتضي طبيعة عملهم السكنى في المدن الأخرى مثل (مدينة حلب التي هي المركز الإداري والحكومي الذي تنضوي تحته مدينة نبل ) وهي المدينة الأقرب (20) كم ، والأكثر تواصلا معها ، كونها مقرا رئيسيا وهاما للدوائر الحكومية والنشاطات الاقتصادية والتجارية والمصرفية والصحية والتعليمية والجامعية وقطاعات الخدمات الأخرى ... الخ ..
فيما يعمل كثيرون أيضا في مدينة حلب ، لكنهم يقطنون في مدينة نبل ، ويفضلون السكنى فيها ، بسبب غلاء المدينة بشكل عام ، إضافة إلى سهولة التنقل والتواصل بين حلب ونبل ، لقرب المسافة ، ولتوفر سيارات نقل الركاب على مدار الساعة ، ولتوفر وسائل الاتصال الهاتفي والخليوي ، ولكون مدينة نبل حافلة بمعظم الخدمات التي يحتاجها المواطنون في إقامتهم ومأكلهم وملبسهم وضرورات ومستلزمات الحياة اليومية ..
ومن المدن الأخرى التي اتخذها بعض الأهالي مقرا للسكن والعمل : دمشق ، الحسكة ، القامشلي ، طرطوس ، الثورة ، عفرين وغيرها ..
10 ـ الخدمات الحكومية في مدينة نبل :
تتوفر في المدينة خدمات عامة كثيرة وهامة ومتنوعة ، ففيها :
بلدية المدينة ومجلسها ومكاتبها المختلفة ، مدارس حكومية لجميع المراحل ، ومركز صحي مؤهل بالكوادر المناسبة ، ومركز للكهرباء ، ووحدة للمياه ، ووحدة إرشادية للزراعة ، ومقسم هاتفي حديث ومتطور ، ومركز ثقافي نشيط وفعّال ، ومركز لأمانة السجل المدني ، ومحاكم وقضاة لهم نظام عمل خاص ، ومبنى لمديرية الناحية ، وشعبة للتجنيد العام ، ومركز للأنشطة الشبيبية ، ومقرات للفرق الحزبية ، ومخبز احتياطي كبير تستفيد المدينة والقرى المحيطة من خبزه الممتاز ليل نهار ، ومركز للشركة العامة للتجزئة لبيع المواد التموينية ، ومركز لمؤسسة عمران لبيع مواد البناء ..
بالإضافة إلى بعض المنظمات الأهلية الخاصة ، كالنادي الرياضي ، وروضة المنار ، وجمعية الغدير الخيرية ، وبعض الجمعيات السكنية ..
11 ـ الخدمات الخاصة :
الخدمات الخاصة في مدينة نبل ، هي ذات الخدمات الموجودة في المدن الكبرى ، مع فارق الكم والحجم والنسبة .. ففيها : عيادات للطب العام والتخصصي ، عيادات مخبرية متخصصة ، وعيادات التصوير الشعاعي ، وصيدليات بالجملة ، أدوية زراعية وبيطرية ، ومكاتب هندسية ، ومكاتب محاماة ، ومكاتب تعليمية وروضات ، وفنيون متخصصون بكافة المجالات ..
12 ـ التعليم والمتعلمون في مدينة نبل :
بداية التعليم في المدينة قديمة جدا ، وتعود لعشرينيات القرن الماضي ، وقد كان للمتعلمين الأوائل فضل كبير في دفع الحركة التعليمية ، وتنشيطها ، مما ساهم في الإقبال الكبير على التعليم ، وساعد على ذلك ، وجود المدارس بجميع مراحلها ، للذكور وللإناث .. ( يوجد في المدينة/ 8/ مجمعات مدرسية حكومية ، تضم قرابة /15/ مدرسة ) وأكثر من روضة للأطفال ...
ويوجد مركز نشط لتدريس أصول الفقه الإسلامي ، ولتحفيظ القرآن الكريم ، ودراسة السنة النبوية الشريفة والسيرة العطرة للنبي الأكرم ( محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ) ..
وقد تحققت في مرحلة الثمانينيات قفزة نوعية كبيرة ، بعدد الطلاب والطالبات الذين دخلوا الجامعات والمعاهد ، فصار منهم الآن ، كثير من الأساتذة والمحاضرين الجامعيين الذين يحملون شهادة الدكتوراه من الجامعات السورية والعالمية : جامعات أمريكا وألمانيا وفرنسا وروسيا وبلغاريا وبولونيا وإيران والهند ..
ومنهم المدرسون المتخصصون لكافة المواد التعليمية ، وأطباء باختصاصات متميزة ، إضافة إلى الاختصاصات العلمية والمهنية الأخرى ، وكثير من هؤلاء يوظفون علمهم وخبراتهم في مؤسسات الدولة وشركاتها وقطاعاتها المختلفة ...
ومؤخرا حصل دارسٌ ودارسة من أبناء مدينة نبل على أول شهادتين علميتين متميزتين ، وبتقديرين ممتازين :
◄ شهادة الدَّارس هي : البورد الأمريكية في الأمراض الداخلية .
◄ وشهادة الدَّارسة هي: الدكتوراه في تقنية الحاسوب "الكومبيوتر " وبرمجياته الحديثة ، من فرنسا..
كما يوجد دارسون صاروا قاب قوسين أو أدنى من نيل شهادة الدكتوراه في التشخيص المخبري والصيدلة وغيرها ..
وهناك أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات من أبناء مدينة نبل يدرسون الآن في الجامعات والمعاهد السورية ، وفي العديد من الجامعات العالمية ..
وثمة عدد من المبدعين في المجالات الأدبية المتنوعة : كالرواية والشعر والقصة القصيرة والنقد الأدبي ، وفي فنون الرسم والنحت والموسيقا والتمثيل المسرحي والغناء الشعبي والتصوير الضوئي والديكور والخط العربي والدعاية والإعلام ..
تلك القفزة النوعية حققت لمدينة نبل اكتفاء ذاتيا في جميع الخبرات .. ومنها :
1 ـ اختصاصات الطب العام والطب المختص في :
جراحة القلب والعيون والأسنان والعظام وطب الأطفال والجلدية والجراحة العامة والجراحة البولية والأمراض النسائية والأذن والأنف والحنجرة ...
إضافة إلى الصيدليات ومخابر التحليل والأشعة وتعويضات الأسنان وغيرها ..
2 ـ الاختصاصات الهندسية :
المدنية والمعمارية والميكانيكية والمعلوماتية ... وما يتبعها من مساعدين فنيين ومهنيين ..
3 ـ الاختصاصات التعليمية :
اللغات الحية والعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية والاجتماعية والفنون والرياضة وغيرها ..
وكذلك معلمو ومعلمات مرحلتي التعليم الأساسي ..
وثمة فائض كبير في أعدادهم ، حيث يمارسون عملهم حاليا في المناطق المحيطة ، منتظرين إحداث مدارس جديدة في مدينة نبل ليعودوا إلى ظلال التل ، وأحضان الأهل ..
4 ـ الاختصاصات الإدارية :
إن جميع المسؤولين الإداريين المدنيين في مدينة نبل ، وعلى كافة المستويات والقطاعات الحكومية الخدمية ، هم من أبنائها ..
وعليه ، فقد غدت مدينة نبل مقصدا رئيسيا لسكان القرى المجاورة ، يأتونها للعلاج وشراء الأدوية والتصوير الشعاعي والتحليل المخبري ، أو للدراسة في مدارسها ، أوللعمل في قطاعات البناء وإكساءاته ، أوللتسوق وتسويق منتجاتهم ، أو للاستفادة من الخدمات العامة الأخرى المتوفرة في المدينة ، وهي كثيرة ، وسبق عرض لها ...
13 ـ الموقع الإلكتروني والمنتدى :
لمدينة نبل موقعها الإلكتروني الخاص على الشبكة العنكبوتية "الإنترنت " وهو :
www.nubbol.net
( شبكة نبل الإلكترونية )
الذي يرصد كل الأحداث المحلية والعربية والعالمية ، عبر صفحاته المتعددة العناوين والأطياف ..
( ولقد أخذنا جزءًا هاما من هذه المعلومات من الموقع المذكور ، من بحثٍ قيّم ودقيق ، أعدّه مدير الشبكة المهندس عماد علي زم ، ونشره في المنتدى ، بعنوان : مدينة نبل ... بين سطور التاريخ ، وذلك بعد أن سمح لنا بذلك مشكورا ..) ..
وينبثق عن شبكة نبل الإلكترونية ، موقع خاص بالمرأة :
www.nubbol.net/hawa
يهتم بقضاياها ونشاطاتها ، وهمومها ومشاكلها ، عبر قالب جذاب ورؤية حضارية ناضجة ومسؤولة ومدركة لأهمية دور المرأة في صنع المستقبل ، عائليا ووطنيا وإنسانيا ، كونها نصف المجتمع ، وأمه وأخته وزوجته وابنته وعمته وخالته .. بحيث أضاف لمسة هامة للشبكة ، وغطى جزءا حيويا من أجزاء النسيج الاجتماعي ..
أما منتدى شبكة نبل الإلكترونية ، فهو نقطة مضيئة وعلامة بارزة بين المنتديات ، لما له من دور فعال في ترسيخ القيم الوطنية لدى أعضائه ومرتاديه ، ولإسهاماته الفعلية في تنشيط الدور الإيجابي لفئة الشباب ، بما يخدم قضاياهم وهمومهم ومستقبلهم ، عبر كتاباتهم التي يسهمون فيها ، وعبر الحوارات والنقاشات الجادة ، والواعية بدورهم الطليعي في المجتمع وعلى مساحة الوطن..
ويعبرون فيه عن إيمانهم العميق بعروبتهم وانتمائهم لأرضهم ووطنهم وأمتهم ، بعيدا عن الانغلاق الفكري ، والتزمت والتعصب ..
14 ـ النشاط الزراعي :
الأرض الزراعية في مدينة نبل ، خصبة وطيبة ومعطاءة ، لكن مساحاتها قليلة جدا ، وقد تناقصت هذه المساحة كثيرا في السنوات العشرين الماضية ، نتيجة الزحف والتوسع العمراني غير المسبوق ، وفي كل الاتجاهات ، حتى تضاعفت كثيرا أعداد المباني السكنية ، على حساب تناقص الأراضي الزراعية القليلة أصلا ..
وهي زراعة بعلية أيضا ، لكن بعض المزارعين ، أسسوا منذ عقود لزراعة مروية ، ينتجون فيها أنواعا من الخضراوات والفواكه ، وقد حققت هذه الزراعات مردودا جيدا ، لكنها لم تتوصل إلى مرحلة تجارية متقدمة ، لعوامل كثيرة ..
أهمّها : ضيق المساحة ، وارتفاع كلفة الإنتاج ، ومكافحة الآفات الزراعية ، ومشكلات التسويق والتمويل ..
ولأن الأراضي الزراعية في المدينة قليلة و بعلية وغير مجمعة ، وبالتالي فهي ذات كلفة إنتاجية مرتفعة ، يقابلها ضعف المردود ، فقد عزف كثير من أصحابها عنها ، ولجأوا إلى فرص عمل أخرى أفضل دخلا برأيهم ، وصار الإنتاج الزراعي ، مصدر دخلهم الثانوي ، سواء بالاستفادة من المحصول في تخزين مؤن الحبوب والبقوليات ، أو في تأجير الأرض لفلاحين آخرين ..
أما الحيوانات الأليفة والماشية ، فليس لها ذلك الانتشار ، بسبب التحول الذي طرأ على شكل البيوت ، والذي لا يسمح بتربية أي نوع من أنواعها ، فيما عدا بعض مربي الأغنام أو الأبقار أو المتاجرين بلحومها ومنتجاتها الأخرى ، والذين بنوا الإسطبلات في أطراف المدينة ، بعيدا عن المناطق السكنية ..
كما هُدِّمَت مباني أبراج الحمام والطيور ، التي كانت منتشرة في وقت سابق ( ويا عيني على تلك الأبراج ) ، ولم يعد لها وجود ، فيما استعيض عنها بمزارع لتربية الدواجن ..
لذلك ، ما عادت مدينة نبل تنضوي تحت عنوان " الريف الزراعي " ، لأن ما تنتجه من المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية ، أقل بكثير جدا من احتياجاتها ..
15 ـ النشاط التجاري :
في السنوات القليلة الماضية تزايد النشاط التجاري بصورة ملحوظة ، حتى صارت المدينة سوقا كبيرة ومتنوعة تناسب جميع المداخيل والمستويات .. يستفيد من خدماتها سكان المدينة والمرتادون والعابرون من القرى والبلدات المحيطة :
ففيها محلات كثيرة للمواد الغذائية ، وللخضراوات والفواكه على تنوعها ومواسمها ، وللمكسرات والموالح ، وللحلويات والمعجنات والبوظة ، وللأطعمة والوجبات السريعة والبطيئة ، وللألبسة والأحذية بأنواعها ، ولأدوات التجميل ، وللتصوير ومستلزماته ، وللأدوات المدرسية والمكتبية والقرطاسية ، وللأدوات الكهربائية والمنزلية بأنواعها ، وللمفروشات ، وللديكور ، ولأدوات البناء ومستلزمات الإكساء وإكسسواراته ، وللذهب والصياغة ، وللكومبيوتر والانترنت ، وللاتصالات العادية والخليوية ، وللسيارات ( قطع تبديل ، وإصلاح ، وخدمات أخرى ) ، وللزراعة وأدواتها ، وللوازم المهنيين المتنوعة ...
وهناك مهن كثيرة أيضا :
الخياطون ، الحلاقون ، النجارون ، اللحامون ، الحدادون ، المطاعم ذات المأكولات المتنوعة ، مهنيون لكافة أعمال البناء ومستلزماته ، صناعيون ، حرفيون ، أفران للخبز والفطائر ...
أما السيارات فلها النصيب الأكبر والأهم من النشاط التجاري النبلي ، ذلك :
1 ـ لعدد السيارات الكبير ..
2 ـ لتنوع السيارات ( شاحنات وناقلات وصهاريج وبولمانات مختلفة الأحجام ، وسيارات نقل صغيرة للأشخاص أوالبضائع ..)
3 ـ لعدد الأشخاص العاملين في هذا القطاع ، والذي تعود بداياته لخمسين سنة مضت ، وهو قطاع متميز على مستوى المحافظة ، وربما أكثر ..
ختاما : إن مدينة نبل ومواطنيها ، تمثل ـ في محيطها ـ نموذجا هاما وحضاريا ، لتميز نشاطاتها ، وسرعة تكيفها مع التطور الزمني ، وتلقفها لكافة الإنجازات العلمية التي تساهم في نموها السريع ، بما يعود بالنفع على مجموع سكان المنطقة وزوارها ..
ولعل كل ما سردناه آنفا ، لا يرضي طموحات سكانها وأبنائها المخلصين بانتمائهم لأرضهم وشعبهم ووطنهم ، كجزء حيوي من الشعب العربي السوري ، وترابه الوطني المقدس .. فهم توّاقون دائما نحو مزيد من البناء والعطاء الشخصي والوطني ، بما يتوافق مع الرؤية الشاملة للدور الوطني والقومي والإنساني والحضاري والنضالي للجمهورية العربية السورية ..
الخميس/08/04/2010
((توضيح 1 : هذا المقال أعد للنشر في " يوكيبيديا الموسوعة الحرة " ، ونشر فيها بعنوان " مدينة نبل " لكنه خضع هناك لتنسيقات وإجراءات خاصة بالنشر في الموسوعة ، مع الاحتفاظ بنفس المحتوى..))((توضيح 2 : هذا المقال مكمل للمقال الذي نشره الأستاذ عماد زم في المنتدى ، كما أشير في الفقرة 13 أعلاه ..)) وشكرا ..
يوسف رشيد
نبليات 4
نبليات
4
( في البدء ، لا بد من توضيح بسيط ، يرجى تذكره جيدا :
* إن الكلمات التالية تتناول مرحلة زمنية ، لا يمكنني تحديد بدايتها تماما ، لكن نهايتها محددة حتما ، وهي مطلع عام 1950 من القرن العشرين ، وعليه ، فإن ورود بعض الأسماء (فيما سيأتي لاحقا) منوط بمعاصري تلك المرحلة حصرا ، أو ممن ولدوا قبل ذلك بقليل ، وكان لهم تأثير فيما بعد .. اقتضى التنويه .. )
الكلمات السابقة ، نشرت في بداية الجزء الثالث من ( نبليات )
وقد أعدت نشرها هنا للأهمية ..
وعطفا على ما ورد في نهاية الجزء الثالث :
· لذلك غادرها ( نبل ) عدد لا بأس به من مواطنيها ، ممن رأوا في المدن القريبة والبعيدة بابا للرزق ، وعالما آخر ، رحبا ، متنوعا .. فسعوا لكسب رزقهم هناك ، كلٌّ لما خُلق له ، حتى صارت المدينة ملاذا للكثيرين الذين يبحثون عن قوتهم اليومي ، في ظروف معيشية غاية في القسوة من كل النواحي ..
نبليات 4
وقد أصاب بعضُ المهاجرين الأوائل ممن ركبوا موجة الزعامة العشائرية ـ إن صح التعبير ـ شيئا من النجاح ، تأسيسا على ممتلكات لهم نقلوا مجالها الأساسي من الزراعة وتوابعها على النمط البدائي البسيط ، إلى أنواع متعددة من النشاط التجاري المحلي الذي ظل تحت سقف متواضع ، فيما بقيت الغالبية تتأرجح بين درجات محددة من الطبقة المتوسطة ..
فعمل هؤلاء في أعمال ومهن كثيرة ومتنوعة ، بدءا من الفندقة والخانات إلى البيع بالأمانة في سوق الهال ، مرورا بسوق العواميد ، والمحلات والأعمال البسيطة والصغيرة والطفيلية على مساحة المدينة ، والمدن الأخرى البعيدة ..
وكان من رجالات الرعيل الأول :
حنيف طبرة ، حج شعبان شحادة ، حج علي شحادة ، حج عباس هلال البلوي ، كاظم دولي ، حج إبراهيم عباس شربو ، حج يونس عبد العزيز ..
وكذلك كان للمرحوم الشيخ عباس حج خليل دور في العمل التجاري في حلب ، في حي العواميد ، وذلك في أواخر الأربعينيات ، تلاه في مطلع الخمسينيات عدد آخر ، منهم :
حج محمد فتح الله رشيد ، حج أحمد الأبرص ، حج علي صالح ضو ، حج سعيد رسولو ، حج هلال الطشت ، حج إبراهيم زم ، حج محمد زم ، حج إبراهيم التقي ، حج هاشم سعيد شربو ، حج أحمد أمون الرحل ، حج محمد الهاني ، حج يوسف رسولو ، حج محمد الشحمة ، حج مصطفى القوقو ، حج يوسف القوقو ، علي مهدي ، محمد طاهر ، حج جنيد ، يوسف النجار ، علي موسى حداد ، حج عبد السلام نصر الله ، محمد عبد الله زم ، يحيى كور علي ، حج يحيى زم ، سعيد يونس ....وآخرون ...
وهؤلاء ليسوا جميع من عمل في المدينة ، لكن هذا ما استطعت التوصل إليه ، وإن كان هناك آخرون ، قصدوا مدنا أخرى غير حلب ، كالحسكة ودمشق مثلا .. وربما طرطوس واللاذقية ، وكذلك المدن الأصغر ، كعفرين والقامشلي ..
ومن الرعيل الأول الذين غادروا نبل لهذه المدن والمناطق ، أذكر على سبيل المثال :
حج يوسف البلوي ، حج حسن محمد مسط ، حج نايف خرفان ، حج حسين غريب .. وغيرهم
· وثمة فئة أخرى من مواطني الضيعة ، كانت وجهتهم أكثر انفتاحا وبعدا ، فامتلكوا السيارات الشاحنة ، وجابوا سورية من أقصاها إلى أقصاها ، سائقين ومعاونين وحمّالين وعتالين ، فكان لهم دور تنموي ( اقتصاديا واجتماعيا ) ، تأثرا وتأثيرا ، فساهموا في كسر حواجز العزلة التي كانت موجودة لتفصل بين ( الفلاح ـ بمعناها المتخلف ـ ، والمدني المتحضر ) وسرّعوا في نمو ونضج الوعي الاجتماعي ، والانفتاح على المجتمعات المجاورة والبعيدة ، حتى غدا الانطلاق نحو المدينة مظهرا يوميا وعاديا ومألوفا ومرغوبا بل ومحبوبا أيضا .. وهؤلاء كثيرون جدا ، ولم تتوفر لي معطيات أخرى لأذكر أسماء أوائل من امتهن هذه المهن ..
۞۞۞
أما رجال الدين ، فكان لمعظمهم الدور القيادي والريادي في الحياة الاجتماعية والنهضوية ، التي غلب عليها الطابع الريفي البدائي ، فاستطاع بعضهم أن يكون ذا تأثير فعال في قيادة التوجهات الدينية ـ والمعرفية ضمنا ـ نحو حياة أكثر التزاما وشفافية من خلال قدرتهم على التكييف والتوليف بين المشروع الديني والحياة الدنيوية ، عبر المساجد والمناسبات الدينية والاجتماعية والمجالس والسهرات التي يلتقي فيها الوجهاء برجال الدين والفعاليات الأخرى ، فيتبادلون الآراء في المناحي الحياتية ، ويتصدون لحل كثير من المشاكل والخلافات التي تعرض عليهم ، فينصاع المتخاصمون لأحكامهم ويلتزمون بتنفيذها ...
كما كانت بيوت رجال الدين مقصدا لكثير ممن يطلبون المشورة والنصح ، أو الفتاوى في المسائل الدينية ، وظل الناس مقبلين على رجال الدين فترة لا بأس بها ، قبل أن ينصرف الكثيرون ، لغياب الرعيل الأول من رجال الدين من جهة ، وتنامي شؤون الحياة وتوسعها وتشابكها من جهة أخرى ..
وقد سمعت عن الشيخ أحمد الرحل الذي كان له قصب السبق في تعليم وتحفيظ بناته السبع القرآن الكريم منذ أواخر القرن التاسع عشر ..
ثم ذهاب الشيخ إبراهيم الضرير وأخيه الشيخ إسماعيل إلى العراق لدراسة العلوم الدينية ، ربما في ثلاثينيات القرن العشرين ، وكذلك الشيخ عباس حج خليل ، والسيد عبد الأمير محي الدين ، والشيخ سعيد حج خليل ، والشيخ إبراهيم نصر الله ..
وممن كان لهم الفضل الكبير والبارز والدور الريادي في الحياة الدينية في الضيعة سماحة الشيخ المرحوم إبراهيم الضرير الذي أسّس ( جمعية الإعمار والإحسان ) وجعل مقرها مدينة حلب ، بهدف إعادة إعمار مشهد الإمام الحسين عليه السلام أو مشهد النقطة ، وذلك منذ عام 1961،
فاستطاع أن يجمع حوله عددا من الفعاليات الاقتصادية والزعامات الاجتماعية النبلية التي ساهمت في دفع عجلة بناء المشهد قدما على مدار أكثر من ثلاثة عقود ، وأنقذته من بين ركام وحطام ورماد وبقايا ومخلفات ، حتى صار بنيانا ضخما ، وصرحا معماريا جميلا ومهمّا ، روعي فيه الشكل الهندسي الأساسي للبناء ، مسترشدين بمخططات قديمة كانت موجودة لدى الجهات الحكومية ..
ورغم أن وتيرة العمل كانت ترتفع وتنخفض ، تبعا لتوفر السيولة المالية المحدودة غالبا ، إلا أن ما أنجز كان كبيرا جدا ، وبكل المقاييس ..
وكان بيت الشيخ إبراهيم الضرير ـ رحمه الله ـ مقصدا للكثيرين من العلماء الأفاضل ورجال الدين والشخصيات الحكومية والضيوف وطالبي المشورة أو الفتوى ، وكان مجلسه مجلس علم وفقه وتقوى ..
وبعد وفاته ـ رحمه الله ـ تصدى للمهمة الشيخ إبراهيم نصر الله ، فقام بها على الوجه الأكمل ، بل وتطور العمل كثيرا ، سواء في الجمعية أو في أعمال إكمال إعمار المشهد وتوسعته وتحسين البنية التحتية فيه ، واستكمال المباني الملحقة والوجائب والمكتبة والحوزة العلمية ، حتى تضاعفت مساحة البنيان مرات ومرات ، وصار المشهد منارة مضيئة ، بما يقوم به من دور ديني واجتماعي ريادي ، وبالخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والتوجيهية والدينية المختلفة ، التي يقدمها لرواده وضيوفه من الزوار على مدار الساعة ..
وقد شهدت هذه الفترة نموا مضطردا على كافة النواحي المتعلقة بالمشهد ( كمبنى ، وكدور ديني طليعي ) ، بعيدا عن التزمت والتعصب ، حتى كثر رواد الصلوات اليومية ، وكذلك رواد صلاة الجمعة التي تقام في رحاب المشهد ، فتبدو الصورة مبهجة وهو يغص بالمؤمنين من كل حدب وصوب ..
وكانت العلاقات الودية ، طابعا سائدا في هذه المرحلة ، مما أضفى على العمل الديني طابع الانفتاح والتآخي والمحبة مع الجميع ، فأعطى ذلك دفعا كبيرا للعمل الدعوي والتوجيهي ، واستقطب الراغبين في دراسة العلوم الدينية ، والالتزام بها وبمتطلباتها..
۞ الجزء القادم من ( نبليات ) سيكون عن رواد المتعلمين والعسكريين .
۞ أرجو من الإخوة القراء إغناء الموضوع بما لديهم من معلومات في هذا الجانب ، من خلال تعليقاتهم أو تعقيباتهم المحترمة لدينا دوما ..
الثلاثاء /30/آذار الخير/2010
يوسف رشيد
4
( في البدء ، لا بد من توضيح بسيط ، يرجى تذكره جيدا :
* إن الكلمات التالية تتناول مرحلة زمنية ، لا يمكنني تحديد بدايتها تماما ، لكن نهايتها محددة حتما ، وهي مطلع عام 1950 من القرن العشرين ، وعليه ، فإن ورود بعض الأسماء (فيما سيأتي لاحقا) منوط بمعاصري تلك المرحلة حصرا ، أو ممن ولدوا قبل ذلك بقليل ، وكان لهم تأثير فيما بعد .. اقتضى التنويه .. )
الكلمات السابقة ، نشرت في بداية الجزء الثالث من ( نبليات )
وقد أعدت نشرها هنا للأهمية ..
وعطفا على ما ورد في نهاية الجزء الثالث :
· لذلك غادرها ( نبل ) عدد لا بأس به من مواطنيها ، ممن رأوا في المدن القريبة والبعيدة بابا للرزق ، وعالما آخر ، رحبا ، متنوعا .. فسعوا لكسب رزقهم هناك ، كلٌّ لما خُلق له ، حتى صارت المدينة ملاذا للكثيرين الذين يبحثون عن قوتهم اليومي ، في ظروف معيشية غاية في القسوة من كل النواحي ..
نبليات 4
وقد أصاب بعضُ المهاجرين الأوائل ممن ركبوا موجة الزعامة العشائرية ـ إن صح التعبير ـ شيئا من النجاح ، تأسيسا على ممتلكات لهم نقلوا مجالها الأساسي من الزراعة وتوابعها على النمط البدائي البسيط ، إلى أنواع متعددة من النشاط التجاري المحلي الذي ظل تحت سقف متواضع ، فيما بقيت الغالبية تتأرجح بين درجات محددة من الطبقة المتوسطة ..
فعمل هؤلاء في أعمال ومهن كثيرة ومتنوعة ، بدءا من الفندقة والخانات إلى البيع بالأمانة في سوق الهال ، مرورا بسوق العواميد ، والمحلات والأعمال البسيطة والصغيرة والطفيلية على مساحة المدينة ، والمدن الأخرى البعيدة ..
وكان من رجالات الرعيل الأول :
حنيف طبرة ، حج شعبان شحادة ، حج علي شحادة ، حج عباس هلال البلوي ، كاظم دولي ، حج إبراهيم عباس شربو ، حج يونس عبد العزيز ..
وكذلك كان للمرحوم الشيخ عباس حج خليل دور في العمل التجاري في حلب ، في حي العواميد ، وذلك في أواخر الأربعينيات ، تلاه في مطلع الخمسينيات عدد آخر ، منهم :
حج محمد فتح الله رشيد ، حج أحمد الأبرص ، حج علي صالح ضو ، حج سعيد رسولو ، حج هلال الطشت ، حج إبراهيم زم ، حج محمد زم ، حج إبراهيم التقي ، حج هاشم سعيد شربو ، حج أحمد أمون الرحل ، حج محمد الهاني ، حج يوسف رسولو ، حج محمد الشحمة ، حج مصطفى القوقو ، حج يوسف القوقو ، علي مهدي ، محمد طاهر ، حج جنيد ، يوسف النجار ، علي موسى حداد ، حج عبد السلام نصر الله ، محمد عبد الله زم ، يحيى كور علي ، حج يحيى زم ، سعيد يونس ....وآخرون ...
وهؤلاء ليسوا جميع من عمل في المدينة ، لكن هذا ما استطعت التوصل إليه ، وإن كان هناك آخرون ، قصدوا مدنا أخرى غير حلب ، كالحسكة ودمشق مثلا .. وربما طرطوس واللاذقية ، وكذلك المدن الأصغر ، كعفرين والقامشلي ..
ومن الرعيل الأول الذين غادروا نبل لهذه المدن والمناطق ، أذكر على سبيل المثال :
حج يوسف البلوي ، حج حسن محمد مسط ، حج نايف خرفان ، حج حسين غريب .. وغيرهم
· وثمة فئة أخرى من مواطني الضيعة ، كانت وجهتهم أكثر انفتاحا وبعدا ، فامتلكوا السيارات الشاحنة ، وجابوا سورية من أقصاها إلى أقصاها ، سائقين ومعاونين وحمّالين وعتالين ، فكان لهم دور تنموي ( اقتصاديا واجتماعيا ) ، تأثرا وتأثيرا ، فساهموا في كسر حواجز العزلة التي كانت موجودة لتفصل بين ( الفلاح ـ بمعناها المتخلف ـ ، والمدني المتحضر ) وسرّعوا في نمو ونضج الوعي الاجتماعي ، والانفتاح على المجتمعات المجاورة والبعيدة ، حتى غدا الانطلاق نحو المدينة مظهرا يوميا وعاديا ومألوفا ومرغوبا بل ومحبوبا أيضا .. وهؤلاء كثيرون جدا ، ولم تتوفر لي معطيات أخرى لأذكر أسماء أوائل من امتهن هذه المهن ..
۞۞۞
أما رجال الدين ، فكان لمعظمهم الدور القيادي والريادي في الحياة الاجتماعية والنهضوية ، التي غلب عليها الطابع الريفي البدائي ، فاستطاع بعضهم أن يكون ذا تأثير فعال في قيادة التوجهات الدينية ـ والمعرفية ضمنا ـ نحو حياة أكثر التزاما وشفافية من خلال قدرتهم على التكييف والتوليف بين المشروع الديني والحياة الدنيوية ، عبر المساجد والمناسبات الدينية والاجتماعية والمجالس والسهرات التي يلتقي فيها الوجهاء برجال الدين والفعاليات الأخرى ، فيتبادلون الآراء في المناحي الحياتية ، ويتصدون لحل كثير من المشاكل والخلافات التي تعرض عليهم ، فينصاع المتخاصمون لأحكامهم ويلتزمون بتنفيذها ...
كما كانت بيوت رجال الدين مقصدا لكثير ممن يطلبون المشورة والنصح ، أو الفتاوى في المسائل الدينية ، وظل الناس مقبلين على رجال الدين فترة لا بأس بها ، قبل أن ينصرف الكثيرون ، لغياب الرعيل الأول من رجال الدين من جهة ، وتنامي شؤون الحياة وتوسعها وتشابكها من جهة أخرى ..
وقد سمعت عن الشيخ أحمد الرحل الذي كان له قصب السبق في تعليم وتحفيظ بناته السبع القرآن الكريم منذ أواخر القرن التاسع عشر ..
ثم ذهاب الشيخ إبراهيم الضرير وأخيه الشيخ إسماعيل إلى العراق لدراسة العلوم الدينية ، ربما في ثلاثينيات القرن العشرين ، وكذلك الشيخ عباس حج خليل ، والسيد عبد الأمير محي الدين ، والشيخ سعيد حج خليل ، والشيخ إبراهيم نصر الله ..
وممن كان لهم الفضل الكبير والبارز والدور الريادي في الحياة الدينية في الضيعة سماحة الشيخ المرحوم إبراهيم الضرير الذي أسّس ( جمعية الإعمار والإحسان ) وجعل مقرها مدينة حلب ، بهدف إعادة إعمار مشهد الإمام الحسين عليه السلام أو مشهد النقطة ، وذلك منذ عام 1961،
فاستطاع أن يجمع حوله عددا من الفعاليات الاقتصادية والزعامات الاجتماعية النبلية التي ساهمت في دفع عجلة بناء المشهد قدما على مدار أكثر من ثلاثة عقود ، وأنقذته من بين ركام وحطام ورماد وبقايا ومخلفات ، حتى صار بنيانا ضخما ، وصرحا معماريا جميلا ومهمّا ، روعي فيه الشكل الهندسي الأساسي للبناء ، مسترشدين بمخططات قديمة كانت موجودة لدى الجهات الحكومية ..
ورغم أن وتيرة العمل كانت ترتفع وتنخفض ، تبعا لتوفر السيولة المالية المحدودة غالبا ، إلا أن ما أنجز كان كبيرا جدا ، وبكل المقاييس ..
وكان بيت الشيخ إبراهيم الضرير ـ رحمه الله ـ مقصدا للكثيرين من العلماء الأفاضل ورجال الدين والشخصيات الحكومية والضيوف وطالبي المشورة أو الفتوى ، وكان مجلسه مجلس علم وفقه وتقوى ..
وبعد وفاته ـ رحمه الله ـ تصدى للمهمة الشيخ إبراهيم نصر الله ، فقام بها على الوجه الأكمل ، بل وتطور العمل كثيرا ، سواء في الجمعية أو في أعمال إكمال إعمار المشهد وتوسعته وتحسين البنية التحتية فيه ، واستكمال المباني الملحقة والوجائب والمكتبة والحوزة العلمية ، حتى تضاعفت مساحة البنيان مرات ومرات ، وصار المشهد منارة مضيئة ، بما يقوم به من دور ديني واجتماعي ريادي ، وبالخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والتوجيهية والدينية المختلفة ، التي يقدمها لرواده وضيوفه من الزوار على مدار الساعة ..
وقد شهدت هذه الفترة نموا مضطردا على كافة النواحي المتعلقة بالمشهد ( كمبنى ، وكدور ديني طليعي ) ، بعيدا عن التزمت والتعصب ، حتى كثر رواد الصلوات اليومية ، وكذلك رواد صلاة الجمعة التي تقام في رحاب المشهد ، فتبدو الصورة مبهجة وهو يغص بالمؤمنين من كل حدب وصوب ..
وكانت العلاقات الودية ، طابعا سائدا في هذه المرحلة ، مما أضفى على العمل الديني طابع الانفتاح والتآخي والمحبة مع الجميع ، فأعطى ذلك دفعا كبيرا للعمل الدعوي والتوجيهي ، واستقطب الراغبين في دراسة العلوم الدينية ، والالتزام بها وبمتطلباتها..
۞ الجزء القادم من ( نبليات ) سيكون عن رواد المتعلمين والعسكريين .
۞ أرجو من الإخوة القراء إغناء الموضوع بما لديهم من معلومات في هذا الجانب ، من خلال تعليقاتهم أو تعقيباتهم المحترمة لدينا دوما ..
الثلاثاء /30/آذار الخير/2010
يوسف رشيد
نبليات 3
نـُبُّـليّـااااااات
3
( في البدء ، لا بد من توضيح بسيط ، يرجى تذكره جيدا :
* إن الكلمات التالية تتناول مرحلة زمنية ، لا يمكنني تحديد بدايتها تماما ، لكن نهايتها محددة حتما ، وهي مطلع عام 1950 من القرن العشرين ، وعليه ، فإن ورود بعض الأسماء (فيما سيأتي لاحقا) منوط بمعاصري تلك المرحلة حصرا ، أو ممن ولدوا قبل ذلك بقليل ، وكان لهم تأثير فيما بعد ॥ اقتضى التنويه .. )
3
( في البدء ، لا بد من توضيح بسيط ، يرجى تذكره جيدا :
* إن الكلمات التالية تتناول مرحلة زمنية ، لا يمكنني تحديد بدايتها تماما ، لكن نهايتها محددة حتما ، وهي مطلع عام 1950 من القرن العشرين ، وعليه ، فإن ورود بعض الأسماء (فيما سيأتي لاحقا) منوط بمعاصري تلك المرحلة حصرا ، أو ممن ولدوا قبل ذلك بقليل ، وكان لهم تأثير فيما بعد ॥ اقتضى التنويه .. )
من الأمور التي ما زلت أشعر بالأسى الشديد لها ، أنني لا أذكر شيئا من سنوات طفولتي الثلاث ، التي قضيتها في الضيعة قبل أن ينقلنا والدي إلى حلب ، بُعَيد منتصف القرن الماضي ، في هجرة داخلية لا تبعد أكثر من خمسة وعشرين كيلو مترا ، لكنها كانت بالنسبة لي ـ آنذاك ـ أبعد من النجوم ، وربما تهون أمامها الآن أي هجرة أخرى خارجية أو داخلية ولو لآلاف الكيلو مترات ...
لذلك كان طموحي وهدفي وغايتي ومناي وأملي ورجائي أن أفِرّ إلى الضيعة ، كلما سنحت لي الفرصة ، في كل الفصول وفي كل الأوقات وفي كل الظروف وفي كل المناسبات ..
وبقيت الضيعة في مخيلتي ملاذا هادئا وأمينا ومحببا وآسرا ، يهون أمامه كل شيء ..
فإذا ذهبتُ في الشتاء أستعيرُ من ابن عمتي جزمتة طويلة الساق ، كي أخبّ في أخاديد الماء والوحل الناتجة عن عجلات التراكتورات ، وفي الصيف أستأنس بالنوم على البيدر مع أبناء عمتي ، وأنتظر موسم ( بسبسة الكشك وتقطيعه ) بفارغ الصبر ، وكثيرا ما كنت أعود إلى حلب مريضا بسبب التلبك المعوي الناتج عن تناولي كمية كبيرة من الكشك الذي أحبه بكل حالاته ومراحله .. كما كان الخروج باكرا إلى حقول (الصيفي ) أمرا خرافيا محببا لي ، أعدّ له من المساء وأرجوهم أن يوقظوني ، فأركب الحمار خلف أحدهم ونمضي ( بأسرع مما هي عليه طائرات اليوم ) ونحن نحاول أن نسبق ظلنا إذا كان أمامنا ، ومع ذلك كنت فاشلا جدا في العثور على ما يمكن أن أحوشه من خطوط الصيفي ، عجورا كان أو قتة أو فضالا ...
وفي الربيع لا بد من مشوار متواضع إلى القريعة مع كعك التنور والبيض المسلوق المكمّد بالكمون المجروش ، بالإضافة إلى ورق البصل الأخضر .. وحين كنت أنتبه لنفسي أجد الطين الأحمر قد وصل لنصف ظهري ، فيما لم تسلم منه بقية أجزاء ملابسي ، رغم حرصي الشديد على تجنب ذلك ، لكن أين المفر؟؟!! ولأنه ليس معي ملابس احتياطية لتبديل ما تلطخ بالطين منها ، كانوا كل يوم يغسلون ملابسي وينشفونها قرب نار الأثفية ، فآوي إلى الفراش قربها مستمتعا بدفئها وشكل لهيبها ، فيما يتعكنن سقف البيت الطيني بالدخان ، وينطلق السعال من هنا وهناك ، فأتلقى عتابا من أقراني ، بأنه لو حافظت على نظافة ثيابي لما كنا مجبرين على تحمل هذا الغَبّ من الدخان ...
***
كل ذلك كوم ، وإذا زارَنا من الضيعة أحدُ الأقارب ، كومٌ آخر.. عندها لا بد من أن أتحايل على أمي ـ رحمها الله ـ كي تسمح لي بالذهاب إليها معه .. وكانت ترفض أن تتحمل مسؤولية الموافقة ، ولا سيما أيام الدوام المدرسي ، أما إذا كان أبي في البيت ، فالأمر شبه مستحيل ، لكني أبكي بحرقة وأجهش أمام أمي ـ وأنا صغيرها المدلل ـ فيرق قلبها وتتدخل لدى والدي ، وتهوّن عليه الأمر بأنني لن أغيب عن المدرسة ، وأنها ستدثرني بكثير من الملابس ـ إذا كنا في الشتاء ـ وتطلب مني أمامه محذرةً ، أن لا أخبّ في الوحل وأن لا أتعرض للبرد كي لا أعود إليهم مريضا ككل مرة ... وهكذا حتى أنال الموافقة بعد جهد جهيد .. فإذا نلتها كان ذلك عيد الأعياد ، فأمضي للاستعداد بعين قوية وسط حسد أخواتي لي ، وأنا أجهز نفسي بسرعة البرق ، وانطلق متغندرا لا تسعني الأرض كلها فرحا وغبطة ، فأنا ذاهب إلى الضيعة وكفى ....
وإذا ما فشل مسعى أمي ، أغافل أبي أو أتصيد لحظة ما ، أو أتذرع بأمر ما ، فأتوارى عن أنظارهم خارج البيت ، حتى إذا شاهدت الضيف مغادرا ، أركض وراءه زاعما أن أهلي وافقوا على ذهابي معه ، غير مكترث بالغياب عن المدرسة أو بتأنيب أمي أو بعقوبة أبي ..
وفي ذلك الوقت ، كان الخارج من بيته يعد مفقودا حتى يثبت العكس أويعود إليه.. فلا هواتف ولا موبايلات ولا هم يحزنون.. لذلك كثيرا ما كنت أسبب القلق الشديد لأهلي بهروبي إلى الضيعة وحيدا ـ في مرحلة لاحقة ـ أو مع أي عائد إليها من ضيوفنا وزوارنا ..
لكنهم في نهاية الأمر ، اعتادوا على ذلك ، وصارت أخواتي يتندّرْن علي ويتوقعْن غيابي عن البيت بمجرد ظهور ملامح الاضطراب والقلق عليّ ، وأنا أتعجل لحظة مغادرة الضيف بيتنا قبل عودة أبي من العمل ، لأن ذلك سيكون أسهل في إقناع أمي ، أو في التملص منها ..
***
ولعلي أذكر جيدا أن الضيعة كانت بسيطة جدا ، صغيرة جدا، فقيرة جدا، هادئة جدا ، حميمية جدا ، متواضعة جدا ، فإذا فرح أحد يفرح أناسها كلهم معه ، وتدق الطبول وتضرب العيارات النارية ، ويرقصون الدبكة والديلانة ، ويحمل الطعام فوق الرؤوس بالصواني والأطباق ليأكل جميع الحاضرين من طعام أهل الفرح ، وإذا دخل الحزن بيتا ، تحزن الضيعة وأناسها ، ويداري البعض ـ باستحياء وخجل ـ فرحة بسيطة طارئة هنا أوهناك احتراما وتقديرا للمشاعر الحزينة السائدة وراء خوخات الأبواب ومداخن الأثافي وتنانير الضيعة وشوارعها وبيوتها الساكنة وأزقتها الموحلة التي لا يستطيع البط عبورها ॥ ويُمضي الناس أمسياتهم مع كوب من الشاي ، يُقدم إلى الضيف على صينية من الألمنيوم الرقيق المسودّ ، فينتشله من خضم المُوح ـ الذي يملأ الصينية ـ سعيدا به ، مستأنسا بحكاية المجند عن بطولة خرافية أدّاها لنيل الإجازة ، وكيف استطاع إيجاد مكان له على سطح الهوب هوب من دمشق إلى حلب ....
" كل شيء في الضيعة كان قليلا ونادرا إلا الفقر والحرمان فقد كانا معششين في البيوت والأشجار والحقول والزرائب "
كل شيء كان قليلا ونادرا إلا الطين شتاء، والغبار صيفا والريح التي تصفر كيوم يبعث في الصُّور ... إنها مفتقرة لكل مقومات الحياة ، حتى بمعايير تلك المرحلة الزمنية ، فهي بلا هواء نقي ولا ماء نقي (إلا في جب الدولة) ، بلا كهرباء، ولا طرق ولا شوارع إسفلتية (إلا الكروزة) ، ولا أرصفة ولا مجار ولا هواتف ولا تلفزيون (حَسْبًُ بعضهم راديو ترانزيستور صغير) ولا مخفر ولا أفران ولا مستوصف ولا مدرسة إعدادية ولا منازل صحية ولا عيادات ولا صيدلية ولا محلات مناسبة ولا ولا ولا ولا ولا ولا ..........
· لذلك غادرها عدد لا بأس به من مواطنيها ، ممن رأوا في المدن القريبة والبعيدة بابا للرزق ، وعالما آخر ، رحبا ، متنوعا .. فسعوا لكسب رزقهم هناك ، كلٌّ لما خُلق له ، حتى صارت المدينة ملاذا للكثيرين الذين يبحثون عن قوتهم اليومي ، في ظروف معيشية غاية في القسوة من كل النواحي ...
يتبع ....
يوسف رشيد
24/1/2010
لذلك كان طموحي وهدفي وغايتي ومناي وأملي ورجائي أن أفِرّ إلى الضيعة ، كلما سنحت لي الفرصة ، في كل الفصول وفي كل الأوقات وفي كل الظروف وفي كل المناسبات ..
وبقيت الضيعة في مخيلتي ملاذا هادئا وأمينا ومحببا وآسرا ، يهون أمامه كل شيء ..
فإذا ذهبتُ في الشتاء أستعيرُ من ابن عمتي جزمتة طويلة الساق ، كي أخبّ في أخاديد الماء والوحل الناتجة عن عجلات التراكتورات ، وفي الصيف أستأنس بالنوم على البيدر مع أبناء عمتي ، وأنتظر موسم ( بسبسة الكشك وتقطيعه ) بفارغ الصبر ، وكثيرا ما كنت أعود إلى حلب مريضا بسبب التلبك المعوي الناتج عن تناولي كمية كبيرة من الكشك الذي أحبه بكل حالاته ومراحله .. كما كان الخروج باكرا إلى حقول (الصيفي ) أمرا خرافيا محببا لي ، أعدّ له من المساء وأرجوهم أن يوقظوني ، فأركب الحمار خلف أحدهم ونمضي ( بأسرع مما هي عليه طائرات اليوم ) ونحن نحاول أن نسبق ظلنا إذا كان أمامنا ، ومع ذلك كنت فاشلا جدا في العثور على ما يمكن أن أحوشه من خطوط الصيفي ، عجورا كان أو قتة أو فضالا ...
وفي الربيع لا بد من مشوار متواضع إلى القريعة مع كعك التنور والبيض المسلوق المكمّد بالكمون المجروش ، بالإضافة إلى ورق البصل الأخضر .. وحين كنت أنتبه لنفسي أجد الطين الأحمر قد وصل لنصف ظهري ، فيما لم تسلم منه بقية أجزاء ملابسي ، رغم حرصي الشديد على تجنب ذلك ، لكن أين المفر؟؟!! ولأنه ليس معي ملابس احتياطية لتبديل ما تلطخ بالطين منها ، كانوا كل يوم يغسلون ملابسي وينشفونها قرب نار الأثفية ، فآوي إلى الفراش قربها مستمتعا بدفئها وشكل لهيبها ، فيما يتعكنن سقف البيت الطيني بالدخان ، وينطلق السعال من هنا وهناك ، فأتلقى عتابا من أقراني ، بأنه لو حافظت على نظافة ثيابي لما كنا مجبرين على تحمل هذا الغَبّ من الدخان ...
***
كل ذلك كوم ، وإذا زارَنا من الضيعة أحدُ الأقارب ، كومٌ آخر.. عندها لا بد من أن أتحايل على أمي ـ رحمها الله ـ كي تسمح لي بالذهاب إليها معه .. وكانت ترفض أن تتحمل مسؤولية الموافقة ، ولا سيما أيام الدوام المدرسي ، أما إذا كان أبي في البيت ، فالأمر شبه مستحيل ، لكني أبكي بحرقة وأجهش أمام أمي ـ وأنا صغيرها المدلل ـ فيرق قلبها وتتدخل لدى والدي ، وتهوّن عليه الأمر بأنني لن أغيب عن المدرسة ، وأنها ستدثرني بكثير من الملابس ـ إذا كنا في الشتاء ـ وتطلب مني أمامه محذرةً ، أن لا أخبّ في الوحل وأن لا أتعرض للبرد كي لا أعود إليهم مريضا ككل مرة ... وهكذا حتى أنال الموافقة بعد جهد جهيد .. فإذا نلتها كان ذلك عيد الأعياد ، فأمضي للاستعداد بعين قوية وسط حسد أخواتي لي ، وأنا أجهز نفسي بسرعة البرق ، وانطلق متغندرا لا تسعني الأرض كلها فرحا وغبطة ، فأنا ذاهب إلى الضيعة وكفى ....
وإذا ما فشل مسعى أمي ، أغافل أبي أو أتصيد لحظة ما ، أو أتذرع بأمر ما ، فأتوارى عن أنظارهم خارج البيت ، حتى إذا شاهدت الضيف مغادرا ، أركض وراءه زاعما أن أهلي وافقوا على ذهابي معه ، غير مكترث بالغياب عن المدرسة أو بتأنيب أمي أو بعقوبة أبي ..
وفي ذلك الوقت ، كان الخارج من بيته يعد مفقودا حتى يثبت العكس أويعود إليه.. فلا هواتف ولا موبايلات ولا هم يحزنون.. لذلك كثيرا ما كنت أسبب القلق الشديد لأهلي بهروبي إلى الضيعة وحيدا ـ في مرحلة لاحقة ـ أو مع أي عائد إليها من ضيوفنا وزوارنا ..
لكنهم في نهاية الأمر ، اعتادوا على ذلك ، وصارت أخواتي يتندّرْن علي ويتوقعْن غيابي عن البيت بمجرد ظهور ملامح الاضطراب والقلق عليّ ، وأنا أتعجل لحظة مغادرة الضيف بيتنا قبل عودة أبي من العمل ، لأن ذلك سيكون أسهل في إقناع أمي ، أو في التملص منها ..
***
ولعلي أذكر جيدا أن الضيعة كانت بسيطة جدا ، صغيرة جدا، فقيرة جدا، هادئة جدا ، حميمية جدا ، متواضعة جدا ، فإذا فرح أحد يفرح أناسها كلهم معه ، وتدق الطبول وتضرب العيارات النارية ، ويرقصون الدبكة والديلانة ، ويحمل الطعام فوق الرؤوس بالصواني والأطباق ليأكل جميع الحاضرين من طعام أهل الفرح ، وإذا دخل الحزن بيتا ، تحزن الضيعة وأناسها ، ويداري البعض ـ باستحياء وخجل ـ فرحة بسيطة طارئة هنا أوهناك احتراما وتقديرا للمشاعر الحزينة السائدة وراء خوخات الأبواب ومداخن الأثافي وتنانير الضيعة وشوارعها وبيوتها الساكنة وأزقتها الموحلة التي لا يستطيع البط عبورها ॥ ويُمضي الناس أمسياتهم مع كوب من الشاي ، يُقدم إلى الضيف على صينية من الألمنيوم الرقيق المسودّ ، فينتشله من خضم المُوح ـ الذي يملأ الصينية ـ سعيدا به ، مستأنسا بحكاية المجند عن بطولة خرافية أدّاها لنيل الإجازة ، وكيف استطاع إيجاد مكان له على سطح الهوب هوب من دمشق إلى حلب ....
" كل شيء في الضيعة كان قليلا ونادرا إلا الفقر والحرمان فقد كانا معششين في البيوت والأشجار والحقول والزرائب "
كل شيء كان قليلا ونادرا إلا الطين شتاء، والغبار صيفا والريح التي تصفر كيوم يبعث في الصُّور ... إنها مفتقرة لكل مقومات الحياة ، حتى بمعايير تلك المرحلة الزمنية ، فهي بلا هواء نقي ولا ماء نقي (إلا في جب الدولة) ، بلا كهرباء، ولا طرق ولا شوارع إسفلتية (إلا الكروزة) ، ولا أرصفة ولا مجار ولا هواتف ولا تلفزيون (حَسْبًُ بعضهم راديو ترانزيستور صغير) ولا مخفر ولا أفران ولا مستوصف ولا مدرسة إعدادية ولا منازل صحية ولا عيادات ولا صيدلية ولا محلات مناسبة ولا ولا ولا ولا ولا ولا ..........
· لذلك غادرها عدد لا بأس به من مواطنيها ، ممن رأوا في المدن القريبة والبعيدة بابا للرزق ، وعالما آخر ، رحبا ، متنوعا .. فسعوا لكسب رزقهم هناك ، كلٌّ لما خُلق له ، حتى صارت المدينة ملاذا للكثيرين الذين يبحثون عن قوتهم اليومي ، في ظروف معيشية غاية في القسوة من كل النواحي ...
يتبع ....
يوسف رشيد
24/1/2010
نبليات 2
نبّليّات2
التراب .. التراب
لطالما كنت أتساءل عن السبب الحقيقي الذي يدفع كثيرا من الناس ليذكروا في وصيتهم بندا خاصا مفاده ، أن الموصي يرغب ـ وبكل تأكيد ـ أن يوارى الثرى في تربة بلدته أو قريته أومدينته ....إلخ
***
قبل سنوات كنت برفقة صديق عزيز ، نتأمل دمشق ليلا من أعلى قاسيون ،وهي تتلألأ كصفحة ماء رقراق تداعبها أشعة شمس ربيعية ، حتى ليزوغ البصرمن لألائها الأخاذ ..
وفي لحظة شعورية مفعمة بنشيج خافت ، سألت الله أن لا ينقضي أجلي بعيدا عن هذا الثرى ، وطلبت من صديقي أن يُحمَل جثماني في طائرة هليوكبتر ويطاف بي في سماء الوطن قبل المواراة .. واعتبرت ذلك وصيتي الوحيدة له ، على أن يعمل جاهدا لتحقيقها قدر المستطاع ..
***
وبعد فترة قصيرة صدر مرسوم رئاسي اعتبرته من أهم المراسيم التي صدرت في سورية في مطلع الألفية الثالثة ،
مرسوم يلزم شركة الطيران العربية السورية بنقل رفات المواطنين السوريين الذين يتوفون خارج البلاد ، مجانا إلى أرض الوطن ..
ولقد سررنا كثيرا بصدورهذا المرسوم ، لما فيه من لفتة إنسانية رائعة ، تستهدف تكريم عطاء الإنسان الذي يوافيه الأجل خلال عمله في أرض الاغتراب على اتساعها ... لاسيما أن كثيرا من العاملين في المغترب ، لا يكون حالهم أفضل من حال مواطنيهم ، إضافة إلى أن تكاليف نقل الجثمان باهظة ، ولا يقوى كثير من المغتربين على تحملها ...
من هنا تأتي أهمية صدور مثل هذا المرسوم ..
وكنت أنقل الخبر بفرح ظاهر لصديقي الأستاذ عدنان ونحن نتسامر على شاطىء البحيرة في الشارقة ، فلم يكترث للأمر كثيرا ولم تأخذه الفرحة التي انتابتني ، وكنت أظن أن هذا المرسوم سيثلج صدر جميع المغتربين وذويهم ، إلا أن الأستاذ عدنان لم يقلل من أهميته ، ولو أنه يرى عدم ضرورة نقل المتوفى من بلد الاغتراب ليدفن في موطنه ..
وهو شخصيا ـ كما قال ـ لا يرى مانعا من أن يوارى الثرى في المكان الذي يوافيه الأجل المحتوم فيه !!!
تأملته مليا ، فيما كثير من الهواجس والأفكار بدأت تتناوشني ..
فسألته : ما مقتضى الأمانة يا صديقي ؟
قال : أن يحافظ المؤتـَمن على الأمانة حتى يردها إلى صاحبها بالتمام والكمال ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الوفاء ؟
قال : المحافظة على العهد ، وتجنب التفريط بحقوق من له حق عليك ، وعدم الغدر ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى المروءة ؟
قال : الإيثار، والإقدام ، وإغاثة الملهوف ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الكرم ؟
قال صديقي : غاية الكرم أن يجود الإنسان بروحه في سبيل وطنه ..
قلت : ما قولك في قول أبي تمام :
كم منزلٍ في الأرض يألفـُه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
قال : هذا من طبيعة الجِبِلّة الإنسانية ..
قلت : أليس من الأمانة والوفاء والمروءة والكرم والجِبِلـّة أن يعود التراب إلى الأرض التي جُبل وتشكل منها ؟؟؟
كدت أروي له وصيتي التي أودعتها في عهدة صديقي قبل سنوات ، لكني آثرت الصمت لأنه الأبلغ في هكذا مقام ......والسلالالالالالالام
يوسف رشيد
التراب .. التراب
لطالما كنت أتساءل عن السبب الحقيقي الذي يدفع كثيرا من الناس ليذكروا في وصيتهم بندا خاصا مفاده ، أن الموصي يرغب ـ وبكل تأكيد ـ أن يوارى الثرى في تربة بلدته أو قريته أومدينته ....إلخ
***
قبل سنوات كنت برفقة صديق عزيز ، نتأمل دمشق ليلا من أعلى قاسيون ،وهي تتلألأ كصفحة ماء رقراق تداعبها أشعة شمس ربيعية ، حتى ليزوغ البصرمن لألائها الأخاذ ..
وفي لحظة شعورية مفعمة بنشيج خافت ، سألت الله أن لا ينقضي أجلي بعيدا عن هذا الثرى ، وطلبت من صديقي أن يُحمَل جثماني في طائرة هليوكبتر ويطاف بي في سماء الوطن قبل المواراة .. واعتبرت ذلك وصيتي الوحيدة له ، على أن يعمل جاهدا لتحقيقها قدر المستطاع ..
***
وبعد فترة قصيرة صدر مرسوم رئاسي اعتبرته من أهم المراسيم التي صدرت في سورية في مطلع الألفية الثالثة ،
مرسوم يلزم شركة الطيران العربية السورية بنقل رفات المواطنين السوريين الذين يتوفون خارج البلاد ، مجانا إلى أرض الوطن ..
ولقد سررنا كثيرا بصدورهذا المرسوم ، لما فيه من لفتة إنسانية رائعة ، تستهدف تكريم عطاء الإنسان الذي يوافيه الأجل خلال عمله في أرض الاغتراب على اتساعها ... لاسيما أن كثيرا من العاملين في المغترب ، لا يكون حالهم أفضل من حال مواطنيهم ، إضافة إلى أن تكاليف نقل الجثمان باهظة ، ولا يقوى كثير من المغتربين على تحملها ...
من هنا تأتي أهمية صدور مثل هذا المرسوم ..
وكنت أنقل الخبر بفرح ظاهر لصديقي الأستاذ عدنان ونحن نتسامر على شاطىء البحيرة في الشارقة ، فلم يكترث للأمر كثيرا ولم تأخذه الفرحة التي انتابتني ، وكنت أظن أن هذا المرسوم سيثلج صدر جميع المغتربين وذويهم ، إلا أن الأستاذ عدنان لم يقلل من أهميته ، ولو أنه يرى عدم ضرورة نقل المتوفى من بلد الاغتراب ليدفن في موطنه ..
وهو شخصيا ـ كما قال ـ لا يرى مانعا من أن يوارى الثرى في المكان الذي يوافيه الأجل المحتوم فيه !!!
تأملته مليا ، فيما كثير من الهواجس والأفكار بدأت تتناوشني ..
فسألته : ما مقتضى الأمانة يا صديقي ؟
قال : أن يحافظ المؤتـَمن على الأمانة حتى يردها إلى صاحبها بالتمام والكمال ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الوفاء ؟
قال : المحافظة على العهد ، وتجنب التفريط بحقوق من له حق عليك ، وعدم الغدر ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى المروءة ؟
قال : الإيثار، والإقدام ، وإغاثة الملهوف ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الكرم ؟
قال صديقي : غاية الكرم أن يجود الإنسان بروحه في سبيل وطنه ..
قلت : ما قولك في قول أبي تمام :
كم منزلٍ في الأرض يألفـُه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
قال : هذا من طبيعة الجِبِلّة الإنسانية ..
قلت : أليس من الأمانة والوفاء والمروءة والكرم والجِبِلـّة أن يعود التراب إلى الأرض التي جُبل وتشكل منها ؟؟؟
كدت أروي له وصيتي التي أودعتها في عهدة صديقي قبل سنوات ، لكني آثرت الصمت لأنه الأبلغ في هكذا مقام ......والسلالالالالالالام
يوسف رشيد
نبليات 1
كثيرة هي المفردات التي دخلت في المخزون الفكري العام للناس ، وصار لها دلالات محببة وخاصة وأثيرة إلى القلوب ، حتى اشـُتهرت هذه المفردات ، وصارت لصيقة بحياتنا اليومية ، نسمعها أو نرددها فيكون لها وقع معين ، لا نعرفه بمقدار ما نحسه 0
قبل سنوات ، لفتت انتباهي يافطة كبيرة في مدينة أبو ظبي ، مكتوبة بخط فني جميل : ( مطعم الشاميات ) .. وكنا ـ أنا وصديق من مصر ـ نتمشى قريبا منه ، فسألني مازحا :
ما المقصود بهذا الاسم ؟ أهو حقا للشاميات فقط ؟ ألا يستقبل المصريات مثلا؟
وقد راجت كلمات كثيرة على هذا المنوال ، منها على سبيل المثال :
فيروزيات ، رحبانيات ، وتريات ، شاميات ، حلبيات ، أدبيات ، بيوتات ، فضاءات ...
وهذا الاستخدام ليس المقصود منه جمع المؤنث السالم لكل مفردة ، إنما صارت هذه المفردات وما شابهها ، مصطلحات لها دلالات معينة لا تمتّ أبدا لفكرة جمع المؤنث السالم ولا غير السالم 0
وعليه ، فلماذا لا يكون لنا ( نبلياتنا ) الخاصة أيضا ؟؟؟
ألا تحمل هذه المفردة مكنونا عاطفيا ومشاعر حميمية في غفلة هادئة من اللحظات الأثيرة؟
ألا تحرك فينا هذه المفردة ( نغمشات ) دافئة ، فيها كثير من العذوبة والحنين الآسر ، ربما إلى ماض بعيد أوقريب ، وربما إلى سهول من الوعي الجماعي لكل منا ؟؟
أليس من حق أزقتها وشوارعها وبيوتها ومآذنها وبقايا القباب فيها ، أن نمحضها حبنا الخالص لنسمو بها ، وتنتعش بنا ؟؟
فلو تساءلنا :
ما الموقع الذي تحتله ( ضيعتنا ) في داخلنا ؟
وما هي المكانة التي نكنها لها في ضميرنا وعقولنا وقلوبنا ؟
ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بيننا وبينها ؟
متى نعيش فيها ، ومتى تعيش فينا ؟
متى نسكن فيها ، ومتى تسكن فينا ؟
متى نحبها ولماذا وكيف ؟
لوجدنا آلافا من الإجابات المتوافقة والمتشابهة والمتناقضة ، وكلها ربما تتفق على نتيجة حتمية لدى الجميع وبلا استثناء :
إنها البيت الدافئ ، والسكن المريح ، والملاذ الآمن ، والصحبة الصادقة ، والحنين الذي لا يهدأ ، والمَعين الذي لا ينضب ، والشوق الذي لا يبرد ....
إنها إشراقة ولا أبهى ، إغفاءة ولا أحلى ، ترنيمة من ابتهالات السماء ، تنويعات من موسيقا الروح ...
إنها الحبل السري الذي ما زلنا نتعلق فيه بملء الإرادة والوعي ..
إنها التواصل والتجدد ، إنها الامتداد في الزمن ماضيا وحاضرا ،
إنها أفق التاريخ والجغرافيا وكيمياء الطبيعة..
إنها الحب والحبيب ، إنها بوابة الشوق الأبدي ، إنها البدء ، إنها الغاية ، إنها الشهوة والمشتهى ، إنها المصير والمآل ، إنها الحَكم والحاكم والحكيم والحكمة..
إنها إغفاءة الأبد ، وصحوة المجد ، ومهد الريح ، وغندرة الأصائل ، وصهيل أفراس المحبة..
لالالالالالالالا .......
بل إنها كل ذلك ، لكن كل ذلك أقل منها بكثير جدا جدا ...
إلى اللقاء
يوسف رشيد
قبل سنوات ، لفتت انتباهي يافطة كبيرة في مدينة أبو ظبي ، مكتوبة بخط فني جميل : ( مطعم الشاميات ) .. وكنا ـ أنا وصديق من مصر ـ نتمشى قريبا منه ، فسألني مازحا :
ما المقصود بهذا الاسم ؟ أهو حقا للشاميات فقط ؟ ألا يستقبل المصريات مثلا؟
وقد راجت كلمات كثيرة على هذا المنوال ، منها على سبيل المثال :
فيروزيات ، رحبانيات ، وتريات ، شاميات ، حلبيات ، أدبيات ، بيوتات ، فضاءات ...
وهذا الاستخدام ليس المقصود منه جمع المؤنث السالم لكل مفردة ، إنما صارت هذه المفردات وما شابهها ، مصطلحات لها دلالات معينة لا تمتّ أبدا لفكرة جمع المؤنث السالم ولا غير السالم 0
وعليه ، فلماذا لا يكون لنا ( نبلياتنا ) الخاصة أيضا ؟؟؟
ألا تحمل هذه المفردة مكنونا عاطفيا ومشاعر حميمية في غفلة هادئة من اللحظات الأثيرة؟
ألا تحرك فينا هذه المفردة ( نغمشات ) دافئة ، فيها كثير من العذوبة والحنين الآسر ، ربما إلى ماض بعيد أوقريب ، وربما إلى سهول من الوعي الجماعي لكل منا ؟؟
أليس من حق أزقتها وشوارعها وبيوتها ومآذنها وبقايا القباب فيها ، أن نمحضها حبنا الخالص لنسمو بها ، وتنتعش بنا ؟؟
فلو تساءلنا :
ما الموقع الذي تحتله ( ضيعتنا ) في داخلنا ؟
وما هي المكانة التي نكنها لها في ضميرنا وعقولنا وقلوبنا ؟
ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بيننا وبينها ؟
متى نعيش فيها ، ومتى تعيش فينا ؟
متى نسكن فيها ، ومتى تسكن فينا ؟
متى نحبها ولماذا وكيف ؟
لوجدنا آلافا من الإجابات المتوافقة والمتشابهة والمتناقضة ، وكلها ربما تتفق على نتيجة حتمية لدى الجميع وبلا استثناء :
إنها البيت الدافئ ، والسكن المريح ، والملاذ الآمن ، والصحبة الصادقة ، والحنين الذي لا يهدأ ، والمَعين الذي لا ينضب ، والشوق الذي لا يبرد ....
إنها إشراقة ولا أبهى ، إغفاءة ولا أحلى ، ترنيمة من ابتهالات السماء ، تنويعات من موسيقا الروح ...
إنها الحبل السري الذي ما زلنا نتعلق فيه بملء الإرادة والوعي ..
إنها التواصل والتجدد ، إنها الامتداد في الزمن ماضيا وحاضرا ،
إنها أفق التاريخ والجغرافيا وكيمياء الطبيعة..
إنها الحب والحبيب ، إنها بوابة الشوق الأبدي ، إنها البدء ، إنها الغاية ، إنها الشهوة والمشتهى ، إنها المصير والمآل ، إنها الحَكم والحاكم والحكيم والحكمة..
إنها إغفاءة الأبد ، وصحوة المجد ، ومهد الريح ، وغندرة الأصائل ، وصهيل أفراس المحبة..
لالالالالالالالا .......
بل إنها كل ذلك ، لكن كل ذلك أقل منها بكثير جدا جدا ...
إلى اللقاء
يوسف رشيد
ابنة الآغا - قصة قصيرة
أطبق شفتيه على سيكارة ، وانطلق يشق طريقه بين طالباته اللواتي رحْنَ يتسابقْنَ للوقوف في طريقه ، فتسأله هذه عن نقطة لم تفهمْها في الدرس ، وتسأله تلك عن مَرَاجِع الوظيفة الشهرية ، وثالثة عن اللون الذي يفضله ..
لقد ألِفَ منهنّ مثلَ هذه الأسئلة المفتعلة .. ولم تعد ْ خافية عليه..
((إنه في وادٍ آخرَ ، بعيدٍ عما حوله .. يجول في أفكاره أقطاب الأرض ..))
توجّه إلى غرفة المديرة .. راجَعَها في موضوع عابر.. وارتشف فنجان قهوة ، بينما كانت تثرثر إليه بكلمات تعيد معظَمَها للمرة الخامسة ، وفي رأسه أشياء يعتبرها أعظم بكثير مما تحدّثه به ((راضية خانم))..
فُتِحَ باب الغرفة عن إحدى المدرّسات ، خَطَتْ باتجاه الداخل .. اصطدمت بوجود ((ذَكرٍ)) داخل الغرفة .. ارتدّتْ مذعورة كهاربة من لفحِ نارٍ .. وصفعت الباب وراءها ..
قهقها معا داخل الغرفة .. ورفعتْ المديرة يديْها إلى شعرها تضغط عليه برفق ، وهي تقول : إنها مدرّسة العلوم الطبيعية .. ثم أضافت متسائلة : كيف قضت سنيّ حياتها الدراسية في الجامعة ؟؟!!..
لم يجبْها بشيء ..كانت عيناها ما تزالان تضغطان على جسده من كل أطرافه .. ها هما أمامه .. المديرة كلها تصبح عيونا تحملق فيه ..الطاولة كذلك .. والجدران .. والمقاعد .. كل ما حوله عيون ترمقه بنظرات تحمل معانيَ تاه في تفسيرها ..
وحينما وصلت نار السيكارة إلى أصابعه ، انتفض بقوةِ جملٍ ذُبِحَ لتوّه .. فدوّت في الغرفة قهقهة ((راضية خانم)) بينما افتّرتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة ، ولعناتٍ متكررةٍ متلاحقة ، فيما عقب السيكارة يموت سَحقا تحت قدمه ..
تمنّى ـ في سرّه ـ لو استطاع سحق تينك العينين ..
إنهما تؤرقانه ، وتزرعان في صدره الحقد الذي يذكّره ((بابنة الآغا))..
فرح لرنين الجرس ، إنه يخلصه من السجن المنفرد مع المديرة ، لكن ، لا ليذهبَ إلى الفضاء الرّحب الذي يفضله ، إنما إلى سجن آخر يضمه مع ثلاثٍ وأربعين طالبة ، لهن ست وثمانون عينا ..
لكن ثمة عينين اثنتين تكفيانه عن عشرة أمثال العدد الكلي ..
(( لقد كره عيني ابنة الآغا حينما كانت تنظر حولها ، فتزرع الرعبَ والرهبة في القلوب الطيبة الوادعة .. إنها تشمئز من رؤيتها لأقل مظهر من مظاهر بؤس هؤلاء الفلاحين المنزرعين أشجارا ، حسبهم عطاء الثمار ..))
(( كانت ـ آنذاك ـ تسخر منه بمرارة ، لا يشفع لها قولها : إنه وردة من شوكة .. معلقةً بذلك على حسن قراءته ، ونباهته .. ))
(( كانت توليه شيئا من اهتمامها ، وتتحيّن الفرص لتتحدّث إليه بتعالٍ ظاهرٍ .. إنه الفلاح ابن الفلاح الذي يملكه أبوها ، ملكه للثيران والأغنام التي تغصّ بها اسطبلاتهم وزرائبهم .. ))
(( لطالما كانت تثير في نفسه القرفَ والاشمئزازَ اللذيْن لا يقلاّن عن رؤية جرذٍ في فم قطٍّ شرس..))
(( في نفس الوقت ، كان ثمة شيءٌ ما يشده إليها ، حاول أن يكتشفه مرارا ، لكنه استعصى عليه ..كانت الأشعة من بريق عينيها ، تخترق رأسه ، وصدره ، وتنطلقان عبر السهول الخضر التي يملكها أبوها ..))
(( كان ـ في نظرها ـ ثوبا ترتديه وتنزعه متى تشاء ..))
***
أومأ لهنّ بالجلوس ، وتوجّه إلى السبورة ، خطّ عليها عنوان الدرس الجديد ، وانطلق لسانه ثورا هائجا في فمه .. تهدر الكلمات دون تلكؤ ، متحاشيا النظر إلى المقعد الثالث عن يمينه ..
إلا أن ذلك لم يكن ليعطيَه أمانا كافيا ..إنه عبد لهاتين العينين اللتين كره نظرتهما ، وكره النظر إليهما .. إنه يخمّن أنها تنظر إليه هكذا ، بشكل مقصود ، وكأنها تعرف أن في ذلك غيظا له ، فبَدَتْ لناظريه متمادية متعنتة ..
إنّ في وجهها استدارةً جذّابةً .. وشعرها حالك حلكة ليل قريته .. في جبينها اتساع نتناسق .. وعلى خدّيْها حمرةٌ باهتةٌ ..
عند إحدى نقاط الدرس ، توقف ، فألقى سؤالا ، وتحركتْ قدماه بين المقاعد .. إنه راغب في رؤية لون عينيها عن قربٍ ، لعل نظرتهما تختلف بقرب المسافة ..
انشدَّ إلى محاذاة مقعدها ، التفتَ إليها ، ومدّ اصبعه ـ كأنه يتهمها بجريمة لا علم لها بها ـ طالبا إليها الإجابة على سؤاله ..
نهضتْ واقفةً بأدبٍ جمٍّ .. أطرقتْ قليلا .. اهتاج في داخله .. لقد سألها لتنظر إليه لا لتخبّئ عينيها في صدرها .. ودَّ لو يمدُّ يده إلى وجهها ، يرفعه للأعلى قليلا كي يحملق مليا في عينيها .. يبحر .. يكتشف ذلك السر اللعين الكامن وراء نظراتها الشبيهة بنظرات ابنة الآغا ..
استند إلى المقعد ، وعيناه تتفحصان النصف البارز من خلفه .. ينتظر ارتفاع وجهها عن صدرها .. (( كأنه عاشق ستحييه نظرة من عينيْ فتاته ..))
شفتاها تتحركان بهدوء ، وهو يتعجل سرعة لقاء عينيها بعينيه ..
وحينما التقت نظراتهما ، طاف عقله في رحلة بحثٍ شاقةٍ عن السرّ الذي أجْهَدَهُ ، وأحرقَ وافرًا من أعصابه ..
لم يعِ إجابتها .. رأسه يهتزّ تلقائيا ، موحيا بموافقته على ما تقول .. نسي أنه في صفّ أنثوي ، وهؤلاء لهنّ ميزة الانتباه إلى الشاردة والواردة أمامهن ..
طالتْ وقفته قليلا .. أدرك ما يمكن أن يثيرَه ذلك من تهامس بينهن .. فتدارك بسؤال آخر ، ولم تلتفتْ عنه .. عيناها في عينيه ، وشفتاها تتسابقان في تصدير الكلام ، وأذناه في منأى عما تقول ..
سكتَتْ .. فجاء صوت من الخلف .. التفتَ إلى صاحبته مكرها ، وأنصتَ إليها ..
ثم أذِنَ لثالثة بالكلام .. وعاد إلى السبورة ، خطَّ عليها سطرين ، فتعالت الأصوات تستنكر ما كتب ، ضمن غوغائية ضاحكة ، ضجَّ الصف بها ..
التفت إليهن .. استغرب الضجيج .. هزّ رأسه بإيحائية خاصة ، وخطاه تتجه نحو مؤخرة الصف .. أعاد قراءة ما كتب .. لم يكن فيها ما يستوجب إثارة الضجيج ، فطلب إليها تفسير سبب هذه الغوغائية ، وقد أجهَدَ نفسه في تفهّم ما ستقوله ..
قالت : إن ما كتَبْتَه مناقض كليا لما أجبنا رغم صواب الإجابة ..
في نفسه غمغم : بأي شيءٍ أجَبْنَ ؟؟
لم يستحسن فكرة مطالبتهن بإعادة الإجابة .. سينعكس ذلك فكرة سيئة .. فكان لا بد من الصمت ..
إن خيبة الأمل التي لاقاها ، أفقدتْه كثيرا من توازنه .. لقد افتقد الصور التي تمنّى رؤيتها في عينيها ، افتقد سهولَ القرية ، وأبيات َ الطين ، والأزقةَ الضيقة الموحلة ، وشجرةَ الزيتون اليتيمة ، وبابَ دارهم القصبي الأصفر ، وقصرَ الآغا ، وابنته في الشرفة ترسل نظراتها شواظا لاهبة ..
أعادت الطالبة ما تحدّثتْ عنه ، وكأنها أدركت موقع أستاذها الحرج ، عندها قال بفرح :
إن الذي تقولين ، هو موضوع الفقرة التالية .. وطلب إليها أن تكتب ذلك على السبورة ..
(( إن ثمة شبها كبيرا بين شكلها من الخلف ، وشكل ابنة الآغا .. لاسيما أن طوليهما متقارب ، إن لم يكن متساويا ..))
(( كانت ابنة الآغا ، تناديه ليقرأ عليها فصولا من قصص زاخرة بالقصور والفخامات ، ومظاهر الأبهة.. وكانت تمشي جيئة وذهابا ضمن مسافة قصيرة تسمح لها بسماع صوت قراءته , وكان يسترق النظر إلى ظهرها .. لكن سرعان ما كانت نظراتها تعود إليه رماحا تتغلغل في أجزائه .. فيهرب ـ كارها ـ بين السطور ، تمقته تعليقاتها .. فكانت تقول :
حقير ، كيف تسمح له أخلاقيته للتزوج من فلاحة خادمة لديه ؟؟!!
وفي موضع آخر تقول :
حقا إنهم يستأهلون القتل أولئك الفلاحين المتمردين !!..
وفي موضع ثالث تردد بعصبية :
أمر عجيب ، يطالبون بالأرزاق وكأنهم أسياد الأرض لا عبيد لها !! ..
لقد ألِفَ منهنّ مثلَ هذه الأسئلة المفتعلة .. ولم تعد ْ خافية عليه..
((إنه في وادٍ آخرَ ، بعيدٍ عما حوله .. يجول في أفكاره أقطاب الأرض ..))
توجّه إلى غرفة المديرة .. راجَعَها في موضوع عابر.. وارتشف فنجان قهوة ، بينما كانت تثرثر إليه بكلمات تعيد معظَمَها للمرة الخامسة ، وفي رأسه أشياء يعتبرها أعظم بكثير مما تحدّثه به ((راضية خانم))..
فُتِحَ باب الغرفة عن إحدى المدرّسات ، خَطَتْ باتجاه الداخل .. اصطدمت بوجود ((ذَكرٍ)) داخل الغرفة .. ارتدّتْ مذعورة كهاربة من لفحِ نارٍ .. وصفعت الباب وراءها ..
قهقها معا داخل الغرفة .. ورفعتْ المديرة يديْها إلى شعرها تضغط عليه برفق ، وهي تقول : إنها مدرّسة العلوم الطبيعية .. ثم أضافت متسائلة : كيف قضت سنيّ حياتها الدراسية في الجامعة ؟؟!!..
لم يجبْها بشيء ..كانت عيناها ما تزالان تضغطان على جسده من كل أطرافه .. ها هما أمامه .. المديرة كلها تصبح عيونا تحملق فيه ..الطاولة كذلك .. والجدران .. والمقاعد .. كل ما حوله عيون ترمقه بنظرات تحمل معانيَ تاه في تفسيرها ..
وحينما وصلت نار السيكارة إلى أصابعه ، انتفض بقوةِ جملٍ ذُبِحَ لتوّه .. فدوّت في الغرفة قهقهة ((راضية خانم)) بينما افتّرتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة ، ولعناتٍ متكررةٍ متلاحقة ، فيما عقب السيكارة يموت سَحقا تحت قدمه ..
تمنّى ـ في سرّه ـ لو استطاع سحق تينك العينين ..
إنهما تؤرقانه ، وتزرعان في صدره الحقد الذي يذكّره ((بابنة الآغا))..
فرح لرنين الجرس ، إنه يخلصه من السجن المنفرد مع المديرة ، لكن ، لا ليذهبَ إلى الفضاء الرّحب الذي يفضله ، إنما إلى سجن آخر يضمه مع ثلاثٍ وأربعين طالبة ، لهن ست وثمانون عينا ..
لكن ثمة عينين اثنتين تكفيانه عن عشرة أمثال العدد الكلي ..
(( لقد كره عيني ابنة الآغا حينما كانت تنظر حولها ، فتزرع الرعبَ والرهبة في القلوب الطيبة الوادعة .. إنها تشمئز من رؤيتها لأقل مظهر من مظاهر بؤس هؤلاء الفلاحين المنزرعين أشجارا ، حسبهم عطاء الثمار ..))
(( كانت ـ آنذاك ـ تسخر منه بمرارة ، لا يشفع لها قولها : إنه وردة من شوكة .. معلقةً بذلك على حسن قراءته ، ونباهته .. ))
(( كانت توليه شيئا من اهتمامها ، وتتحيّن الفرص لتتحدّث إليه بتعالٍ ظاهرٍ .. إنه الفلاح ابن الفلاح الذي يملكه أبوها ، ملكه للثيران والأغنام التي تغصّ بها اسطبلاتهم وزرائبهم .. ))
(( لطالما كانت تثير في نفسه القرفَ والاشمئزازَ اللذيْن لا يقلاّن عن رؤية جرذٍ في فم قطٍّ شرس..))
(( في نفس الوقت ، كان ثمة شيءٌ ما يشده إليها ، حاول أن يكتشفه مرارا ، لكنه استعصى عليه ..كانت الأشعة من بريق عينيها ، تخترق رأسه ، وصدره ، وتنطلقان عبر السهول الخضر التي يملكها أبوها ..))
(( كان ـ في نظرها ـ ثوبا ترتديه وتنزعه متى تشاء ..))
***
أومأ لهنّ بالجلوس ، وتوجّه إلى السبورة ، خطّ عليها عنوان الدرس الجديد ، وانطلق لسانه ثورا هائجا في فمه .. تهدر الكلمات دون تلكؤ ، متحاشيا النظر إلى المقعد الثالث عن يمينه ..
إلا أن ذلك لم يكن ليعطيَه أمانا كافيا ..إنه عبد لهاتين العينين اللتين كره نظرتهما ، وكره النظر إليهما .. إنه يخمّن أنها تنظر إليه هكذا ، بشكل مقصود ، وكأنها تعرف أن في ذلك غيظا له ، فبَدَتْ لناظريه متمادية متعنتة ..
إنّ في وجهها استدارةً جذّابةً .. وشعرها حالك حلكة ليل قريته .. في جبينها اتساع نتناسق .. وعلى خدّيْها حمرةٌ باهتةٌ ..
عند إحدى نقاط الدرس ، توقف ، فألقى سؤالا ، وتحركتْ قدماه بين المقاعد .. إنه راغب في رؤية لون عينيها عن قربٍ ، لعل نظرتهما تختلف بقرب المسافة ..
انشدَّ إلى محاذاة مقعدها ، التفتَ إليها ، ومدّ اصبعه ـ كأنه يتهمها بجريمة لا علم لها بها ـ طالبا إليها الإجابة على سؤاله ..
نهضتْ واقفةً بأدبٍ جمٍّ .. أطرقتْ قليلا .. اهتاج في داخله .. لقد سألها لتنظر إليه لا لتخبّئ عينيها في صدرها .. ودَّ لو يمدُّ يده إلى وجهها ، يرفعه للأعلى قليلا كي يحملق مليا في عينيها .. يبحر .. يكتشف ذلك السر اللعين الكامن وراء نظراتها الشبيهة بنظرات ابنة الآغا ..
استند إلى المقعد ، وعيناه تتفحصان النصف البارز من خلفه .. ينتظر ارتفاع وجهها عن صدرها .. (( كأنه عاشق ستحييه نظرة من عينيْ فتاته ..))
شفتاها تتحركان بهدوء ، وهو يتعجل سرعة لقاء عينيها بعينيه ..
وحينما التقت نظراتهما ، طاف عقله في رحلة بحثٍ شاقةٍ عن السرّ الذي أجْهَدَهُ ، وأحرقَ وافرًا من أعصابه ..
لم يعِ إجابتها .. رأسه يهتزّ تلقائيا ، موحيا بموافقته على ما تقول .. نسي أنه في صفّ أنثوي ، وهؤلاء لهنّ ميزة الانتباه إلى الشاردة والواردة أمامهن ..
طالتْ وقفته قليلا .. أدرك ما يمكن أن يثيرَه ذلك من تهامس بينهن .. فتدارك بسؤال آخر ، ولم تلتفتْ عنه .. عيناها في عينيه ، وشفتاها تتسابقان في تصدير الكلام ، وأذناه في منأى عما تقول ..
سكتَتْ .. فجاء صوت من الخلف .. التفتَ إلى صاحبته مكرها ، وأنصتَ إليها ..
ثم أذِنَ لثالثة بالكلام .. وعاد إلى السبورة ، خطَّ عليها سطرين ، فتعالت الأصوات تستنكر ما كتب ، ضمن غوغائية ضاحكة ، ضجَّ الصف بها ..
التفت إليهن .. استغرب الضجيج .. هزّ رأسه بإيحائية خاصة ، وخطاه تتجه نحو مؤخرة الصف .. أعاد قراءة ما كتب .. لم يكن فيها ما يستوجب إثارة الضجيج ، فطلب إليها تفسير سبب هذه الغوغائية ، وقد أجهَدَ نفسه في تفهّم ما ستقوله ..
قالت : إن ما كتَبْتَه مناقض كليا لما أجبنا رغم صواب الإجابة ..
في نفسه غمغم : بأي شيءٍ أجَبْنَ ؟؟
لم يستحسن فكرة مطالبتهن بإعادة الإجابة .. سينعكس ذلك فكرة سيئة .. فكان لا بد من الصمت ..
إن خيبة الأمل التي لاقاها ، أفقدتْه كثيرا من توازنه .. لقد افتقد الصور التي تمنّى رؤيتها في عينيها ، افتقد سهولَ القرية ، وأبيات َ الطين ، والأزقةَ الضيقة الموحلة ، وشجرةَ الزيتون اليتيمة ، وبابَ دارهم القصبي الأصفر ، وقصرَ الآغا ، وابنته في الشرفة ترسل نظراتها شواظا لاهبة ..
أعادت الطالبة ما تحدّثتْ عنه ، وكأنها أدركت موقع أستاذها الحرج ، عندها قال بفرح :
إن الذي تقولين ، هو موضوع الفقرة التالية .. وطلب إليها أن تكتب ذلك على السبورة ..
(( إن ثمة شبها كبيرا بين شكلها من الخلف ، وشكل ابنة الآغا .. لاسيما أن طوليهما متقارب ، إن لم يكن متساويا ..))
(( كانت ابنة الآغا ، تناديه ليقرأ عليها فصولا من قصص زاخرة بالقصور والفخامات ، ومظاهر الأبهة.. وكانت تمشي جيئة وذهابا ضمن مسافة قصيرة تسمح لها بسماع صوت قراءته , وكان يسترق النظر إلى ظهرها .. لكن سرعان ما كانت نظراتها تعود إليه رماحا تتغلغل في أجزائه .. فيهرب ـ كارها ـ بين السطور ، تمقته تعليقاتها .. فكانت تقول :
حقير ، كيف تسمح له أخلاقيته للتزوج من فلاحة خادمة لديه ؟؟!!
وفي موضع آخر تقول :
حقا إنهم يستأهلون القتل أولئك الفلاحين المتمردين !!..
وفي موضع ثالث تردد بعصبية :
أمر عجيب ، يطالبون بالأرزاق وكأنهم أسياد الأرض لا عبيد لها !! ..
***
صمم أن تعفيَه المديرة من الدخول إلى ذلك الصف .. فابتسمت له بمكر قائلة : هل حدث مكروه ؟؟
قال ينفي التهمة عن نفسه : لا شيء أبدا .. إلا أنني لا أشعر بارتياح في إلقائي الدروس ، بل ،إني متألم لعدم قدرتي على العطاء التام ، نتيجة لجوٍّ خاصٍّ أشعر به هناك ..
بينها وبين نفسها ، ظلت المديرة في شك من المسوِّغات التي أدلى بها المدرِّس .. ومع ذلك ، فقد اعتذرتْ له بلطفٍ عن عدم إمكانية تحقيق ذلك ، وانطلقت معه في حديث مثالي عن التفاني في الواجب ، وبلوغ رضا الضمير ..
لعنها في داخله ، وصفق الباب خلفه ، متوجها إلى صف آخر ..
صمم أن تعفيَه المديرة من الدخول إلى ذلك الصف .. فابتسمت له بمكر قائلة : هل حدث مكروه ؟؟
قال ينفي التهمة عن نفسه : لا شيء أبدا .. إلا أنني لا أشعر بارتياح في إلقائي الدروس ، بل ،إني متألم لعدم قدرتي على العطاء التام ، نتيجة لجوٍّ خاصٍّ أشعر به هناك ..
بينها وبين نفسها ، ظلت المديرة في شك من المسوِّغات التي أدلى بها المدرِّس .. ومع ذلك ، فقد اعتذرتْ له بلطفٍ عن عدم إمكانية تحقيق ذلك ، وانطلقت معه في حديث مثالي عن التفاني في الواجب ، وبلوغ رضا الضمير ..
لعنها في داخله ، وصفق الباب خلفه ، متوجها إلى صف آخر ..
***
وحينما سارتْ به قدماه إلى موقف الباص ، فوجئ بوجودها هناك ..
قبل هذه المرة لم يلمحْها في هذا المكان .. فما الذي أتى بها الآن ؟؟ !! ..
ــ لن أنتظر الباص ، سأتابع ماشيًا .. قال في نفسه ، وأسرعَ خطاه متجاهلا وجودها إلى يساره ، كان يشعر بعينيها تثقبان كل جزء من جسده ، فيما كانت عيناه تثقبان الأرض عبر بوز حذائه ..
كانت سرعته دليلا قاطعا على جدِّيته في مواصلة المسير ، لكنها تقدّمتْ تقطع عليه الطريق .. إن في رأسها علامات استفهام كثيرة ، كان مبعثها حادثة اليوم ، إضافة إلى موقفه الدائم منها ، حتى إنها اعتبرتْ هدوءَها واحترامَها دافعيْن له في تصرفاته المتمادية هذه ..
كانت ـ خارج المدرسة ـ تشعر أنها في حِلِّ من العلاقة بين المدرِّس وطالبته ..إنها الآن لا تختلف عن أي فتاة ممن حولها ..
وحينما صار على بُعدِ خطواتٍ منها ، تراجعَتْ عن عزمها في الحديث معه ، بعد طول إصرار ، فاكتسى وجهها كآبةً ، واستدارتْ عن ملاقاته ، وتركتْ له ظهرها الذي يشبه ظهر ابنة الآغا ..
شيء من الارتباك اعترى خطواتِه ، بينما لم تترددْ نظراتُه في اختراق ظهرها .. إنها رائعة لولا أن في عينيها شيئا من ابنة الآغا ..
روعتُها لا يمكن أن تُفَوَّتَ .. ولكن .. زفرَ ، وهو يرمي بعقب سيكارته بعيدا عنه ..
(( كانت تحتقرني ، لكنها ترغب في أن أكونَ كلبا لها يصاحبها حيث تشاء ..))
(( كان والدي يدفعني بكلتا يديه للقائها ، هامسًا في أذني :
قلْ لها ألاّ يأخذوا شيئا من محصول القمح .. إنه لن يكفيَنا هذا العام ..))
(( كنت أحسب أن نظرات ابنة الآغا لي ، إنما كانت امتهانا يمتزج بقليل من الشفقة المتعالية .. لكني أستطيع ـ الأن وببساطة ـ أن أضيف إليها معنى آخرَ ، يعكس هذه النظرات على شخصها بذاته .. لأنها كانت تشمئز من نحافتي ، ومن ثيابي المهلهلة ..وكان كبرياؤها وصَلَفُها يأبيان عليها الجلوس والحديث مع هذا الصبي.. لكنّ ذكائي وتعفّفي وهدوئي ، جعلتْ مني أثيرا لديها بحظوة خاصة .. ))
(( لقد صار في مقدوري أن أبصقَ في وجهها ، دون أن أخاف عقوبة أو وعيدا ،، عساني أراها .. ))
***
كاد يضلّ الطريقَ إلى غرفته الجديدة ، وهو في غمرة من هذه التهويمات .. تلفّتَ حوله حينما وصل بداية الشارع المقصود ، في محاولة لاستكشاف نقاط ارتكاز تعينه على الوصول ، وتهديه إلى غرفته دونما جهد .. فرفع رأسه إلى أعلى في محاولةِ إحصاءٍ للطوابق التي تؤلف المبنى الذي يسكن فيه ..
في الطابق الثاني ، كان ثمة فتاة تنظر إليه باسمة ، حملق فيها ليتأكد من صدق ما تريه عيناه .. وقبل أن يكمل عملية الإحصاء ، مدَّ خطواتِهِ ، وأسرعَ يجتازُ ـ نزولا ـ الدرج المعتم إلى عمق المبنى ...
1977
فازت هذه القصة بالجائزة الثالثة
في مسابقة مجلة الثقافة الأسبوعية بدمشق ،
ونشرت في عددها /13/ تاريخ 26/آذار/1977
18/آذار/2010 يوسف رشيد
وحينما سارتْ به قدماه إلى موقف الباص ، فوجئ بوجودها هناك ..
قبل هذه المرة لم يلمحْها في هذا المكان .. فما الذي أتى بها الآن ؟؟ !! ..
ــ لن أنتظر الباص ، سأتابع ماشيًا .. قال في نفسه ، وأسرعَ خطاه متجاهلا وجودها إلى يساره ، كان يشعر بعينيها تثقبان كل جزء من جسده ، فيما كانت عيناه تثقبان الأرض عبر بوز حذائه ..
كانت سرعته دليلا قاطعا على جدِّيته في مواصلة المسير ، لكنها تقدّمتْ تقطع عليه الطريق .. إن في رأسها علامات استفهام كثيرة ، كان مبعثها حادثة اليوم ، إضافة إلى موقفه الدائم منها ، حتى إنها اعتبرتْ هدوءَها واحترامَها دافعيْن له في تصرفاته المتمادية هذه ..
كانت ـ خارج المدرسة ـ تشعر أنها في حِلِّ من العلاقة بين المدرِّس وطالبته ..إنها الآن لا تختلف عن أي فتاة ممن حولها ..
وحينما صار على بُعدِ خطواتٍ منها ، تراجعَتْ عن عزمها في الحديث معه ، بعد طول إصرار ، فاكتسى وجهها كآبةً ، واستدارتْ عن ملاقاته ، وتركتْ له ظهرها الذي يشبه ظهر ابنة الآغا ..
شيء من الارتباك اعترى خطواتِه ، بينما لم تترددْ نظراتُه في اختراق ظهرها .. إنها رائعة لولا أن في عينيها شيئا من ابنة الآغا ..
روعتُها لا يمكن أن تُفَوَّتَ .. ولكن .. زفرَ ، وهو يرمي بعقب سيكارته بعيدا عنه ..
(( كانت تحتقرني ، لكنها ترغب في أن أكونَ كلبا لها يصاحبها حيث تشاء ..))
(( كان والدي يدفعني بكلتا يديه للقائها ، هامسًا في أذني :
قلْ لها ألاّ يأخذوا شيئا من محصول القمح .. إنه لن يكفيَنا هذا العام ..))
(( كنت أحسب أن نظرات ابنة الآغا لي ، إنما كانت امتهانا يمتزج بقليل من الشفقة المتعالية .. لكني أستطيع ـ الأن وببساطة ـ أن أضيف إليها معنى آخرَ ، يعكس هذه النظرات على شخصها بذاته .. لأنها كانت تشمئز من نحافتي ، ومن ثيابي المهلهلة ..وكان كبرياؤها وصَلَفُها يأبيان عليها الجلوس والحديث مع هذا الصبي.. لكنّ ذكائي وتعفّفي وهدوئي ، جعلتْ مني أثيرا لديها بحظوة خاصة .. ))
(( لقد صار في مقدوري أن أبصقَ في وجهها ، دون أن أخاف عقوبة أو وعيدا ،، عساني أراها .. ))
***
كاد يضلّ الطريقَ إلى غرفته الجديدة ، وهو في غمرة من هذه التهويمات .. تلفّتَ حوله حينما وصل بداية الشارع المقصود ، في محاولة لاستكشاف نقاط ارتكاز تعينه على الوصول ، وتهديه إلى غرفته دونما جهد .. فرفع رأسه إلى أعلى في محاولةِ إحصاءٍ للطوابق التي تؤلف المبنى الذي يسكن فيه ..
في الطابق الثاني ، كان ثمة فتاة تنظر إليه باسمة ، حملق فيها ليتأكد من صدق ما تريه عيناه .. وقبل أن يكمل عملية الإحصاء ، مدَّ خطواتِهِ ، وأسرعَ يجتازُ ـ نزولا ـ الدرج المعتم إلى عمق المبنى ...
1977
فازت هذه القصة بالجائزة الثالثة
في مسابقة مجلة الثقافة الأسبوعية بدمشق ،
ونشرت في عددها /13/ تاريخ 26/آذار/1977
18/آذار/2010 يوسف رشيد
الطحّان - قصة قصيرة
1 ـ زهدان :
بين جنبات الوديان المترامية ، يتردد الصدى قويًا رجراجًا ،
يزيده الليل قوةً ومهابة .. فيصير للعتمة طعم آخر ، وترتسم في المخيلة صورٌ تتحرك مسرعة ، وفق تواتر يخلخل توازن الأعصاب ، ويبعث في النفس ذعرا مقيتا ..
تسارعتْ خطاه تجاه مصدر الصوت ، عرَفَه آتيا من طاحونة ضخمة .. جاءها من الخلف ، ثم دنا من بابها ، واسترق نظرة إلى الداخل من فتحة ضيقة فيه .. تواردتْ إلى عقله أفكار لا يجمع بينها سوى أنها وردتْ في لحظة واحدة ، وفي مكان واحد .. مدَّ يدًا مترددةً إلى الباب ، أحسَّ أن حجرَ الرّحى صارت تدور فوق رأسه .. وعربدت أمام عينيه آلافٌ من الخيول الجامحة ..
" إذ بين الدخول وعدمه ، تتحدّد المعالم ويتقرر المصير "
.
تراجع عن الباب مرتعدًا ، والتجأ إلى جداريْن واطئين خلف الطاحونة ، تكوّرَ بينهما ، واسترخى ..
أشرقت الشمس من عينيه .. نام وقتا أطولَ من سنوات عمره الثلاثين .. كان حوله بغال وحمير ترعى في مرج أخضر واسع .. تلفّتَ حوله ، تجمّعَتْ في رأسه مشاريع كثيرة .. ذهب إلى بغل ضخم .. قفز إلى ظهره ، ولكزه بكعبيه ، فانطلق يجري جامحا ، وصوت الطاحونة يلاحقه ، والخضرة تزداد قتامة أمام ناظريه .. والطريق طويلة .. فأين تكون النهاية ؟.
إن ثمّة عارًا ينتظره ، ليرميَه في حضيض آسن ، فيما إذا ألقي القبض عليه قبيل ابتعاده ..
يتناهى صوتُ الطاحونة إلى أذنيه كضربات تتساقط على رأسه بانتظام رتيب ، لكنه ألفى نفسَه وقد استدار به البغل عائدا ، وراحت قدماه تلكزانه في خاصرتيه ..
قرب الطاحونة ، رأى رجلا ضئيلَ الجسم ، لم يتوقف البغل إلا بجانبه .. كانت على وجهه علامات ضِيق مشروع ..
قال بصوتٍ عالٍ متجاهلا ردّ السلام :
أتعرف لمن البغل ؟
أجاب بهدوء : لا أعلم ..
فقال الرجل الضئيل بنفس اللهجة الحمقاء : وكيف تركبه ؟؟!!
قال : أريد شراءه .
ــ ومنْ قال لكَ إنني سأبيعه ؟؟!!
لم ينتظر جوابًا ، سَحَبَ البغلَ ، ومشى تجاه باب الطاحونة ، وشفتاه ترسلان كلمات تضيع في صخب وضجيج ..
" إنه لمن المناسب أن أعمل في هذه الطاحونة .. هل يسمح لي صاحبها ؟.. أيكون بحاجة لعامل مثلي ؟؟ "
" أين سأذهب إذا أُغلقَ الباب في وجهي ؟؟ "
" لن تكلفني المحاولة شيئا .. إنها مجانية .. "
تقدّمَ إلى واجهة الطاحونة ، كان رجال كثيرون يتكلمون بأصوات عالية مع رجل مُغْبَرِّ الثياب والوجه والشعر .. تجاهلهم وعبَرَ البابَ إلى الفسحة الداخلية .. تلفّتَ في المكان .. تحرَّكَ بين الأكياس والدلو والفوهة .. قام بما تستلزمه المهنة كطحان عتيق .. أفرَغ كيسا في الدلو، حين فاجأه الرجل المغبرُّ سائلا : هل هذا كيسُكَ ؟؟ .. كان السؤال عاديا ، فلم يترك في نفسه شيئا من الرهبة، وأجابه بهزّة نفْي من رأسه ..
ــ من أنت ؟ ماذا تفعل هنا ؟؟
كان وقع السؤال أقوى من ضربات الطاحونة الهادرة .. يتكرر صداه في أذنيْه متجاوبا مع دقاتها ..
أيُفصِح له عن اسمه ؟؟ وأي شيء يِجدي نفعا غير ذلك ؟؟
" فإذ تضيق الأرض ، تصبح أصغر من خيمة عاشقيْن " .
خرجَتْ من شفتيه كلماتٌ أخفى صوت الطاحونة ما فيها من تردد ووجل :
ــ اسمي زهدان .. وجئتُ أعمل لديكم أجيرًا ، لعلمي أنكم بحاجة ...
ظلت الطاحونة وحدها تتكلم بلغتها الخاصة ، وبصوتها القوي المتميز ، فيما يتبادلان نظراتٍ متوجّسة ، ثم أشار الرجل المغبرُّ ـ صاحب المطحنة ـ له بيده أن يتابع العمل ..
۞۞۞
تكاثفَ الطحين على وجهه وشعره وثيابه ، فبانَ كالأشيب الهرم .. وعُرِفَ ب "زهدان الطحان" ..
شعر بطمأنينة وأمان ، حتى ذاب في الطاحونة .. صار قطعة منها ، بينما كان صاحبها "عبد المولى" قد ابتنى لنفسه بيتا في سفح الجبل الغربي ، وضمَّ إليه زوجتيْه وأولاده ، واشترى فرسا رشيقة ، زيّنها بسرج مزركش جميل ..
وأُلحِقتْ بالواجهة غرفة صغيرة ، ينام فيها زهدان ، تُؤنسُه في لياليه (بارودة كسرية) ، استلمها من عبد المولى ملفوفة بكيس ملطخ ببقع الزيت ..
ولما تعرّف إلى " أم حليمة " أطلقَ اسمها على البارودة ، فازداد فرحُه بها ، وهي إلى جانبه في الفراش ، تمنّيه بأم حليمة ، بأنوثتها المهفهفة ..
(( كانت المرأة الوحيدة التي تتردّد على الطاحونة كل شهرين مرة .. وكانت لغزا لم يستطع الإمساك بمفتاح أولي له ..لأن في مجيئها غرابةً قصوى ، لا سيما أن الطاحونة تبعد عنها ساعتين مسيرا ، ولم يسبق أن جاءت أخرى بكيسها للطاحونة كما تفعل أم حليمة ..))
أرّقه بعدُها عنه .. فتقصّد مرة أن يؤخر لها دورها ، حتى يخف الزحام ، عساه يظفر بإشارة تهديه إلى رأس الخيط ..
۞۞۞
2 ـ أم حليمة :
كانت زوجة سعيدة لشاب قوي البنية ، عنيد الرأس ، عصبي المزاج ، طيب القلب .. نال ابنَ صاحب الأرض بضرباتٍ موجعة حين لمح في عينيه نظرات غدر تجاه زوجته ..
فأوثقه الدرك إلى جذع شجرة في فناء إحدى زرائب صاحب الأرض ، وانهالوا عليه بالسياط ، ثم أغرقوه في الحوض الذي تشرب من الحيوانات ..
نام بعدها أكثر من ستين يوما طريح الفراش ، فتقرّحت جروحه ، وأصابته حمى شديدة في رأسه ، وتوقف لسانه عن كل شيء إلا الهذيان ، حتى تجمّع أهل القرية على أصواته ، حين بدأت الروح تنسلّ رويدا من أطرافه ..
وكانت حاملا في شهرها الرابع ، فأنجبتْ حليمةَ هذه ، وكانت هزيلة ، دقيقة العود ، أخذتْ عن أمها استدارةَ الوجه ، وبياضَه ، واتساعَ العينين ، رغم أنها تحمل كثيرا من صفات أبيها ..
لكنّ الإهانة كانت أكبر من موته ، فلم يكتفوا بضحية واحدة ، بل حالوا بينها وبين الزواج ، حتى كادوا يقتلون "سعيدا" لإصراره وعناده ، لكنه تراجع حين رأى الموت في نصل سكين حادة ..
إنها جميلة ووديعة ، يقدّرُها الناس لإبائها وأنفتها عن كل ما قُدِّمَ لها من مغريات ..
فيها أنوثة امرأة في أوائل الثلاثينيات ، تشع وتتوهج ، لكنها تلسع حين الضرورة ..
(( لن يعتلي صهوتك فارسٌ إلاي، أيتها الفرس الحرون ..))
تلمّظ زهدان بعد أن انتشى لذلك الخاطر الذي نقله إلى دفء الحنين المنتظر ، وبقي في مكانه عمودا أزليا ، حتى غابتا في منعطف بعيد ..
دخل غرفته ، تمدّدَ قليلا .. لم تطقِ الأرضُ جلوسه ، عاد إلى الطاحونة ، جابَ أنحاءها ، حاول أن يقوم بعمل ما ، لكنه لم يجد ما يمكن أن يفعله .. كانت صورتها في عينيه لا تفارقهما .. تكوّنتْ له شمسًا أنارت الظلام في معمورته الشخصية ..
" ليس أصعب من انتظار شهرين آخرين .. وقد تسمح له الفرصة بحديث آخر ، وقد لا تسمح .. والذهاب إليها محال" ..
" أيكون الغَرَقُ في الخضمّ محتّما ؟؟ "
أجابه وقع حوافر فرس عبد المولى ، خرج إليه ، تحدّثَا بكلمات سريعة مبتورة ، وسأله إن كان بحاجة لشيء .. ثم انطلقت به فرسه سريعا .. وبقي زهدان وحيدا مع الليل والطاحونة وعواء الذئاب ..
أحسّ ـ لمرة الأولى ـ انه سجين مؤبد .. وبدأت الهواجس تنتابه ، وتؤرقه ، حتى فكر في أن يسترشد برأي عبد المولى ، لكنه تراجع أمام احتمال الرفض الذي قد يواجهه به ..
وبقي الانتظار .. إنه الخِيار الأصعب ، لكنْ ، لا سبيل لغيره ..
بين جنبات الوديان المترامية ، يتردد الصدى قويًا رجراجًا ،
يزيده الليل قوةً ومهابة .. فيصير للعتمة طعم آخر ، وترتسم في المخيلة صورٌ تتحرك مسرعة ، وفق تواتر يخلخل توازن الأعصاب ، ويبعث في النفس ذعرا مقيتا ..
تسارعتْ خطاه تجاه مصدر الصوت ، عرَفَه آتيا من طاحونة ضخمة .. جاءها من الخلف ، ثم دنا من بابها ، واسترق نظرة إلى الداخل من فتحة ضيقة فيه .. تواردتْ إلى عقله أفكار لا يجمع بينها سوى أنها وردتْ في لحظة واحدة ، وفي مكان واحد .. مدَّ يدًا مترددةً إلى الباب ، أحسَّ أن حجرَ الرّحى صارت تدور فوق رأسه .. وعربدت أمام عينيه آلافٌ من الخيول الجامحة ..
" إذ بين الدخول وعدمه ، تتحدّد المعالم ويتقرر المصير "
.
تراجع عن الباب مرتعدًا ، والتجأ إلى جداريْن واطئين خلف الطاحونة ، تكوّرَ بينهما ، واسترخى ..
أشرقت الشمس من عينيه .. نام وقتا أطولَ من سنوات عمره الثلاثين .. كان حوله بغال وحمير ترعى في مرج أخضر واسع .. تلفّتَ حوله ، تجمّعَتْ في رأسه مشاريع كثيرة .. ذهب إلى بغل ضخم .. قفز إلى ظهره ، ولكزه بكعبيه ، فانطلق يجري جامحا ، وصوت الطاحونة يلاحقه ، والخضرة تزداد قتامة أمام ناظريه .. والطريق طويلة .. فأين تكون النهاية ؟.
إن ثمّة عارًا ينتظره ، ليرميَه في حضيض آسن ، فيما إذا ألقي القبض عليه قبيل ابتعاده ..
يتناهى صوتُ الطاحونة إلى أذنيه كضربات تتساقط على رأسه بانتظام رتيب ، لكنه ألفى نفسَه وقد استدار به البغل عائدا ، وراحت قدماه تلكزانه في خاصرتيه ..
قرب الطاحونة ، رأى رجلا ضئيلَ الجسم ، لم يتوقف البغل إلا بجانبه .. كانت على وجهه علامات ضِيق مشروع ..
قال بصوتٍ عالٍ متجاهلا ردّ السلام :
أتعرف لمن البغل ؟
أجاب بهدوء : لا أعلم ..
فقال الرجل الضئيل بنفس اللهجة الحمقاء : وكيف تركبه ؟؟!!
قال : أريد شراءه .
ــ ومنْ قال لكَ إنني سأبيعه ؟؟!!
لم ينتظر جوابًا ، سَحَبَ البغلَ ، ومشى تجاه باب الطاحونة ، وشفتاه ترسلان كلمات تضيع في صخب وضجيج ..
" إنه لمن المناسب أن أعمل في هذه الطاحونة .. هل يسمح لي صاحبها ؟.. أيكون بحاجة لعامل مثلي ؟؟ "
" أين سأذهب إذا أُغلقَ الباب في وجهي ؟؟ "
" لن تكلفني المحاولة شيئا .. إنها مجانية .. "
تقدّمَ إلى واجهة الطاحونة ، كان رجال كثيرون يتكلمون بأصوات عالية مع رجل مُغْبَرِّ الثياب والوجه والشعر .. تجاهلهم وعبَرَ البابَ إلى الفسحة الداخلية .. تلفّتَ في المكان .. تحرَّكَ بين الأكياس والدلو والفوهة .. قام بما تستلزمه المهنة كطحان عتيق .. أفرَغ كيسا في الدلو، حين فاجأه الرجل المغبرُّ سائلا : هل هذا كيسُكَ ؟؟ .. كان السؤال عاديا ، فلم يترك في نفسه شيئا من الرهبة، وأجابه بهزّة نفْي من رأسه ..
ــ من أنت ؟ ماذا تفعل هنا ؟؟
كان وقع السؤال أقوى من ضربات الطاحونة الهادرة .. يتكرر صداه في أذنيْه متجاوبا مع دقاتها ..
أيُفصِح له عن اسمه ؟؟ وأي شيء يِجدي نفعا غير ذلك ؟؟
" فإذ تضيق الأرض ، تصبح أصغر من خيمة عاشقيْن " .
خرجَتْ من شفتيه كلماتٌ أخفى صوت الطاحونة ما فيها من تردد ووجل :
ــ اسمي زهدان .. وجئتُ أعمل لديكم أجيرًا ، لعلمي أنكم بحاجة ...
ظلت الطاحونة وحدها تتكلم بلغتها الخاصة ، وبصوتها القوي المتميز ، فيما يتبادلان نظراتٍ متوجّسة ، ثم أشار الرجل المغبرُّ ـ صاحب المطحنة ـ له بيده أن يتابع العمل ..
۞۞۞
تكاثفَ الطحين على وجهه وشعره وثيابه ، فبانَ كالأشيب الهرم .. وعُرِفَ ب "زهدان الطحان" ..
شعر بطمأنينة وأمان ، حتى ذاب في الطاحونة .. صار قطعة منها ، بينما كان صاحبها "عبد المولى" قد ابتنى لنفسه بيتا في سفح الجبل الغربي ، وضمَّ إليه زوجتيْه وأولاده ، واشترى فرسا رشيقة ، زيّنها بسرج مزركش جميل ..
وأُلحِقتْ بالواجهة غرفة صغيرة ، ينام فيها زهدان ، تُؤنسُه في لياليه (بارودة كسرية) ، استلمها من عبد المولى ملفوفة بكيس ملطخ ببقع الزيت ..
ولما تعرّف إلى " أم حليمة " أطلقَ اسمها على البارودة ، فازداد فرحُه بها ، وهي إلى جانبه في الفراش ، تمنّيه بأم حليمة ، بأنوثتها المهفهفة ..
(( كانت المرأة الوحيدة التي تتردّد على الطاحونة كل شهرين مرة .. وكانت لغزا لم يستطع الإمساك بمفتاح أولي له ..لأن في مجيئها غرابةً قصوى ، لا سيما أن الطاحونة تبعد عنها ساعتين مسيرا ، ولم يسبق أن جاءت أخرى بكيسها للطاحونة كما تفعل أم حليمة ..))
أرّقه بعدُها عنه .. فتقصّد مرة أن يؤخر لها دورها ، حتى يخف الزحام ، عساه يظفر بإشارة تهديه إلى رأس الخيط ..
۞۞۞
2 ـ أم حليمة :
كانت زوجة سعيدة لشاب قوي البنية ، عنيد الرأس ، عصبي المزاج ، طيب القلب .. نال ابنَ صاحب الأرض بضرباتٍ موجعة حين لمح في عينيه نظرات غدر تجاه زوجته ..
فأوثقه الدرك إلى جذع شجرة في فناء إحدى زرائب صاحب الأرض ، وانهالوا عليه بالسياط ، ثم أغرقوه في الحوض الذي تشرب من الحيوانات ..
نام بعدها أكثر من ستين يوما طريح الفراش ، فتقرّحت جروحه ، وأصابته حمى شديدة في رأسه ، وتوقف لسانه عن كل شيء إلا الهذيان ، حتى تجمّع أهل القرية على أصواته ، حين بدأت الروح تنسلّ رويدا من أطرافه ..
وكانت حاملا في شهرها الرابع ، فأنجبتْ حليمةَ هذه ، وكانت هزيلة ، دقيقة العود ، أخذتْ عن أمها استدارةَ الوجه ، وبياضَه ، واتساعَ العينين ، رغم أنها تحمل كثيرا من صفات أبيها ..
لكنّ الإهانة كانت أكبر من موته ، فلم يكتفوا بضحية واحدة ، بل حالوا بينها وبين الزواج ، حتى كادوا يقتلون "سعيدا" لإصراره وعناده ، لكنه تراجع حين رأى الموت في نصل سكين حادة ..
إنها جميلة ووديعة ، يقدّرُها الناس لإبائها وأنفتها عن كل ما قُدِّمَ لها من مغريات ..
فيها أنوثة امرأة في أوائل الثلاثينيات ، تشع وتتوهج ، لكنها تلسع حين الضرورة ..
(( لن يعتلي صهوتك فارسٌ إلاي، أيتها الفرس الحرون ..))
تلمّظ زهدان بعد أن انتشى لذلك الخاطر الذي نقله إلى دفء الحنين المنتظر ، وبقي في مكانه عمودا أزليا ، حتى غابتا في منعطف بعيد ..
دخل غرفته ، تمدّدَ قليلا .. لم تطقِ الأرضُ جلوسه ، عاد إلى الطاحونة ، جابَ أنحاءها ، حاول أن يقوم بعمل ما ، لكنه لم يجد ما يمكن أن يفعله .. كانت صورتها في عينيه لا تفارقهما .. تكوّنتْ له شمسًا أنارت الظلام في معمورته الشخصية ..
" ليس أصعب من انتظار شهرين آخرين .. وقد تسمح له الفرصة بحديث آخر ، وقد لا تسمح .. والذهاب إليها محال" ..
" أيكون الغَرَقُ في الخضمّ محتّما ؟؟ "
أجابه وقع حوافر فرس عبد المولى ، خرج إليه ، تحدّثَا بكلمات سريعة مبتورة ، وسأله إن كان بحاجة لشيء .. ثم انطلقت به فرسه سريعا .. وبقي زهدان وحيدا مع الليل والطاحونة وعواء الذئاب ..
أحسّ ـ لمرة الأولى ـ انه سجين مؤبد .. وبدأت الهواجس تنتابه ، وتؤرقه ، حتى فكر في أن يسترشد برأي عبد المولى ، لكنه تراجع أمام احتمال الرفض الذي قد يواجهه به ..
وبقي الانتظار .. إنه الخِيار الأصعب ، لكنْ ، لا سبيل لغيره ..
۞۞۞
3 ــ زهدان وأم حليمة :
قالت له : قد يقتلونك ..
قال : أتحدّاهم ..
قالت : في المرة القادمة نقرر ..
قال بإصرار وتأكيد : تذهبين اليوم ، وتعودين غدا أنتِ وابنتكِ .. ولا أقبل بغير ذلك ..
نظرتْ إليه بغرابة ، ظنتْه يمازحها ، أو يسخر منها ، لكنها أدركتْ صدق كلامه ، وجِدّيته ، حين كرّر بحرارة ولهفة :
ــ غدا سنكون أسعدَ زوجيْن ..
قالت وكأنها تشكك في كلامه : وحليمة ؟؟ !!
قال : هي ابنتي ..
أدارت ظهرها ومضت حليمة في إثرها ، بينما كان صوته يلاحقهما : لا تنسَيْ أن لكِ زوجًا ينتظركَ ..
۞۞۞
تلك الليلة ، كان طفلا لم يذق طعم الشقاء بعد .. نسي أن حياته قد لا تطول لساعة أخرى .. ولم تعد تعني له كل الأحداث الماضية شيئا .. وها هو يغني لنفسه في ليل زفافه .. وغدًا ستضمهما هذه الغرفة الواطئة السقف ، وسيشهد على ذلك مصباح الكاز الصغير ، الذي لم يجرؤ على إطفائه هذه الليلة ..
حدّق في السقف : " هل ستسأله عن أهله وقريته ؟ "
" أيُعقَلُ أن تكون قد اطمأنت إليه بهذه السرعة ؟ "
" هل يحكي لها عن حبه لأمينة ، وأنه مطارد ومهدد بالقتل ثارا لها ؟؟ "
" هل ستوافق على الزواج من رجل يتهدده الموت ؟؟ أما كفاها موت زوجها الأول ؟؟ "
" لماذا لا يخفي عنها كل ذلك ؟؟ "
" لكن ؟، أتعود غدا ؟؟ "
" لاشيء في الأفق ينفي أو يؤكد .. "
۞۞۞
غير بعيد ، في الطريق الترابية بين القرية والطاحونة ، كان ثمة رجال الدرك راكبين خيولهم الرامحة ، وعبد المولى يجر فرسه ، وعلى ظهرها جثة تعرّفتْها أم حليمة من الثياب التي تجمّدت على أجزاء منها بقعُ دم داكنة .. فيما لم يكن للطحين أي أئر عليها ..
1978
نشرت في مجلة الثقافة الأسبوعية ،
العدد 23ـ تاريخ 05/حزيران/1982
الخميس ـ الأول من نيسان ـ 2010
يوسف رشيد
3 ــ زهدان وأم حليمة :
قالت له : قد يقتلونك ..
قال : أتحدّاهم ..
قالت : في المرة القادمة نقرر ..
قال بإصرار وتأكيد : تذهبين اليوم ، وتعودين غدا أنتِ وابنتكِ .. ولا أقبل بغير ذلك ..
نظرتْ إليه بغرابة ، ظنتْه يمازحها ، أو يسخر منها ، لكنها أدركتْ صدق كلامه ، وجِدّيته ، حين كرّر بحرارة ولهفة :
ــ غدا سنكون أسعدَ زوجيْن ..
قالت وكأنها تشكك في كلامه : وحليمة ؟؟ !!
قال : هي ابنتي ..
أدارت ظهرها ومضت حليمة في إثرها ، بينما كان صوته يلاحقهما : لا تنسَيْ أن لكِ زوجًا ينتظركَ ..
۞۞۞
تلك الليلة ، كان طفلا لم يذق طعم الشقاء بعد .. نسي أن حياته قد لا تطول لساعة أخرى .. ولم تعد تعني له كل الأحداث الماضية شيئا .. وها هو يغني لنفسه في ليل زفافه .. وغدًا ستضمهما هذه الغرفة الواطئة السقف ، وسيشهد على ذلك مصباح الكاز الصغير ، الذي لم يجرؤ على إطفائه هذه الليلة ..
حدّق في السقف : " هل ستسأله عن أهله وقريته ؟ "
" أيُعقَلُ أن تكون قد اطمأنت إليه بهذه السرعة ؟ "
" هل يحكي لها عن حبه لأمينة ، وأنه مطارد ومهدد بالقتل ثارا لها ؟؟ "
" هل ستوافق على الزواج من رجل يتهدده الموت ؟؟ أما كفاها موت زوجها الأول ؟؟ "
" لماذا لا يخفي عنها كل ذلك ؟؟ "
" لكن ؟، أتعود غدا ؟؟ "
" لاشيء في الأفق ينفي أو يؤكد .. "
۞۞۞
غير بعيد ، في الطريق الترابية بين القرية والطاحونة ، كان ثمة رجال الدرك راكبين خيولهم الرامحة ، وعبد المولى يجر فرسه ، وعلى ظهرها جثة تعرّفتْها أم حليمة من الثياب التي تجمّدت على أجزاء منها بقعُ دم داكنة .. فيما لم يكن للطحين أي أئر عليها ..
1978
نشرت في مجلة الثقافة الأسبوعية ،
العدد 23ـ تاريخ 05/حزيران/1982
الخميس ـ الأول من نيسان ـ 2010
يوسف رشيد
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)