التباين الثوروي
منذ خروج التظاهرات في سوريا على خلفية اعتقال فتيةٍ في درعا ، قيل إنهم كتبوا على الجدران كتابات معادية للدولة .. ومنذ اليوم الأول للتظاهر ، آلمنا وأفجعنا وقوع الشهداء ، وتوجسنا مما تخبئه الأيام المقبلة ، حيث بدا جليا أنها حبلى ..
ولم تنفع وعود الإصلاح وتحقيق بعضها في عدم اتساع رقعة التظاهر ، وارتفعت أعداد المتظاهرين وأعداد الشهداء ، رغم استقبال الرئيس لعدد من وفود المناطق الملتهبة ، ووعوده لهم بتحقيق المطالب ، والإفراج عن المعتقلين ، ثم إلغاء حالة الطوارئ ، وتوابعها ، ومحاولة تضميد الجراح .. وصولا إلى يوم الجمعة 22/04/ ، فبدا أن الأمور تتراجع كثيرا إزاء ارتفاع عدد الشهداء من المواطنين المدنيين والعسكريين ورجال الأمن ، واتساع رقعة التخريب المقصود وإشعال الحرائق ، والإيقاع برجال الشرطة والإطفاء في كمائن معدة مسبقا ، كما كان كمين الهجوم على حافلة عسكرية قرب بانياس .. لكن يوم الجمعة ذاك ، وما تلاه في يومي السبت والأحد ، صارت ردود فعل المحتجين عبارة عما سمته الحكومة " عصيانا مسلحا ، مما لم نشهد له مثيلا في الاحتجاجات والتظاهرات العربية التي حدثت في البلدان العربية قبلا ، في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين والعراق والأردن والجزائر والمغرب ...
ففي كل تلك البلدان ، كان التظاهر سلميا حقيقيا ، وكان المواطنون يواجهون رصاص الأنظمة بصدور عارية ، ولم يحدث أن أطلقت رصاصة على شرطي أو عسكري ولم يسقط أي ضحية منهم رغم سقوط المئات من المواطنين في بعض الدول ، مع الأسف الشديد ..
أما في سورية ، فقد سقط كثير من الجنود والشرطة والأمن بين قتيل وجريح بالرصاص الحي ، وادعى بعض المعارضين في الخارج ، " أن السلطة تقتل أبناءها العاقين " و" أنها تصفيات جسدية يقوم بها الشبيحة " ، لكن إن سلمنا بذلك ، فمن الذي نفذ كمين طريق بانياس ؟ ومن قتل ومثّل بجثث عدد من العسكريين ورجال الأمن ؟ ومن قتل على الهوية مواطنين مدنيين عزلا ، في طريقهم إلى العاصمة لتسويق منتجاتهم الزراعية ؟ ومن قطع الطرقات العامة والدولية ؟؟ ومن هاجم بالسلاح المخافر والنقاط والحواجز الأمنية والعسكرية في دوما ونوى وأزرع والمعضمية وجوبر وحمص واللاذقية وبانياس وجبلة ؟؟!!!
وكنتيجة حتمية للهجوم والدفاع ، فجع الوطن بكثير من أبنائه ..
وقد اتسق العديد من المحطات الإعلامية الإخبارية والمذهبية ـ مع الأسف ـ ضمن حالة استهداف سورية من الداخل ، فهوّلت الأحداث وضخمتها ، وحرّضت ووجّهت وأفتت ، ودافعت القنوات السورية بكشف كثير من الزيف والمزاعم حول المقاطع المصورة في زمان ومكان آخر وعرضها على أنها حدثت في سورية ، وكشفت حقيقة " شاهد العيان " السوبرمان العليم بكل ما يحدث ، والنشطاء الذين يتحدثون من غرف مجاورة بعد التلقين ، وكذلك بث " خطب التحريض والفتنة وفتاوى قتل ثلث الشعب السوري أي فقط 7.5 مليون مواطن " ..
كما تواطأ " بعض المفكرين " مع مقدمي البرامج على توجيه الدفة باتجاه سورية واستهدافها مباشرة مقابل التغاضي عن البؤر الملتهبة الأخرى " لتبييض وجه محطتهم " ..
وكذلك ما بثه التلفزيون السوري من اعترافات لبعض المعتقلين ، وتسجيلات صوتية لغرف الدردشة على موقع " بالتوك " ..
وسبق كلَّ ذلك تقاريرُ صدرت من منابر إعلامية معارضة أو معادية لسورية " كجريدة الرأي الكويتية ، وموقع الحقيقة " تؤكد تعرض سورية لحملة مدروسة ممنهجة تستهدف أمنها وسلامها ونظامها ...
وكثير غير ذلك ..
ولقد سبق أن كتبت موقفا واضحا مما تشهده بلادنا الآن ، فأيدت تأييدا مطلقا حق الشعب العربي السوري في كافة مطالبه المحقة والمشروعة ، على أن تكون المطالبات والتظاهرات سلمية .. وما زلت على هذا الموقف ..
ورغم ما جرى بعدئذ ، فإن إيماننا بحق الشعب في نيل كل مطالبه المحقة لم يتغير ولم يتبدل ، كما أن سقوط الشهداء أمر محزن جدا ومؤسف وغير مبرر ..
لكن ، لا بد من بعض الملاحظات :
ليست ثورة تلك التي هي كلمة حق يراد بها باطل ..
فإذا كانت الثورة حقا ، و " الحق " هو الله سبحانه وتعالى ، فليس من الحق أن تقتل وتمثـِّل بالضحايا وتخرب وتحرق وتعتدي ، بكثير من الحقد واللؤم والكراهية والبغضاء التي لا يقبل بها أي دين سماوي ، فكيف إذا كان القاتل يفعل ذلك باسم الإسلام ؟؟!!!
وليست ثورة تلك التي تخدع الشعب منذ اللحظة الأولى ، فتتلطى وراء شعار الإصلاح ، وتستغل معاناة المواطنين ومطالبهم المحقة غطاءً ، وتراوغ في مطالبها سعيا للخراب والقتل والفتنة ..
وليست الثورة في إحراق ممتلكات الدولة ، لأنها ممتلكات للشعب ، كل الشعب ..
وليست الثورة في الاعتداء على الممتلكات الخاصة التي حرمها الله علينا لأن : دم المؤمن وعرضه وماله حرام " ..
وليست الثورة أن تقطع طريقا ، أو تهاجم حافلة ، أو تهدد المارة وتفرزهم على الهوية ..
وليست الثورة أن تشعل الحرائق والإطارات وتلقي الزجاجات الحارقة على المباني والسيارات العامة ..
وليست الثورة أن تبث الشائعات والأكاذيب وتمارس الغش والخديعة والتضليل لأهداف وضيعة ..
وليست الثورة بإطلاق الشعارات المبرمجة التي تستهدف وحدة أبناء الوطن وانتماءهم وحياتهم وأرزاقهم ..
والأشقاء العرب الذين يتباكون على حرية شعبنا أحرى بهم أن لا يرموا سورية بحجارتهم لأن بيوتهم من زجاج رقيق جدا أيضا .. والأحرى بهم أن يقفوا معنا في وجه العدوان الصهيوني المستمر على شعب فلسطين وأراضيها ، وأن يمتلكوا الشجاعة بالاعتراف بحقوق جميع مواطنيهم بلا تمييز ..
وليست الثورة في ضرب مصالحنا القومية والوطنية خدمة لأعدائنا وأذنابهم ..
وليست ثورة تلك التي يقوم فيها بعض " العلماء الأجلاء " بتوزيع أراضي الجنة على المساكين المغرر بهم ، بعد أن وثقوا برجال دينهم " الأفذاذ المؤمنين " ..
وليست ثورة أن يندفع هؤلاء ليكونوا قاتلين أو مقتولين .. أهكذا يكون الجهاد في سبيل الله ؟ّ!
أيحق لكل من هبّ ودبّ أن يدعو إلى الجهاد ؟!
هل دَفعُ المؤمنين للقتل أو الموت أو الفتنة يكون بهذه البساطة والسذاجة ؟!
من أعطى هؤلاء ذاك الحق ليدفعوا الناس ليقتلوا أو يُقتلوا ؟!
من أعطى الحق لهؤلاء حتى جعلونا نكتوي بدموع الثكالى والأيامى واليتامى ؟!
أي رجل دين ؟ بل أي عاقل يتحمل أمام الله تعالى وزر هذه الدعوة غير الخالصة لوجه الله والتي تفعل ما تفعل ؟!
ليست ثورة تلك التي تلعب بها أصابعُ وأيدٍ خارجية بشتى الوسائل والسبل .. سواء بالتدخل الخارجي أو بحبك الفتن أو بالتجييش أو بالتمويل أو بالتسليح أو بتوزيع المهام ..
ليست ثورة تلك التي ركبت موجتها دولٌ كانت صديقة ، فانقلبت على صداقتها وارتدّت مستهدفة أمننا واستقرارنا ..
(( وإن كنا يجب أن نلوم أنفسنا ولا نلومهم .. فهم كذلك منذ زمن ، لكننا انخدعنا بمناوراتهم حتى صدقناها ، وحين جاء اليوم الموعود كشروا عن أنيابٍ ومخالبَ تتضاءل أمامها شراسةً وفتكًا كلُّ مثيلاتها عند الحيوانات المفترسة )) ..
رسموا مخطط الخديعة بدقة متناهية حتى صدقناه بطيبة تتطلبها علاقات الإخوة والصداقة الحقيقية ، ومن أين سندري " أن الردة تخلع ثوب الأفعى ، تتجدّد " ؟! ..
ليقال الآن : " هاتان أخلص حلفاء سورية وأكثرهم ودا وصداقة ، وها قد تخليا عنها عند أول منعطف " ..
وكما حصل على ضفة أخرى :
وثقنا بما قدمته قناة الجزيرة إلى درجة أننا صرنا نصدق آذاننا ونكذب عيوننا في الأيام الأولى من الثورة المصرية ، كما اكتسبت قناة العربية بعض المصداقية رغم ملاحظاتنا الكثيرة عليها ، ورغم موقفها المفضوح من سورية في الأحوال العادية ، فكيف لا تستثمر حالة استثنائية ؟!..
لكننا تأخرنا في اكتشاف عدم البراءة في ما كانت الجزيرة تقوله ـ آنذاك ـ : " الملايين في ميدان التحرير " ، ونرى في الصورة بضعة آلاف أو أقل أحيانا .. ومع ذلك ، صدقنا ما نسمع ، وكذبنا ما نرى .. بعكس المألوف والطبيعي ..
وكنا " معذورين " حين صدقنا ما توافق مع أفئدتنا ، وتاقت ـ طويلا ـ له عقولنا ، لأننا كنا نتمنى خروج الملايين على نظام مبارك حليف أعدائنا ، وغفرنا ـ ضمنا ـ ما مارسته القناة من خداع وكذب ، وقبلناه طوعا ، وإن على مضض ، ما دامت ترضي عواطفنا المتعطشة لانهيار حليف الصهاينة ..
وفي تونس ، بوغتت الجزيرة كما العالم كله ، وأخِذَت بالمفاجأة على حين غِرّةٍ ، ولم تكن مستعدة لما لم يكن يتوقعه أحد أو ينتظر وقوعه ..
أما في مصر ، فكانت البرمجة جاهزة باعتراف وثائق ويكيليكس التي تحدثت عن استعداد القيادة القطـَرية المسبق لدعم أي معارضة تستهدف إسقاط نظام مبارك .. كما أن الإرهاصات في مصر كانت أكثر وضوحا مما كانت عليه ظروف المباغتة التونسية ..
ثم لعبت المواقف السياسية لعبتها في القناة ، وسأعطف فقط على موقف غسان بن جدو في تعليقه على أسباب استقالته من الجزيرة .. وهو معروف وشائع ..
وبعد : لمـــــــاذا ؟؟
لأنه ، وفي السنوات الأخيرة فقط :
سوريا عارضت الغزو الأمريكي على العراق حتى وصل الموس إلى رقبتها عام 2003 .
سوريا لم توقع معاهدة استسلام مع الصهاينة حسب شروطهم .
سوريا دعمت المقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي ، واحتضنت أعدادا هائلة من الشعب الشقيق ..
سوريا دعمت المقاومة اللبنانية واحتضنت اللبنانيين خلال عدوان الصهاينة عليهم عام 2006 .
سوريا دعمت المقاومة الفلسطينية وحماس ضد اعتداءات الصهاينة المتكررة وآخرها عدوان 2008/2009.
سوريا عارضت سياسة السلطة الفلسطينية التي تنازلت مجانا عن كثير من حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته ..
سوريا صمدت في وجه مشروع أمريكا الساعي " لشرق أوسطٍ جديد " يكرس سيطرة الصهاينة على المنطقة بالتحالف مع " دول الاعتدال العربية " .
بعد كل هذه " الجرائم " ، ألا يستحق الشعب السوري " عقابا " يتناسب مع حجمها ..
وإذا كانت تلك هي " بعض جرائم وفظاعات " الشعب العربي في سوريا ، فكيف لا تتكالب عليه كل القوى لتفتيته وتمزيقه ، مستهدفين أغلى ما يملك " وحدته الوطنية النموذج " ؟!!
وبالمقابل ، فإن الشعب العربي في سورية يستحق من حكومته أكثر بكثير جدا مما تم ..
فإذا أخذنا الخطوات الإصلاحية المعلنة ـ حتى الآن ـ على محمل الجد ، فهي لم ترق بعد إلى طموح شعبنا ، لأنها جاءت بعد سنوات من الاحتباس حينا ، ومن التأخير في الأولويات حينا آخر ، ومن القفز فوقها أحيانا كثيرة ..
وعليه ، فإن الطريق طويلة ، وتحتاج إلى عمل دؤوب ، تشترك فيه كافة القوى الوطنية والشعبية على أرضية من التوافق الوطني الشامل ، بحيث يكون للجميع أدوار تناسب عطاءاتهم وحضورهم وفعالياتهم ، بعيدا عن التحاصص أو الاستئثار أو الإقصاء ..
إن الحاجة ماسة للقاء وطني موسع يتدارس مختلف المسائل بروح إيجابية ومسؤولة وبناءة ، للوصول إلى مشاركة أوسع لكافة هيئات المجتمع وأحزابه ومنظماته ، تحقيقا لمبدأ تكافؤ الفرص ، ووصولا لاتفاق شامل على مجمل الإصلاحات المطلوبة وعلى كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والإعلامية والقضائية والحزبية ....
فالوطن للجميع ، وتحت سقف الوطن يجب أن يتساوى الجميع في الحقوق كل الحقوق ، وفي الواجبات كل الواجبات ..
الإثنين 02/05/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق