الاثنين، 23 مايو 2011

الأستاذ والعلامة والبحاثة

الأستاذ والعلامة والبحاثة

أحيانا تتداعى أفكارك إلى ما لم تكن تحسب له حسابا .. بل ، وأحيانا ، تقودك إلى زوايا نائية جدا ، كنت تعتقد قبل قليل أنك من سابع المستحيلات أن تصل إليها .

وفجأة .. تجد نفسك في أتونها اللذيذ ، تصول وتجول وأنت تحمل مشكاتك التي استلفت شعلتها ـ في يوم من الأيام ـ من أشخاص لا تستطيع تغييبهم من أعماق ذاكرتك وإن جار الزمان عليك وعليهم .. وبدون سابق إرادة ولا تصميم مني وجدت قلمي مندفعا لكتابة هذه التحية لرجل كانت له فضائل علينا لا تنسى ، كطلاب في الجامعة ..

والمناسبة هي أنني كلما قرأت أو استذكرت بعض أشعار المتنبي ، وخاصة ميميته ، وبالأخص قوله :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم ..

تعود بي الذاكرة والصورة ، ومشهد الإلقاء والحضور ، إلى مدرج ابن خلدون في كلية الآداب ، حيث ألقى الدكتور فخر الدين هذين البيتين وغيرهما ، في دقائق مستقطعة من محاضرته عن شعر عمرو بن كلثوم ..

د . فخر الدين قباوة : رجل من الرجال الأفذاذ علمًا ، في الزمن الصعب ..

ربما هو من مواليد ثلاثينيات القرن الماضي ، وكنا في عام 1973 طلابا في السنة الأولى ..

كان حييّا ، غضيض الطرف .. تقيا ، ورعا ، ملتزما ، علاّمة ، بحّاثة ..

ومع ذلك ، كان غصة في حلق كثير من طلابه وطالباته ..

آنذاك ، كانت له كتب في النحو والدراسات الشعرية والتحقيق وفي المسائل والتطبيقات النحوية والصرفية والبلاغية العملية ، التي ساعدتنا كثيرا في فهم عِلميْ النحو والصرف ومسائلهما المعقدة ..

وكانت ملاحظتي الأولى عليه ونحن تلامذته في السنة الأولى من قسم اللغة العربية في كلية الآداب ، أنه :

لا يحب أنصاف الحلول ..

هو هادئ جدا ، لكنه يثور ويحمر وجهه ويحتقن ، إذا لامسَ حساسيته أو خدشه تصرفٌ ما ، من هنا أو هناك ..

في محاضراته ومنها ، أحببت زهير بن أبي سلمى ، وشعره ، وحكمته ومديحه وهجاءه ..

وأحببت على يديه أنفة عمرو بن كلثوم ، وإباءه الضيم ، وعزة النفس ، وكرم المحتد ، وقوة الحق ، وحق القوة ..

وأحببت منه حديثه الفياض الصادق المعجَب بسمو المتنبي ورفعته وحكمته وفخره وهجائه وآماله وأحلامه وخيباته ..

وجعلني أعشق عنترة وسواده ونبله وعشقه وشجاعته ومروءته وإقدامه وعبوديته وحريته وانفطار قلبه ..

كما جعلني أمارس في اللغة ، اقتصادا بلا تقتير ، وإفصاحا بلا إسراف .. فللحرف قيمة ، ولحركته قيمة أخرى ، وللكلمة قيمة ، وكذلك للجملة والعلامات التي يجب أن تضاف على نهاياتها ..

دفعنا نعيب على أنفسنا أن نتحدث أمامه بالعامية ولو كانت " مزوزقة " ..

حتى عندما صادفته في حافلة النقل الداخلي " وكنا جيرانا في الحي " ، سألته ـ بالعامية ـ عن رأيه في بعض الروايات التي أقرأها ، فأجابني بالفصحى مستخدما لفظة قرآنية " القـَصص " بدلا من استخدامي لها بالكسر ..

وحين اختارني للإجابة عن سؤال حول شعر زهير بن أبي سلمى ، بدأت كلامي بقولي : عَرِفَ زهير .. فصوب لي بما لم أنسَه : عَرَف زهير .. لم أخجل من تصحيحه كما كانت تفعل بعض الزميلات ، بل انحنيت له وصوبت وأكملت ، فعقب يشكرني على صحة جوابي وانحنائي ..

بينما حينما صوّب لزميلتنا نجلاء ـ وكانت نجلاء حقا ـ قتلها وأقعدها الخجل .. وحين ثار على زميلتنا بديعة التي تلبس قبعة في رأسها تكشف أكثر مما تستر ودائمة الانشغال بها ـ وكانت استبدلتها " بالقشطة " ـ فطلب منها أن تنزعها أو تستخدم غطاء آخر لرأسها أو تخرج من المحاضرة .. فخرجت غاضبة ، ثم استبدلت القبعة في تالي الأيام ..

وقد غاب عن تدريسنا في السنة الثانية ، ليعود في السنة الثالثة ، بتدريسنا مادة النحو العربي .. وكانت تسمى بـ " الجسر " .. فمن اجتازه أفلح وتخرج ، ومن تعثر فيه أو فوقه ، طال مكوثه في الكلية حتى يرث الله الأرض ومن وما عليها ..

وفي محاضرته الأولى ، حذرنا وهددنا : لن تمروا ..

ووصلت رسالته ، ووقرت في نفسي ، وأنا المحب لشخصه وعلمه ، وكنت ممن يتجرأ بالسلام عليه ، ويخصني بالرد ، ويلقي السلام علي إن كان ذلك حقا لي ، وهاتان ميزتان قلما حظي بهما منه غير زملائه الأساتذة الكبار .. لأنه إن مشى لا تطرف عيناه يمنة ولا يسرة ، ويحرص على إطراقة تحميه من الاصطدام بالعابرين في الممرات ، وتساعده على سلوك طريقه تجنبا لرؤية " صرعات الطلاب والطالبات " التي يعدّها " تقليدا مكروها ومقيتا لثقافة وفدت علينا لتقطعنا عن جذورنا وحضارتنا وديننا " ..

كان الكثيرون من معارضيه لا يحبون فيه " تزمته الشديد " هذا ، وكنت أتعارض معهم ، بأن ذلك من حقه ، ولنا الحق أيضا في انتقاده ، وليس في تسفيه رأيه ..

فكان هؤلاء ـ ونحن من اتجاه سياسي واحد ـ يعيبون علي دفاعي عنه ، وإعجابي بسلوكه وتصرفاته .. ولم أكن آبه لردود فعلهم على ما كنت متيقنا من صحة رأيي فيه .. ولم أؤيدهم في ذلك أبدا ..

لأني لمست أن موقفهم منه كان سياسيا صرفا ، ويستند إلى عدائية منه تجاه تصلب مواقفه ودقته في علمه وتعليمه ، وفي المطلوب من طلابه الذين سيمنحهم درجة النجاح ..

فلن ينجح من لا يستحق ، ولن ينجح من كتب في دفتر الامتحان ما سماه " بالكفر " النحوي .. كأن يُكتب :

فعل ماضي مبني ، أو فعل ثلاثي مجرد مزيد ، أو قال امرئ القيس ....

فخطأ " كافر " من تلك أو ما شابهها ، كفيل برسوب الطالب في المادة ولو كانت كل المعلومات الأخرى في دفتر الامتحان صحيحة ..

ولشدة إعجابه بما تتمتع به إحدى طالباته من قدرات علمية وتفوق نادر ، تزوجها ، وصارت مساعدة له في تأليف الكتب وتنقيحها ، مما فتح عليه أبوابا من الانتقادات " الاجتماعية " التي لم تنل من عزيمته وإصراره ، كونه شديد الثقة بنفسه وعلمه وقدراته التي قل نظيرها .. واستخدمها بعض معارضيه وسيلة للتندر والاستخفاف ، كونهم لا يفصلون بين حياته العامة والخاصة ، وفي هذا ظلم كبير له ..

كان أستاذا بحق .. راقيا في تصرفاته وسلوكه ، ملتزما بمحاضراته ودقة مواعيدها في الدخول والخروج ، وقلما قصده أحد منا في مكتبه كونه سيحرج الداخلين إليه ، وهم يتلعثمون أو يرطنون بلغة سيئة ..

لا أعرف أخبارا جديدة عنه ، فهو بالأساس شخصية منقطعة لعلمه ودراساته ..

أحن لتلك الأيام ، ولمحاضراته الثرية ..

وهذه تحية محبة ووفاء لرجل ترك بصمة جليلة في تاريخ كلية الآداب في جامعة حلب ..

الإثنين ـ 23/05/2011

هذه بعض من كتبه التي تضمها مكتبتي :

المعلقات العشر ـ للزوزني ـ تحقيق وشرح

زهير بن أبي سلمى ـ شعره من حياته

دعبل الخزاعي ـ دراسة في شعره

المورد الكبير ـ مسائل نحوية وصرفية

المورد النحوي ـ مسائل نحوية وصرفية

الممتع في التصريف ـ لابن عصفور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق