ضرَبَني وبكى
كتبت لصديقنا قائلا : أرجو أن تقرأ كلماتي جيدا ، وأن تسير بين سطورها بحرفنة ومهارة ، كونك الأقرب لكلينا ، فلعلك تجد المفاصلَ الملتهبة ، والأوجاعَ الناجمة عنها ، وتشخِّصَ الحالة والعلاجَ والمدة التي يحتاجها شفاؤنا ..
أنا لا أريد تزييف الحقيقة ، ولا تزويرها ولا تزويقها .. فالحقيقة عندي دوما ، عارية وناصعة ودافئة وشهية ..
وإن كنت أزعم أن المسألة ـ يا صديقي ـ في غاية البساطة .. ولا تحتاج إلى مقدمات وخواتيم ، فلقد اعتدنا دوما على الوضوح الشديد والصدق إلى درجة البراءة ..
لكن حين يغدو التوتر وحشا عبر المسافات ، يفعل الأثير فعله في تلوين الأحداث ، ليجعل منها قضية خلافية ، وهي عبارة عن تهويمات لا محل لها من الإعراب في الحالات العادية ..
المهم يا صديقي ، سأروي لك الوقائع كما وقعت ، وسأمشي معك عبر وهادها وخلجانها ، حتى ترى الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وعليك أن تتسلح ببعض الصبر والحيلة على ما يمكن أن يثور حولنا من سفيف الكثبان الحريرية ..
سيكون مصيرنا في تلك واحدا ..
فإن عبَرْنا ، نكنْ معا ، وإن غمرتنا الريح بالأردان ، نكنْ في أحضانها ..
لا تودّعْ أحدا قبل المسير ..
دعهم يتفقدوا غيابنا حين يحتاجون ضوء القمر ..
إنهم مثلنا ، عطاشى ، يقتلهم الظمأ والهجير ..
لا تنس أني سأكتب لك أوجاعي وأوهامي .. وسأبثك شيئا من ارتجافي وحيرتي ، ومن قلقٍ استوطنَ مكامنَ الدفءِ في عقلي ..
اقرأني جيدا يا صديقنا ، وافهمني جيدا .. ولا تمش الهوينى على جثة الطريق الواصل بين المجرة ودمي ..
كن السيف السّلِسَ إذا أردت ، وإذا أردت ، كن أيقونةً أمام تمثال ربة " الخِصبِ " الباكية قهرا .. ثم اسمعني ، ولا تعلـّق قبل أن أتخلص من الاستعصاء بين اللهاة والحنجرة :
"" لم أعد أذكر تماما متى اتصل بي صديقنا ، أيوم الخميس 10/3 أم الجمعة 11/3 ؟؟
لكنه قال : سيذهب إلى دمشق غدًا أو بعد غد لارتباطه بعمل ضروري هناك ..
تمنيت له السلامة ، وطيب الإقامة ، وحملته تحية خاصة لبعض الأحبة هناك .
وكان مر الأسبوع كله دون أن يتصل وائل بنا .. حبستُ في صدري قلقا لم أفصحْ عنه لأمه ، لكنها سرعان ما تعالى صوت القلق منها ، وزاد فيه غيابُ الجميع عن الإنترنت ..
اتصلت بأخيه مستفسرا ، فأسرّ لي ، طالبا عدم إخبار والدتهما ، قال : وائل في دمشق .. وبصراحة : هو في السجن منذ أسبوع وسيبقى لأسبوعين قادمين ، يقضي عقوبة لتأخره عن الالتحاق من إحدى إجازاته ..
طبعا ، عرَفتْ أمُّه بذلك ، وهوّنتُ الأمرَ عليها حتى استطعت أن أنام ..
وكان ذلك مساء يوم السبت 12/03 ..
وفي يوم الأحد 13/03 اتصلت ظهرا بصديقنا العزيز ، وسألته : هل أنت في دمشق ؟
قال : بعد .. أنا على وشك مغادرة البيت الآن ..
قلت له : وائل في دمشق يقضي عقوبة انضباطية .. أيمكن أن تزوره وتطمئن عليه ؟؟
فجاءني جواب مخباطي صارم : " يا أخي لن أذهب ، ولن أسأل ، ولا أريد أن أذهب إلى أي مكان من تلك الأمكنة " ..
قلت له مستوعبا ومتفهما رده : لا بأس ، أيمكن أن تسأل : هل شمله العفو الرئاسي أم لا ؟ وإذا كان مشمولا لماذا لم يُفرَجْ عنه حتى الآن ، أي بعد مرور قرابة أسبوع على صدور مرسوم العفو وتفسيراته ؟؟
أيضا ، كرر جوابه السابق مع مزيد من الإصرار ..
ضبطت أعصابي كثيرا ـ يا صديقنا العزيز ـ وأنا أطلب منه هذا الطلب التافه الذي كان يمكن له أن يجاملني فيه ، وأن يجيبني : سأسأل .. وفيما بعد يقول : سألت ، وما وصلت لجواب .. أو يمكن ـ كعادته ـ أن يقول لي : " ماشي ، وبعدين يطنش وما رح أزعل لو طنش " لأني واثق أن الأمور ستتغير على الأرض ..
قلت له : شكرا ، وإن شاء الله بالسلامة ، ومع السلامة ..
وانتهت المكالمة ..
أنا أعرف مواقفه من هذه الأمور ، وقد اختلفنا كثيرا سابقا حولها وتعاتبنا وتصايحنا .. لكن لم نصل إلى ما وصلنا إليه الآن ..
وقد أعمتني اللطمة التي تلقيتها ، لعدة أسباب يجب أن تضعها نصب عينيك يا صديقنا :
أولا : لو لم يكن في دمشق أو ذاهبا إليها لما طلبت ذلك ..
ثانيا : حجّمت طلبي إلى درجة مجرد أن يسأل لي عن موضوع شمولية العقوبة بقانون العفو أم لا ؟ وكان يمكن أن يسأل أي أحد من معارفه عن هذا الأمر وعبر الهاتف ، وسيجد الأجوبة القاطعة .. وذلك من أيسر ما يكون ..
ثالثا : أنا أطلب منه أن يسأل لي عن ابني .. وليس أي شخص آخر ، وأسأله عن وائل وليس ولدا آخر ..
رابعا : لم أطلب منه أن يسأل لي عن مجرم أو عميل أو متآمر .. إنها مجرد عقوبة انضباطية بسيطة ، وهو خير من يعرفها ..
المهم ذهبت إلى البيت غاضبا .. رأت زوجتي ذلك في وجهي ، فبادرتني بأنها اتصلت بجوال وائل ، فرد عليها من كراج دمشق بعد الإفراج عنه اليوم بمرسوم العفو ، وهو متوجه إلى حلب ..
وبدل أن أفرح ، ازداد هياجي وغضبي ، وصرختُ : لماذا لم تقولي لي ذلك منذ علمتِ بالأمر ؟؟
قالت دون أن تعرف سبب ضيقي وعصبيتي : أردت أن أتركها لك مفاجأة حين تعود ..
لا بأس يا صديقي ..
ليلا اتصل بي وائل على النت .. قلت له : اتصل بعمك ليعرف أنه تم الإفراج عنك ورُدَّ عليَّ خبرا ..
فعلا ، اتصل وائل بعمه وعاد ليقول : إنه يسلم عليك .. وقد بارك لي خروجي ..
وعندما قمت لأنام في وقت متأخر ، أخذت الجوال لأضبط منبهه ، فوجدت فيه مكالمتين من صديقنا لم يُرد عليهما ، كونه صامتا ونحن نتكلم على النت .. ولم أنتبه فعلا لوضعية الجوال ..
يوم الإثنين صباحا ، مازلت تحت تأثير حالة عصبية شديدة .. خرجت من البيت طويلا ، وعدت أكثر اضطرابا ، فتساءلتْ زوجتي عن الأسباب وقد خرج وائل من السجن !! ..
قلت لها : لا شيء أنا متضايق من حالي ..
ونحن على مائدة الغداء ، اتصل صديقنا مرتين متتاليتين .. لم أرد .. كنت متألما ومزعوجا ، وخشيت ألا أضبط أعصابي ، فتتعقد الأمور أكثر ..
يوم السبت ليلا الساعة 10.30 ، اتصلت به فلم يرد أول مرة .. اتصلت ثانية ، فرد بنشافة وقرف ..
سألته بلهجة مَن " ضربني وبكى وسبقني واشتكى " : لماذا تقلب خِلقتك ؟؟ "" كناية عن سوء استقباله لسماع صوتي ""
بدا أنه شديد الضيق ، وحزين وكئيب ومصدوم ومجروح ومغدور ، وكله مني ..
قال غاضبا وصارخا : أنت تقفل الخط بوجهي ؟؟!!
انصدمت لوهلة محاولا استذكار فعلتي ، لكني ما فعلتها .. ولم أقل له إن جوالي كان صامتا حين اتصاله ، بل قلت :
أنا لم أرد عليك لأني متضايق منك ومزعوج ولا أريد أن أرد .. وأضفت بعصبية : " شو صار إذا ما رديت ؟! هذه ليست المرة الأولى التي لا أرد فيها عليك ..
فقال متألما : في السابق كان شيئا ، والآن شي آخر ..
كبُرَتْ وتعاظمَتْ صدمتي ، وانعقد لساني وهو يستعظم " سوء تصرفي " ، وأنه لو كان من غيري ، لكان له معه كلام آخر ..
لم أكن أريد أن أفهم اتهامه لي بـ " الوجهنة " وأنني تعاملت معه سابقا بوجه ، والآن أتعامل معه بآخر ..
فهذا ما لا يمكن أن أفكر به أبدا ، وما تعاملت به مع أحد لا غريب ولا قريب ولا عدو ولا صديق ..
ولعلك يا صديقي ، تعرفني جيدا ، ويعرف الجميع مواقفي .. ولا أريد أن أدافع عن نفسي إزاء تهمة ظالمة من هذا النوع .. ولو كان ذلك في وجداني لظهر على تصرفاتي قبل الآن ، وقد تعرضنا لظروف ومحن واختبارات أقسى وأشد وطأة ، وليس بعد هذه المدة ..
لكني فهمت من كلامه أنه هاله ما جرّمني من أجله لاعتقاد خاطئ منه ، أنني أتعامل معه من هذا الباب ..
ثم كرَّرْتُ عليه بغيظٍ مكبوتٍ : أنا لم أقفل الخط .. أنا كنت مزعوجا .. والآن انتهت ، ومسحتها .. وأنا مَن يتصل بك .. و "خلصنا بقا " ..
لم تنفرج أساريره ، وإن حاول أن يتحدث بهدوء ليسألني عن ظروفي وأحوالي كما كان يفعل سابقا ، لكن الضغط الداخلي كان عاليا ، فكاد يقفز في وجهي عبر الأثير ، وكان هدوءا مصطنعا ، حاول أن يجاملني فيه تحاشيا لتصعيد في غير أوانه ومحله ..
كأنه يريد أن يسجل عليَّ موقفا ما ، وكأن لسان حاله يقول : " ضربني وبكى ، وسبقني واشتكى " ..
سامحه الله .. سامحنا الله جميعا ..
ـــــــــــــــــــــــ
كنت أودّ أن أرسل تلك الرسالة لصديقنا المشترك ، لكني تراجعت ، وفضلت السير في الطريق التي اعتدنا السير فيها معا طيلة أكثر من ثلاثين عاما مضت ..
ــــــــــــــــــــــ
"" بعد بضعة أيام ـ وكانت عصيبة الاضطراب والتوتر والغم ، خرجت من البيت ، تجولت وحيدا وبعيدا ، دوزنت الكلمات التي سأقولها له ، ثم اتصلت :
قلت له : اسمعني :
أنا أريد أن تكون أمك حَكَمَا بيننا .. ارو لها ما حدث ، فأنا أثق بروايتك ، وبحكمها أيا يكن ..
أجابني بهدوء ودّي : لقد تحمّلتك طيلة السنين الفائتة ، ولن أعجز عن تحمل المزيد ..
قلت له : لا تعكس الآية .. اسأل أمك عمن تحَمَّل أكثر ، وأنا سأحترم جوابها مسبقا لأنني أعرف صدقها وحرصها .. ولن أتنازل عن حقي في حكمها فيما بيننا مهما كان ..
أرضاني بقوله : سأسألها فيما بعد .. لكن ، قل لي : لماذا كان جوالك مشغولا ؟؟
قلت : لأن جوالك مشغول طيلة الدقائق التي سبقت ..
فقال : ألا يعني لك ذلك شيئا ؟؟ أعرف أنك تعيه جيدا .. أرأيت كيف كان كل منا يتصل بالآخر في نفس اللحظة ؟؟!!
الإثنين ـ 21/03/2011
الإثنين ـ 30/05/2011
"" من دفاتري الجديدة ""
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق