الثلاثاء، 31 مايو 2011

فضاءات حلبية في الحنظل الأليف

فضاءات حلبية في الحنظل الأليف

" حاولت أن أعود بخيالي إلى الغابة ، أن أستعيد الجنة ، فلم أستطع .. يا للحفرة التي وقعت فيها !!

" الغابة ورائي ، والمدينة أمامي ، فأين المفر " ؟!

ما الذي يجمع بين هذه الأشياء سوى مكان واحد ..

اسمه : حلب ..

فـ " في الشارع تنفسْتُ النور ، والنور يعني : الغابة .. والغابة : حرية " ..

و " الغابة ، هي الجنة ، هي غابتي الجميلة ، هي حديقتي ، هي الحفرة " ..

"" مقاطع من الرواية ص 54 و 114 ""

☼☼☼

في الترتيب الزمني ، تأتي هذه الرواية رابعة في إصدارات الكاتب وليد إخلاصي .. وقد صدرت عن دار الكرمل / دمشق 1980 ..

وهي الرواية الأولى التي تتخذ من مدينة حلب " فضاء " واضحا وصريحا لها ..

ومن اللحظة الأولى ، يحس القارئ أنه أمام رواية تتجاوز سابقاتها ، وتعطي انطباعا بقوة ومتانة البناء الدرامي فيها من خلال شخصيات تنبض بالحياة ، وتعيش معنا ، وتتنقل ، وتحب وتكره .. وتأكل وتشرب ..

إنها ببساطة رواية تقتطع جزءا من الحياة والناس ، وتضعهم تحت المجهر تارة ، وتحت المبضع تارة أخرى ، كي تبدو الأحداث بحجمها ، وبتفاصيلها ..

وكما في معظم روايات وأعمال الكاتب ، تنتمي شخصيات أبطاله إلى الطبقة المتوسطة من المجتمع ، وإن غلب عليها سيطرة المتعلمين بكافة فئاتهم ..

فنجد شخصيات : كالرسام والمدير والشاعر والمعلم والمثقف والنحات ..

وهنا نلاحظ للمرة الأولى ، تسمية الأبطال بأسماء مسبوقة بـ " ألـ " التعريف ، على غير ما جاءت مجردة منها في الروايات السابقة ، في محاولة لتأصيل الشخوص ، وانتمائها إلى المكان المعروف والمحدد ..

وفي هذا إيحاء إلى أن هذه الشخصيات صارت جزءا مهمّا من مجتمعها ، وبات لها الدور الحقيقي في قيادة المرحلة ، وتقع عليها مسؤولية التنوير والتثوير فيه ..

أما " ليلى " بطلة الرواية ، فكأنها الحقيقة الحية التي لا تموت .. فهي بطلة " شتاء البحر اليابس " الرواية الأولى التي صدرت عام 1965 ..

و " ليلى " هي البطلة في هذه الرواية ، وتمتد بطولتها إلى رواياتٍ صدرت فيما بعد ، لتصل إلى روايتي : زهرة الصندل 1981 ، وملحمة القتل الصغرى 1993 ..

فعلى امتداد قرابة ثلاثين عاما من الرواية والقص ، تداخلت الأحداث وتشابكت معها صورة " ليلى " ورمزية اسمها ودلالات التمسك به ، وإيحاءاته ، لتأخذ ليلى حيزا واسعا من الروايات وصراعاتها ، ولتبقى البطلة في كل الأزمان والفضاءات الحلبية المتقنة الصنع والرسم والتلوين ..

وقد اتخذ الراوي من تلك الفضاءات مجالا حيويا يتحرك فيه الأبطال ضمن سيرورة الزمنين : الحياتي ، والروائي ، بدءا من أقبية السجن الحديث وأسواره ، إلى الدار الحلبية القديمة التي " تداعى بابها فجأة " ، ومع ذلك ، سعى " المعلم " المغرَم بالتاريخ ، لحفظها من الانهيار عبر تسجيلها لصالح الآثار في المدينة ، بغية ترميمها والحفاظ عليها ، لما تمثله من مكان تجتمع فيه ثلاثة أجيال ، فيما يطل الجيل الرابع برأسه بعد وقت قصير ..

وإذ يتنقل الكاتب بين أحياء مدينة حلب ، فهو يميز مستوياتها الشعبية والمتوسطة والأرستقراطية ..

فمن مأواه في بيت " في منطقة شبه مهجورة " ، يذهب للتعليم في مدرسة تقع في حي " الكلاسة " ، وهو وإن كان حيا شعبيا ، لكنه يتقدم على كثير من الأحياء ، كونه يشكل نقلة نوعية بينه وبين " منطقة شبه مهجورة " ، كما يعد همزة الوصل التي تصل بينه وبين حي المحافظة الأرستقراطي ، الذي يقع فيه قصر الحاكم / المحافظ ، والكثير من الأبنية الجديدة الراقية ، والشوارع النظيفة الأنيقة المشجّرة والمضاءة ليلا ..

ولكي تعكس الرواية صراعات الحياة ، لا بد من وجود شرائح فيها وعينات ، تمثل الواقع وتحاكيه ، ليكون الكاتب " شاهدا حقيقيا على عصره " كما يحب أن يعرّف نفسه ..

من هنا ، تكتسب شخصيات الرواية أبعادا إنسانية هي من صميم المجتمع وأبنائه بكافة أطيافهم وانتماءاتهم ..

كما تتحرك الأمكنة في الرواية لترصد التحولات الاجتماعية التي تتنامى مع تطور الحياة الاقتصادية ودور الدولة في توجيهها وقيادتها ..

لذلك ، فإن الكاتب يستنكر " هدم الجغرافية من أجل التاريخ " ص 21 .

ويصور " آدم " مكان سكنه قائلا : " غرفتي المطلة على حوش عربي ، تسكن غرفَهُ عائلتان متنافستان على البئر ، وعلى ثمار أشجار البرتقال الضامر " ..

ومع ذلك الفضاء المشحون المتأجج ، لا ينسى التفكير في " القلعة المبنية على شبكة من الممرات السرية " ص 40 ، وهي التي " تغوص في حفرة " هي الخندق المحيط بالقلعة ، فيطالب " بملئه بالماء وإلقاء ألواح البوظ لتسبح فيه " ص 6 ..

ولأن المكان ، حلب ـ حلم ، فإن الكاتب يرى أن " تجار البناء والسماسرة يحبطون كل حلم " ص 42 ..

وهم الذين " سيهدمون التاريخ ويخربونه ، وهم القوى الفاعلة الذين لن يتوانوا عن تقديم كل شيء في سبيل منافعهم ومصالحهم " ص 43 ..

ولأن الوطن الكبير ليس لـ " آدم " ، فهو يكفيه " وطنه الصغير " ص 45 ، الذي يتسع لأحلامه وآماله ، رغم قلقه الدائم وتشوشه واضطرابه وضياعه ..

أما " عاشق المدينة " و " الذي أحبَّ المدينة حتى الوَله " فهو " خير الدين الأسدي " الذي " يقبع في المغارة الكبرى ، وقد تكرسح في السرداب ، وقعد " ، متسائلا :

" ما الذي يجب ألا يموت ؟؟ " ويجيب :

" المدن الجميلة ، والزمن الموجود .. العلم والخير .. الرغبة في اكتشاف المجهول ، لا تموت " ..

ومع أن " حمض الزمن يذيب كل شيء ، لكن لا شيء يضيع ، فالتراب مخزن أمين " ..

إنها المدينة كلها تصبح مغارة كبرى حين تطل عليها من جبل الجوشن الرابض غربها ، وكأنه نظير ومعادل للقلعة التي في شرقها ، وبينهما ، وعند أقدامهما ، تبدو المدينة مغارة حقيقية ملأى بالأشجار والبيوت الواطئة والبساتين والأراضي الجرد اليابسة ، يتصاعد منها الغبار مع هبات الصيف الجافة ، ويتعثر في جلبابها نهر قويق وهو يمر طينيا حينا ، وآسنا أسود أحيانا أخرى ..

☼☼☼

يتحرك الأبطال " النمطيون " في المدينة وبيوتها ، ويتنقلون بين الحواري والأزقة كأنهم المخلوقات الأزلية فيها ..

وقد ألمح الكاتب إلى التشابه بين بطلها : آدم ، والأسدي . ص 46

لكن ، للبطل صفات أكثر : فهو عابث ، وحالم ، وخالق كالرّسام ، وفيه شيء من تشويش وقلق حياتي .. وهو محسود على قدرته في خلق خيالات ساحرة ينتفع منها في تسويغ " هذه الحياة الفقيرة " ، معترفا بأن التاريخ المظلم يثير فيه نوازع البحث عن الحقيقة في ضوء الحاضر المنير ..

ومن خلال القبو الذي يعيش فيه الأسدي / أو البطل آدم يصف القصور التي تنتشر في المنطقة الغربية من المدينة ، لكنه يرى القصر " كالقفص للعصفور " ، لأنه : " لا جنة بلا بشر " ..

وإذ يلتقي البطل بـ " عزّة " ، فيخاطبها :

" وجودُكِ أنساني عذابَ الفراق لغابتي " ..

" عزة : هي غابتي الآن " ..

لقد تأنسن المكان في عزة ، فاكتملت الدائرة الإنسانية والطبيعية في هذا الاتحاد بينهما ، لكن البطل سرعان ما ضاق بالغابة وعزة معا ، متأثرا بالقلق الدائم ، قائلا :

" بل أريد أن أعود إلى حديقتي " ..

إذن ، ومع تعدد الأمكنة التي تستوعب أبطال الرواية وشخصياتها الاعتبارية كـ " القلعة والأسدي " ، يستعد الكاتب لـ " يُفلـِّيَ رأس الزمن من حشرات الملل والمسؤولية " في رحلة الغوص في الفضاءات التي عشقها ، وحمَلنا على عشقها والسير وراءه حتى الثمالة ..

إنها " حلب " وليد إخلاصي ، وحنظله الأليف ..

إنها : جنة وحفرة ومغارة وقبو وسرداب وسور وكوخ وغابة وقلعة وخندق وسوق وحديقة وقصر ..

وهي أيضا : ليلى وآدم وعزة والأسدي والمعلم وأبو خالد ..

وفي النهاية يتساءل آدم :

" هل تعلمون لِمَ هرَبْتُ من المدينة ؟ لأنها سُوِّرَت .. وليس لي رغبة في العودة إلى المدن ..

طال هجري لها ، فنسيتها ونسيتني .. أبحث عن عزاء لخشونة المدن المتوقعة ، لأن إقامتي في حفرة المدينة ، ستمتد طويلا " ..

☼☼☼

ملحق عن " تكوين رواية : الحنظل الأليف " :

من مقابلة خاصة مع كاتبها في حلب عام 1993 يتحدث فيها عن المرحوم " خير الدين الأسدي " ..

قال وليد إخلاصي :

" فكرت في الرواية بعد أن انتهيت من كتابتها ..

" وأنا شاب صغير ، كنت أعرف ( خير الدين الأسدي ) ، أعرفه عن بعد .. فهو مدرّس ، لكنه لم يدرّسْني ، وهو بالنسبة لي ، شخصية مثيرة للتفكير ..

"وأول عمل أثار انتباهنا ، هو كتابه ( أغاني القبة ) ، تلك الغنائية الصوتية الجميلة ..

{ ولم يكن كتابه : ( موسوعة حلب المقارنة ) أقل أهمية من أغاني القبة . " هذه ملاحظة مني " }

" وقد قام الأسدي بمحاولات لسبر غور بعض مغاور منطقة " التلة السوداء " في حلب .. لأنه يعتقد : أن الإنسان الأول كان موجودا في حلب .. في المغاور ، وفي المنطقة الكلسية الصالحة للحفر بأدوات أولية ..

" وفعلا ، حاول الأسدي أكثر من مرة ، ووصل إلى مسافات عميقة ، وأصيب بشبه اختناق ، وأخرجوه

بقيت الحادثة في ذهني سنين طويلة .. "

" إذا أردنا أن نقوم بحفريات في المدينة ، فسنكتشف حقائق .. لكن الحفريات في عمق الإنسان ، هي مهمة الكاتب ..

" والشرارة الأولى التي جعلتني أبدأ في الرواية ، اندلعت حين شاهدت " فاتح المدرس " صدفة في دمشق ، ودعاني إلى بيته ..

كان بيته تحت الأرض .. وهو بيته ومرسمه ، وكنا خمسة أو ستة أشخاص ، الجلسة كانت حميمة ، وهناك هذر ثقافي ، وشكوى سياسية .. اختلطت الأمور ببعضها ، ولكن كانت ليلة جميلة ..

" أثرت تلك السهرة بي ، بعد عودتي إلى حلب ..

" ابتدأتُ بلا شعوري أكتب عن هذه الجلسة ، ونبتت ـ فجأة ـ الفكرة ..

" وشخصية الأسدي ، بالرغم من عدم حضورها القوي في الرواية ، كانت هي الباعث الأساسي للتفكير في البنية التحتية للحياة والمجتمع ..

" وعندما أصبحتُ صديقا للأسدي في أسلوبه العلمي ، في تحرّي الحقيقة ، وراء الظاهر ، لعب دورا أيضا في تفكيري أنا ..

" هذه الحادثة تمّت قبل أن أكتبَ الحنظل الأليف بمدة طويلة ..

" قد أكون أنا أحمّل الأسدي أكثر من حقيقته ..

1994

الثلاثاء ـ 31/05/2011

الاثنين، 30 مايو 2011

ضرَبَني وبكى

ضرَبَني وبكى

كتبت لصديقنا قائلا : أرجو أن تقرأ كلماتي جيدا ، وأن تسير بين سطورها بحرفنة ومهارة ، كونك الأقرب لكلينا ، فلعلك تجد المفاصلَ الملتهبة ، والأوجاعَ الناجمة عنها ، وتشخِّصَ الحالة والعلاجَ والمدة التي يحتاجها شفاؤنا ..

أنا لا أريد تزييف الحقيقة ، ولا تزويرها ولا تزويقها .. فالحقيقة عندي دوما ، عارية وناصعة ودافئة وشهية ..

وإن كنت أزعم أن المسألة ـ يا صديقي ـ في غاية البساطة .. ولا تحتاج إلى مقدمات وخواتيم ، فلقد اعتدنا دوما على الوضوح الشديد والصدق إلى درجة البراءة ..

لكن حين يغدو التوتر وحشا عبر المسافات ، يفعل الأثير فعله في تلوين الأحداث ، ليجعل منها قضية خلافية ، وهي عبارة عن تهويمات لا محل لها من الإعراب في الحالات العادية ..

المهم يا صديقي ، سأروي لك الوقائع كما وقعت ، وسأمشي معك عبر وهادها وخلجانها ، حتى ترى الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وعليك أن تتسلح ببعض الصبر والحيلة على ما يمكن أن يثور حولنا من سفيف الكثبان الحريرية ..

سيكون مصيرنا في تلك واحدا ..

فإن عبَرْنا ، نكنْ معا ، وإن غمرتنا الريح بالأردان ، نكنْ في أحضانها ..

لا تودّعْ أحدا قبل المسير ..

دعهم يتفقدوا غيابنا حين يحتاجون ضوء القمر ..

إنهم مثلنا ، عطاشى ، يقتلهم الظمأ والهجير ..

لا تنس أني سأكتب لك أوجاعي وأوهامي .. وسأبثك شيئا من ارتجافي وحيرتي ، ومن قلقٍ استوطنَ مكامنَ الدفءِ في عقلي ..

اقرأني جيدا يا صديقنا ، وافهمني جيدا .. ولا تمش الهوينى على جثة الطريق الواصل بين المجرة ودمي ..

كن السيف السّلِسَ إذا أردت ، وإذا أردت ، كن أيقونةً أمام تمثال ربة " الخِصبِ " الباكية قهرا .. ثم اسمعني ، ولا تعلـّق قبل أن أتخلص من الاستعصاء بين اللهاة والحنجرة :

"" لم أعد أذكر تماما متى اتصل بي صديقنا ، أيوم الخميس 10/3 أم الجمعة 11/3 ؟؟

لكنه قال : سيذهب إلى دمشق غدًا أو بعد غد لارتباطه بعمل ضروري هناك ..

تمنيت له السلامة ، وطيب الإقامة ، وحملته تحية خاصة لبعض الأحبة هناك .

وكان مر الأسبوع كله دون أن يتصل وائل بنا .. حبستُ في صدري قلقا لم أفصحْ عنه لأمه ، لكنها سرعان ما تعالى صوت القلق منها ، وزاد فيه غيابُ الجميع عن الإنترنت ..

اتصلت بأخيه مستفسرا ، فأسرّ لي ، طالبا عدم إخبار والدتهما ، قال : وائل في دمشق .. وبصراحة : هو في السجن منذ أسبوع وسيبقى لأسبوعين قادمين ، يقضي عقوبة لتأخره عن الالتحاق من إحدى إجازاته ..

طبعا ، عرَفتْ أمُّه بذلك ، وهوّنتُ الأمرَ عليها حتى استطعت أن أنام ..

وكان ذلك مساء يوم السبت 12/03 ..

وفي يوم الأحد 13/03 اتصلت ظهرا بصديقنا العزيز ، وسألته : هل أنت في دمشق ؟

قال : بعد .. أنا على وشك مغادرة البيت الآن ..

قلت له : وائل في دمشق يقضي عقوبة انضباطية .. أيمكن أن تزوره وتطمئن عليه ؟؟

فجاءني جواب مخباطي صارم : " يا أخي لن أذهب ، ولن أسأل ، ولا أريد أن أذهب إلى أي مكان من تلك الأمكنة " ..

قلت له مستوعبا ومتفهما رده : لا بأس ، أيمكن أن تسأل : هل شمله العفو الرئاسي أم لا ؟ وإذا كان مشمولا لماذا لم يُفرَجْ عنه حتى الآن ، أي بعد مرور قرابة أسبوع على صدور مرسوم العفو وتفسيراته ؟؟

أيضا ، كرر جوابه السابق مع مزيد من الإصرار ..

ضبطت أعصابي كثيرا ـ يا صديقنا العزيز ـ وأنا أطلب منه هذا الطلب التافه الذي كان يمكن له أن يجاملني فيه ، وأن يجيبني : سأسأل .. وفيما بعد يقول : سألت ، وما وصلت لجواب .. أو يمكن ـ كعادته ـ أن يقول لي : " ماشي ، وبعدين يطنش وما رح أزعل لو طنش " لأني واثق أن الأمور ستتغير على الأرض ..

قلت له : شكرا ، وإن شاء الله بالسلامة ، ومع السلامة ..

وانتهت المكالمة ..

أنا أعرف مواقفه من هذه الأمور ، وقد اختلفنا كثيرا سابقا حولها وتعاتبنا وتصايحنا .. لكن لم نصل إلى ما وصلنا إليه الآن ..

وقد أعمتني اللطمة التي تلقيتها ، لعدة أسباب يجب أن تضعها نصب عينيك يا صديقنا :

أولا : لو لم يكن في دمشق أو ذاهبا إليها لما طلبت ذلك ..

ثانيا : حجّمت طلبي إلى درجة مجرد أن يسأل لي عن موضوع شمولية العقوبة بقانون العفو أم لا ؟ وكان يمكن أن يسأل أي أحد من معارفه عن هذا الأمر وعبر الهاتف ، وسيجد الأجوبة القاطعة .. وذلك من أيسر ما يكون ..

ثالثا : أنا أطلب منه أن يسأل لي عن ابني .. وليس أي شخص آخر ، وأسأله عن وائل وليس ولدا آخر ..

رابعا : لم أطلب منه أن يسأل لي عن مجرم أو عميل أو متآمر .. إنها مجرد عقوبة انضباطية بسيطة ، وهو خير من يعرفها ..

المهم ذهبت إلى البيت غاضبا .. رأت زوجتي ذلك في وجهي ، فبادرتني بأنها اتصلت بجوال وائل ، فرد عليها من كراج دمشق بعد الإفراج عنه اليوم بمرسوم العفو ، وهو متوجه إلى حلب ..

وبدل أن أفرح ، ازداد هياجي وغضبي ، وصرختُ : لماذا لم تقولي لي ذلك منذ علمتِ بالأمر ؟؟

قالت دون أن تعرف سبب ضيقي وعصبيتي : أردت أن أتركها لك مفاجأة حين تعود ..

لا بأس يا صديقي ..

ليلا اتصل بي وائل على النت .. قلت له : اتصل بعمك ليعرف أنه تم الإفراج عنك ورُدَّ عليَّ خبرا ..

فعلا ، اتصل وائل بعمه وعاد ليقول : إنه يسلم عليك .. وقد بارك لي خروجي ..

وعندما قمت لأنام في وقت متأخر ، أخذت الجوال لأضبط منبهه ، فوجدت فيه مكالمتين من صديقنا لم يُرد عليهما ، كونه صامتا ونحن نتكلم على النت .. ولم أنتبه فعلا لوضعية الجوال ..

يوم الإثنين صباحا ، مازلت تحت تأثير حالة عصبية شديدة .. خرجت من البيت طويلا ، وعدت أكثر اضطرابا ، فتساءلتْ زوجتي عن الأسباب وقد خرج وائل من السجن !! ..

قلت لها : لا شيء أنا متضايق من حالي ..

ونحن على مائدة الغداء ، اتصل صديقنا مرتين متتاليتين .. لم أرد .. كنت متألما ومزعوجا ، وخشيت ألا أضبط أعصابي ، فتتعقد الأمور أكثر ..

يوم السبت ليلا الساعة 10.30 ، اتصلت به فلم يرد أول مرة .. اتصلت ثانية ، فرد بنشافة وقرف ..

سألته بلهجة مَن " ضربني وبكى وسبقني واشتكى " : لماذا تقلب خِلقتك ؟؟ "" كناية عن سوء استقباله لسماع صوتي ""

بدا أنه شديد الضيق ، وحزين وكئيب ومصدوم ومجروح ومغدور ، وكله مني ..

قال غاضبا وصارخا : أنت تقفل الخط بوجهي ؟؟!!

انصدمت لوهلة محاولا استذكار فعلتي ، لكني ما فعلتها .. ولم أقل له إن جوالي كان صامتا حين اتصاله ، بل قلت :

أنا لم أرد عليك لأني متضايق منك ومزعوج ولا أريد أن أرد .. وأضفت بعصبية : " شو صار إذا ما رديت ؟! هذه ليست المرة الأولى التي لا أرد فيها عليك ..

فقال متألما : في السابق كان شيئا ، والآن شي آخر ..

كبُرَتْ وتعاظمَتْ صدمتي ، وانعقد لساني وهو يستعظم " سوء تصرفي " ، وأنه لو كان من غيري ، لكان له معه كلام آخر ..

لم أكن أريد أن أفهم اتهامه لي بـ " الوجهنة " وأنني تعاملت معه سابقا بوجه ، والآن أتعامل معه بآخر ..

فهذا ما لا يمكن أن أفكر به أبدا ، وما تعاملت به مع أحد لا غريب ولا قريب ولا عدو ولا صديق ..

ولعلك يا صديقي ، تعرفني جيدا ، ويعرف الجميع مواقفي .. ولا أريد أن أدافع عن نفسي إزاء تهمة ظالمة من هذا النوع .. ولو كان ذلك في وجداني لظهر على تصرفاتي قبل الآن ، وقد تعرضنا لظروف ومحن واختبارات أقسى وأشد وطأة ، وليس بعد هذه المدة ..

لكني فهمت من كلامه أنه هاله ما جرّمني من أجله لاعتقاد خاطئ منه ، أنني أتعامل معه من هذا الباب ..

ثم كرَّرْتُ عليه بغيظٍ مكبوتٍ : أنا لم أقفل الخط .. أنا كنت مزعوجا .. والآن انتهت ، ومسحتها .. وأنا مَن يتصل بك .. و "خلصنا بقا " ..

لم تنفرج أساريره ، وإن حاول أن يتحدث بهدوء ليسألني عن ظروفي وأحوالي كما كان يفعل سابقا ، لكن الضغط الداخلي كان عاليا ، فكاد يقفز في وجهي عبر الأثير ، وكان هدوءا مصطنعا ، حاول أن يجاملني فيه تحاشيا لتصعيد في غير أوانه ومحله ..

كأنه يريد أن يسجل عليَّ موقفا ما ، وكأن لسان حاله يقول : " ضربني وبكى ، وسبقني واشتكى " ..

سامحه الله .. سامحنا الله جميعا ..

ـــــــــــــــــــــــ

كنت أودّ أن أرسل تلك الرسالة لصديقنا المشترك ، لكني تراجعت ، وفضلت السير في الطريق التي اعتدنا السير فيها معا طيلة أكثر من ثلاثين عاما مضت ..

ــــــــــــــــــــــ

"" بعد بضعة أيام ـ وكانت عصيبة الاضطراب والتوتر والغم ، خرجت من البيت ، تجولت وحيدا وبعيدا ، دوزنت الكلمات التي سأقولها له ، ثم اتصلت :

قلت له : اسمعني :

أنا أريد أن تكون أمك حَكَمَا بيننا .. ارو لها ما حدث ، فأنا أثق بروايتك ، وبحكمها أيا يكن ..

أجابني بهدوء ودّي : لقد تحمّلتك طيلة السنين الفائتة ، ولن أعجز عن تحمل المزيد ..

قلت له : لا تعكس الآية .. اسأل أمك عمن تحَمَّل أكثر ، وأنا سأحترم جوابها مسبقا لأنني أعرف صدقها وحرصها .. ولن أتنازل عن حقي في حكمها فيما بيننا مهما كان ..

أرضاني بقوله : سأسألها فيما بعد .. لكن ، قل لي : لماذا كان جوالك مشغولا ؟؟

قلت : لأن جوالك مشغول طيلة الدقائق التي سبقت ..

فقال : ألا يعني لك ذلك شيئا ؟؟ أعرف أنك تعيه جيدا .. أرأيت كيف كان كل منا يتصل بالآخر في نفس اللحظة ؟؟!!

الإثنين ـ 21/03/2011

الإثنين ـ 30/05/2011

"" من دفاتري الجديدة ""

الأحد، 29 مايو 2011

باب الجمر ـ فضاء حلبي بامتياز

باب الجمر ـ فضاء حلبي بامتياز

باب الجمر : رواية صادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ـ 1984

يقول عنها صاحبها الروائي وليد إخلاصي :

(( بدت روايتي " باب الجمر " للوهلة الأولى ، وكأنها بحث عن بابٍ غائبٍ أضيفه إلى أبواب حلب التاريخية المعروفة ، أو أنه بابٌ متخيَّلٌ ، أدخل منه إلى حقيقة التاريخ الاجتماعي للمدينة ..

لكن الأمر على ما يبدو أبعد من هذا بكثير .. )) ..

" الرواية قبل الأخيرة : أحاديث للكاتب 1987 " .

ويقول : (أنا برأيي ، ليس هناك من قانون للرواية ، لأن كل رواية تخلق قانونها ) ..

" من حديث مقابلة خاصة معي للكاتب وليد إخلاصي " .

هذه الرواية ، هي واحدة من محاولاتٍ روائية كثيرة تسعى إلى " تأصيل " الرواية العربية ، والابتعاد عن النمط الأوروبي الكلاسيكي ، وإيجاد نوع من الرابط الحي ، بين نمط التفكير الشعبي ، وعملية القص أو السرد ، أو البناء الروائي عند الكاتب ..

وليست هذه أول المحاولات ، بل سبقها " زهرة الصندل " ، وبشيء أكثر هندسة في " الحنظل الأليف " ذات الطابع التجريدي ..

وتقوم رواية " باب الجمر " ، على عالم من الطقوس والحكايات والاحتفالات والأحلام والرجاءات والمخاوف الوثيقة الصلة بالروح الجماعية الشعبية ، التي تعيد اكتشاف الحكاية الشعبية السورية ..

وما يميز هذا العمل ، هو : حضور روح المكان ، بخصائصه الاجتماعية وروحه الشعبية ..

وليست أسطورة حديثة أن نبتكر حارة على غرار حارات حلب القديمة ، ونسميها " باب الجمر " ، لأن ذلك مألوف في النثر الروائي العربي ..

لكن ما يلفت النظر في هذه الرواية ، أن " روح المكان " بمعنى " فضائه الشعري الروحي الاجتماعي " تحضر على نحو مميز ، وتشكل بعدا أساسيا يوجه عالمها الروائي برمته ، و" يستحضر الروح الحلبية المحلية " كما يرى الدكتور فؤاد المرعي ، وهي " عمل فني يستحضر مكانا حلبيا يعطيه النكهة الحلبية " ويُبنى بروح محلية شعبية ..

إن المكان في " باب الجمر " ينهض في فضاء السرد الحكائي المشار إليه أعلاه " عالم من الطقوس والحكايات و ... و ... " ، وهذا ما يجعله وثيق الصلة بالبنية النفسية الشعبية للجماعة ..

إن أسلوبية السرد الحكائي هنا ، هي تعميم فني لعلاقات حضورية في الواقع .. وما يوضح ذلك ، هو قيام الرواية على عالم من المتضادات :

عالم الجماعة الشعبية : أحمد النساج ، الصالحاني ، محبة الجمر ..

في مقابل عالم السلطة ، الذي هو عالم " الأسطورة العائلية " لـ " آل الراس " ..

ونجد هذا التضاد على مستوى الإشكالية الروائية في شكل الصراع ما بين : ثنائية عالم مقهور ومستغَلّ وفقير وجاهل ، وعالم آخر ، يملك المعرفة ، ويملك في الوقت نفسه ، المال والقوة والسلطة ، والقدرة على تجهيل الآخرين واستغلالهم عن طريق جهلهم ..

وقد يبدو أن الصراع قائم بين المعرفة والسلطة ، وهنا ، قد تلعب المعرفة ـ إذا وجدت في عالم المقهورين ـ دورا تقدميا وتاريخيا ، ولكنه في رواية " باب الجمر " ضاعت المعرفة ، وظل المقهورون في انتظار عودتها يوما ما ..

إن السلطة ، لا تعارض إلا تلك المعرفة التي توقظ الفقراء ، وتؤدي إلى زعزعة الوضع الذي تستفيد منه ..

والكاتب هنا ، يبني عالما يقوم على ركيزتين أساسيتين :

الأولى : هي حي " باب الجمر " .

والثانية " هي " أسرة الراس " .

حي باب الجمر ، حي للفقراء ، يلتقي فيه أناس كثيرون ، تجمعهم صفة واحدة : كثرة الأبناء ، والفقر ..

في مقابله : أسرة " آل الراس " بأعمدتها المختلفة التي تسيطر على الصناعة والتجارة والمال والزراعة ..

أما المعرفة التي يحملها " محبة الجمر " ، فإنها تتطور في الخطاب الروائي ، من معرفة بدائية حدسية تتواصل مع الطبيعة ، إلى فعل اجتماعي ينتهك بأسئلته حرمة الأسطورة العائلية لآل الراس ، ويكون محبة الجمر ضحية هذه الأسئلة ، وشهيدها ، لأنه ينتهك حرمة سيطرة رأس المال الطفيلي والبيروقراطي في حارة " باب الجمر " الذي يستمد قوته أيضا من استمرار تلك الأسطورة ، وذلك جوهر البطولة الشعبية التي يمثلها محبة الجمر بملحميتها الحكائية ، مصاغة بخيال شعبي ..

والواقع ، أن محبة الجمر لم يولد على غرار أبطال الخيال الشعبي فحسب ، بل كان في موته شيء من ذلك أيضا ..

فالخطاب الروائي ، لم يقل : إن محبة الجمر قد مات ، بل ، يشي بأنه غاب ، وسيعود ثانية ..

ولم يتفوق محبة الجمر على " الصالحاني " بالمعرفة ، ولكنه تفوق عليه في شعبيته وذكائه وجرأته ، هذه الصفات التي تجعلنا نحكم على وليد إخلاصي ، بأنه منسجم حتى نهاية الرواية في تصويره لشخصية محبة الجمر ، التي لم تستطع " جمانة " ـ بكل ما تملكه من إغراء ـ أن تحرفه عن مطالبه .. لماذا ؟؟ لأن الكاتب يرى في محبة الجمر" المُخَلـِّصَ " الشعبي ، ذا التصميم والجرأة والشجاعة والذكاء والقوة .. وهذه هي صفات الشعب ..

ولهذا ، لا تنطبق على الكاتب وليد إخلاصي تصنيفات جاهزة ، لأنه " رجل مفاجئ " ..

إن النص الروائي يطرح هيمنة كاملة لأسرة " آل الراس " على مجتمع حارة " باب الجمر " ، بحيث أن هذه السيطرة لا تمس عالم العلاقات الحضورية الاجتماعية ، وإنما تمس العلاقة الشعرية أيضا ، بمعنى الفضاء الروحي والنفسي والحكائي ..

إن ما يبدو من أصالة في أعمال وليد إخلاصي ، وخصوصا في : باب الجمر وزهرة الصندل ، هو مظهر محدد من مظاهر الدفاع عن الروح الشعبية ، وهذا لا يخفف التجريدية الذهنية لبناء المكان ـ الأمكنة ، ولبناء الشخصيات ، إنما يمنحها طابعا وثيق الصلة بخصائص اللغة ، بل ، بخصائص الوعي الحكائي ..

وكما رأى الدكتور فؤاد ، فقد " استخدم الكاتب كل معارفه في كتابة هذه الرواية ، حتى أثقلها بالأفكار ، وجعل حوارها تكثيفًـًا لوعي كامل من مرحلة تاريخية معينة ، مُساقا بلغة شعرية في كل جمل الحوار " ..

وهذه الشاعرية : " بعيدة عن الترهل البلاغي العقيم " ..

وبرأي محمد جمال باروت : " فالبلاغة والرواية نقيضان .. والرواية ليست فن كلمة ، بل ، فن بناء وسرد وشخصيات ومشاهد وحوادث وأمكنة " ..

ويسرد لنا الكاتب التفاصيل الجزئية لكل ذلك ، بحميمية في إطار عرض ملحمي حكائي ..

وفي معظم روايات وليد إخلاصي ، نجد الصراع بين مفهومين أخلاقيين متناقضين ، وهذا ما يطبع إبداعه بطابع ذهني واضح ، لكن هذه الذهنية لا تقلل من حيوية عالمه الروائي الذي يبنيه بمقدرة مهندس معماري محترف ومجتهد ..

وتتضح هذه الذهنية أكثر في " باب الجمر " رغم أن الصراع بين الخير والشر ، " لا يمكن أن يحسم في جولة واحدة " ..

لقد أراد وليد إخلاصي أن يكتب ـ في هذه الرواية ـ تاريخ المدينة ، تاريخ حلب ، لكن ، ليس كالتاريخ الذي كتبه " الغزّي ، أو الأسدي ، أو الطباخ " ، إنه يكتب ما يقول عنه :

" هذا تاريخي ، صار أنا " ..


1994

الجمعة، 27 مايو 2011

الخلود في زهرة الصندل

الخلود في زهرة الصندل

مدخل إلى الرواية :

رغم الكم الكبير من الحكايات الشعبية المبثوثة في كتب التراث العربي ، إلا أن هذا التراث ، لم يعرف الرواية ، ولو بشكلها الفني البسيط ..

إن السِّيَرَ الشعبية ، والقصص ، والمقامات ، لا تقترب من حدود الشكل الفني للرواية الحديثة ، وإن كان في الكثير من عناصر الرواية : كالزمان والمكان والشخوص والحوار والحبكة وغيرها ..

ومن تلك الأعمال :

سيرة عنترة ، وأبي زيد الهلالي ، والمقامات ، وقصص الحب ... إضافة إلى ما كان يُروى على ألسنة الطير والحيوانات المختلفة ..

ولأن علاقة الرواية بالتاريخ حتمية ، فإنه يحكم ولادة الرواية ومسارها وتطورها ..

وتحتضن الرواية زمانا ومكانا متميزين ، وترسم أشكالا من الصراع تدور فيهما ، ويكون الصراع المرسوم والمحدود بالزمان والمكان ، مرآة لمجتمع محدد ، وصورة له ..

كما أن ارتباط الممارسة الروائية بتحولات مجتمع معين ، هو الذي يقيم علاقة حميمة بين الرواية والتاريخ ، ويجعل المعرفة الأدبية التي تنتجها الكتابة الروائية ، معرفة موضوعية ، تلتقي مع المعرفة التاريخية ..

والرواية ، في بحثها عن انتماء ، أو هوية معينة ، تعقد حوارا بين أزمنة مختلفة ، وتكون شكلا من كتابة التاريخ ، تتضمن الخطاب التاريخي ، وتفيض عنه أحيانا ..

إن الرواية تستعيد الماضي لتقدم شرحا للحاضر ، وللتطور اللاحق ..

كما أن احتدام التناقضات الاجتماعية لم يجدد الرواية في مضمونها فحسب ، بل قدّم الإمكانية الفعلية لفعل الروائي الحقيقي ، وكرّس الرواية كقوة فنية حاسمة ، لفترة تاريخية بأكملها ، وطرح في الوقت نفسه ، معضلات جديدة أمام الفعل والشكل الروائي ..

وقد تزامن ظهور بوادر للرواية العربية ، مع ولادة البورجوازية العربية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ..

وقد عبّرت هذه البورجوازية عن مسار ثقافي تابع للغرب ، كونها تابعة له سياسيا واقتصاديا أيضا .. الأمر الذي جعل منها عائقا حقيقيا في وجه التطور الاجتماعي الوطني ، ومارست دورا تمهيديا للتبعية بدل الاستقلال ، يفصل ممارسة الكتابة عن الواقع الاجتماعي ..

وفيما حققت البورجوازية الأوربية ثورة ثقافية عريضة ، فقد أخفقت مثيلتها العربية ، ووقفت بعيدا عن حركة المجتمع ، ونزوعه التاريخي نحو التطور والتقدم .

رواية : زهرة الصندل :

صدرت عن دار الكرمل بدمشق 1981

تمثل " زهرة الصندل " إحدى أهم إبداعات الأستاذ وليد إخلاصي الروائية ، كونها تمثل " الميثولوجيا الشعبية الحلبية " خير تمثيل ، في كل تفاصيل الرواية .

فقد كان وليد إخلاصي حريصا على إعادة " الخلق لما هو قائم " في هذه المدينة ، أكثر منه " حكواتيا " ناقلا لمخزون الشعب وأفكاره وأحداثه .

ولعل هذه الرواية " عِقد زواج شرعي بين الحكاية العربية ، والرواية الغربية " كما يصفها الكاتب نفسه .

وقد نمت شخصيات الرواية وأبطالها " المتعددون " بشكل صحي ، وصحيح ، من خلال المشهد البيئوي ، مما أكسب الرواية نكهة " حلبية " وطابعا " محليا " فيهما الكثير من الإيماءات والعلاقات الإدهاشية .

ومن خلال " المنظور العائلي للوطن " أو " المنظور الوطني للعائلة " ، كتب وليد إخلاصي روايته جاعلا الوطن " عائلة وطنية كبيرة ، حسب قول الناقد الصديق " محمد جمال باروت " ..

فالكاتب يرى أنه : " بالرغم من تشتت أفراد العائلة ، موتا ، وهربا ، وقتلا ، وهجرة ، فإن الرمز باق ، متمثلا بالجدة : وهوب " ..

" الجدة هي العائلة ، وهي المدينة / الوطن " ..

فإذا كان الإنسان في خطر ، كانت العائلة في خطر ، وبالتالي ، فإن الوطن بخطر ..

وللوقوف في وجه الخطر ، لا بد من " الفن " ..

فهل كانت الرواية ردَّ فعل انعكاسي ؟؟

حين تجد الخطر زاحفا أو كامنا أو يلوح لك بالتحدي ، تعود إلى داخلك بحثا عن العزاء ..

حب الوطن ، هو العزاء ..

والوطن ، ليس هو الجغرافية والتراب فحسب ، إنه محاولة الاستمرار بالحياة في أسوأ الأحوال ، وهو ربط الزمن الراحل ، بالزمن الآتي ..

العِلم ، يربط الجغرافية بالحياة ، أما تحويل الجغرافية إلى رمز ، وأمثولة ، فتلك مهمة الفن ..

والزمن هو الذي يعطي للمدن سرها ، فتمنحه بدورها للفن ، ويوما بعد يوم يزداد إحساس الكاتب بالكشف عن الجيولوجية الإنسانية / المدينية ، حتى يغدو أثر المدينة في الكتابة قدرا لا حيلة للكاتب في التحكم به ، إلا بمقدار ما يستطيع أن يحكم التفكير فيه ..

وتأتي زهرة الصندل ردة فعل عنيفة على الخطر الذي كان يتهدد المدينة / حلب ..

لكن لم تكن الرواية مجرد انفعال بأحداث معينة ، إنما تلك الأحداث ، فجرت في أعماق الكاتب ، التراكمات القديمة ، ونبشت المخزون ، عبر مئات السنين ، ليظهر في الرواية على هذا الشكل ..

فالرواية ـ كما يصفها الكاتب ـ " ليست واقعية تماما ، وليست متخيلة تماما .. إنها رواية ، وحسب " ..

إن قلعة حلب ، امرأة .. والمرأة العظيمة هي : الأم .

فيتخيل الكاتب احتفالا بالعيد المئوي الأول لامرأة ربّت أجيالا ، وهي تسكن دارا قديمة من طراز عربي قديم ، أنجبت أربعة أولاد :

قتِلَ الأولُ شابا على يد العثمانيين .

والثاني قتِلَ شابا على أيدي الفرنسيين .

والثالث قتِلَ في أول فوج ذهب إلى فلسطين ضمن جيش الإنقاذ .

والرابع صرَعته رصاصة طائشة في أيام الفوضى .

" أحمد قتله الأتراك ، وعبد السلام الفرنسيون ، وأما محمد فصرعته رصاصات اليهود ..

ومصطفى ؟ رصاصُ مَنْ قتله ؟؟ " .

هذا هو السؤال الأهم في الرواية .. ص 65 .

وصار لهؤلاء الأولاد أبناء ، ربّتهم الجدة ، وهي التي اعتنت بأولادها ..

لكنهم كانوا يموتون أو يهاجرون أو يتركون الدار القديمة إلى بيوت حديثة في أحياء أخرى من المدينة ، وكانت كلما فقدت أحد أحفادها ، ينحني ظهرها قليلا ، ثم ما تلبث أن تستعيد استقامة قوامها .

هذه الجدة ، هي الوطن الذي لا يمكن أن يستسلم ..

وبمرور الأحداث القاسية في المدينة ، تصاب المرأة بالمرض لأول مرة في حياتها ، لكنها لا تستسلم له ..

ويعلن الأطباء أنه " بالتأكيد ، سنحتفل بعيد ميلادها المئوي الثاني " .. ص 179

إن الجدة شخصية غير قابلة للموت ، لذلك ، لم يكن المرض سوى مجرد ردود فعل للروح والجسد ، ضد أزمة أو ضيق ص 180 .

إنها الشخص المكرَّس للانتصار على الموت .

إنها ستبقى مثل شجرة الصندل ، دوما ، تفوح بأريج إرادة الحياة ..

ـ كتب جميل حتمل ، القدس العربي ، السنة ألأولى ، العددان 126/127/ ـ 19 ـ 20 /09/1989 .

إن " زهرة الصندل " حالة استثنائية في الزمن الروائي عند الكاتب .. وقد كتبها للتغلب على الذعر الذي أصابه جرّاء شعوره بإمكانية تفتت ما هو متماسك :

المدينة ذات الأبعاد الجغرافية ، والنظام الإنساني المعين الذي يربطه بالآخرين ..

لقد بدت كل الأشياء مهددة بالخطر ، فكان لا بد من التقيد بالزمن التاريخي لأحداث الرواية ، حتى يكون الكاتب " شاهدا " في عصر محدد ، وفي مكان يعيش فيه ، ويخاف عليه ، ويشعر " أنه الشاهد الوحيد على هذا المكان / الوطن / حلب / " ..

معلنا أنه : " لا يمكن الاعتراف بكاتب إلا إذا كان واقعيا " ..

لقد رسم وليد إخلاصي " الأنصارية " رسما فيه الكثير من الأناقة والتراث ..

ففيها : " أشجار النارنج والجوز والتين ودالية " ص 13

وفيها من الورود : " الفل والليلك والياسمين والتمر حنة " ص 39 .

وهي قريبة من الجامع الأموي في المدينة / حلب .

فيها خزانة للأسرار ، وبلاطها خلخله الزمن ، وصارت الدار وعاء الأحزان والتأملات ، إذ دُفِنَ في " القبلية " أولياء " لا يُعرَفُ لهم تاريخ " ، ثم جُعل في الدار بركة ماء ، وجب ، وسقيفة ، ودكة ، وخزائن خشبية ، وصهريج ماء ، وبهو مضاء بنور هادئ ، وفيه مقاعد جلدية فقدت لمعانها ، وساعة جدارية قديمة تشيع الرنين المهيب ..

ومن " الأنصارية " يمكن الخروج إلى القلعة عبر باب يتصل بسرداب ، كأنه الحبل السري الذي يربط القلعة / الأم ، بالأنصارية / الوليدة ..

أما الجدة وهوب ، فقد حمّلها الكاتب أكثر بكثير مما تحتمل ، فنسب إليها كل الفضائل والمكرمات :

سديدة الرأي .. بعيدة النظر .. مرهَفة الإحساس .. دقيقة الملاحظة .. سريعة البديهة .. لها قدرة هائلة على الصبر والتحمل ..

ذات مروءة وكرم وشجاعة وحزم وحسم وأناة وذكاء ..... إلخ .

حتى لكأن الكاتب يوحي إلينا بأن وهوب هي : " القلعة " ذاتها .. والقلعة : لا تموت . ص 168 ..

والأنصارية : " لا تهدمها القنابل " .. ص 171 ..

" اردم حبس الدم في القلعة ، ثم نتحادث " ص 171..

يُحسِن الكاتب استخدام أدواته الفنية ، في إقناعنا بأن الأشياء يمكن أن تخلق من لا شيء ، وبأنها موجودة منذ القديم ، رغم إدراكنا لها بحداثتها .. ولا يجد الكاتب نفسه في حيرة وهو يعيد صياغة المواقف وترتيبها " وفبركتها " أحيانا للتخلص من أزمة أو استعصاء ..

وبظهور " ليلى " ، لا تعود عيناه تريان الخراب أو الشقوق في جدران الدار .. وبغيابها " يعود الخراب إلى الدار ، فتظهر الشقوق " .. ص 43/44 ..

ويعلن الكاتب أنه يريد أن يكون دوما مع " المدينة في استمرارها ، مع الحب والطمأنينة ، مع الجدة ، مع ليلى " ص 94 .

وأنه لن يتراجع عن حبه لليلى وكرهه للعنف الذي يرسل أصواتا تخدش حلم المدينة في السلام ..

وهكذا ، " ليلى تشبه جدتها وهوب ، وأحمد يشبه جده أحمد " ص 129 ..

إن ليلى " مشروع مهندسة " تحب المدينة ، لذلك تكلفها جدتها وهوب بوضع المخططات اللازمة لإعادة تعمير كل شيء ، لأن الأبناء سيعودون ذات يوم ، فكيف تستقبلهم تلك الأماكن الخربة ؟! " .. ص 143 .

وليس لليلى التذرع بأنها ما زالت مبتدئة ..

فهي ابنة " الأنصارية " ، لا تحد طموحاتها ، ولا تتوقف إبداعاتها عن العطاء المستمر والتجدد الأبدي ..

ـــــــــــــــــــــــــــ

متابعة :

مقتطفات من حوار نقدي اشترك فيه أستاذي وصديقي الدكتور فؤاد المرعي ، والصديق الأستاذ محمد جمال باروت ، في آذار 1987 :

يقول د . فؤاد : وليد إخلاصي روائي بارع .. وكي يخلصَ نفسَه من كل ما يُحاكم على أساسه ـ كأن نقول له : إن خط هذه العلاقة غير معقول ـ اختار عالما أسطوريا يقول لنا فيه ما يشاء ، دون أن نستطيع محاسبته ..

فالأسطورة متكاملة البناء ، وهو حر بداخلها .. ص 15

إن وليد إخلاصي عاشق لهذه الثنائيات :

الصراع بين الخير والشر .. بين الجريمة والعدالة .. بين الحق والباطل .. بين الحرية والاستعباد ..

ففي رواياته جميعا نجد هذا الصراع بين مفهومين أخلاقيين متضادين ، وهذا ما يطبع إبداع وليد إخلاصي بطابع ذهني واضح .. لكن هذه الذهنية لا تقلل من حيوية عالمه الروائي ..

ويضيف : وهوب في زهرة الصندل :

تحمل فكرة مجردة تماما ، وهي فكرة استمرارية الحياة واستمرارية عطاء الحياة في وجه الموت الذي سيطر على المدينة ..

فهي الخير المجسد في وجه الشر ، وهي الحب في وجه العداء والخصومات ..

وليس من المصادفة أن يكون اسمها " وهوبا " ..

ومع ذلك ، فإن وليد إخلاصي قادر على أن يجعل من " وهوب " جدة حلبية حقيقية تجيد طبخ المأكولات الحلبية ، وتجيد النظافة والاستضافة .. وكل شيء يكاد يذكرنا بعجوز حلبية ..

كتبت كاتيا سرور : السفير اللبنانية ـ العدد 2760 / 07/01/1982

كانت مشاعر الكاتب متناقضة حيال المدينة / الوطن ..

فتارة يرى المدينة ذاهبة نحو الموت ، وأخرى يراها ملقحة ضده .. وهذه الخلخلة في الروح ، زادت الكاتب بحثا في العمق عن ينابيع الحياة في جسد المدينة ، فكانت " زهرة الصندل " .. وكانت الجدة " وهوب " في التحامها بالمكان ، حتى غدت الرواية قائمة على ثالوث :

الإنسان / المكان / السؤال عن طمأنينة مفتقدة في المكان / حلب / الأنصارية ، التي أصيبت في طمأنينتها .

فالإنسان ليس منفصلا عن المكان ، والإنسان لا يموت كونه يتوالد ، فيكون التبدل في الوجوه ، لكن المكان / البدء ، باق .. لأن المكان لا يمكن أن يموت ، إنه الشاهد على نفسه وعلى الشهود ، وعلى الوقت ..

ملاحظة : النص كله أعلاه مكتوب منذ عام 1994 .