الأحد، 24 أكتوبر 2010

" القومجيون " ليسوا قوميين أساسا

مؤخرا .. سمعت مقابلة مع رئيس دولة عربية ، نحترمه ، ونؤيد كثيرا مما جاء على لسانه فيها ..

أجاب على أسئلة كثيرة ، وهامة ، حول الأوضاع الداخلية في بلده ، ومحيطها ، وما يُشاع عن تدخلاتٍ سياسية مغرضة من هنا وهناك ، فكان له رأيٌ حصيفٌ وواقعي ، ولم يذهب مذهب المتصيِّدين في الماء العكر داخليا وإقليميا ودوليا .. ولعله وصّفَ هؤلاء توصيفا دقيقا ، واتهمهم بممارسة السياسة بوجهين متناقضين ، فيعلنون شيئا وينفذون شيئا آخر .. ما علينا ..

ولئن كنت لا أخفي إعجابي به ، وبهدوئه ، وبرصانته ، وعقلانيته ، وحكمته في كثير من إجاباته ، وهو الذي عركته السياسة ، سنين طويلة ، فتحنّك بحنكتها ، وحفظ ألفَ بائها بالشكل الممتاز ..

لكني ، لا أستطيع أن أتفهم منه حديثه عن " القومجية " الذين كان لهم دور سلبي في السياسة العربية العامة ، وفي بلده بشكل خاص .. وكان حريا به ، لو أنه شخَّص عللهم وحدّدهم بوضوح ، أو أنه سمّى الأشياء بمسمياتها ، لا أن يُطلقها على عواهنها ، كي لا يؤذي الفكرة القومية بحد ذاتها ..

فليس العيب في القومية العربية .. التي كان سيادة الرئيس المعني ، أكثر الناس استفادة من فكرتها ، التي يسفهها الآن ـ وسأكون حَسَن النية ههنا ـ لأقول : ربماعن غير قصدٍ منه ..

فلو أخذنا معياره في توصيف السياسة والسياسيين ، لوجدنا ألف تهمة وتهمة لكل واحد من هؤلاء ..

إن تعميمًا مطلقـًا كهذا ، تعميمٌ مردود ، وغير منطقي .. لأنه يهاجم فكرة ، تتناقض مع أفكاره ومصالحه ، ضاربا عرض الحائط ، إيمان ملايين المواطنين بهذه الفكرة ، وتمسكهم بها وبمصالحها ..

فلماذا هو متمسك حتى النخاع بقوميته ـ وهذا من حقه ـ فيما يستهجن ذلك على غيره .. إنه لا يقبل أن تمس شعرة من قوميته ، فيما يسمح لنفسه بالتهجم على " القومجية " دون أن يوضح :

هل المقصود بهجومه ، أولئك الذين أساؤوا للقومية العربية ؟؟

فلو أوضح ذلك ، لكنا أول مؤيديه ، وآخر من ينازعه حقه ..

لكنه بدا في حديثه ، وكأن القومية العربية كلها ، فكرة مذمومة ، عفا عليها الزمان ، وباتت من الماضي الذي لا يرغبُ أحدٌ باستعادته .. وهنا مكمن المغالطة التي ساقها في كلامه ، ومرة أخرى سأكون حَسَن النية ..

فلئن لم تكن القومية العربية محظوظة في يوم من الأيام ، بوجود من يؤمن بها صادقا ، ويحميها ، ويدافع عنها ، أمام شراسة الهجمات التي مورست ضدها ، عبر كل القرن الماضي ، فذلك ليس مدعاة للنيل منها ، أو التصغير من شأنها ، أو دورها ..

لقد أدت القومية العربية دورا مهمًّا جدا ـ وليس غائبا عن ذاكرتهم بالتأكيد ، إنما هو مغيَّب في عقولهم ، ولسبب غير بريء هنا ـ أقول : أدت القومية دورا مهما في الحفاظ على كينونة ذلك الرئيس الذي أكـِّن له كل الاحترام والتقدير .. ولو لم تؤدِّ القومية دورها كاملا ، لما وصل السيد الرئيس إلى ما وصل إليه .. وهذا خيار الشعب ، ونحن ننحني له ..

ولئن أساء بعض المتطرفين ممن سماهم " القومجية " فهذا لا ينسحب على كل القوميين ، ناهيك ، على فكرة القومية نفسها .. لأن نتائج الأخذ بهذا المعيار لا تصب في صالح أحد أبدا ..

فما من دين أو مذهب أو عقيدة أو فكر ، ليس بين معتنِقيه أشخاصٌ متطرفون .. فهل نهاجم أساس انتمائهم الديني أو المذهبي أو العقائدي أو الفكري ؟؟ أم نهاجم تطرفهم وعنصريتهم وعدوانيتهم ، بدون المساس بالدين أو المذهب أو العقيدة أو الفكر الذي يزعمون انتماءهم إليه ، كذبا وبهتانا ؟؟

ولا أريد أن أضرب مثلا .. فالأمثال أكثر من أن تحصى حولنا ، ولطالما عانى شعبنا من إلصاق التهم به على هذا الأساس ، من عنصريي الغرب ، ومنظريه ومتطرفيه الجدد ..

إن الإيمان بالقومية العربية ، حق مشروع ومبدئي لجميع العرب ، كما هو تماما ، إيمان أي شعب بقوميته ، حق مشروع ومبدئي له ، أيضا ..

إن التعصب ، مهما كان حجمه ، أو لونه ، أو شكله ، بغيض ، وكريه ، ومرفوض ، ومُدان ..

ولو لم تكن القومية العربية ديمقراطية وإنسانية ، ولو لم تكن القومية العربية حقيقة حية خالدة ـ وستبقى رغم تنكر كثيرين لها ولأفضالها عليهم ـ لما كانت القمة العربية المقبلة ، قد سلمته زمامها منذ الآن ..

ولو لم تكن القومية العربية إنسانية فعلا ، ومتجذرة في أعماق الوجدان العربي ، لمَا وَجدَ السيد الرئيس ملاذا آمنا له ، حين كان طريدا لسنوات طويلة ، حتى حصل هو وغيره على التأييد والدعم ، والتعاطف الصادق مع قضيته وقضية مواطنيه ..

ولو لم تكن القومية العربية سمحاء ووطنية ، لما صَفحَت وتجاوزتْ عن كل ما مضى من الويلات هنا وهناك ، خاصة ، حين تحالفتْ قومياتٌ أخرى مع أعداء القومية العربية ، واستقوَتْ بهؤلاء عليها ، في مراحل طويلة سابقة ..

إننا نقبل بكل ثمار هذه القومية العربية الحرة ، والوطنية ، المتعالية على كل تعصب ، والرافضة لكل تزمت ، ولنا الحق في أن تتمسك بذلك في وجه كل المتهجمين عليها ، قصدا ، أو عن غير قصد ، تجنبا لانزلاقات فكرية مجانية ، لا تخدم فكرنا وقوميتنا وإيماننا المبدئي بها ..

وكما إنها ، لا تصادر حق الآخرين باعتزازهم بقوميتهم ، وتؤيدهم في ذلك تأييدا مطلقا ، وقد سبق " للقوميين العرب " أن دافعوا عن حقوق القوميات الأخرى في العيش الحر والكريم ، تحت سقفٍ من حرية الاعتقاد ، وديمقراطيةِ الرأي ، وتحت الرايةِ الوطنية الكبرى ، كمواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات ..

وكان موقف الرئيس واضحا ، ورائعا ، حين أسدى النصحَ للآخرين ، لينضووا تحت لواء عَلـَمِهم الوطني ، وليكونوا مواطنين صالحين ، لقوميتهم ، ووطنيتهم ، وليعملوا على نيل حقوقهم بالحوار ، وبالديمقراطية ، وعلى المدى الطويل .. لأن مثل تلك الأمور لا تتم بالسرعة التي يتخيلها بعض " الثوار " ..

إن منْ يهاجم القومية والقوميين على أنهم هم الذين انتهكوا محرمات الأمة ، وهم الذين أنزلوا بالأمة العربية كل النكبات ، وكل المصائب ، دون تمييز بين الصالح والطالح فيهما ، لهو هجوم غير بريء حتما ، بل ، وربما يكون بقصد النيل من القومية ذاتها ، في لفتة عنصرية مذمومة ، ومرعبة ، ولا تخدم مسيرة العيش المشترك للقوميات الموجودة على الأرض العربية ..

هل تحرَّر الوطن العربي كله من الاستعمار الأجنبي ، بغير قواه الوطنية والقومية ؟؟

لكن ذلك الاستعمار البغيض ، ولأنه انكسر أمام المد القومي العروبي الوطني ، أوجد نظما سياسية من ألوان أخرى ، وكلفها بمهمة الوقوف في وجه المد القومي .. وسخر أبواقه كلها على مدى أكثر من خمسين عاما للنيل من الفكرة القومية ، وتسفيهها ، لأنها كانت الأشد إيلاما له ، وعلى مصالحه ، والأكثر قدرة على مواجهته في كل بقاع وجوده ..

وحين ضَعُفتْ فكرة القومية ، نتيجة استمرار الهجوم عليها من أعدائها في الداخل والخارج ، بدأت أكاذيبُهم وافتراءاتهم ، تفعل فعلها ، حتى غدا مُحَرَّما على الإنسان العربي أن يساعد حتى نفسه ، أو يتعاطف حتى مع نفسه ، أو ينسجم حتى مع نفسه .. فما بالك بالتنسيق العربي المشترك ، مثلا وعلى أقل تقدير ؟؟!!

وصار محرَّما ـ مثلا ـ على العربي أن يساند أي موقف من مواقف أي قطر عربي آخر ، وفورا يتهمونه بالتدخل بالشؤون الداخلية ، بينما يحق لأعداء الأمة العربية أن يتدخلوا ويتدخلوا ويتدخلوا ، في كل الشؤون الداخلية والخارجية والمتوسطة ..

إنهم لم يكفِهم أن قسّموا الأمة العربية إلى اثنتين وعشرين دولة ، فهم الآن يحاولون تقسيم المُقسَّم .. والأدلة كثيرة وملموسة ، وليس السودان آخرها ..

ولنظرة موضوعية إلى السنوات العشرين الأخيرة ، وما جرى فيها من تمزق ، وتمزيق مقصود ومبرمج ، تعطي الدليل الكافي والواضح ، على جسامة المخاطر التي أحاقت بالأمة العربية ، وصعوبة الوضع الذي هي فيه اليوم .. فتواضعت مكانتها عالميا ، وتراجعت قيمتها في حساب موازين القوى العالمية ، وما عاد يحسب لها حساب ، إلا بمقدار ما يبتزون ملياراتها .. كل ذلك ، بدأ باغتيال الفكر القومي الصحيح ، ثم مساهمتنا في وأده بشكل أو بآخر ، خدمة لأعداء الأمة ، وبمساهمةٍ " كريمةٍ نبيلةٍ " منا نحن العرب ..

بالمقابل :

هل البدائل التي أوجدها معارضو القومية العربية أنقذت العروبة وأمتها من التشرذم والتبعية ؟؟

ماذا قدم هؤلاء للشعب العربي ؟؟

هل زادوا الدخل القومي لبلدانهم بفعل نهضة حقيقية غير مشتراة ، أو مستوردة ؟؟

هل جعلوها أكثر تحررا من استجداء حاجاتها بكل أشكالها : من القمح ومعجون الأسنان ، إلى التنسيق الأمني بدرجاته الفائقة الجودة ؟؟

وإذا كان المد القومي العربي قد انحسر مداه ، وتقوقع ، فلأن بعضنا تآمر مع أعداء القومية لإسقاطها من الداخل ..

وإذا كانت الأنظمة القومية قد فشلت في التوصل لتحقيق كل أهدافها ، إلا أنها استطاعت أن تبدأ بداية صحيحة وفي أكثر من تجربة بين أواخر الخمسينيات وأوائل السبعينيات .. لكن رد الفعل المعادي من الداخل والخارج ، كان لها بالمرصاد ، مما قوّض أركانها ..

كذلك ، إن استغلال المفهوم القومي واستخدامه بلبوس عنصري ، من قبل بعض " القومجيين " لا يعيب القومية العربية ولا فكرها ، ولا المؤمنين بها إيمانا صادقا في شيء .. كما لا يعيبُ المسلمينَ ، وجودُ متطرفين أو تكفيريين ، يتسترون وراء العقيدة السمحة الأبدية ، لمآرب مشبوهة ..

فكثيرا ما تنحرف أدوات التنفيذ ، عن لائحة الفكر الرئيسية ، فتتوجه مباشرة ، معاولُ الهدم للفكرة ذاتها ، بدل أن نقوّم مسار وأدوات التصحيح ..

الأحد ـ 24/10/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق