الاثنين، 18 أكتوبر 2010

بين المتنبي وابن زريق البغدادي

بعد أن وقعتُ على " القصيدة اليتيمة ، العينية " ـ كما تـُسَمَّى ـ لأبي الحسن ، علي بن زريق البغدادي ، وقرأتها مرات متعددة ، متعاطفا مع الشاعر في بلواه ، ومصيبته التي حلت به ، متحسِّسًا ما فيها من ألم الغربة الممزوج بفراق الحبيبة ، والأسى واللوم واللوعة والانكسار ، وجدتُ نفسي مدفوعا للعودة إلى كتاب الدكتور طه حسين ( مع المتنبي ) .. مستذِكرًا مقطعًا رائعا منه لم يغب عن مخيلتي طيلة هذه السنين ، يحلل فيه عميدُ الأدب العربي نفسية َالمتنبي ، بخيبته ، وانكساره ، وذِلته ، وهربه من كافور مصر ، هائما في الصحراء ، باحثا عن أرض تؤويه ، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس ، شعرا وضجيجا وشغبا ، من خلال تحليل قصيدته " الدالية " الشهيرة :

عيدٌ بأيةِ حال ٍعُدْتَ يا عيدُ بما مضى ، أم لأمر ٍفيكَ تجديدُ

أمّا الأحبة ، فالبيداء دونهم فليتَ بـِيدًا ، دونكَ ، دونها بـِيدُ

ووجدتني ما زلت أحملُ له حنينا خاصّا مذ قرأته أيام الدراسة الجامعية الأولى لتشابهٍ رأيته بين الشاعريْن ، في طموحهما ، وخيبتهما ، وانسداد آفاقهما على رحابتها .. رغم الفوارق الكبيرة ، والبعد الزمني الذي يفصل بينهما ..

(( حيث ولد المتنبي في الكوفة عام 303 ومات في عام 354 للهجرة ، وولد ابن زريق في عام 420 للهجرة في بغداد ، ومات في الأندلس .. ))

وقد خلـَّفَ تعليقُ د.طه حسين على " الدالية " المذكورة في هجاء كافور ـ أثرًا كبيرا في نفسي وعقلي ، لا يقل شأنا أبدًا ، عن جمال وروعة قصيدة المتنبي نفسها ، فكأن الكاتب يرثي لحال الشاعر ، بعدما وضعَتْ له الدنيا نقطة ًفي آخر سطر ٍمن أحلامه وطموحاته .. وأقفلتْ أبوابَها في وجهه من مصر إلى الشام إلى العراق ..

يقول د . طه حسين في كتابه : مع المتنبي : ص 333 ، معلقا على القصيدة المذكورة :

( فأحباؤه " المتنبي " إذن ليسوا أشخاصًا يقيمون في حلب ، وإنما هم أطماعُهُ وأماني نفسه التي لم يظفر بها قط ، ولن يجدَ إلى الظفر بها سبيلا ..

ويتابع :

واقرأ هذه الأبيات التي لا أعرفُ أجملَ منها ، ولا أصْلـَحَ للغناء :

لم يتركِ الدَّهرُ من قلبي ولا كبدي شيئا ، تـُتـَيِّمُهُ عينٌ ولا جـِيْْدُ

يا ساقِيَيَّ : أخمرٌ في كؤوسِكما أمْ في كؤوسِكمَا هَمٌّ وتسهيدُ ؟؟!!

أصَخرَة ٌأنا ؟ ما لي لا تحَرِّكني هذي المُدامُ ولا هذي الزَّغاريدُ ؟

إذا أرَدْتُ كـُمَيْتَ اللون ِصافية ً وَجَدْتـُها .. وحَبيبُ النفس ِمَفقودُ

ويضيفُ الكاتبُ مُعلقا بقوله :

أما أنا ، فمفتون بهذه الأبيات ، وبالثلاثة الأخيرة منها خاصة ..

وما أعرفُ أني وَجدتُ في كلِّ ما قرأتُ من الشعر العربي ، ما يشبهها َ روعة ، ونفاذا إلى القلب ، وتأثيرًا في النفس .. ومهما أحاولُ فلن أستطيعَ تصويرَ ما يملأ نفسي من الحزن حين أسمعُ تـَحَدُّثـَهُ إلى سَاقِيَيْه ، وسؤاله إياهما عمَّا في كؤوسِهما : أخمْرٌ هو ، أمْ هَمٌّ وتسهيدٌ ؟؟

ومهما أقلْ ، فلن أستطيعَ أنْ أصَوِّر إعجابي بهذا البيت الذي يسأل فيه عن نفسه : ما له لا يَطرَبُ للخمر ، ولا يَطرَبُ للغناء ؟ وما أعرفُ بيتا يُصوِّرُ السّكونَ وجمودَ النفس وموتَ القلب ، خيرًا من هذا البيت ، وهو من أشد الشعر تحريكا للنفوس ، وإثارة للطرب الحزين في القلوب ..

ثم ، انظرْ إلى هذه الحسرة التي يصيح بها البيت الأخير .. صيحة اليأس والقنوط .. لأنه يبتغي المُدامَ ، فيظفر بها ، ولكنه وحيدٌ ، قد فـَقـَدَ حبيبَ نفسه ، فهو لا يستطيع أن يلهوَ وحده ، ولا أنْ ينعمَ بلذةٍ وحيدًا ..

ويضيف د. طه حسين : في " ص 334 "

فقد أخذ الشاعرُ يوضِّحُ عمَّا في نفسه ، ويبيِّنُ أسبابَ حزنه شيئا فشيئا :

ماذا لقِيْتُ من الدنيا وأعْجَبُهُ أني بما أنا شاكٍ منهُ ، محَْسودُ

أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثـْر ٍ خازنا وَيَدًا أنا الغنيُّ وأمْوالي المواعيدُ

أكلما اغتالَ عبدُ السُّوءِ سَيِّدَهُ أو خانـَهُ ، فلهُ في مصرَ تمْهيدُ ؟!

صارَ الخَصِيُّ إمامَ الآبـِقينَ بها فالحُرُّ مُسْتعـَْبَدٌ ، والعَبْدُ مَعبودُ

نامَتْ نوَاطيرُ مِصْر ٍعن ثعالبها فقد بَشِمْنَ ، وما تفنى العَناقيدُ

يقول د. طه حسين :

ولستُ أعرفُ أصدقَ في مصر ، ولا أبرعَ في تصويرها من هذا البيت الأخير .. وما أرى إلا أنّ المتنبي قد أ ُلهِمَ البلاغة والحكمة حقـًّا ، حين وُفِّق لهذا البيت الذي يَختصر لونًا من حياة مصر ، منذ أبْعَدِ عهودها بالتاريخ ، إلى هذا العهد الذي نحيا فيه .. ولو أن التاريخَ أرادَ أن يُحصيَ الثعالبَ التي عَدَتْ على مصرَ وأموالها ، فأخذتْ منها ما أطاقتْ ، وما لم تـُطِقْ ، حتى أدرَكها البَشمُ ، وما هو فوق البَشم ،،، ونواطيرٌها نائمة ،،، وقادتها غافلون ، وأموالها ـ مع ذلك ـ لا تفنى ولا تنفد ، ودُوَلُ الثعالب يتلو بعضُها بعضًا ، ويقفو بعضُها إثـْرَ بعض ٍـ أقول : لو أرادَ التاريخُ إحصاءَ هذه الثعالب ، لمَا استطاع .. ولستُ أدري : أيأتي يومٌ يكذبُ فيه هذا البيتُ من شعر المتنبي ؟؟!! فلا تنامُ نواطيرُ مصر ، ولا تبشمُ الثعالبُ فيها ، ولا يعدو الماكرون الغادرون على أهلها الآمنين الغافلين ؟؟

انتهى كلام د. طه حسين .. الكتاب طبعة دار المعارف بمصر ، ط13 ، وقد أ ُرِّخَ تأليف الكتاب في : 6/يناير/1937

(( وأرجو أن يعذرني القارئ الكريم ، على طول الاقتباس الأول ، وعلى إيراد الاقتباس الثاني المتعلق بنواطير مصر الغالية وثعالبها ، لوجوده في غير محله .. لكن ، لم أستطع تجاهله ، وأنا أقرأه ..))

أعود إلى ابن زريق البغدادي .. العاشق .. الطموح .. الشاعر ، الرقيق .. الغـَز ِل .. المغامر الذي قطع الصحارى على اتساعها ، والبحارَ على عمقها ومخاطرها ، للوصول إلى ما ظنه : تـَحَقـُّقَ الحلم والرّجاء ، وانفراجَة الزمان وهناءَه ، وسفينة الخلاص من ماض ٍأسودَ خلـَّفه هناك ، على ضفة الكرخ ..

ولولا حبيبٌ له ينتظره ، لكان أهْونَ عليه ، أن يظلَّ مستجيرًا من الرمضاء بالنار .. فههنا الأندلس ..التي شاع صيتها بأنها جنة الدنيا وفردوسُها الخالد ..

لكن كيف السبيل ؟؟ والطريق جدّ طويلة إلى الجنة ، ولم يكن سهلا الوصول إليها ، وهو الفارس الذي جندَل الليل ، وأدمى جبهة الشمس ، يدفعه الأملُ ، والشوقُ إلى الغِنى ، وتحْمِلهُ الهمّة النشوى على أفراس الريح والأبدية ..

وكعادة الشعراء ، حين وفودهم على ذوي السلطة ، يمدحونهم بالقصائد الطوال ، ويبالغون في وصف الطريق ومشاقـّها وصعوباتها وأهوالها التي اعترضتهم ، حتى وصولهم إلى مقصدهم ..

وهذا دليل إصرار الشاعر على قطع القِفار مهما اشتـَدَّت أخطارُها ، وتعدَّدَت ، للوصول إلى مَنْ يستحق أن تـُقطـَعَ هذه القفار من أجله .. لكرَمِه وشجاعته ومروءته وعظمة شأنه في قومه ، ومهابته بين الأقوام المجاورة ..

كل ذلك ، لينال الشاعر منهم الأعطيات الجزلة ، وليضمن لنفسه مكانة مناسبة ، ودَعَة ، وسعة في المكان ، والمال ..

وهكذا فعل البغدادي أمام الحاكم الأندلسي ..

ذهب ابن زريق إلى الأندلس مُسَلـَّحًا بشعره ، وواثقا من مضاء هذا السلاح .. وإلا ، كانت تغريبته إلى الأندلس ضربا من البَلـَهِ والجنون ..

واستقبله الحاكم ، على أنه شاعر .. فلو لم يكن أبو الخيبر ، خبيرا بالشعر والشعراء ، عارفا بقدره ، وبمنزلته الشعرية ، لما أضاع وقته بالإنصات ، لمجرد أن الشاعر قادم من عاصمة الشعر والفكر ..

لكن ـ مع الأسف ـ لم نرَ أثرًا للقصيدة هذه في أي مكان ، رغم أن تاريخ الأدب حفظ لنا كثيرًا جدًا من القصائد والأشعار التي تقال في مثل هذه المناسبات ..

وقد أجمعَت المصادرُ على أن ابن زريق لم يتركْ لنا سوى يتيمته ، التي وجدوها بين يديه ، وقد انفجرتْ أنفاسُه المحتقنة المكبوتة ـ غمّا وحزنا وخيبة وتفجُّعا ـ فوقها ، وهذا دليل آخر يجعلنا نشكك في ضياع أشعاره السابقة ..

فوجود القصيدة بين يديه ، يعني أنه كتبها ، أي : إنه يعرف القراءة والكتابة ..

والسؤال هنا :

ألم يكن لديه في بغداد شعرٌ مكتوبٌ ؟؟!!

ألم تكن القصيدة التي قالها أمام حاكم الأندلس مكتوبة ؟؟

أين شعر ابن زريق ؟؟ ولماذا اختفى من كتب الأدب ، وله مثل هذه القصيدة الرائعة ؟؟!! والتي لولاها لما كان له ذِكر ، ولما عرفنا شيئا عنه ..

ومع ذلك ، لم أعثرْ له على ديوان ، أو قصائد أخرى .. وليس بين أيدينا سوى هذه " القصيدة اليتيمة " ..

صحيح ، إنها رائعة وآسرة وتلامس حنايا الروح .. لكن ، أيعقل أن لا يقول الشاعر سوى قصيدة واحدة ، وتكون بهذا الجمال ، وهذه الروعة ؟؟!! وبالنتيجة ، تخلـِّدُ قائلها ؟؟!!

أنا أجزم ، أن ابن زريق ، ليس متطفلا على الشعر، ولا حديث عهد به حين كتب قصيدته " العينية " ، ولا يمكن إلا أن يكون شاعرا حقيقيا ، وله الكثير من الأشعار التي ضاعت ، أو ضُيِّعَتْ ، لسبب أو لآخر ...

أيا يكن .. هي قصيدة فريدة .. وهي القصيدة التي حمّلها ابن زريق ، كلَّ ما كان يعتمل في نفسه ، وروحه ، قبل أن تخرجَ إلى بارئها ..

حمّلها ضيقَ ذات اليد في بغداد ـ الوطن والحبيبة ، وعزمَه على الرحيل ، وتمسُّكَ وتشبُّثَ الحبيبة به ، وهي ترفض الفراق والسفر ، وكأنها كانت تحس بما سيكون وراء هذا الغياب ..

حاولتْ أن تثنيَه عن عزمه ، لكن تصميمَه كان أقوى .. كانت تريد لحظة ًفي الحياة حاضرة ً، خيرًا من التشرد في المجهول الذي لا يعرف أحدٌ مَدَاهُ ولا حدودَهُ ..

كانت إرادة ُالتحدي ، هي الوسيلة .. والأجلُ المنتظرُ ، هو الغاية .. وقد تحققتْ .. وبينهما ، لم يحصد الشاعر ، سوى الخيبةِ ، التي مازحَهُ بها مَمْدوحُه أبو الخيبر .. فتحوَّل الأجلُ ناجزًا بعد أن كان منتظرًا ..

تقول الحكاية : إن ابن زريق مدحَ أبا الخيبر الأندلسي ، بقصيدة بليغة .. ربما ، أبلغ من مديح المتنبي لسيف الدولة ، أو كافور ..

لكن مُزاح الأمير ، كان بمثابة الضربة القاضية .. " فالعصفور يتفلـّى ، والشاعر يتقلـّى " على جمر الغضا الذي ما برح يفارق صدره ، وهو يرمق ضآلة عطاء الأمير الأندلسي .. ثم خرج من مجلسه يتعثر بفؤادٍ جريح ، تعفـَّر شهورا قبل الوصول ، وتجشّم ما تجشّم .. وأمضى وقته في الخان ، الذي انتظرَ فيه الموعد ، وهو يشحذ قصيدته ، ويمرّرُ أصابعَه على حدّها ليتأكدَ من صحّة ودقة التصويب نحو الهدف ، لبلوغِه ، بالسرعةِ التي خسِرَ فيها كلَّ شيء ، لحظة لوّح بيده مودّعا حبيبته ، وبغداده ..

من مشرق الدنيا إلى مغربها .. وما أدراك !!.. ثم قصيدة ٌفي مدح الأمير .. وبعد كل ذلك : عَطاء قليلٌ ؟؟!!

لماذا قطعَ ما قطعَ ؟؟ ولماذا تحمَّل ما تحمَّل ؟؟ ولماذا عاش ومات على كل ذرة رمل داستها حوافرُ حصانه المسكين ؟؟

لماذا انتقل من فقره ببغداد ، وهو الحُرُّ ، إلا من ظروفِ الفاقة ، إذا كان الفقر سيبقى يلازمه ههنا ، في الأندلس ، حتى يغدوَ فيها أسيرًا للمال والحرية ؟؟

لمنْ خلـّفَ حُبَّه هناك ؟؟..

ولِمَ ترك حبيبته ، ابنة عمه ، تنتظره ، بدأب النملة ، وصبر النحلة وأناتها ؟؟

لقد عارضته ، وتمسّكتْ به ، ورَجَته ، واستعطفته ، وتشبثتْ به .. لكنه أبى .. ووعدَها بجنةِ الأندلس ، وذهَبـِها ..

هي أسقطتْ عنه كلَّ عهودِه ووعودِه .. لا تريد شيئا منه .. تريده هو .. فحسب .. أتراه لم يفهم سرّ تمسُّكها به ؟؟

ألم يَدرْ في خلده ، أن الشر ـ كلَّ الشر ـ كامنٌ في اللحظة التي ترمي المرأة بنفسها بين قدميه ، ترجوه ، فيأبى .. تمسحُ دموعَها بأطراف ردائه ، فيتجاهل ، ويكابر ، ويزداد عنادا ..

والنتيجة :

هالـَه الموقفُ العصيبُ ، المخزي ، المُهينُ ، المُحبـِط .. وذاق مرارة السؤال الممزوج بذل النفس .. واسودّت شمس ربيع الأندلس في عينيه ، ليجد خيبة الأمل ، وحدها ، ووحدها فقط ، هي كل ما جناه الشاعر ، من الأمير ..

أ سيكون حظـُّه ، أوفرَ من حظ المتنبي ؟؟!!

وهل سيكون الأمير الأندلسي أكثرَ كرَمًا من كافور الإخشيدي ؟؟!!

ألمْ يجْن ِالشاعران من ممدوحَيْهما خيبة ًما بعدها خيبة ؟؟!!

وحده ، الأمل الذي كان يملأ صدر المتنبي ، هو الذي حفظه من الموت ..

فيما اليأسُ ، وجمودُ النفس ، وموتُ القلب الكسير ، كان وراء موت الشاعر ابن زُرَيْق البغدادي ..

إن هذا الأمر جعله كمَن أحرَق مراكب عودته ، التي كانت منجاه الوحيد .. ومسرى الروح في الجسد ..

كيف سيعود إليها ، تجلـِّلهُ الخيبة من الذؤابة المقهورة المُهانة ، إلى الأخمص المثقوب بالعار ، والمهزوم بالفشل ؟؟!! ..

كان حصانه يسابق حلمَهُ .. لكن الحلمَ سبق الحصان سلفا ، منذ أن ولـّى وجهه من بغدادَ غربا ..

أيّ حصان ذاك الذي يسبق الحلم ؟؟!!

باتت الحياة عنده لا تساوي قلامة ظفر ذاك الحصان الأبلق ..

وهنا ، قالوا : إنه قال :

"إنا لله وإنا إليه راجعون " .. سلكْتُ القِفارَ والبحار ، وتركت الدنيا كلها ، وجئت إلى هذا الرجل ، ليعطيَني هذا العطاء ؟؟!!

ثم تذكر فراق ابنة عمه ، وما بينهما من بُعْدِ المسافة ، وتحَمّـُل المشقة ، مع ضيق ذات يده ، فاعتلّ غمًّا ومات ..

وقالوا : وأراد عبد الرحمن بذلك أن يختبرَه ، فلمّا كان بعد أيام ، سأل عنه ، فتفقدوه في الخان الذي كان فيه ، فوجدوه ميتا ، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة :

لا تعْذليهِ فإنَّ العَذ ْلَ يُوْلِعُهُ

قد قلتِ حقـًّا ، ولكنْ ليسَ يَسْمَعُهُ

جَاوَزْتِ في نـُصْحِهِ حَدًّا أضَرَّ بهِ

من حَيْثُ قدّرْتِ أنَّ النـُّصْحَ يَنفـَعُهُ

فاسْتعْمِلي الرِّفـْقَ في تأنيبـِهِ بَدَلا

من عُنفِهِ ، فهو مُضْنى القلبِ مُوْجَعُهُ

قد كانَ مضْطلِعًا بالخَطْبِ يَحْمِلهُ

فضُلـِّعَتْ بخطوبِ البيْن أضْلـُعُهُ

يَكفيْهِ من رَوْعَةِ التفنيدِ أنَّ لهُ

منَ النـَّوى ، كلَّ يوم ٍ ما يُرَوِّعُهُ

ما آبَ من سَفـَر ٍ إلا وأزْعَجَهُ

عَزْمٌ إلى سَفـَر ٍ بالرَّغم ، يُزْمِعُهُ

بأبي المَطالبَ ، إلا أنْ تـُكـَلـِّفـّهُ

للرِّزق سَعْيًا ، ولكنْ ليسَ يَجْمَعُهُ

كأنـَّمَا هوَ في حِلٍّ ومُرتـَحـَلٍ

مُوَكـَّـلٌ بفضَاءِ اللهِ يَذرَعُهُ

إذا الزمانُ أرَاهُ في الرّحيل غِنىً

ولو إلى السِّندِ، أضحى وهو يَقطعُهُ

وما مُجَاهَدَة الإنسان ِ واصِلـَة ً

رزقـًا ، ولا دَعَة ُالإنسان تقطـَعُهُ

قد قسّمَ اللهُ بينَ الناس رزقـَهُمُ

لا يَخلـُقُ اللهُ مِنْ خَلـْق ٍ يُضَيِّعُهُ

لكنّهم كلِفوا حِرْصًا ، فلسْتَ ترى

مُسْترْزِقا ، وسِوى الغاياتِ يُقنِعُهُ

والحِرْصُ في الرِّزق ، والأرْزاقُ قدْ قـُسِمَتْ

بَغـْيٌ ، ألا إنَّ بَغـْيَ المْرْءِ يَصْرَعُهُ

والدَّهرُ يُعطي الفتى ، مِنْ حَيثُ يَمْنـَعُهُ

عـَفـْوًا ، ويَمْنـَعُهُ من حيثُ يُطـْمِعُهُ

أسْتوْدِعُ اللهَ في بَغدَادَ لي قمَرًا

بالكـَرْخ من فـَلـَكِ الأزرَار مَطلعُِهُ

وَدَّعـْتـُهُ ، وبـِودِّي لو يُوَدِّعُنِي

صَفـْوُ الحَياة ، وأنـَّي لا أ ُوَدِّعُهُ

وكمْ تـَشـَفـَّعَ بي أنْ لا أ ُفارِقـَهُ

وللضَّروراتِ حَالٌ لا تـُشـَفـِّعُهُ

وكم تشبَّث بي يومَ الرّحيل ضُحًى

وأدمُعِي مُسْـتـَهـِلاّ َّتٌ وأدْمُعُهُ

لا أكذِبُ اللهَ ، ثوْبُ العُذر ِمُنـْخـَر ِقٌ

مني بفـُرْقـَتِهِ ، لكنْ ، أ ُرَقـِّعُهُ

إنـّي أ ُوَسِّعُ عُذري في جـِنايَتِهِ

بالبَيْن عنهُ ، وقلبي لا يُوَسِّعُهُ

أ ُعْطِيتُ مُلـْكـًا فلمْ أ ُحْسِنْ سِيَاسَتـَهُ

وكلُّ منْ لا يَسُوسُ المُلـْـكَ يُخـْلـَعُهُ

وَمَنْ غـَدَا لابـِسًا ثوْبَ النّعيم ِ بلا

شكر ٍعليه ، فعَنـْهُ اللهُ يَنزِعُهُ

إعْتضْتُ مِن وَجهِ خِلـِّي بَعدَ فـُرْقتِهِ

كأسًا يُجَرَّعُ مِنها مَا أ ُجَرَّعُهُ

كم قائل ٍ لي : ذ ُقـْتَ البيْنَ ؟ قلتُ له :

ألذ َّنبُ ، واللهِ ، ذنـْبي .. لسْتُ أدْفـَعـَُهُ

هَلا أقمْتُ ، فكانَ الرُّشدُ أجْمَعُهُ

لو أنني حينَ بَانَ الرُّشدُ أتبَعُهُ

لو أنني لمْ تقعْ عَيْني على بَلدٍ

في سَفرَتِي هذِهِ ، إلا وأقـْطـَعُهُ

يا مَنْ أُقـَطـِّعُ أيّامِي وأ ُنـْفِـذُها

حُزْنـًا عَليهِ ، وليْلِي لسْتُ أهْجَعُهُ

لا يَطمَئِنُّ بجَنبي مَضْجَعٌ وَكذا

لا يَطمئِنُّ بهِ ، مُذ بـِنـْتُ ، مَضْجَعُهُ

ما كنتُ أحْسَبُ أن الدَّهرَ يَفجَعُني

به ، ولا أنّ بي الأيامَ تـَفـْجَعُهُ

حتى جَرَى الدَّهرُ فيما بيننا بـِيـَدٍ

عَسْرَاءَ ، تمْنـَعُنِي حَقي ، وتمْنـَعُهُ

وكنتُ من رَيْبِ دهري جَازعًا فـَر ِقـًا

فلمْ أ ُوَقَّ الذي قد كـُنـْتُ أجْزَعُهُ

باللهِ ، يا مَنزلَ القصْر ِالذي دُرِسَتْ

آثارُهُ ، وعَفـَتْ ، مُذ ْ بـِنـْتُ ، أرْبُعُهُ

هل ِ الزّمَانُ مُعِيْدٌ فيكَ لذ ّتـَنا

أم ِ الليالي التي أمْضَتـْهُ ، تـُرْجـِعُهُ ؟

في ذِمّةِ اللهِ مَنْ أصْبَحْتَ مَنزلـَهُ

وجادَ غـَيْثٌ عَلى مَغـْنـَاكَ يُمْرِعُهُ

مَنْ عِندَهُ ليَ عَهْدٌ لا يَِضِيْعُ كمَا

عِندِي لهُ عَهْدُ صِدْق ٍ، لا أ ُضَيِّعُهُ

ومنْ يُصَدِّعُ قلبي ذِكـْرُهُ ، وإذا

جَرَى عَلى قلبِهِ ذِكـْري ، يُصَدِّعُهُ

لأصْبـِرَنَّ لِدَهْر ٍ لا يُمَـتـِّعُـنِي

بهِ ، ولا بيَ فـِي حـَال ٍ يُمَـتـِّعُـهُ

عِلمًا بأنَّ اصْطِباري مُعْـقـِـبٌ فـَرَجًـا

فأضْيَـقُ الأمر ِ ، إنْ فكـَّرْتَ ، أ ُوْسِعُهُ

علَّ الليَالِي التي أضْنـَتْ بفـُرْقـَتِـنـَا

جسْمِي ، سَتجْمَعُـنِي يَومًا ، وتـَجْمَعُـهُ

وإنْ تـَغـُلْ أحَدًا منـَّا مَنِـيـَّتـُهُ

لا بُدَّ في غـَدِهِ الثاني ، سَيَتـْبَعُهُ

وإنْ يَدُمْ أبَدًا هذا الفِراقُ لنا

فمَا الذي بقـَضَاءِ اللهِ نـَصْنـَعُهُ ؟؟!!

الإثنين ـ 18/10/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق