بعد أن وقعتُ على " القصيدة اليتيمة ، العينية " ـ كما تـُسَمَّى ـ لأبي الحسن ، علي بن زريق البغدادي ، وقرأتها مرات متعددة ، متعاطفا مع الشاعر في بلواه ، ومصيبته التي حلت به ، متحسِّسًا ما فيها من ألم الغربة الممزوج بفراق الحبيبة ، والأسى واللوم واللوعة والانكسار ، وجدتُ نفسي مدفوعا للعودة إلى كتاب الدكتور طه حسين ( مع المتنبي ) .. مستذِكرًا مقطعًا رائعا منه لم يغب عن مخيلتي طيلة هذه السنين ، يحلل فيه عميدُ الأدب العربي نفسية َالمتنبي ، بخيبته ، وانكساره ، وذِلته ، وهربه من كافور مصر ، هائما في الصحراء ، باحثا عن أرض تؤويه ، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس ، شعرا وضجيجا وشغبا ، من خلال تحليل قصيدته " الدالية " الشهيرة :
عيدٌ بأيةِ حال ٍعُدْتَ يا عيدُ بما مضى ، أم لأمر ٍفيكَ تجديدُ
أمّا الأحبة ، فالبيداء دونهم فليتَ بـِيدًا ، دونكَ ، دونها بـِيدُ
ووجدتني ما زلت أحملُ له حنينا خاصّا مذ قرأته أيام الدراسة الجامعية الأولى لتشابهٍ رأيته بين الشاعريْن ، في طموحهما ، وخيبتهما ، وانسداد آفاقهما على رحابتها .. رغم الفوارق الكبيرة ، والبعد الزمني الذي يفصل بينهما ..
(( حيث ولد المتنبي في الكوفة عام 303 ومات في عام 354 للهجرة ، وولد ابن زريق في عام 420 للهجرة في بغداد ، ومات في الأندلس .. ))
وقد خلـَّفَ تعليقُ د.طه حسين على " الدالية " المذكورة في هجاء كافور ـ أثرًا كبيرا في نفسي وعقلي ، لا يقل شأنا أبدًا ، عن جمال وروعة قصيدة المتنبي نفسها ، فكأن الكاتب يرثي لحال الشاعر ، بعدما وضعَتْ له الدنيا نقطة ًفي آخر سطر ٍمن أحلامه وطموحاته .. وأقفلتْ أبوابَها في وجهه من مصر إلى الشام إلى العراق ..
يقول د . طه حسين في كتابه : مع المتنبي : ص 333 ، معلقا على القصيدة المذكورة :
( فأحباؤه " المتنبي " إذن ليسوا أشخاصًا يقيمون في حلب ، وإنما هم أطماعُهُ وأماني نفسه التي لم يظفر بها قط ، ولن يجدَ إلى الظفر بها سبيلا ..
ويتابع :
واقرأ هذه الأبيات التي لا أعرفُ أجملَ منها ، ولا أصْلـَحَ للغناء :
لم يتركِ الدَّهرُ من قلبي ولا كبدي شيئا ، تـُتـَيِّمُهُ عينٌ ولا جـِيْْدُ
يا ساقِيَيَّ : أخمرٌ في كؤوسِكما أمْ في كؤوسِكمَا هَمٌّ وتسهيدُ ؟؟!!
أصَخرَة ٌأنا ؟ ما لي لا تحَرِّكني هذي المُدامُ ولا هذي الزَّغاريدُ ؟
إذا أرَدْتُ كـُمَيْتَ اللون ِصافية ً وَجَدْتـُها .. وحَبيبُ النفس ِمَفقودُ
ويضيفُ الكاتبُ مُعلقا بقوله :
أما أنا ، فمفتون بهذه الأبيات ، وبالثلاثة الأخيرة منها خاصة ..
وما أعرفُ أني وَجدتُ في كلِّ ما قرأتُ من الشعر العربي ، ما يشبهها َ روعة ، ونفاذا إلى القلب ، وتأثيرًا في النفس .. ومهما أحاولُ فلن أستطيعَ تصويرَ ما يملأ نفسي من الحزن حين أسمعُ تـَحَدُّثـَهُ إلى سَاقِيَيْه ، وسؤاله إياهما عمَّا في كؤوسِهما : أخمْرٌ هو ، أمْ هَمٌّ وتسهيدٌ ؟؟
ومهما أقلْ ، فلن أستطيعَ أنْ أصَوِّر إعجابي بهذا البيت الذي يسأل فيه عن نفسه : ما له لا يَطرَبُ للخمر ، ولا يَطرَبُ للغناء ؟ وما أعرفُ بيتا يُصوِّرُ السّكونَ وجمودَ النفس وموتَ القلب ، خيرًا من هذا البيت ، وهو من أشد الشعر تحريكا للنفوس ، وإثارة للطرب الحزين في القلوب ..
ثم ، انظرْ إلى هذه الحسرة التي يصيح بها البيت الأخير .. صيحة اليأس والقنوط .. لأنه يبتغي المُدامَ ، فيظفر بها ، ولكنه وحيدٌ ، قد فـَقـَدَ حبيبَ نفسه ، فهو لا يستطيع أن يلهوَ وحده ، ولا أنْ ينعمَ بلذةٍ وحيدًا ..
ويضيف د. طه حسين : في " ص 334 "
فقد أخذ الشاعرُ يوضِّحُ عمَّا في نفسه ، ويبيِّنُ أسبابَ حزنه شيئا فشيئا :
ماذا لقِيْتُ من الدنيا وأعْجَبُهُ أني بما أنا شاكٍ منهُ ، محَْسودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثـْر ٍ خازنا وَيَدًا أنا الغنيُّ وأمْوالي المواعيدُ
أكلما اغتالَ عبدُ السُّوءِ سَيِّدَهُ أو خانـَهُ ، فلهُ في مصرَ تمْهيدُ ؟!
صارَ الخَصِيُّ إمامَ الآبـِقينَ بها فالحُرُّ مُسْتعـَْبَدٌ ، والعَبْدُ مَعبودُ
نامَتْ نوَاطيرُ مِصْر ٍعن ثعالبها فقد بَشِمْنَ ، وما تفنى العَناقيدُ
يقول د. طه حسين :
ولستُ أعرفُ أصدقَ في مصر ، ولا أبرعَ في تصويرها من هذا البيت الأخير .. وما أرى إلا أنّ المتنبي قد أ ُلهِمَ البلاغة والحكمة حقـًّا ، حين وُفِّق لهذا البيت الذي يَختصر لونًا من حياة مصر ، منذ أبْعَدِ عهودها بالتاريخ ، إلى هذا العهد الذي نحيا فيه .. ولو أن التاريخَ أرادَ أن يُحصيَ الثعالبَ التي عَدَتْ على مصرَ وأموالها ، فأخذتْ منها ما أطاقتْ ، وما لم تـُطِقْ ، حتى أدرَكها البَشمُ ، وما هو فوق البَشم ،،، ونواطيرٌها نائمة ،،، وقادتها غافلون ، وأموالها ـ مع ذلك ـ لا تفنى ولا تنفد ، ودُوَلُ الثعالب يتلو بعضُها بعضًا ، ويقفو بعضُها إثـْرَ بعض ٍـ أقول : لو أرادَ التاريخُ إحصاءَ هذه الثعالب ، لمَا استطاع .. ولستُ أدري : أيأتي يومٌ يكذبُ فيه هذا البيتُ من شعر المتنبي ؟؟!! فلا تنامُ نواطيرُ مصر ، ولا تبشمُ الثعالبُ فيها ، ولا يعدو الماكرون الغادرون على أهلها الآمنين الغافلين ؟؟
انتهى كلام د. طه حسين .. الكتاب طبعة دار المعارف بمصر ، ط13 ، وقد أ ُرِّخَ تأليف الكتاب في : 6/يناير/1937
(( وأرجو أن يعذرني القارئ الكريم ، على طول الاقتباس الأول ، وعلى إيراد الاقتباس الثاني المتعلق بنواطير مصر الغالية وثعالبها ، لوجوده في غير محله .. لكن ، لم أستطع تجاهله ، وأنا أقرأه ..))
أعود إلى ابن زريق البغدادي .. العاشق .. الطموح .. الشاعر ، الرقيق .. الغـَز ِل .. المغامر الذي قطع الصحارى على اتساعها ، والبحارَ على عمقها ومخاطرها ، للوصول إلى ما ظنه : تـَحَقـُّقَ الحلم والرّجاء ، وانفراجَة الزمان وهناءَه ، وسفينة الخلاص من ماض ٍأسودَ خلـَّفه هناك ، على ضفة الكرخ ..
ولولا حبيبٌ له ينتظره ، لكان أهْونَ عليه ، أن يظلَّ مستجيرًا من الرمضاء بالنار .. فههنا الأندلس ..التي شاع صيتها بأنها جنة الدنيا وفردوسُها الخالد ..
لكن كيف السبيل ؟؟ والطريق جدّ طويلة إلى الجنة ، ولم يكن سهلا الوصول إليها ، وهو الفارس الذي جندَل الليل ، وأدمى جبهة الشمس ، يدفعه الأملُ ، والشوقُ إلى الغِنى ، وتحْمِلهُ الهمّة النشوى على أفراس الريح والأبدية ..
وكعادة الشعراء ، حين وفودهم على ذوي السلطة ، يمدحونهم بالقصائد الطوال ، ويبالغون في وصف الطريق ومشاقـّها وصعوباتها وأهوالها التي اعترضتهم ، حتى وصولهم إلى مقصدهم ..
وهذا دليل إصرار الشاعر على قطع القِفار مهما اشتـَدَّت أخطارُها ، وتعدَّدَت ، للوصول إلى مَنْ يستحق أن تـُقطـَعَ هذه القفار من أجله .. لكرَمِه وشجاعته ومروءته وعظمة شأنه في قومه ، ومهابته بين الأقوام المجاورة ..
كل ذلك ، لينال الشاعر منهم الأعطيات الجزلة ، وليضمن لنفسه مكانة مناسبة ، ودَعَة ، وسعة في المكان ، والمال ..
وهكذا فعل البغدادي أمام الحاكم الأندلسي ..
ذهب ابن زريق إلى الأندلس مُسَلـَّحًا بشعره ، وواثقا من مضاء هذا السلاح .. وإلا ، كانت تغريبته إلى الأندلس ضربا من البَلـَهِ والجنون ..
واستقبله الحاكم ، على أنه شاعر .. فلو لم يكن أبو الخيبر ، خبيرا بالشعر والشعراء ، عارفا بقدره ، وبمنزلته الشعرية ، لما أضاع وقته بالإنصات ، لمجرد أن الشاعر قادم من عاصمة الشعر والفكر ..
لكن ـ مع الأسف ـ لم نرَ أثرًا للقصيدة هذه في أي مكان ، رغم أن تاريخ الأدب حفظ لنا كثيرًا جدًا من القصائد والأشعار التي تقال في مثل هذه المناسبات ..
وقد أجمعَت المصادرُ على أن ابن زريق لم يتركْ لنا سوى يتيمته ، التي وجدوها بين يديه ، وقد انفجرتْ أنفاسُه المحتقنة المكبوتة ـ غمّا وحزنا وخيبة وتفجُّعا ـ فوقها ، وهذا دليل آخر يجعلنا نشكك في ضياع أشعاره السابقة ..
فوجود القصيدة بين يديه ، يعني أنه كتبها ، أي : إنه يعرف القراءة والكتابة ..
والسؤال هنا :
ألم يكن لديه في بغداد شعرٌ مكتوبٌ ؟؟!!
ألم تكن القصيدة التي قالها أمام حاكم الأندلس مكتوبة ؟؟
أين شعر ابن زريق ؟؟ ولماذا اختفى من كتب الأدب ، وله مثل هذه القصيدة الرائعة ؟؟!! والتي لولاها لما كان له ذِكر ، ولما عرفنا شيئا عنه ..
ومع ذلك ، لم أعثرْ له على ديوان ، أو قصائد أخرى .. وليس بين أيدينا سوى هذه " القصيدة اليتيمة " ..
صحيح ، إنها رائعة وآسرة وتلامس حنايا الروح .. لكن ، أيعقل أن لا يقول الشاعر سوى قصيدة واحدة ، وتكون بهذا الجمال ، وهذه الروعة ؟؟!! وبالنتيجة ، تخلـِّدُ قائلها ؟؟!!
أنا أجزم ، أن ابن زريق ، ليس متطفلا على الشعر، ولا حديث عهد به حين كتب قصيدته " العينية " ، ولا يمكن إلا أن يكون شاعرا حقيقيا ، وله الكثير من الأشعار التي ضاعت ، أو ضُيِّعَتْ ، لسبب أو لآخر ...
أيا يكن .. هي قصيدة فريدة .. وهي القصيدة التي حمّلها ابن زريق ، كلَّ ما كان يعتمل في نفسه ، وروحه ، قبل أن تخرجَ إلى بارئها ..
حمّلها ضيقَ ذات اليد في بغداد ـ الوطن والحبيبة ، وعزمَه على الرحيل ، وتمسُّكَ وتشبُّثَ الحبيبة به ، وهي ترفض الفراق والسفر ، وكأنها كانت تحس بما سيكون وراء هذا الغياب ..
حاولتْ أن تثنيَه عن عزمه ، لكن تصميمَه كان أقوى .. كانت تريد لحظة ًفي الحياة حاضرة ً، خيرًا من التشرد في المجهول الذي لا يعرف أحدٌ مَدَاهُ ولا حدودَهُ ..
كانت إرادة ُالتحدي ، هي الوسيلة .. والأجلُ المنتظرُ ، هو الغاية .. وقد تحققتْ .. وبينهما ، لم يحصد الشاعر ، سوى الخيبةِ ، التي مازحَهُ بها مَمْدوحُه أبو الخيبر .. فتحوَّل الأجلُ ناجزًا بعد أن كان منتظرًا ..
تقول الحكاية : إن ابن زريق مدحَ أبا الخيبر الأندلسي ، بقصيدة بليغة .. ربما ، أبلغ من مديح المتنبي لسيف الدولة ، أو كافور ..
لكن مُزاح الأمير ، كان بمثابة الضربة القاضية .. " فالعصفور يتفلـّى ، والشاعر يتقلـّى " على جمر الغضا الذي ما برح يفارق صدره ، وهو يرمق ضآلة عطاء الأمير الأندلسي .. ثم خرج من مجلسه يتعثر بفؤادٍ جريح ، تعفـَّر شهورا قبل الوصول ، وتجشّم ما تجشّم .. وأمضى وقته في الخان ، الذي انتظرَ فيه الموعد ، وهو يشحذ قصيدته ، ويمرّرُ أصابعَه على حدّها ليتأكدَ من صحّة ودقة التصويب نحو الهدف ، لبلوغِه ، بالسرعةِ التي خسِرَ فيها كلَّ شيء ، لحظة لوّح بيده مودّعا حبيبته ، وبغداده ..
من مشرق الدنيا إلى مغربها .. وما أدراك !!.. ثم قصيدة ٌفي مدح الأمير .. وبعد كل ذلك : عَطاء قليلٌ ؟؟!!
لماذا قطعَ ما قطعَ ؟؟ ولماذا تحمَّل ما تحمَّل ؟؟ ولماذا عاش ومات على كل ذرة رمل داستها حوافرُ حصانه المسكين ؟؟
لماذا انتقل من فقره ببغداد ، وهو الحُرُّ ، إلا من ظروفِ الفاقة ، إذا كان الفقر سيبقى يلازمه ههنا ، في الأندلس ، حتى يغدوَ فيها أسيرًا للمال والحرية ؟؟
لمنْ خلـّفَ حُبَّه هناك ؟؟..
ولِمَ ترك حبيبته ، ابنة عمه ، تنتظره ، بدأب النملة ، وصبر النحلة وأناتها ؟؟
لقد عارضته ، وتمسّكتْ به ، ورَجَته ، واستعطفته ، وتشبثتْ به .. لكنه أبى .. ووعدَها بجنةِ الأندلس ، وذهَبـِها ..
هي أسقطتْ عنه كلَّ عهودِه ووعودِه .. لا تريد شيئا منه .. تريده هو .. فحسب .. أتراه لم يفهم سرّ تمسُّكها به ؟؟
ألم يَدرْ في خلده ، أن الشر ـ كلَّ الشر ـ كامنٌ في اللحظة التي ترمي المرأة بنفسها بين قدميه ، ترجوه ، فيأبى .. تمسحُ دموعَها بأطراف ردائه ، فيتجاهل ، ويكابر ، ويزداد عنادا ..
والنتيجة :
هالـَه الموقفُ العصيبُ ، المخزي ، المُهينُ ، المُحبـِط .. وذاق مرارة السؤال الممزوج بذل النفس .. واسودّت شمس ربيع الأندلس في عينيه ، ليجد خيبة الأمل ، وحدها ، ووحدها فقط ، هي كل ما جناه الشاعر ، من الأمير ..
أ سيكون حظـُّه ، أوفرَ من حظ المتنبي ؟؟!!
وهل سيكون الأمير الأندلسي أكثرَ كرَمًا من كافور الإخشيدي ؟؟!!
ألمْ يجْن ِالشاعران من ممدوحَيْهما خيبة ًما بعدها خيبة ؟؟!!
وحده ، الأمل الذي كان يملأ صدر المتنبي ، هو الذي حفظه من الموت ..
فيما اليأسُ ، وجمودُ النفس ، وموتُ القلب الكسير ، كان وراء موت الشاعر ابن زُرَيْق البغدادي ..
إن هذا الأمر جعله كمَن أحرَق مراكب عودته ، التي كانت منجاه الوحيد .. ومسرى الروح في الجسد ..
كيف سيعود إليها ، تجلـِّلهُ الخيبة من الذؤابة المقهورة المُهانة ، إلى الأخمص المثقوب بالعار ، والمهزوم بالفشل ؟؟!! ..
كان حصانه يسابق حلمَهُ .. لكن الحلمَ سبق الحصان سلفا ، منذ أن ولـّى وجهه من بغدادَ غربا ..
أيّ حصان ذاك الذي يسبق الحلم ؟؟!!
باتت الحياة عنده لا تساوي قلامة ظفر ذاك الحصان الأبلق ..
وهنا ، قالوا : إنه قال :
"إنا لله وإنا إليه راجعون " .. سلكْتُ القِفارَ والبحار ، وتركت الدنيا كلها ، وجئت إلى هذا الرجل ، ليعطيَني هذا العطاء ؟؟!!
ثم تذكر فراق ابنة عمه ، وما بينهما من بُعْدِ المسافة ، وتحَمّـُل المشقة ، مع ضيق ذات يده ، فاعتلّ غمًّا ومات ..
وقالوا : وأراد عبد الرحمن بذلك أن يختبرَه ، فلمّا كان بعد أيام ، سأل عنه ، فتفقدوه في الخان الذي كان فيه ، فوجدوه ميتا ، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة :
لا تعْذليهِ فإنَّ العَذ ْلَ يُوْلِعُهُ
قد قلتِ حقـًّا ، ولكنْ ليسَ يَسْمَعُهُ
جَاوَزْتِ في نـُصْحِهِ حَدًّا أضَرَّ بهِ
من حَيْثُ قدّرْتِ أنَّ النـُّصْحَ يَنفـَعُهُ
فاسْتعْمِلي الرِّفـْقَ في تأنيبـِهِ بَدَلا
من عُنفِهِ ، فهو مُضْنى القلبِ مُوْجَعُهُ
قد كانَ مضْطلِعًا بالخَطْبِ يَحْمِلهُ
فضُلـِّعَتْ بخطوبِ البيْن أضْلـُعُهُ
يَكفيْهِ من رَوْعَةِ التفنيدِ أنَّ لهُ
منَ النـَّوى ، كلَّ يوم ٍ ما يُرَوِّعُهُ
ما آبَ من سَفـَر ٍ إلا وأزْعَجَهُ
عَزْمٌ إلى سَفـَر ٍ بالرَّغم ، يُزْمِعُهُ
بأبي المَطالبَ ، إلا أنْ تـُكـَلـِّفـّهُ
للرِّزق سَعْيًا ، ولكنْ ليسَ يَجْمَعُهُ
كأنـَّمَا هوَ في حِلٍّ ومُرتـَحـَلٍ
مُوَكـَّـلٌ بفضَاءِ اللهِ يَذرَعُهُ
إذا الزمانُ أرَاهُ في الرّحيل غِنىً
ولو إلى السِّندِ، أضحى وهو يَقطعُهُ
وما مُجَاهَدَة الإنسان ِ واصِلـَة ً
رزقـًا ، ولا دَعَة ُالإنسان تقطـَعُهُ
قد قسّمَ اللهُ بينَ الناس رزقـَهُمُ
لا يَخلـُقُ اللهُ مِنْ خَلـْق ٍ يُضَيِّعُهُ
لكنّهم كلِفوا حِرْصًا ، فلسْتَ ترى
مُسْترْزِقا ، وسِوى الغاياتِ يُقنِعُهُ
والحِرْصُ في الرِّزق ، والأرْزاقُ قدْ قـُسِمَتْ
بَغـْيٌ ، ألا إنَّ بَغـْيَ المْرْءِ يَصْرَعُهُ
والدَّهرُ يُعطي الفتى ، مِنْ حَيثُ يَمْنـَعُهُ
عـَفـْوًا ، ويَمْنـَعُهُ من حيثُ يُطـْمِعُهُ
أسْتوْدِعُ اللهَ في بَغدَادَ لي قمَرًا
بالكـَرْخ من فـَلـَكِ الأزرَار مَطلعُِهُ
وَدَّعـْتـُهُ ، وبـِودِّي لو يُوَدِّعُنِي
صَفـْوُ الحَياة ، وأنـَّي لا أ ُوَدِّعُهُ
وكمْ تـَشـَفـَّعَ بي أنْ لا أ ُفارِقـَهُ
وللضَّروراتِ حَالٌ لا تـُشـَفـِّعُهُ
وكم تشبَّث بي يومَ الرّحيل ضُحًى
وأدمُعِي مُسْـتـَهـِلاّ َّتٌ وأدْمُعُهُ
لا أكذِبُ اللهَ ، ثوْبُ العُذر ِمُنـْخـَر ِقٌ
مني بفـُرْقـَتِهِ ، لكنْ ، أ ُرَقـِّعُهُ
إنـّي أ ُوَسِّعُ عُذري في جـِنايَتِهِ
بالبَيْن عنهُ ، وقلبي لا يُوَسِّعُهُ
أ ُعْطِيتُ مُلـْكـًا فلمْ أ ُحْسِنْ سِيَاسَتـَهُ
وكلُّ منْ لا يَسُوسُ المُلـْـكَ يُخـْلـَعُهُ
وَمَنْ غـَدَا لابـِسًا ثوْبَ النّعيم ِ بلا
شكر ٍعليه ، فعَنـْهُ اللهُ يَنزِعُهُ
إعْتضْتُ مِن وَجهِ خِلـِّي بَعدَ فـُرْقتِهِ
كأسًا يُجَرَّعُ مِنها مَا أ ُجَرَّعُهُ
كم قائل ٍ لي : ذ ُقـْتَ البيْنَ ؟ قلتُ له :
ألذ َّنبُ ، واللهِ ، ذنـْبي .. لسْتُ أدْفـَعـَُهُ
هَلا أقمْتُ ، فكانَ الرُّشدُ أجْمَعُهُ
لو أنني حينَ بَانَ الرُّشدُ أتبَعُهُ
لو أنني لمْ تقعْ عَيْني على بَلدٍ
في سَفرَتِي هذِهِ ، إلا وأقـْطـَعُهُ
يا مَنْ أُقـَطـِّعُ أيّامِي وأ ُنـْفِـذُها
حُزْنـًا عَليهِ ، وليْلِي لسْتُ أهْجَعُهُ
لا يَطمَئِنُّ بجَنبي مَضْجَعٌ وَكذا
لا يَطمئِنُّ بهِ ، مُذ بـِنـْتُ ، مَضْجَعُهُ
ما كنتُ أحْسَبُ أن الدَّهرَ يَفجَعُني
به ، ولا أنّ بي الأيامَ تـَفـْجَعُهُ
حتى جَرَى الدَّهرُ فيما بيننا بـِيـَدٍ
عَسْرَاءَ ، تمْنـَعُنِي حَقي ، وتمْنـَعُهُ
وكنتُ من رَيْبِ دهري جَازعًا فـَر ِقـًا
فلمْ أ ُوَقَّ الذي قد كـُنـْتُ أجْزَعُهُ
باللهِ ، يا مَنزلَ القصْر ِالذي دُرِسَتْ
آثارُهُ ، وعَفـَتْ ، مُذ ْ بـِنـْتُ ، أرْبُعُهُ
هل ِ الزّمَانُ مُعِيْدٌ فيكَ لذ ّتـَنا
أم ِ الليالي التي أمْضَتـْهُ ، تـُرْجـِعُهُ ؟
في ذِمّةِ اللهِ مَنْ أصْبَحْتَ مَنزلـَهُ
وجادَ غـَيْثٌ عَلى مَغـْنـَاكَ يُمْرِعُهُ
مَنْ عِندَهُ ليَ عَهْدٌ لا يَِضِيْعُ كمَا
عِندِي لهُ عَهْدُ صِدْق ٍ، لا أ ُضَيِّعُهُ
ومنْ يُصَدِّعُ قلبي ذِكـْرُهُ ، وإذا
جَرَى عَلى قلبِهِ ذِكـْري ، يُصَدِّعُهُ
لأصْبـِرَنَّ لِدَهْر ٍ لا يُمَـتـِّعُـنِي
بهِ ، ولا بيَ فـِي حـَال ٍ يُمَـتـِّعُـهُ
عِلمًا بأنَّ اصْطِباري مُعْـقـِـبٌ فـَرَجًـا
فأضْيَـقُ الأمر ِ ، إنْ فكـَّرْتَ ، أ ُوْسِعُهُ
علَّ الليَالِي التي أضْنـَتْ بفـُرْقـَتِـنـَا
جسْمِي ، سَتجْمَعُـنِي يَومًا ، وتـَجْمَعُـهُ
وإنْ تـَغـُلْ أحَدًا منـَّا مَنِـيـَّتـُهُ
لا بُدَّ في غـَدِهِ الثاني ، سَيَتـْبَعُهُ
وإنْ يَدُمْ أبَدًا هذا الفِراقُ لنا
فمَا الذي بقـَضَاءِ اللهِ نـَصْنـَعُهُ ؟؟!!
الإثنين ـ 18/10/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق