الثلاثاء، 29 يونيو 2010

قبل فوات الأوان يا عرب

إن السياسة التركية الخارجية ، تمر في الوقت الحاضر ، بمرحلة صعبة وخطيرة ، ولاسيما بعد العدوان الصهيوني على أسطول الحرية ، وتداعيات ذلك ..
ولعل الموقف التركي نما وتصاعد وانعكس اتجاهه ، على خلفية مواقف صهيونية كثيرة ، نالت من تركيا أردوغان ، ومن صيغة علاقة التحالف القائم بين الدولتين ..

وقبل أن نسردَ الأسبابَ والتداعيات ، لا بد من التنويه بضرورة أن يستدركَ العربُ موقفهم السياسي والاقتصادي مع تركيا ، لملء الفراغ الذي نتجَ عن تدهور العلاقات التركية الصهيونية ، فمالت الكفة لصالح العرب وقضاياهم ..
وإن كنا لسنا على ثقة بأن يقف العرب إلى جانب تركيا في مثل هذه الحالة ، لأن ذلك قد يُغضب العم سام ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن العرب غير مسموح لهم أن يقفوا لا مع أنفسهم ولا مع بعضهم بعضا ، فكيف يُسمح لهم أن يقفوا مع تركيا ضد الكيان الصهيوني ؟؟

في الأسباب والتداعيات :
لقد كان الموقف التركي متقدما على كثير من المواقف العربية ، منذ الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 ، حين لم يسمح البرلمان للقوات الأمريكية بعبور الأراضي التركية ، أو الانطلاق من قواعد فيها ، لشن الحرب على العراق ، وهو موقف لا يضاهيه موقفُ الأشقاء ..
ثم كانت مرحلة تحسن العلاقات السورية ـ التركية ، وما نتج عنها من وساطة تركية في المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الصهيوني ، إلى أن حصلت خديعة " أولمرت " عام 2008 ، حين طلبَ من أردوغان أن ينقل لحكومة غزة تطميناتِه بعدم شن حرب عليها ، لكن العقرب أولمرت أبى إلا أن يغدر ويكذب ويعتدي ويقتل ويدمر ، شأنه شأن كل الصهاينة عبر تاريخهم الإجرامي الطويل ، فكانت جرائمهم في عدوانهم على غزة أكبر من يحتملها وسيط السلام من الصهاينة ، وتوّجوا إجرامهم بسوء معاملة متعمد لأردوغان على الحواجز الصهيونية ، حين زار الأراضي المحتلة في مسعى لوقف العدوان ، فغضب الشعب التركي وأحس بإهانة مقصودة ، مما أحدث شرخا كبيرًا في جدار الثقة والعلاقات المشتركة ..
وكان اجتماع دافوس ، مناسبة لرد الصاع صاعين ، لرئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز ، وعاد أردوغان لبلده بطلا قوميًا مُتوّجًا ..
ودَقَّ الصهاينة المسمارَ الأخيرَ في نعش علاقاتهم الودية مع تركيا ، حين ارتكبوا مجزرتهم الفظيعة بحق أسطول الحرية المتوجه إلى غزة ، حاملا المساعدات الإنسانية للمحاصرين ـ عربيا وصهيونيا ـ منذ أربعة أعوام ..
وتبع ذلك موقفٌ عالميٌ وتركيٌ وعربيٌ ، جعل من عدوان الصهاينة سُبَّةً في جبين مرتكبيه ..
ووصلت العلاقات التركية الصهيونية إلى الحضيض ، سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا واقتصاديا ، وسياحيا أيضا ..
واتخذت تركيا جملة من الإجراءات التي حدّت من هذه العلاقات ، حتى باتت العلاقة مربوطة بشعرة واحدة ، بعد أن كانت مشدودة بكوابل فولاذية ..

سياسيا ، ما تزال تركيا متمسكة بموقفها العادل المبني على اعتذار الصهاينة عن جريمتهم بحق أسطول الحرية ، والتعويض عن الخسائر ، وإعادة السفن المصادرة حاليا ، والقبول بتشكيل لجنة تحقيق دولية ، وفك الحصار نهائيا عن غزة ..
دبلوماسيا ، تم تقليص عدد البلوماسيين في السفارتين ، وهرّب الصهاينة عائلاتهم خوفا من انتقام الشعب التركي ، وباتت العلاقات شبه مقطوعة بين الدولتين ..
عسكريا ، ألغت تركيا مناورات مشتركة مع جيش الصهاينة ، وأوقفت العمل بكثير من الاتفاقات العسكرية السرية والعلنية بين الجيشين ، وأغلقت تركيا مؤخرا أجواءها في وجه الطيران العسكري الصهيوني ..
اقتصاديا ، اتخذت تركيا إجراءات للحد من التبادل التجاري ، وأوقفت العمل بكثير من التسهيلات المعمول بها في موانئها ومنافذها الأخرى ..
سياحيا ، ألغى الصهاينة حجوزاتٍ سياحية في تركيا تقدر بحوالي نصف مليون سائح ، يذهبون إلى تركيا ضمن أفواج سياحية متتالية على مدار أشهر ، الاصطياف مما سينعكس سلبا على الموسم السياحي التركي ..
فهل يمكن للأشقاء العرب الراغبين بالاصطياف أن يحولوا وجهتهم إلى تركيا لسد النقص ، وتعويض الخسائر ؟؟!!

ولعل الأهم من كل ذلك ، هو موقف الشعب التركي الجريح من الكيان الصهيوني ، ومشاعر الغضب والعداء التي تولدت عقب الهجوم الصهيوني الغادر على أسطول الحرية ..
ولم يفوّت أردوعان فرصة دون أن يصفَ الصهاينة بأبشع الصفات التي يستحقونها جرّاء جرائمهم المتكررة ..
على الضفة الأخرى ، نشط الصهاينة في العبث بأمن المجتمع التركي ، من خلال أعوانه وعملائه ، ووجّهوا ضرباتٍ إرهابية متتالية ، استهدفت الجيش التركي ، ومعسكراته ، بواسطة " حزب العمال الكردستاني " الذي انتهز فرصة انشغال السلطة بالأحداث الجارية ، فبدأ بتنفيذ عملياته المتقاطعة حتما مع الأهداف الصهيونية ، التي ترى في الموقف التركي جريمة يجب دفع ثمنها من أمن وسلام المجتمع التركي كله ..
إن تركيا اليوم ، تدفع ثمن سياستها التي اتبعتها منذ الحرب على العراق إلى الآن ، ولا يشفع لها أنها عضو في الحلف الأطلسي .. ولا يشفع لها أنها تناصر ما تراه منسجما مع مصالحها الوطنية .. فقد اعتادوا منها على مواقف تناسب مصالحهم ، ولو كانت متعارضة مع مصالحها ..
وانهمر عليها كيلٌ من التهم ، أولها معاداتها للسامية ، وليس آخرها التخلي عن العلمانية ..
وبات المطلوب من تركيا أمريكيا وصهيونيا ، أن تتراجع عن كل تلك المواقف ، وتغفر كل ما ارتكبه الصهاينة بحقها ، قبل أن تتوقف الهجمات الإرهابية ضد جيشها وشعبها ..
ولم تطلبْ تركيا من الدول العربية أيّ موقف يحرجها مع أسيادها ، بل قرَنَ أردوغان بين المدن الفلسطينية المحتلة والمدن التركية ، ليدلل على منهجية السياسة التركية في نصرة الحق ..
بينما رأى كثيرٌ من أشقائنا العرب في الموقف التركي ، جنوحًا بعيدَ المنال ، هدفه بعث الهيمنة العثمانية الجديدة ، والحلول محل بعضهم ، وسلبهم دورهم التاريخي ..
فأشقاؤنا العرب ـ كما هو دَيْدَنهم ـ لا يرحمون أحدًا ، ولا يريدون أن تتنزلَ رحمة الله على منْ لا يريدون ..
وعليه ، فإن الهجمة الصهيو ـ أمريكية ، ستتصاعد على تركيا ، وتتلون مؤامراتها ، للنيل من مواقفها المؤيدة لحقوقنا ..
ونحن نتباكى على حقوقنا ، ونشكو دومًا ، عدمَ وجود نصير لها في العالم ، حتى إذا ما نصَرَنا أحدٌ ( تركيا وإيران ) ، تحالفنا ضده ، وأبعدناه عن ساحاتنا ، بشتى التهم والذرائع ..
ولات مندم ..

الثلاثاء ـ 29/06/2010

الالتحام ـ قصة قصيرة

تموت الأحلامُ ، وتنزرعُ الصدورُ آهاتٍ تجلجلُ في الأرجاء ، فتنحني هاماتٌ كانت تصرخ عاليًا في الريح ، والرعد ، والمطر ..
ويتناسى الزمن ألاعيبَ الطفولة ، وشقاوتها ، وهرَجَها ..
وتتناسل الديدانُ في الأمعاء غير مبالية بشيء .. لترتحلَ الأمنياتُ في فضاء الذات ، عابرة محيطات ألم النفس .. وتظل الغيمة في مكانها ترتعد خوفا ، وترتجف بردًا ، ذابلة العينين ، تعلو وجهَها صفرةُ الليمون ، وعلى الشفتين شيءٌ آخرُ غير البسمة ..
تنطلق من العينين سهامٌ كالشواظ ، فتلتقي بسهام معاكسةٍ لا تقلُّ عنها التهابا .. فيقع صِدامٌ قاسٍ ، فتنطفئ النيران ، ويخبو اللمعانُ في عرض السماء ، فتقع الغيمة أرضا ، فتنبت عيدانُ الحشائش الخضر .. أتمدّدُ فوقها .. أستحمُّ بالشمس والندى ، ثم أدور حول نفسي ، أتجوّلُ ، أركضُ ، أحبو ، أزحفُ .. لكن ثمة شيئا يظل يغريني بالبقاء .. فأبقى ..
لا يلبث أن يثورَ التمرُّدُ في داخلي .. وأتردّدُ ، وأتهيّأ مجازفا ، ويطول العشبُ ويزدادُ اتساعا ، وأزدادُ تشبُّثا في البقاء ، وتزدادُ الرغبة المعاكسة ، فتنزل غيمة ثانية تفترش البقعة ذاتها ، فتكتسب خضرةً داكنة ، وتصبح الكثافة مخيفة ، فآخذ طرَفا قصِيًّّا من المكان ، أجلسُ فيه ، فلا يبدو مني غيرُ ما يعلو رقبتي ، وتجوب عيناي المكانَ ، فتريني أشياءَ لم أعهدْها ، وتكثر الأشياءُ ، فيأكلني العَجبُ ، ويمضغني بقسوة ، ويزرع الرّيبة في صدري ، فتتلاحق أنفاسي ، وتجحظ عيناي ، وتتواردُ على مخيلتي صورٌ عدة ، وأسئلة كثيرة تلحُّ في إيجاد مسوِّغ لما تراه عيناي ..
وفجأة ، تنشطرُ البقعة الخضراءُ إلى قسمين ، ويعاودُ القسمان انشطارَهما ، وتتباعدُ الأقسامُ ، فتتشكلُ ممراتٌ متصالبة ، تتساوى أضلاعُها طولا وعرضًا ..
أنهض .. أمشي .. أجِدُّ أكثر ..
كنت أخالُ المسافة قصيرةً .. أركض ، وأركض ، وأركض ..
ثمة خيالٌ لاحَ في الجزء الآخر .. لم أستطع تحديدًا له سوى أنه خيالٌ إنسانيُّ الهيئة ..
سار تجاهي بخطوات وئيدة ، ثم تسارعَ حتى صارَ عَدْوًا .. انتابني خوفٌ ، قاومْتُه في نفسي حتى أخفْتُه .. وانطلقتُ أعدو تجاه الخيال ، فأرى المسافة تزداد بُعدًا كلما شعرتُ أننا نقترب أكثر ..
ويقشعرُّ بدني وأنا أحاول معرفة صاحب الخيال ..
يفتحُ الخيالُ ذراعيْه ، قتتمدّدُ ذراعاي باستجابة تلقائية ، وتتسعُ الخطواتُ تجاهه ، فيتسلط نورٌ ساطعٌ عليه ، يبدو من خلاله هالةً منيرة ، فأتعرّف إليه ، وتعود القِطعُ إلى الالتحام .. ونلتقي على أرض واحدة ..

الأربعاء ـ 21/01/1976

الجمعة، 25 يونيو 2010

أقوال من الحياة ـ 2

ـ حماقة الحماقات ، أنْ تبذل حياتك في سبيل منْ لا يشعرون بشعورك ..
ـ كثرَ أنصاري يومَ هزمْتُ أعدائي ، فقلتُ : كيفَ اختفى هؤلاءِ كلهم ، وأنا في أمسّ الحاجة إليهم ؟!
ـ أتعسُ الناس ، مؤمنٌ تسرّبَ إلى نفسِهِ الشكُّ ..
ـ الحبُّ والفن ، أكسَبَا الحياة أسمى المعاني ..
ـ بعضُ البشر ، إذا أحبَّ ، اتسَعَ قلبُه لكل فضيلة .. وبعضُهم ، إذا أحبَّ ، صارَ عبدًا للشهوة والرذيلة ..
ـ الحَسَك ، انتقامُ السَّمكِ بعد موته ..
ـ المرأةُ المخلصة : هي الناقة التي تساعدُ الرجلَ على اجتياز صحراءِ الحياة ..
ـ أيامُ الدهر ثلاثة : يومٌ مضى لا يعودُ إليكَ .. ويومٌ أنتَ فيه لا يدومُ عليك .. ويومٌ مقبلٌ لا تدري ما حاله ..
ـ الحبُّ كالقمر .. فهو يبدأ هلالا صغيرًا ، ثم يكتملُ ليصيرَ بدرًا ، أو يبدأ بدرًا ، ثم يتلاشى تدريجيا ..
ـ إنَّ من القلوب مزارعَ ، فازرعْ فيها الكلمة الطيبة ، فإنْ لم تنبت كلها ، نَبَتَ بعضُها ..
ـ الإيمانُ لا يُعارُ ، واليقينُ لا يُستعارُ ..
ـ لغة الحقيقةِ بسيطة ..
ـ الفضيلة يَصعبُ اكتشافها .. فهي تتطلبُ منْ يُوجّهُها ويُرشدُها ، ولكنَّ العيوبَ تُتَعَلمُ بلا أي معلم ..
ـ الحياة مَرَّة ، فلا تجْعلها مُرَّة ..
ـ البيتُ الذي تزاولُ فيه الدَّجاجة عَمَلَ الدّيك ، يصيرُ إلى الخراب ..
ـ بعضُ الناس كالجياد ، لا يعملون إلا مَسُوقين ..
ـ يشعرُ الرجلُ بقوته ، فيعطفُ على المرأة .. وتشعرُ المرأةُ بضعفِها ، فتقسو على الرجل ..
ـ الشقاءُ : لونٌ من الانحلال النفسي ، سَبَبُه العقلُ ، لا ظروف الحياة ..
ـ شيئان لا يمكنُ إخفاؤُهُما : الحُبُّ ، والدُّخان ..
ـ أتعسُ الناس : الذي يتعلقُ فتاةً لا تحبُّه ، والغريبُ المفلسُ الذي لا يفهم أحدٌ ظلامته ، والمطربُ الذي يُغني فلا يُصغِي إليه أحدٌ ..
ـ شجرة واحدة تكفي لصنع ملايين من أعوادِ الثقاب .. ويكفي عودُ ثقابٍ واحدٌ لحرق ملايين الأشجار ..
ـ الألمُ : هو الخيطُ الذي نُسِجَ منه قماشُ الفرحة ..
ـ الحقيقة : هي الشيءُ الوحيدُ الذي لا يريدُ أحدٌ أنْ يصدِّقه ..
ـ المرأة : كنزٌ ثمينٌ يحرصُ كلُّ شخص على اقتنائه ..
ـ القويُّ : هو الذي يتحكم بعواطفه ..
ـ مِن تمام المروءة : أنْ تقفَ عندَ حقكَ ، وتذكرَ الحقَّ عليكَ ، وتستكبرَ الإساءةَ منكَ ، وتستصغرَها من غيرك ..
ـ المرأة لا تكون أبدًا مثلَ الرجل .. فهي إما أحسنُ منه ، وإما أسوأ ..
ـ سقوط الجوهر على الأرض ، لا يحطُّ من قيمته ..
ـ الخوفُ من الحُبِّ ، خوفٌ من الحياة ، ومنْ يخشى الحياة ، هو أقرب إلى الموتى ، منه إلى الأحياء ..

الخميس، 24 يونيو 2010

لمصلحة منْ تشوّه أمريكا صورة حزب الله ؟


عجيبٌ أمر الولايات المتحدة الأمريكية ..
فهي تقول وتفعل ما يستوجب ، لتحسين صورتها الشمطاء البشعة والمجرمة ، في مرآة العالمَيْن العربي والإسلامي ،
من جهة ..
ومن جهة أخرى ، هي تقول وتفعل أيضا ، ما من شأنه تشويهُ صورة حزب الله اللبناني ، في مرآة العالم كله إن استطاعتْ إلى ذلك سبيلا ..

فعندما تريد أمريكا أن تحسّن صورتها ، فهذا يعني أمرين اثنين :
الأول : هو اعتراف صريح منها ، بقبحها وبشاعتها وقماءتها ودمامتها .. وبالتأكيد ، فإننا نتحدث هنا عن قبح السياسة ، وبشاعة الأهداف ، وقماءة الوسائل ...
والثاني : وهو دليل فشل وإخفاق وتهوّر خطير وكبير تتسم به السياسة الأمريكية ، تجاه العالمَيْن اللذين تتوجه إليهما " لتلطيف " جرائمها ، وتلميع بشاعتها ، وتلوين صورتها ..

والسؤال : ما سبب هذا القبح في الصورة الأمريكية ؟؟
أهو تشويهٌ خَلقي ؟ أم هو تشويهٌ خُلُقي ؟؟
هل ثمة منْ لا يعرف الجواب ؟؟!!
هل هناك منْ يشكك في أن القباحة التي تطبعُ وجهَ السياسة الأمريكية ، إنما تولدت من حجم الجرائم المرتكبة بحق العالم كله ، منذ ما يُسمى " حرب التحرير الأمريكية " مرورا بفيتنام وهيروشيما وناغازاكي ، وليس انتهاء بما تقدمه للكيان الصهيوني ، وبما فعلته بأفغانستان والعراق ؟؟!!

رَحِمَ اللهُ منْ قال : لا يُصْلِحُ العطارُ ما أفسَدَ الدهرُ ..

ثم ، أنْ تفعل أمريكا ما تشاء لتحسين صورتها ، فهي حرة بذلك ، ولا نريد أن نصادرَ عليها حقها ، ولو أننا لم نكن نقبل لأمريكا أن ترتكب الجرائم ثم تأتي لتحسين صورتها ..

أما أنْ تعملَ أمريكا على تشويه صورة حزب الله اللبناني ، فهذا أمر فيه نظر ..

ماذا فعل حزب الله لأمريكا حتى تعمل هذه على تشويه صورته وتنفير الناس منه ، أو الانقلاب عليه ؟؟!!

هل حزب الله مسؤول عن مقتل الأمريكيين في كل مناطق " الحروب الاستباقية " التي شنتها أمريكا في العالم ؟؟!!
هل أرسل حزب الله طائراتِه وصواريخَه وترسانته التقليدية والنووية تجاه الأراضي الأمريكية كما فعلت أمريكا في فيتنام واليابان وأفغانستان والعراق ؟؟!!
هل أنزل حزبُ الله " الكوماندوز " من رجاله على الشواطئ الأمريكية ، ليعيث فسادًا ويخرّبَ ويدمّرَ كما فعل الأمريكيون في لبنان وغيره ؟؟!!
هل سعى حزبُ الله لشن حروبٍ متعددة على أمريكا ، ودَعَمَ أعداءَها وحرَّضَ أصدقاءَها عليها ، كما تفعل أمريكا وربيبتها الآن ؟؟!!

ثمة أسئلة كثيرة أخرى يمكن إثارتها ، وليس لها سوى النفي جوابًا واحدًا فقط ، وفقط لا غير ..

إذن ، ما مصلحة أمريكا في دفع أكثر من 500 مليون دولار في لبنان فقط ، لتشويه صورة حزب الله وتنفير الناس منه ؟؟ ..
أين مصلحة أمريكا أن تدفع عشرات أضعاف ذلك المبلغ في أماكن أخرى من الوطن العربي والعالم ، لنفس السبب ، وفي مرحلة اقتصادية عصيبة من الأزمة العالمية ، أجبرتْ أكثر من 200 مصرف أمريكي أن تعلن إفلاسها في العامين المنصرمين ، وأجبرَتْ كبرى الشركات الأمريكية على إعلان إفلاسها ، وصرفتْ كثيرًا من عمالها وفنييها وموظفيها ، وقلصتْ حجم أعمالها ؟؟ ..

في هذا الوقت العصيب " اقتصاديا " ، تقوم الإدارة الأمريكية بالإنفاق السخي جدًا ، لتنفير مؤيدي حزب الله ، وعدم تأييده أو دعمه ..

أليس هذا عملا لافتا في أهدافه وتوقيته ؟؟!! ..

إن هذا الأمر ليس سرًّا أذاعه حزبُ الله ، وليس افتراءً يُفترى على الإدارة الأمريكية ، إنما هي شهادة " فيلتمان " أمام لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي ، أدّاها وهو تحت القسَم ، وجاء فيها كثير من التوضيحات ، التي تشير إلى مرامي السياسة الأمريكية وأهدافها المعلنة وغير المعلنة ، تجاه حقوقنا وقضايانا المتعلقة بالصراع مع العدو الصهيوني ..

ولم يعلن حزبُ الله عن هذه الجريمة الأمريكية الجديدة بحقه وبحق الشعب اللبناني كله ، إلا بعد أنْ نُشرَتْ أخبارُها هناك ، واعترفت الإدارة الأمريكية رسميًا بها ..
وهي خطوة ذكية من الحزب في توقيتها ، وتسليط الأضواء عليها ، ومواجهتها ..
فلكل حرب أدواتها وشروط نجاحها ، وتوقيتها أيضا ..
وهذه معركة جديدة فرضتها الإدارة الأمريكية على الحزب ، لكن الحزب استطاع أن يتحكمَ في توقيتها ، مما سهّل على الحزب ، تفويت فرصة على أعدائه ، في الانقضاض بالرد عليه وكيل الاتهامات له ..
فلو أن الحزبَ أعلن عن هذه الحرب الجديدة ضده قبل أن تعترفَ بها الإدارة الأمريكية ، لوجدنا كثيرًا من الساسة اللبنانيين ، وأسيادهم ، يتهمون حزبَ الله بالافتراء والكذب على أمريكا ، وسياساتها ..

فبعضهم سيتهمون حزب الله بأن افتراءاته هذه تفبركتْ في طهران ، ردّا على قرار مجلس الأمن الذي فرَضَ عقوباتٍ جديدة عليها ..
أو سيقولون : تفبرَكَ هذا الاتهامُ الكاذبُ في دمشق وطهران ، وربما يضيفون إليهما غزة وأنقرة أيضا ..

وفي أحسن الأحوال ، سيتهمون الحزب بهذه الفبركة " لأنه يريد أن يغطيَ على إجراءات المحكمة الدولية الظالمة ضده ، وأنه يريد تضليل الرأي العام اللبناني والعربي لكسب التأييد والنصرة له " ..
وربما ، أقول ربما ، لن ينسى هؤلاء أن يعودوا إلى اتهاماتهم القديمة ـ الجديدة ، التي يزعمون فيها أن حزبَ الله محكومٌ بنظرية المؤامرة ، وأن كل ذلك من نسْج الخيال المريض لهم ..

لكن إرادة الله تعالى تأبى إلا أن تظهرَ الحق والحقيقة ، فجاء الاعترافُ الأمريكي ، ليعطيَ الحزبَ ـ عن غير قصد منهم ـ البراءةَ مما حضّرَه له أعداؤُه ، وليدرَأ عنه تهَمَهُم وكيْدَهم ومكرَهم ..

لماذا تدفع أمريكا كل هذه المبالغ الطائلة ؟؟

1 ـ لأن أمريكا وإسرائيل فشلتا في تحقيق أي من أهدافهما ، رغم استخدامهما كل الوسائل القذرة الأخرى ، التي مُورسَتْ ضد الحزب ، منذ بداية الصراع حتى الآن ..
2ـ لأن أمريكا وإسرائيل ذاقتا مرّ الهزيمة النكراء ، بفضل دماء شهداء المقاومة ، وهو أمر لا تغفرانه بسهولة ، ولا تستسلمان له عن طيب خاطر ..
3 ـ لأن اللوبي الصهيوني يسيطر على قمة القرار السياسي الأمريكي ، وهو قادر أن يدفع بالسياسة الأمريكية نحو الأهداف الصهيونية المحضة ، حتى لو تعارضت مع المصلحة الأمريكية العليا " فأمريكا ملتزمة بالدفاع عن الصهاينة ، وحمايتهم ، التزاما أبديا مطلقا لا رجعة فيه " وهذا ما تدأبُ الإداراتُ الأمريكية المتعاقبة على ترديده بلا كلل ولا ملل ..
4 ـ إن النفوذ الصهيوني في مجلسيْ الشيوخ والنواب الأمريكييْن ، يدفع بأعضاء هذين المجلسين إلى التباري في دعم الصهيونية ، والتباهي بذلك علنا ، كسبًا للأصوات والتأييد في الانتخابات التشريعية الأمريكية ..

وهذا بالضبط ما دفعَ مجلسَ الشيوخ ، لاستجواب حكومتهم فيما تفعله وتقدمُه من دعم للكيان الصهيوني ..

وتحت هذا العنوان جاء اعترافُ وشهادة " فيلتمان " أمام لجنة مجلس الشيوخ ، متباهيًا بما تؤديه الإدارة الأمريكية من دور " إيجابي وفعال " ، في خدمة الكيان الصهيوني ..

من هي الجهات اللبنانية التي قبضت ال 500 مليون دولار ، مقابل الخدمات المطلوبة منها ؟؟

يتحفظ حزبُ الله ـ الآن ـ عن إعلان أسماء الجهات المتورطة ، لكنني أعتقد أن ذلك لن يستمرَّ طويلا ، وأن الأيام والأسابيع القليلة القادمة ستشهد توجيهَ إداناتٍ صريحة وموثقة يمتلكها الحزب بالتأكيد ، لوضع النقاط على الحروف .. وذلك حق مشروع له ، يستخدمه دفاعًا عن النفس ..
لكن لن يتم الكشف عنها ، إذا رأتْ قيادة حزب الله ، أن مصلحة الحزب ولبنان الآن ، تقتضيان عدمَ توجيه الاتهام المباشر إلى الجهات المتورطة في هذه الحرب الصهيو ـ أمريكية ، حفظا للسلم الداخلي اللبناني الهش دوما ـ مع شديد الأسف ـ كنتيجة وانعكاس لهذه الحروب والتدخلات ، والتي لن تتوقفَ مادام مشروع المقاومة موجَّها إلى العدو الصهيوني ، ولن تكون له أي وجهة أخرى أبدا ، بعكس ما يحاول تصويرَه وتظهيرَه أعداءُ المقاومة في الداخل والخارج ..

ولو لم يوجّه حزبُ الله مشروعَه المقاوم تجاه العدو الصهيوني ، لما دفعتْ أمريكا مئات الملايين من دولارات دافعي الضرائب من شعبها لتشويه صورته ، ولما شنّتْ حروبًا سرية وعلنية ، مباشرة وغير مباشرة ، ضدَّ حزب الله ، في الداخل اللبناني ، وحول العالم ..
إن قبحَ وجه أمريكا استوجَبَ منها تجميله ، ووضاءَة وجه المقاومة استوجبَ منها تشويهَه ..
شتان بين الوجهين ..
وهذا هو الفرق الكبير والشاسع ، وباعترافهم أنفسهم ..

وإذا كانت أمريكا تفعل كل ذلك جَهَارا ، وتساعد العدوَّ في عدوانه المستمر ، وتلتزمُ أمنَه الأبدي المطلق ، ويتهافت مسؤولوها على التباري والتباهي في تقديم كل أنواع الدعم لهذا الكيان الغاصب المجرم ، فهو أمرٌ يجبُ أن يعارضَه الشعبُ الأمريكي الذي يعاني من أكثر الأزمات الاقتصادية سُوءًا ، بينما تنفق حكومته الأموالَ الطائلة وبلا حساب ، تارة لشن الحروب الاستباقية ، وتارة لدعم الصهاينة ، وأخرى لتشويه صورة حزب الله ، وكلها من أجل الصهاينة أيضا ..

وإذا كان الشعب الأمريكي نفسُه ، قد تظاهرَ ضد حرب حكومته على العراق وأفغانستان ، وأسقط قادة تلك الحرب ، وانتقمَ منهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية ، كما تظاهر سابقا ضد الصهاينة في حربهم على لبنان وعلى غزة ، وضدهم مؤخرًا في هجوم الصهاينة على أسطول الحرية واستمرار حصار غزة ، فإن ذلك يستحق الإدانة والشجبَ والاستنكارَ من كل أحرار العالم ، وهو واجبٌ عليهم أيضا في أقل تقدير ، وهو أضعف الإيمان ....
لكن يبدو أن " أحرارَ " العالم ، قد دجّنتْهم " مادلين البيضاء ، وكوندي السمراء، وهيلاري الشقراء" وجعلنَ منهم جنودًا لا حولَ لهم ولا قوة ، على رقعة الشطرنج الأمريكية ..

وإذا كانت أمريكا تفعل ما تفعل من أجل استمرار عدوان الصهيونية على العرب ، وشن الحروب ضد الشعب الفلسطيني ، وتدمير وحصار غزة وسكانها ، ومع ذلك ، تلقى دعمًا وتأييدًا من حلفائها العرب أولا ، وغير العرب ثانيا ..

فيما تقوم إيران بمساعدة الشعب العربي الفلسطيني واللبناني للدفاع عن النفس أمام العدوان الصهيوني الأمريكي ، وتدعم مقاومتهما لاسترجاع الحقوق العربية كاملة ، فتلقى معارضة العرب أولا ، وغير العرب ثانيا ، ذلك لأن أمريكا حوّلت إيران إلى الفزّاعة التي تلوّح بها دومًا في وجه حلفائها العرب ، لتبتزهم وتبيعهم أسلحتها لتدافع بها عن نفسها أمام تلك الفزاعة المزعومة ..

وليس دخولُ تركيا على خط الصراع العربي الصهيوني ، أمرًا مَرْضِيّا عنه عربيًا ، لأنه ليس مَرْضِيًّا عنه صهيونيا ولا أمريكيا ..
لكأن التاريخ يُعيدُ نفسَه في الموقف من كلا الدولتين الجارتين :
إيران الشاه ، وإيران اليوم ..
تركيا قبل أردوغان ، وتركيا أردوغان ..

بدليل :
1 ـ إن كثيرا من الفضائيات العربية ، تجاهلتْ أخبارَ العدوان الصهيوني على أسطول الحرية ، لعدم إحراج المجرمين الصهاينة ، وبالتالي ، أمريكا ..
2 ـ بل إن وسائلَ إعلامية عربية أخرى ، سوّغت للصهاينة جريمَتهم ، وجرّمت الضحايا الذين قتلتْهم الأسلحة الأمريكية بأيدٍ صهيونية ..
من هنا ، يمكن لنا أن نعرفَ الجوابَ على السؤال التالي :
أين تنفق أمريكا أموالا طائلة أخرى ، لتشويه صورة حزب الله والمقاومة ؟؟ ..

يبدو أن البوصلة العربية قد أصيبَتْ بالصَرَع ، وتاه مؤشرُها ، وما عادت تتوجه الوجهة التي تعبّر عن مصالح الشعب العربي كله ..
فصار العدو أقربَ وأهمَّ من الأخ ؟؟!!
وصار حليفُ العدو حليفا أهمَّ وأغلى وأعلى شأنا من الأخ والأمة كلها ..

لِمَ نفعلُ بأنفسنا ما لا يستطيع العدو أن يفعله بنا ، وربما لا يفعله العدو بعدوه ؟؟!!
بالله عليكم :
كيف نتقبل ونتفهم ونرضى أن تكون أمريكا حليفا لنا ولعدوّنا في آن واحد ؟؟!!
بالله عليكم :
لماذا نقبلُ بأمريكا حليفا لنا ولعدوّنا في آن معًا ، وهي تدعم عدونا إلى ما لا نهاية ، وتناصره علينا بلا هوادة ولا مجاملة ، ولا يقبلُ أحدٌ بالتحالف مع دولة عربية إذا ظلت متحالفة مع إيران التي تدعم حقوقنا وتناصرنا على عدونا ؟؟

لو كانت تلك الدولة العربية متحالفة مع إسرائيل ، كما فعلتْ غيرُها ، لكان الأمر هيّنا ، وفيه نظر ..

سأستميح الشاعر العربي " أديب إسحاق " في استعارة معنى شعره الذي قاله :
قتْلُ امرئٍ في غابةٍ جريمة لا تغتفر
وقتلُ شعبٍ آمن مسألة فيها نظر

هل التحالف مع إيران جريمة لا تُغتفر ؟؟
وهل التحالف مع إسرائيل وأمريكا ، مسألة فيها نظر ..

هل أخطأتِ العربُ حين قديمًا قالت :
أنا وأخي على ابن عمي .. وأنا وابنُ عمي على الغريب ؟؟!! ..


الخميس ـ 24/06/2010

يوسف رشيد

الأربعاء، 23 يونيو 2010

أقوال من الحياة ـ 1

ـ ما لا يقتلك ، يقويك .. والضربة التي لا تقصمُ ظهركَ ، تقويك ..
ـ إياكَ أن تضربَ بلسانِكَ عنقَكَ ..
ـ تتسرّبُ السعادة من بابٍ تنسى أنكَ تركته مفتوحًا ..
ـ إنْ كان الدواءُ مرًّا ، فخيرُ ما تفعله هو أن تبتلعه بسرعة ..
ـ أعداءُ المرأة يقولون : رجلٌ من قشّ يساوي امرأة من ذهب ..
ـ الجَمال : جوازُ سفر تمنحُه السماءُ للمرأة لتدخلَ النعيمَ إن كانت ذكية ، وإلى الجحيم إن كانت غبية ..
ـ الأطفالُ بحاجةٍ للحب ، ولاسيَّما إذا كانوا غيرَ جديرين به ..
ـ لكي تفهمَ سرَّ الجَمال ، يجبُ أنْ تفهمَ سرَّ الحياة ..
ـ المرأة كالشفرة ، تجرح كلَّ منْ لا يُحسِنُ استعمالها ..
ـ الزواجُ مثل امتلاكك كتابًا واحدًا ، تقرأه وتقرأه وتعيدُ قراءته حتى تملّ ..
ـ للمرأة : عندما تغضبين ، حاذِري أنْ تكسري الجرّة التي تحوي أسرارَك ..
ـ الذي يُولد ليزحفَ ، لا يستطيعُ أن يطيرَ ..
ـ إذا كان الكذبُ ملحَ الرجال ، فإنه بحرُ النساء ..
ـ التسامحُ : فترة تبدأ من الزواج ، وتنتهي بانتهاءِ شهر العسل ..
ـ لا تناقش المرأة إذا كانتْ متعَبَة ، أو مستريحة ..
ـ خاطبْ في الرجلِ عقله ، وفي المرأة قلبَها ، وفي الأحمق أذنه ..
ـ قال الرجل : المرأة كالسيجارة ، مهما كان نوعُها ، فهي ضارّة ..
ـ وقالت المرأة : الرجلُ كالصّبّارة ، مهما غسلته ، فهو لا يخلو من الأشواك ..
ـ النظارة السوداء تمنحُ الرجلَ شيئا من الشجاعة ، والمرأة كثيرًا من الجرأة ..
ـ خيرٌ للفتاة أن تكونَ شوكة صامدة من أن تكونَ وردة ساقطة ..
ـ تأملوا الطبيعة لتعرفوا الحياة ، فهي مراحل الطبيعة ذاتها ..
ـ أفضلُ للمرأة أن تكونَ عبدة لشابٍ من أن تكونَ ممرضة لشيخ عجوز ..
ـ المرأة كالزجاج .. لا يؤثر فيها سوى الماس ..
ـ المرأة الوديعة تجرّدُ الرجلَ من سلاحه ..
ـ المحبّون كالمرضى .. يهذون بما يسرُّهم ..

الأحد، 20 يونيو 2010

نبليات ـ حَكايَا حمدو ـ 2

وصل حمدو إلى المكان الذي يعده الأكثرَ أمانا من أي مكان آخر في الضيعة ، والذي يمكن أن يعتصم فيه بلا خوف من أحد ، ولا حرج من صاحبه ..
كان يلهث والعرق يتصبّب منه ، بينما لم يسمحْ له الموقفُ العصيبُ الذي كان فيه ، أن يلبسَ مشايته ، فتأبّطها ، وهُرعَ خوفا من أن يلحق به أبو سعيد ..

في الدكان ، ووراء " الدّرّابة " حاول حج محمد أن يستوضحَه عن سببِ ما هو فيه ، لكن أنفاسَه المتلاحقة لم تسعفه ، إلا بعد أن شربَ وغسلَ وجهَه ، فهدأتْ أنفاسُه ، واطمأنَّ أن أبا سعيد لا يمكن أن يصل إليه الآن ..

ويعرف حج محمد أن حمدو ـ بالتأكيد ـ قالَ كلامًا ما أمام منْ لا يجبُ أن يقوله ، فكانت النتيجة ..

وهذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها إلى الدكان وهو بهذه الحال ..
فهو رجل ذكي ولمّاح ، لكن أهل الضيعة لا يَرَوْن فيه إلا رجلا بسيطا ساذجا ، فلا يعيرونه أي اهتمام ، إذا لم يرفعوا صوتهم عليه ..

قال حمدو :
كنا عمنصلي الضهر في الجامع الكبير ، والشيخ ما هو موجود .. خلصنا الصلاة ، فطلب أبو سعيد من الحاضرين ، يبقو في أماكنن ، مشان يحل هالمشكلة ..
صرنا نطلع في وج بعضنا محتارين مستغربين ، اش صاير في الضيعة وما حدا معو خبر ؟؟
اش في مشكلة تا يحلا أبو سعيد ؟؟
سألت اللي حولي بشويش ، قلبولي شفتن وهزو كتافن وسكتوا ، وما حدا سمعان عن مشكلة في الضيعة..
بعدين معقول تصير مشكلة وما معي خبرا ؟؟!!
كنا شي عشرين زلمي .. وما حدا منن بيعرف شي ..
قال أبو سعيد بصوت حد:
يا جماعة ، عنا في الضيعة مشكلة كبيرة ، وما حدا عميسعى بحلا .. ليش ما منتعاون تا نحلا ؟
سألوه : اشي المشكلة يا أبو سعيد ؟؟ ما حدا منا سمع عن مشكلة اليوم في الضيعة ، انت سمعان شي ؟؟ ..
هزّ أبو سعيد اصبعتو الطويلة في وج الحاضرين ، واحتدّ أكتر وقال :
شلون ما في مشكلة ؟؟ ليش ضربكن العمى وما عمتشوفوا ؟؟
قالوا : طيب ، خبرنا ... هات خبرنا ، قلنا اشي هِي المشكلة ؟؟

اندار أبو سعيد لعند أبو حسين :
يا أبو حسين ، ماتت مرتك الله يرحما من سنتين ، شلون عمتدبر أمور أكلك وشربك ونومك وخسيلك ؟؟ ليش ما عمتتجوز ؟؟ المرا ضروري وجودا بالبيت والا لأ؟؟
قلو أبو حسين : والله بدك الحقيقة ؟ ما في أضر من وجودا في البيت .. والبيت بلا مرا متل أكل الهوا ..
ـ وليش ما عمتتجوز ؟؟
ـ اي حدا أخدني وماتجوزت وانضربت عا قلبي ؟؟
ـ طيب .. وانت يا حج بركات ليش ما تجوزت وصارلك أرمل أربع سنين ؟؟
ـ والله يا أبو سعيد في ضيعتنا اللي بتموت مرتو يروح يندفن معا .. لأنو ما حدا بعود بطلع في وجك ..
ـ طيب ، وأنت يا عبد الله ، عندك ولاد صغار وماتت مرتك وانت رجال تعّيب .. مين عمبدير بالو عليك وعولادك ؟؟
ـ والله يا أبو سعيد الشكوي لغير الله مزلة ..حسبي الله ونعم الوكيل ..

كمّل أبو سعيد : يا جماعة .. ليش ما منجوز " رقي " بنت عبد القادر لعبد الله ؟
و" هاجر" مرت المرحوم عارف لأبو حسين ، و" أم ربيع " لأبو بركات ؟؟


كان حمدو يروي كل ذلك بسرعة ، وكـأنه لا يريد أن ينسى حرفا واحدا .. أخذ جرعة ماء ، ومسح بطرف اللفاحة قطرات العرق التي لم تتوقف ، ثم أكمل :

وقّف أبو سعيد عند هالكلام ، وهو عميطلع بالحاضرين بعصبي ، بدو حدا يقلو :
وأنت يا أبوسعيد أرمل من سنة ولازم نلاقيلك شي وحدي مستورة تدير بالا عليك وعابيتك ..
بس ما كان حدا من الحاضرين مفتكر بهالشغلي ..

صمت حمدو قليلا ثم أضاف :
أنا كنت قيعد وليبب نار من جوّا ، وفهمان أبو سعيد لوين بدو يوصّل ، بس ما حدا فهم عليه ..
رحت عند عتابة الجامع ، شلت مشايتي تحت أباطي ووقفت بالباب ، وصحت بصوت منغّم :
طبيييييييب .. طبيب اللي يداوي الناس وهوّي عليلو ..

وتزنرت بالباب فرد ركدي لهون .. بس شفت أبو سعيد قبل ما أطلع ، نط عأربعتو ولحقني .. بس ما خلوه يطلع برا الجامع .. مسكوه ..
وبعدين من كتر ما بمق من هَوْ الممحوقات ما بيحسن يركد ولا بيحسن يلحقني ..

إلى اللقاء


الأحد ـ 20/06/2010
ملاحظة : أعتذر من السادة القراء لاستخدامي اللهجة المحلية في الحوار ، لأني أزعم أنها أقرب إلى قلوبهم ..

السبت، 19 يونيو 2010

اعترافات نزار قباني

ـ أنا الناطق الرسمي بلسان الشعب العربي ..
ـ الحب : جرثومة صغيرة تجعلنا أكثر نضارة وعافية ..
ـ لولا المرأة لكان العالم صورة بالأبيض والأسود ..
ـ الزعماء الكبار ، لا يمكن توليدهم على طريقة أطفال الأنابيب ..
ـ الشعر ، كالاستقلال .. يُؤخذ ولا يُعطى ..
عبد الحليم حافظ ، هو بين المطربين شاعرهم ، وبين الشعراء ، مطربهم .. ولا أدري لماذا أشعر أن هذا الرجل شاركني في كتابة قصائدي ، كما شاركته أنا في غناء شعري ..
اختلطتْ حدودي وحدوده ، حتى صار هو الشاعر ، وصرتُ أنا المغني ..
ـ أعظم ما في عبد الحليم ، أنه كان مثلي ، باحثا عن الغريب والمدهش واللامألوف .. كنتُ أنا أحلم بإحداث انقلاب في جسد الأغنية ، وكان هو يحلم بإحداث انقلاب في جسد الأغنية ، وهكذا تلاقى فكري الانقلابي بفكره ..
ـ بشكل عام ، أنا مدين لشعري المُغنّى كثيرا ، لأن الشعب العربي لا يقرأ بعينيه ، كما بقية الشعوب ، ولكنه يقرأ بأذنيه ..
ـ نحن معجونون بالمرأة ، ومختلطون بها عضويا وكيميائيا .. ومهما ادعينا الذكورة ، فإننا مرتبطون بها بواسطة حبل المشيمة منذ ميلادنا حتى موتنا .. والرجل الذي يقول إنه قطع حبل مشيمته وانفصل نهائيا عن المرأة ، يتحول إلى شجرة يابسة بلا جذور ولا أوراق ولا رائحة ..
ـ المرأة : مجموعة من الأسئلة والفوازير ، يقضي الرجل طول حياته ، وهو يحاول حلها ، ومتى توصَّلَ إلى الحل ، سقط ميتا ..
ـ الحب ليس وجبة طعام نلتهمها بخمس دقائق ، وينتهي الأمر ..
ـ المرأة : هي كل الدنيا ، وأنا شاعر كل الدنيا ، ولا أقبل بحال من الأحوال أن أتنازل عن سنتيمتر واحد من ممتلكاتي ..
ـ المرأة أعطتني الشعر ، والقلق ، والجنون .. وأخذتْ ضلعًا من أضلاع صدري ، وصنعتْ منه مشطًا من العاج تتمشط به ..
ـ في عصرنا ، كنا إذا عشقنا ، نتكلم جيدًا ، ونتغزّل جيدًا .. أما عشاق اليوم ، فهم أمّيّون ، وعاجزون عن صنع جملة مفيدة واحدة في وصْف أشواقهم ..
ـ يا عشاق الدراجات النارية ، إذا كان هذا هو الحب التقدمي الذي تنادون به ، فما أحلى رجعيتي ..

اعترافات نزار قباني
أحمد الشهاوي ..
كنا نحتاج مارقا فكان .. ومفجرا فكان .. وكاسرا للمقدس فكان .. وفاتحا فكان ..

4951/29/11/1992
الخليج 13/02/1992

لحظات من دفاتر العشق

تذكرْتُكِ حلمًا طفوليًا ، يا امرأة تسومينَ العذاب ، وتحتسينَ الدمعَ بينكِ وبين نفسكِ ..
تذكرْتُكِ رمحًا يتسللُ إلى الأحشاءِ في غفلةٍ من الشمس ، كأنكِ شعاعٌ منها .. تنامين ، وتأكلين ، وتشربين .. وحينما يقترب المطرُ ، تهبُّ الريحُ العاتية لتجرفَ الغيمَ ، وتجرفَ الأمل ..
تذكرتُكِ حينما تتنهدين ، وفي العينين آهاتُ جيلٍ مكسور ، سحقتْه الأقدام ، فظلّ ينازعُ البقاءَ ، وينازعُهُ البقاءُ ..
تذكرتك يا امرأة ، تسكنُ جسدَها آلامُ المخاض ، وآلامُ الأحبّة ، وآلامُ الدرب ، وآلامُ الأمة ..
تذكرتك ، وأنتِ تتنعمين بلسانكِ ، مؤكدةً ذلك بكلِّ أدوات التوكيد ..
ثم ، وعقبَ نداءٍ خافتٍ تسمعينَه ، تنقلِبُ وظيفة المؤكدات من النفي إلى الإثبات ، وتبتدئ دورةٌ جديدةٌ ، يكونُ خط مسارها بين العينين والشفتين ..
آه ، يا حبيبة ً ينامُ الحبُّ في أحضانها ..
أتذكرين ؟؟ .. أم صارت الذكرى أسمالا بالية على جسد الأيام
؟؟
تمرّين بها في ليلةِ شتاءٍ ، فيزوغ البصرُ منكِ عنها ، إذ ما عادت الذكرى سوى مؤشر يمتدُّ بين البُعد والبُعد في فضاء الكون ..
آه لو تدرين أنَّ دروبَ الصمت ، ما كانت إلا كفنا نرتديه ، ونتمدّد في حفرة ، تسمى " قبرًا"..

***
انزرعْتُ في العينين ، ومنهما إلى القلب .. ثم انزرعْتِ في العينين ومنهما إلى القلب ..
ثم اقتُلعْتُ من العينين ، وبقِيْتُ في القلب .. وبقيتِ في العينين وفي القلب .. فحَقَّ بذلك أن نقفَ في المحراب ، عابدَيْن خاشعَيْن ، نرتشفُ من مَعِين الخلود ، ونعيش الأمسَ في اليوم من أجل الغد ..

***
فيكِ أقتلُ نفسي ، أستبيحُ الصدَّ ، وأمزّقُ عُرْيَ الصدر بين النهد وأخيه .. أحملُ المشعلَ ، أنيرُ المَجاهِلَ ، وأتسلّق جبالا مكتنزة ، تزحفُ خلفي أوصالٌ ما اجتزأتْ عني ، ثم أتمدّدُ ، أتمرّغ ، أحلمُ ، تحلمين .. أعيشُ فيكِ .. لكِ .. معكِ ..
أقرأ في الكتاب المفتوح أنشودةً صارتْ وقودًا في المَشاعل .. فتزمجرُ النارُ ، وتزأرُ أسَدًا عضّه نابُ الجوع ، بعد طول سَقم ..
***
لأنَّ البشرية كلها حبيبةٌ له ، كان يموتُ في النهار ، لتعودَ إليه الحياةُ في الليل ، ثم ليعاودَ بعده الموت ، والحياة ثانية ..

***
هل تذكرين حبيبتي ، منْ أضاءَكِ شمعةً في عيد اللقاء ؟؟..
أوَلمْ نكنْ مشروعَ حبٍّ ناجح ؟؟!!
سيدتي .. كوني ما تكونين ..
فالعارُ أن نعيشَ وَهْمَ الحبِّ في عصر الحب ..


الأحد ـ 02/01/1976

الخميس، 17 يونيو 2010

لو كان جُحا معمارًا ..

لو كان جُحا معمارًا ..
يبدو أن العالمَ الحرَّ قد شبع من الديمقراطية التي حققها لشعبه منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن على الأقل .. ولذلك سَعَتْ تلك الدول ، للتكرّم على الدول غير الديمقراطية ، بنشر " ديمقراطيتها " وتعميمها على مستوى العالم غير الديمقراطي ، كي تتساوى البشرية كلها في هذا النعيم ، وتزول الفوارق الطبقية وغير الطبقية التي تسبب أرقا كبيرا للعالم الديمقراطي الحر حتى " الثمالة " ..
لكن يبدو ـ أيضا ـ أن الديمقراطية والحرية اللتين تتغنى بهما القارة العجوز ، وأرض العام سام ، ومنْ لفَّ لفّهما ، تنتهيان عند حدود أظافر قدمَيْ عشيقتهم "الدولة الصهيونية " المدللة المغناج ..
فهم والهون بها عشقا مقدسًا ، وغارقون في " دباديبها " حتى " شوشتهم " كما يقول أشقاؤنا المصريون .. وهي تجرّهم من ربطات عنقهم ، زاحفين وراءها بإخلاص وأدب واحترام إلى بيت الطاعة ..
لذاااااااااا .. فهم لا يرًوْن العالمَ إلا من خلال عينيْها الساحرتين .. ولا يسمعون العالمَ إلا من خلال أذنيْها المشنفتين .. ولا يفهمون إلا لسانها العذب الشهي الذي يقطر من دماء شهداء المجازر التي ارتكبتها طيلة أكثر من ستين عاما ..

ففي وقتٍ ما تزال تداعيات العدوان الصهيوني على أسطول الحرية ، تفرض وجودَها بقوة ، على الكيان المعتدي الذي أضاف لسجلاته الدموية النكراء جريمة أخرى ، وعارًا آخر ، وهزيمة تنخر أساس هذا الكيان العنصري، أعلن الرئيس السوري بشار الأسد جملة من المواقف السياسية التي تؤكد الحضورَ الفاعلَ للسياسة السورية إقليميا وعالميا ..

ففي حديثه لمراسل هيئة الإذاعة البريطانية " بي بي سي " وردت خمسة عناصر رئيسة :

1 ـ الشرق الأوسط يمر بمرحلة تغيير ، وإسرائيل لا تمثل الآن شريك سلام ..
2 ـ الهجوم على أسطول الحرية زاد مخاطر نشوب حرب .. 3 ـ سوريا « تعمل على منع وقوع حرب إقليمية».
4 ـ الأسد «لم يبدِ استعدادًا في الوقت الحاضر للاستجابة للمحاولات الأميركية باستمالته بعيدًا عن إيران» ..
5 ـ الأسد « قال : إنه لا يمانع العملَ مع الولايات المتحدة ، بيد أن طهران ستبقى هي الحليف لدمشق » .

هذه العناصر الخمسة تلخص الأوضاع السياسية الراهنة في المنطقة ..
ففي العنصر الأول : يردُّ الأسدُ كيدَ الصهاينة إلى نحورهم فيما يتعلق بالسلام الذي لا بد له من طرفين ..
فقد كذب الصهاينة على المجتمع الدولي طويلا ، زاعمين عدم وجود شريك للسلام في حياة ياسر عرفات ، ومع سوريا قبل الجولات التي تمت في تركيا وبرعايتها ، إلى أنْ افتُضِحَ أمرُهم ، وانكشفَ زيفهم ، فقلبَ الأسدُ السحرَ على الساحر ..
وفي العنصر الثاني : يبين سعْيَ إسرائيل إلى الحرب التي ستجر المنطقة إليها جرّاء تهوّرها ورعونتها وعدوانيتها ولا إنسانيتها ..
وفي العنصر الثالث : يبين مدى التزام سوريا بالسلام من خلال سعيها تجنيبَ المنطقة ويلات حربٍ عدوانية صهيونية جديدة ..
وفي العنصر الرابع يقول لأمريكا : لن نرضخَ لمطالبكم ، لأنها وببساطة لا تتوافقُ مع مصالحنا الوطنية ولا القومية ..
وفي العنصر الخامس : يؤكد ثوابتَ السياسة الخارجية السورية ، بأن سوريا لا يمكن أن تفكَّ عرى التحالف مع إيران ، وهي طرف ندّي وفاعل فيه ، لتكونَ طرفا هامشيا في حلفٍ تحكمُهُ إسرائيلُ ومصالحُها فقط ..
لكن سوريا ليست منغلقة على التعاون مع أمريكا ، فيما يضمن لها مصالحَها وأمنها وسيادتها ..

***

أما ما يمكن قراءته بين سطور حديث الرئيس الأسد ، ما يلي :
الشرق الأوسط يتغير لصالح قِواه الوطنية والمقاومة ..وأن سوريا لا تساوم على مبادئها ، ولا تتنازل عن حقوقها ، ولا تقبل تهديدًا ولا وعيدًا ..
وإسرائيل الآن أضعفُ من أن تحاربَ ، وأوهنُ من أن تسالم ..
لقد ربحت سوريا في السنوات القليلة الماضية جولات سياسية وإعلامية هامة على الصعيد العالمي ، وبشكل يثير الإعجاب ، حيث كشفت السياسة السورية للعالم ، زيفَ التوجه الصهيوني للسلام ، وبأن الكيان الصهيوني ليس شريكَ سلام ، وأن سوريا بذلتْ كلَّ ما في وسعها ، لتحقيق تقدم في العملية السلمية ، لكن الطرف الآخر أفشلها عن سابق إصرار وتصميم ، وهذا ما بدأ يظهر جليا في الإعلام العالمي ، ولاسيما بعد حربها على لبنان وغزة وحصارها المستمر ، وعدوانها على أسطول الحرية ..

***

وقد أشار الدكتور جمعة عكل ، إلى أن الإعلام الألماني خاصة والأوربي بشكل عام ، بدأ يعي أراجيف السياسة الصهيونية وأكاذيبَها وافتراءاتِها ، من خلال الجرائم التي ظهرتْ للعالم كله من خلال الصورة التي تتحدث عن نفسها ، بلغةٍ فهمهما العالمُ بمختلف جنسياته وأعراقه ولغاته ..
وأضاف الدكتور عكل أن الإعلام الصهيوني في الغرب فقدَ كلَّ بريقه ومصداقيته ، وأن الشعوبَ الأوربية ما عادت
تصدِّق دعايته ولا إعلامه بعد تلك الجرائم ، والتي حاول كاذبًا أن يُصوِّرَ نفسَه فيها معتدًى عليه ، لكنه فشل في تسويق هذا الإعلام الإجرامي ..
وهو دليل آخر ـ كما يقول الدكتور عكل ـ على أن الكيان الصهيوني يحفر قبره بيديه ، وأن العالم ملَّ وسئم من ادعاءاته الكاذبة بالمطلق ، وأن ساحة المعركة الإعلامية شهدتْ تحولا كبيرًا لصالح قضايانا العادلة ، في مواجهة البربرية والعدوانية الصهيونية ..

إن مأزق الكيان الصهيوني الآن هو في تفاقم النقمة العالمية عليه جرَّاء جرائمه .. وإن الكيان يعمل الآن على تلميع صورته من جديد ، مستنجدًا بالميديا الأمريكية لعلها تستطيع وضعَ بعض المساحيق التجميلية له .. " ولو كان جُحا معمارًا لعمَّرَ داره " .. أليست أمريكا نفسُها تسعى لتلميع صورتها في العالميْن العربي والإسلامي ؟؟!!
وهيهات أن يلتمع وجه مجرم كسَاهُ الخِزْيُ والعارُ ..

ولعل دماء الشهداء التي سفكها الصهاينة في جرائمه ، كانت ثمنا باهظا ندفعه مقدما للنصر في هذه المعركة .. ولكي لا تضيع هذه الدماء هدرًا ، يجب علينا أن نستمر في هذه المعركة الهامة جدا جدا ، لاسيما أن المعركة لم تنته ، ولن تنتهيَ قريبا ، وعلينا أن نشحذ كل أسلحتنا ونوظفها لنمنع الصهاينة من استعادة الإمساك بزمام المعركة الإعلامية ، وتوجيهها لصالحهم ، عندها نكون قد أخذنا بثأر شهدائنا ..

وعندما قلتُ قبل قليل إن المعركة الإعلامية لم تنتهِ ولن تنتهيَ ، عَنيْتُ بذلك ما فعلته وتفعله " ديمقراطية الثورة الفرنسية ، ومبادئها " من جرائم سياسية ـ إعلامية بحق الإعلام المقاوم ..
تلك المعركة التي بدأت مع قناة المنار ولن تنتهي مع قناة الأقصى ، بحجج وتهم وذرائع واهية لا تخدم سوى الصهيونية ، ولا يقبلها منطق ولا عقل ..
إن هذه المعركة هي إحدى محاولات الهجوم الصهيوني المعاكس ، الذي تشنه الصهيونية بالأيدي الفرنسية وبالسلاح الفرنسي ، لتفعل فرنسا ما عجز العدوان الصهيوني عن تحقيقه خلال حربه على غزة .. تماما كما عجز الصهاينة عن إسكات قناة المنار أثناء عدوانها على لبنان في صيف 2006 ، فتنطعت فرنسا " بكل مروءتها " للمهمة ..
فما أشبه اليوم بالبارحة ..
إن السيناريو نفسه يتكرر ، ولسوف يتكرر ويتكرر ما دمنا لم نصدَّ هذا الهجوم المجرم بهجوم كاسح لا يبقي ولا يذر ..

الخميس ـ 17/حزيران/2010

يوسف رشيد

الأربعاء، 16 يونيو 2010

وينساني الزمان

هو الزمانُ الذي يجري دونما توقف ..
إنه الأبدي .. ينقلنا من دنيا إلى أخرى .. ومن معالم إلى ثانية .. ومن ظلمة إلى نور .. ومن ضلالة إلى هدى .. ومن الأبيض إلى الأسود .. إلى الأخضر .. إلى الأحمر ..
و " طيري يا طيارة طيري .. يا ورق وخيطان .. بدّي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران .. وينساني الزمان .. على سطح الجيران .. "

هل يجودُ علينا الزمانُ بوقفةٍ هادئةٍ ؟؟
لكن .. ماذا سنفعلُ إذا توقف ؟؟
هل يحبُّ المرءُ أن يعودَ إلى ما كان عليه قبل سنواتٍ مثلا ؟؟
هل يعيدُ الكرَّةَ على نفس المنوال الذي سبقَ أنْ سارَ فيه ؟؟
منْ يدري ؟؟
لعلنا نرفضُ أنْ نسيرَ ذات السيرة .. ولعلنا ، لا يمكن لنا إلا أن نسيرَ في الطريق التي سرْنا فيها ذاتها ..
تلك هي المسألة ..
هل نحن الذين نسير ؟؟..
أم ، إننا لا بد من أن نسير ، كما نسير ؟؟..
في كل الحالات ، لماذا لا نكسرُ جمودَ نفوسِنا ، ونحاولُ أنْ نخرجَ من الغلاف الجوي للكرة الأرضية " الشخصية " ؟؟..
هل نحن قادرون ؟؟!!
لا بأسَ من التجريب ...
***

أنْ تعيش الحلمَ ، ذلك جميلٌ .. لكنَّ الأجملَ ، أن تعيشَ الحقيقة والواقعَ بكل ما فيهما ، وكأنهما الحلم ..

" إنا نحبُّ الورد
لكنّا نحبُّ القمحَ أكثر ..
ونحبُّ عطرَ الورد ..
لكنّ السنابلَ منه أطهر ..
فاحمُوا سنابلكم من الإعصار ..
بالزند المسمّر .."

***

لا بدَّ أن نعيشَ .. ذلك قدَرُنا ..
فلنعشْ كما نحبُّ .. لا كما يريدُ الآخرون .. كثر ..
فليس كل " الآخرين " يحبوننا ..
وليس كل " الآخرين " يعرفون حقائقنا ، ودقائقنا ، وخلجاتِ نفوسِنا ..
فلنعشْ حياتنا بكل ما أوتينا .. وبكل ما فيها ..
فلنمزّق الأستار التي تحجبُ عن عيوننا وضوحَ الرؤية والرؤيا ..
لنكنْ جديرين بما يمكنُ أن نتمتعَ به ..
إنَّ الحياة جميلة ، وأجملُ ما فيها ، أنْ نعيشَها بسعادة ..
هل ثمة سعادة ؟؟
نعم ..
فالزهورُ قد تنبت من صخرة ..
فلنكن تلك الزهرة ..

***

عزف منفرد - المستقيمان المتوازيان

يا عاشقة الحب .. يا فتّانة الجنيّاتَ والحُور ..
اجعلي لخطوطِك شفافية طيفٍ لازوردي ..
وفجّري الحروفَ مناراتٍ وسنابلَ حبلى ..
وخبّئيني بين الحنايا .. فقد هدّتْني الليالي الجليدية ..
وسَرَتْ في أوصالي أوجاعُ ألمٍ جافٍّ ..
ناجيني بهمسات تتكوّر ، ثم تتشكل أرجوحة تهدهدينها لي بكفيكِ .. لأغفوَ هُنيْهة ، ولأسرقَ من الزمان برهة ليس فيها أنّاتُ موجوع ، ولا استغاثاتُ ملهوفٍ ، ولا آهاتُ عاشق ، ولا نحيبُ ثكلى ..
" يا سدرة المنتهى "
دعيني أرتشفْ بعضَ أوجاعِكِ في ليلٍ ليس فيه إلانا ..
ودعي للأشياء قدرة التمرُّد والحياة ..
لمْلمِي بعضَ الهُدبِ من فوق الوجناتِ المبللةِ .. ودثريها في شِغافِ قلبٍ من لحم ودم ، وشقائقَ حمر ..
" إن المستقيميْن المتوازييْن لا يلتقيان إلا بمشيئةِ الله " ..

***

عزف منفرد - قِلادة الياسمين

مِيسِي يا قلادةً من ياسمين وبنفسج ..
يا أقحوانًا ربيعيًا ، يُضيءُ ويُبهج ..
وتقلّدي مَناسِكَ الحبِّ في دروبِ الجُزُر النائيةِ المُشرَّدة ..
ترتمي في أحضانِكِ النجومُ .. وتتساقط حبّاتُ الندى مُعلنة التوبة بعد سنين من الضياع ..
تكللي ، وتعمّدي في أحضان الحبيبِ ، ونامي سمكةً يقتلها الظمأ .. غزالةً انهدّتْ ساقاها ، جريًا وراء سرابات المدى ..
جَرّدي سيفَ الزمان .. سَدّديه إلى نحرٍ بَرّاق .. ابتري به أوردةً لا تحملُ دمًا دافئا ، عبقا بعنفوان الحبيب .. سُلّيهِ ، وسَليْهِ باسم العشق المخملي ، أن لا يبتر ذراعًا لهْفَى لعناقٍ ، ولا عينًا ظمأى ، ولا شفتيْن تتنهدان شوقا .. ولا لسانًا يلهج باسمي ..
حبيبتي .. لن تنتهيَ طريقٌ بدأناها .. ولن تفرِّقنا الزوابعُ التي تهبُّ في جوفِ قارورةٍ سوداءَ ..
أكاليلُ الحبِّ تنتظرُ أيدينا يا ربيعيَ الأخضر ..
فإمّا أنْ تكوني لي ..
وإمّا أنْ تكوني لي ..

عزف منفرد - دافئة

أيتها الدافئة كحليبِ أمّي ..
يا كنزًا ثرّا من الحبِّ الأخضر .. يتسلل إلى نخاعي ريحانًا وفلاًّ وياسمينا ..
تشظّيْ نثراتٍ من حنان ، وأضاميمَ وردٍ ، تنثالُ حنينا في ليالي خِصبٍ عميم ..
أيتها الحبيبة .. لن ينتهيَ حبُّكِ .. ولن تعيقه الأشواكُ ولا العثراتُ .. يا مجدًا يانعًا ، يتناثرُ في كل الأوقاتِ ، ويعبقُ بأحلام الطفولة ، وبلون البرتقال والزيتون والآس الجميل ..
اخلدي هُنيْهَة بين ذراعي ..
ضمّيني إلى حناياكِ ، فإن عظامي تشتاقُ وتحنُّ إليكِ دومًا .. دومًا ..

عزف منفرد - سَدْرَة المُنتهَى

تغيبُ الأماني تارة ، وترتحلينَ عن مساحات الحلم الوردي ..
يكتسي الوجودُ لونا ليس له .. وتندحرُ في النفوس شموسٌ لاهبة ..
أصابُ بالغثيان .. تقشعر الأرض ، وتخلعُ ثوبَها .. تبدو عارية حتى من ورقة التوتِ .. تكشّر .. يئنّ غصنٌ يتلوّى .. وتنحني رقبة طير بعد أن هِيضَ جناحُه ..
آهٍ .. تقولها الأحجارُ ، وترتشفها الأرضُ رغمَ سنيِّ الجفافِ ..
تموءُ في الأنحاء رغباتٌ وأنّاتٌ ..
يصيءُ فأرٌ يبحث بين القاذوراتِ عن نفايةٍ لذيذةٍ ..


***

يا سَدرَة المنتهَى ..
يا سدرة المنتهى .. ضُمّي إليكِ الرياحَ ، وامنحيها قدرة التشيؤ .. هيئي لها نايًا تنفخ فيه لحنًا لا يكونُ رماديًا .. ترقصُ على أنغامِه أزاهيرُ ربيع باسم ..
أيتها الياقوتة من ترابٍ أخضرَ ، تنجدلُ الرؤى أمامَ بريقكِ سندسًا وأوراقا خريفية ، تتحدّى لعنة الشياطين ، وأراجيحَ الأطفال ، وعينيْن شاردتيْن في أفق رحيبٍ دامس ..
أيا فرحًا يُورقُ كبرعم من طِيْب ..يتشظى فوقَ الجبين عن كينونةٍ هي في عالي السماءِ .. هي ريحُ الصّبا .. هي الأملُ الآتي ..
هي شعاعٌ من ضياءٍ يتركزُ في حَدَقةٍ وارفةٍ ..

***

لا ينقضِي العمرُ .. لا تتأرجَحُ المراكبُ ..
لا تميسُ الأغصانُ .. لا تتفجّرُ الينابيعُ ..
لا يطلعُ القمرُ .. لا .. لا ..
لماذا لا تكونُ الرؤية إلا سَرابًا ؟؟..
أهي الطيفُ الأخضرُ بعد دهور اليُبْس والتشقق ؟؟!!
أهي ورقة داليةٍ تفترشُ أرضًا مِرجلية ؟؟!!
لا .. لا ..

***

عزف منفرد - أودُّ لو

أودُّ لو أكونُ نعاسًا يِسكنُ في عينيكِ في ليالي حبٍّ لا ينتهي ..
أودُّ لو أكونُ نسمة رقيقة ، شفافة ، تملأ الكونَ ، لتداعبَ خصلاتٍ ، مثلها ، من حنايا شعركِ ..
أودّ لو أكونُ بحرًا هائجًا ، تغورين فيه ، فيزدادُ هيجانه ، ويثورُ معلنا غضبته على الأرجاء ..
لكنْ ، ما إن تلامِسُ ماءَه قدَمُكِ .. حتى يهدأ ، وينشرَ على الكون أريجًا لا يعادله أريجُ زهور العالم ..
أودُّ لو أكونُ الحبَّ ذاته ، كي أسكنَ أعماقكِ إلى الأبد .. إلى الأبد .. إلى الأبد .. يا حبي الذي لا يهدأ ..

***

الثلاثاء، 15 يونيو 2010

أدونيس
مقتطفات من حواره مع عبده وازن
في جريدة الحياة

قد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر أدونيس إلى مقدمة، فالشاعر يقدّم نفسه هنا، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقا. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثا عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حينا وسلبي حينا آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجها آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى. إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيرا ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة.
هذا الشاعر الكبير الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحيانا في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكنا حصره داخل تخوم الشعر والقصيدة، فهو مفكر أيضا، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور ويتمرّد... ولا يهادن.
هذا الشاعر الذي يختصر عصرا بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادرا ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين بعينه.

> كيف تنظر إلى والدتك، خصوصا أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في حياتك؟
- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة إلى الأب الذي هو دائما في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصا أنها لا تقرأ ولا تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلا في العُطَل المدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو «تربيتي العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البدأية، جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءا من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معا. وعندما يحدث أن يموت الأب باكرا، وتبقى الأم بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلا، أين تسكن الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس الحضور.
ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابنا يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي، غالبا، «ثقافة» الأم، و «الثقافة» التي هي غالبا «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.
> أشعر أنك تتكلّم عن الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل تركت أثرا؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟
- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائنا مفردا، مستقلا، منفصلا، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها إلى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن لشاعر أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعا» أو «شيئا»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.
> وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ إلى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثرا وجدانيا فيك؟
- تقصد شعريا؟ هذا البكاء الشعري، بالأحرى يضحكني.
> هل عَنتْْ لك الأمُّ شيئًا كامرأة؟
- أيضا هذه من المشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من عمري كنت جزءا من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي، أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة. المدينة ابتكار إنسانيٌّ عظيم، لكن نحن أبناء الريف لم نعرفه إلا متأخرين جدا. لذلك الأمور عندنا مختلفة. هناك فرق كبير بين حياة الريف وقيمه وحياة المدينة وقيمها. هناك فجوة يمكن أن تكون السبب في كون حياتي اليوم حتى سن العشرين نوعا من التذكر، نوعا من الاستعادة أكثر مما هي جزء مكوّن من حياتي أعيه وأستطيع أن أحلله أو أتأمل فيه.
> متى خرجتَ على ثقافة العائلة والبيئة والقرية؟
- بدأ هذا الخروج مع عملي في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان، وأعتقد أنه لا يزال حتى الآن، يمارس الحياة المدنية داخل صفوفه، وفي العلاقات ما بين أعضائه.
> من الشخص الأول الذي ربطك بالحزب؟
- لم أدخل الحزب بتبشير من شخص بعينه، وإنما دخلته، مصادفة، بفعل الحادثة التي أشرتُ إليها، وأعني طرد طُلاب ينتمون إليه، من المدرسة – اللاّئيك. غير أن المسؤول الذي تولى إدخالي رسميا كان الأستاذ إلياس جرجي قنيزح.
> هل تعرّفت إلى أنطون سعادة شخصيا؟
- قابلته مرتين. الأولى، عام 1947 كما أتذكر، في أثناء زيارته اللاذقية، أو 1948. كان ذلك في حفلة استقباله، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ولعل قيادة الحزب هي التي شاءت أن أتعرّف إليه، لأنني كنت بدأت أبرز في الحركة الطلابية، لا شاعرا «قوميا»، فقط، بل ناشطا فعّالا، أيضا، في صفوف الطلاب. رجل ساحر: هذا هو انطباعي عنه في هذه المرة.
المرة الثانية، كانت في مكتبه في بيروت، عام 1948. المناسبة هي أنني فزت بجائزة «العروة الوثقى» الأولى، في مسابقة شعرية تدور حول موضوع «اليتيم». كان حلما، بالنسبة إليّ، أن آتيَ إلى بيروت. أن ألقي قصيدتي في قاعة «الوست هول» في الجامعة الأميركية، كما أخبرني المشرفون على الجائزة. وقد نَظّم مسؤولو الحزب في اللاذقية أمرَ مجيئي إلى بيروت، وكانوا مسرورين جدا. ونظّم لي مسؤولوه في بيروت أمر زيارة الزعيم، كما كنا نسمّيه، في مكتبه. هكذا، منذ وصولي إلى بيروت، وقبل ذهابي إلى الجامعة الأميركية، زرته، وبقيت معه فترة قصيرة، لم أعد أذكر شيئا مما قاله لي. أذكر أنني أصغيت إليه، مأخوذا به – بشخصه، وتواضعه، وبساطته، وحضوره المُدهش. ولم أكن قرأت من كتاباته إلا أشياء قليلة.
في الجامعة، أصرّ القوميون على أن ألقي القصيدة، واضعا شعار الزوبعة. لكن، عندما رآه أعضاء الرابطة، غضبوا ورفضوا أن ألقيها وأنا أضعه. وعندئذٍ حدثت شبه معركة بينهم وبين القوميين تدخل فيها رئيس الجامعة وقتذاك، الدكتور قسطنطين زريق. وحلّت المسألة بانتصار القوميين، ويبدو أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الفاعلة بين طلاب الجامعة. كانت معركة شكلية، يمكن تفاديها. منذ ذلك الحين، أخذت أقرأ أنطون سعادة، خصوصا كتاباته حول الأدب، مثلا كتابه المهم: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وقد أثّر فيّ كثيرا. في كل ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والأسطورة، وبينه وبين القارئ. وكانت له في هذا الصدد مقولة بالغة الأهمية، وهي أن الشعر يجب أن يكونَ منارة لا مِرآة.
جذبني في الحزب، في تلك الفترة، الجانب المسلكي، النظريّ والعمليّ. فقد كان أعضاؤه يعيشون في ما بينهم مبادئهم في العلمانية، واللاطائفية، وحرية التديّن أو اللاتديّن، واحترام المرأة والنظر إليها بوصفها، كالرجل، حقوقا وحريات وواجبات. حتى أن بعض القوميين كانوا يتزوجون مدنيا، في ما بينهم، قبل أن يسجّلوا زواجهم، رسميا أو شرعيا. وزواجنا، خالدة وأنا، تمّ أولا في الحزب، ثم سجّلناه، طبقا لأعراف الزواج الرسمية. وجذبتني أيضا بعض الأفكار، كمثل موقف أنطون سعادة من العروبة، واللغة العربية. وكمثل رأيه في شخصية أو هوية المجتمع السوري، وفي النظر إلى ثقافة الغرب أو الحضارة الغربية.
> هل توضح هنا ما تقصد إليه؟
- مثلا، كان يقول، وهذا في صلب دستور الحزب، إن الأمة السورية أمة عربية، وإن الثقافة العربية جزءٌ أساسي ومكمّل للثقافات التي سبقتها في سورية: الكنعانية، الفينيقية، والبابلية – الأشورية، والسومرية... إلخ، وإن هذه الثقافات كلها تشكل وحدة لا تتجزأ. لكن، بما أن الثقافة العربية واللغة العربية آخر ما احتضنته سورية، فإن الثقافة السورية ثقافة عربية، ولغتها هي اللغة العربية. كان أنطون سعادة، للمناسبة، يعشق اللغة العربية. وقيل لي إنه كان يتحدث في البيت مع أطفاله باللغة الفصحى.
> هل لديكَ مثلٌ آخر؟
- نعرف جميعا أن هذه البلاد تتألّف بشريا من أقوامٍ متعددين في أصولهم وثقافاتهم. وردا على العِرْقية في النظر إلى الشعب، كما كان يقول دعاة القومية العربية، الذين نظّروا لها كأنها نوعٌ من العنصرية، ابتكر مفهوما جديدا هو «السلالة التاريخية»، قائلا إن الشعب السوري مزيج مركّب فريد من السريان والآشوريين والأكراد والأرمن والعرب وغيرهم، وأنهم تمازجوا عبر التاريخ بحيث يشكلون سلالة تاريخية واحدة، في ما وراء الأعراق. وهكذا يكون العرب جزءا لا كُلا. ويزول كذلك مفهوم الأقليات. ومن أجل ذلك قال بانتساب الشعب إلى الأرض التي يعيش عليها، لا إلى اللغة، ولا إلى الدين، ولا إلى العِرْق. فالناس الذين يسكنون في سورية هم شعبٌ سوري، لا فرق بين فرد أو آخر، وبين أصل عِرقيّ أو آخر. الوطن واحد، والشعب واحد. والمواطنية هي الأصل. لا الانتماء المذهبيّ أو العِرقي أو اللغوي. والمخجل أن بعض كتّاب اليسار لا يزالون يتّهمونه بالنازية.
> الشائع أنه هو الذي اختار لك اسم أدونيس...
- هذا خطأ. فأنا نفسي اخترت هذا الاسم. ولهذا الاختيار قصة رويتُها كثيرا، ولا أريد أن أكررها.
> كيف كانت علاقتك ببعض القوميين الكبار من أمثال فؤاد سليمان وغسان تويني؟
- كان لهما احترامٌ كبير عندي. لم أكن أجتمع بهما، غير أنني تتلمذت عليهما في أشياء كثيرة. أذكر أنني زرت فؤاد سليمان في مستشفى الجامعة الأميركية، في أواخر حياته. شعرت أنه فرح جدا بهذه الزيارة التي كانت الأخيرة. أما غسان تويني فقد توثقت علاقتي به، بعد أن تخلّى كلانا عن العمل الحزبي. عرفت كذلك سعيد تقي الدين، وكان إنسانا فريدا. ساعدني كثيرا في حياتي الأدبية، وهو الذي كتب مقدمة لقصيدة «قالت الأرض».
> مَن مِنَ القوميين أيضًا كان لهم حضورٌ في حياتك؟
- هشام شرابي. يوسف الخال، وكان قد ترك الحزب عندما التقيته في بيروت، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. محمد يوسف حمود، وكان شاعرا شديدَ الالتزام بالحزب. وكان هناك شعراء انفصلوا عن الحزب، قبل أن أعرفه، غير أنني قرأتهم وأَفَدْتُ منهم كثيرا، مثل سعيد عقل وصلاح لبكي.
> هل كان لديكَ موقفٌ نقدي معيّن من أنطون سعادة؟ هل حاولت أن تعيدَ قراءته، على ضوء العلوم الجديدة، والمعطيات السوسيولوجية الجديدة؟
- أبدا. الحقيقة أنني لم أنتقده، وإنما حاولت فهمه وتأويله، بطريقة خاصة، ومختلفة. مثلا، في ما يتعلق بآرائه في الأدب، وفي الدين، وفي الاقتصاد، وفي السياسة. لكن تأويلي هذا لم يكن يلاقي، غالبا، التأييد أو التحبيذ.
مرة، مثلا، كتبتُ افتتاحية في جريدة «البناء»، في أواخر الخمسينات، بعنوان: «يسارية الحزب القومي الاجتماعي»، فأحدثت ضجة، وغضب عليّ بعض قادة الحزب، مثل أسد الأشقر، وإنعام رعد. والغريبُ أنهما، بعد فترة، أخذ كلاهما يتحدث عن يسارية الحزب، ويبشّر بها، ويدافع عنها. مقابل ذلك، كنت أنتقد كثيرا، وباستمرار، الممارسة الحزبية القيادية، وبخاصة، على الصعيدين السياسي والثقافي. وهو انتقادٌ أدّى في الأخير إلى أن أنفصل نهائيا عن العمل الحزبي، وعن الحزب. وصرت أنظر إلى أنطون سعادة، بوصفه مفكرا، وفي استقلال كامل عن الحزب الذي أنشأه وكنت عضوا فيه.
> هل شعرتَ بأنكَ أصبحتَ أكبرَ من أن تكون حزبيا؟
- لم أطرح بهذه الطريقة مسألة علاقتي بالحزب، خصوصا أنني كنت، طوال بقائي في الحزب، حرا في فكري وعملي.
> لم تشعرْ يوما أنك تنتمي إلى فكر أنطون سعادة؟
- لا يمكن أي عاقل يعمل لبناء مجتمع جديد، إلا أن يتبنى كثيرا من أفكار أنطون سعادة، في فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، ووحدة المجتمع في سلالة تاريخية، وفي العلاقة بالآخر، وفي كثيرٍ من قضايا الأدب، والثقافة بعامة. أقول: يتبناها، لكن طبعا، منظورا إليها دائما في أفق التغيّر والصيرورة. هكذا لا أزال، شخصيا، أَسْتضيء بكثير من آرائه.
> كيف كانت علاقتك بخليل حاوي؟
- معقدة ومرتبكة. لكن، لم أقل عنه كلمة واحدة سيئة، خلافا لما كان يقوله عنّي بين أصدقائه وتلامذته.
> هل أثرت السياسة في هذه العلاقة، فهو كان قوميًا عربيًا على ما بدا؟
- على العكس، كان سوريا قوميا. وكان عضوا بارزا في الحزب. المسألة بيننا كانت شعرية. كنتُ، لسبب أو آخر، أكثر حظوة منه في صفوف الحزب، على الصعيد الشعري. ولهذا كان يغار مني كثيرا. ولم تنشأ بيننا علاقة صداقة.
> متى انقطعتْ علاقتكما؟
- لم تكن هذه العلاقة، منذ البداية، أكثر من علاقة تعارف. وأكرر أنني من جهتي، لم أقم بأي عمل يمكن أن يسيء إليه، شخصا أو شعرا. كنت حريصا جدا على احترام مكانه ومكانته.
> كيف تستعيدُ صورة خليل حاوي الآن، بعد هذا الزمن، وهل تقرأه؟
- لا أقرأه. كما أنني لا أقرأ الشعراء الذين جايلتهم. غير أنني أرى في شعره أمرين مهمين: الأول، هو أنه كسر اللغة الشعرية المتأنقة الزخرفية القائمة بذاتها والتي تتمثل، أساسيا، في شعر سعيد عقل. وهو في ذلك يتابع شعر إلياس أبي شبكة. الثاني، هو أن الشعر عنده قائمٌ جوهريا على رؤية للإنسان والعالم، لا انفصال فيها بين الشعر والفكر. هكذا أحترم تجربة خليل حاوي، وإن كنت لا أتذوق شعريتها، جماليا.
> لكنّه تحوّل إلى القومية العربية؟
- لا أظن. لا أرى في كتاباته انعطافا نوعيا يفصله عن رؤية أنطون سعادة الثقافية. وهذا لا يعني أنه لم يتعاطَف سياسيا مع القضايا العربية.
> هل هذا ينطبق عليك؟ أصلا، أنتَ كنتَ خارجًا من الأساس لأنك اشتغلتَ كثيرًا على التراث العربي.
- قد نكون متفقين في ما يتعلق بالأمرين اللذين أشرتُ إليهما، على المستوى النظري. غير أن الشعر، كما تعرف، يفلت أخيرا حتى من النظرية التي يُكتَب باسمها، أو يصدر عنها. والأساس إذا في نقد الشعر أو تذوّقه لا يُلتمس في اتجاه الشاعر أو في النظرية التي يقول بها، وإنما يُلتمَسُ في نسيج الشعر ذاته، في طريقة تعبيره، وفي بنيته اللغوية – الجمالية. وفي هذا نحن مختلفان.
> ماذا باتت تعني لك القومية، السورية أو العربية أو غيرهما في زمن العولمة؟ لقد فقدت القومية في العصر الراهن مسوّغاتها، حتى بات الانتماء القومي أشبه بالتهمة؟
- لا أظن أن الانتماء القومي انتهى، أو سينتهي. ربما يحصل ذلك عند أفراد. لكن، أستبعد ذلك عند الشعوب.
في ما يتعلق بي صرتُ بعيدًا جدًا عن النظر إلى القومية نظرة أيديولوجية سياسية. لكن الانتماء إلى لغة وشعب وثقافة شيء آخر، وهو أمرٌ مفروض بحكم الطبيعة والواقع.
> هل يمكن القول إن أنطون سعادة صار من التراث؟
- هو من التراث، بالمعنى الإيجابي العميق. وهو لذلك، لا يزال حاضرا، وحيّا. لكن، بوصفه مفكّرا ورائيا، لا بوصفه مؤسسة حزبية.
> إلى أيٍّ من شعراء الحزب السوري القومي، كنتَ تميل؟
- نشأ في الحزب شعراء كثيرون. بعضهم لم أعرفهم إلا بشعرهم. أشرت إلى بعضهم ممن سبقوني، وتعلّمت منهم كثيرا. وبعضهم من جيلي. وبعضهم من جيل لاحق. أحببت شعر محمد الماغوط، وسنية صالح، وكمال خير بك، وأورخان ميسّر، تمثيلا لا حصرا.
> الشاعر السوري بدوي الجبل، كيف كانت علاقتك به؟
- علاقة إعجاب، من جهتي. أما من جهته هو، فلم يكن مرتاحا إلى اتجاهَي الحديث في الشعر. ولا أعرف إن كنت تعرف أنه قريبي. فهو ابن خال أمي، عائليا.
> بدوي الجبل، ترك فيك أثرا؟
- ربما. وقد يكون أثره فيَّ أكيدا. غير أنني لا أعي ذلك، ولا أعرفُ أن أدلّ عليه. بدوي الجبل هو بالنسبة إليّ، آخر شاعر كلاسيكي عربي كبير.
> كيف كانت علاقتك مع سعيد عقل الذي كتب، كما يقال، نشيد الحزب القومي؟ وكيف تنظر الآن إلى شعره؟ في أي موقع تضعه، هو الشاعر الطالع من صميم اللغة العربية. وما رأيك في دعوته إلى القومية اللبنانية وإلى الكتابة بالحرف اللاتيني؟
- لم تكن علاقتي بسعيد عقل الشخص، جيدة. مع أنني رأيته أكثر من مرة. غير أنني أفدت من لغته الشعرية في سنواتي الكتابية الأولى. كانت امتدادا متألقا للغة شاعرين أحببتهما: أبي تمام، وأبي نواس. فقد قبضَ فيهما على مفتاحٍ تخييلي – ذهني، أوصله في النتيجة إلى أن «يسجن» لغته في «غرفة العناية الفائقة»، مفصولة عن العالم وأشيائه. غير أنه ابتكر القصيدة القصيرة التي تبدو كأنها تتدلى على صدر اللغة كمثل «عقد فريد». أما قيمة هذه القصيدة، تجربة ومعرفة وكشفًا، فأمرٌ آخر يصعب الآن الدخول فيه. وقد بالغ في اللعب، والتقليبِ والصقل، بحيثُ انحصَر شعره بين عتبتين: «امتلاء» اللغة، و «فراغ» التجربة. وليست دعوتُه إلى القومية اللبنانية إلا نوعا من الأصيص الوطني لهذه اللغة – الزهرة. أصيصٌ بلا ماء.
أما دعوته إلى الحرف اللاتيني فدعوة شاعر يُنكِرُ هو بنفسه ما خَلقَ له هويته الشعرية وجعله هو هو. دعوة شاعرٍ يخرجُ من شعره ومن نفسه على السواء. وهي إلى ذلك دعوة منْ يرى الوجود، إنسانا وشعرا وفكرا، في «الحَرف». كأنه يريد أن يُحِلَّ الأداة – الآلة، محلَّ خالِقها، الإنسان. إن مشكلة اللغة ليست لغوية. إنها عقلية – إبداعية. مشكلة اللغة في العقل الذي يستخدمها، لا في الحروفِ التي تُشكّلها.
> فوجئ القراء وأصدقاؤك بأنك بنيت لك مقبرة في القرية وكأنك تريد أن تعود، بعد عمر طويل، إلى القرية. ماذا يعني خط العودة هذا؟
- أظن أن الرغبة في العودة إلى التراب الذي مسته قدماي للمرة الأولى، هو نوع من الاعتراف بالأمومة، نوع من العودة إلى الأمومة لا إلى الأبوّة. طبعا لم أبنِ قبرا كما قيل وإنما أشرت إلى أنني أحب أن أقبر في زاوية من مكان معين، في حديقة البيت.
> أذكر إحدى مقولاتك الشهيرة: «لا أستطيع أن أكون لبنانيا، ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانيا». ما قصدت بهذه العبارة؟
- الإنسان في لبنان مُمتهَنٌ، فهو يُقَوَّم في الدولة، في الحياة المدنية، بمعيار طائفي، وبانتمائه الطائفي، لا بمعيار إنسانيته ومواطنيته، وكفاءته. بعض البلدان العربية أقل سوءا على هذا الصعيد. الإنسان فيها يقوّم إجمالا، بحسب ولائه للنظام القائم، أو عدم ولائه، في معزل، إجمالا، عن انتمائه المذهبي أو الطائفي. ويزداد الأمر سوءا في لبنان بتقويم اللبناني، داخل طائفته نفسها، بمدى قربه أو بعده من زعيمها. على هذا المستوى، لا أستطيع أن أكون لبنانيا.
غير أن لبنان، من جهة ثانية، خلافا للبلدان العربية أو لمعظمها، يتكوّن من مادة بشرية فريدة: إثنيات، وأديان، وثقافات متنوعة. وهذا يقدّم مكانا لبناء مجتمع تعددي أو تنوعيّ يندرُ مثيله في العالم. وهو، إذا، مشروعٌ منفتح يبدو فيه لبنان، كمثل الحب أو كمثل الشعر، لا نهأية له، يُبتكر ويُعاد ابتكاره باستمرار. ويبدو في إطار العالم العربي ضروري الوجود، ضرورة مطلقة. وعلى هذا المستوى، لا أستطيع إلا أن أكون لبنانيا.
> هل حصلتَ على الجنسية اللبنانية بسهولة، أم خضتَ معركة؟
- كان الأمر سهلا. اكتشفت، بفضل بعض الأصدقاء، خصوصا المحامي الراحل نعمة حمادة، والنائب الراحل أحمد إسبر، أنّ لي أرومة عائلية في قرية حجولا، قضاء جبيل. وقد ساعدني كثيرًا في هذه المسألة الراحل الصديق ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية. هكذا أخذتُ الجنسية اللبنانية استنادًا إلى هذه الأرومة. كانت بمثابة استعادة.
> خلال هذه الفترة، بدأتم بإنشاء مجلة «شعر». الآن، يقال إن المؤسس هو يوسف الخال. وأحيانا يقال أدونيس يوسف الخال. أو يوسف الخال وأدونيس.
- صدر العدد الأول من المجلة، شتاء 1957. والتقيته في بيروت للمرة الأولى، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. كان يعمل في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ضمن البعثة اللبنانية التي كان يرئسها أستاذه شارل مالك. كنت أعرفه بالاسم، ولم أكن قرأت له شيئا. في سنة 1954، نشرت قصيدة طويلة في جريدة «البناء» التي كانت تصدر في دمشق، بعنوان «الفراغ»، نشرت، في ما بعد في مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار مجلة «شعر»، بعنوان «قصائد أولى». قرأ القصيدة وهو في نيويورك، ويبدو أنها أعجبته. اتصل بي، وكان كما بدا لي، من حديثه، أنه يفكّر بإنشاء مجلة خاصة بالشعر. وقال إنه فرح بالقصيدة، خصوصا بخروجها على التقاليد الوزنية. واتفقنا على أن نلتقي في بيروت. هكذا التقينا في أواسط تشرين الأول 1956، في «مقهى نصر» وحدّثني عن مشروع المجلة.
هو، إذا، صاحب الفكرة، والعامل الأول على تأسيسها. غير أننا عملنا سويا، بوصفنا فريقا واحدا، منذ العدد الأول الذي صدر بعد حوالي شهرين أو أكثر قليلا، في شتاء 1957. وعندما نتصفح العدد الأول نرى أنني هيّأت شخصيا حوالي نصف صفحات العدد، وتحديدا42 صفحة من أصل 109 صفحات. وقد حرصتُ، خلافا لرغبته، على ألا يظهر اسمي في هيئة تحرير المجلة، وأن يكتفى باسمه وحده، لأسبابٍ خاصة متنوّعة.
> وهو كان صاحب الامتياز؟
- لا. كمال الغريّب كان صاحب الامتياز.
> لم يظهر اسمك في العدد الأول! لماذا؟
- لم يظهر، في هيئة التحرير، كما أشرت. لكن ظهرت لي في العدد قصيدة «مجنون بين الموتى»، وهي ذات شكل مسرحي، كتبتها في سجن القنيطرة العسكري، في سورية، عام 1955، وكان أشدَّ قسوة من سجن المزّة في دمشق. إضافة إلى كثير من المواد الشعرية الأخرى، وبخاصة المواد المترجمة التي لم أوقعها باسمي الشخصي.
> سجنت بتهمة سياسية؟
- نعم. ولكن دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك إلى الحزب السوري القومي جرمًا. غير أنني خرجت من السجن، دون محاكمة، كما كان الشأن في خروجي من سجن المزّة.
> متى ظهر اسمك في هيئة تحرير مجلة «شعر»، رسميًا؟
- بعد صدور العدد الأول، كان يوسف يصرّ باستمرار على وضع اسمي إلى جانب اسمه، قائلا: هذا حق، وضروري. والأفضل أن يظهر اسمانا معًا رئيسين أو مديرين للتحرير، وصاحبي المجلة. وكنت دائما أجيبه: ننتظر قليلا. أخيرا، بدءًا من العدد الرابع الذي ظهرت فيه ترجمة «ضيّقةٌ هي المراكب»، قبلت أن يظهر اسمي سكرتيرًا للتحرير. وفي بداية السنة الرابعة، العدد 14، قبلت أن يظهر اسمي مديرًا للتحرير. وحلّ شوقي أبي شقرا محلي، سكرتيرًا لهيئة التحرير. وفي هذا العدد نفسه نشرت المجلة، للمرة الأولى، ثلاث قصائد نثر لأنسي الحاج. ثم انضمّ في بداية السنة الخامسة، العدد 17، 1961، إلى هيئة تحريرها. وبدءًا من شتاء 1962، العدد 21، صار اسمانا يوسف الخال وأنا يظهران مقترنين على هذا النحو: «صاحبا المجلة ورئيسا تحريرها: يوسف الخال وأدونيس». تلك هي الوقائع. ولا أقدر، مع ذلك، أن أمنع الآخرين نقادًا ومؤرخين وشعراء، من أن يتحدثوا عن المجلة وتأسيسها، كما يَحلو لهم.
> كيف تنظر الآن إلى يوسف الخال؟ ما العلاقة التي ربطتك به، علما أنكما شخصان مختلفان تمام الاختلاف؟
- عن الشق الثاني من سؤالك أقول كنا متفقين، على الرغم من اختلافنا في أشياء حول إعادة النظر في الثقافة العربية، والشعر بخاصة، والتأسيس لصورة جديدة لهما، وحول الحرية الكاملة في النظر والتأسيس. ولم تكن آراؤنا في التفاصيل متطابقة دائما. وقد ارتقى اتفاقنا هذا في الممارسة إلى مُستوى الصداقة. كنا صديقين، بالمعنى العميق لكلمة صداقة. وقد أعطت لهذه الصداقة بعدًا عمليًا واجتماعيًا وسياسيًا، قناعتنا المشتركة بالعلمنة، ومدنية المجتمع، والتعددية الثقافية والانفتاح على الآخر وثقافاته. أما عن الشق الأول من السؤال، فأرى أن ليوسف الخال أهمية كبيرة أوجزها في ثلاثة أمور:
الأمر الأول شعري، وهو أنه أول شاعر عربي حديث كتب قصيدة موزونة مدوَّرة، وغير مقفّاة. وكتبها بشعر قريب إلى النثر، أو كأنه النثر – أعني قريب إلى الحياة اليومية ولغة الحياة اليومية، دون انفعالية أو حماسية متضخمة وفضفاضة. هكذا كسر للمرة الأولى، فنيا، لغة التأنق الشعري اللبناني: لغة سعيد عقل وأمين نخلة، على سبيل المثال، والتي وصلت إلى درجة قتَلت الشعر، وأصبحت رنرنة لفظية.
الأمر الثاني ثقافي، وهو أنه، من ناحية أولى، صدر في كتابة الشعر عن رؤية توحد بين الشعر والفكر. خلافا للنظرة التقليدية السائدة التي تفصل بينهما فصلا كاملا. وأنه، من ناحية ثانية، أدخل البُعْدَ المسيحي في الشعر، بوصفه عنصرا مكونا من عناصر الثقافة العربية، وجزءا عضويا منها، جماليا وفكريا وأن فهم الثقافة العربية، في معزل عن هذا البعد، إنما هو فهمٌ ناقصٌ وسطحيٌ.
والأمر الثالث لغوي، فهو يقترح أن نكتب اللغة كما ننطقها. لا يتبنَّى اللغة الدارجة، ولا الحرف اللاتيني، وإنما يتبنّى اللغة الفُصحى نفسها لكن من دون حركاتها الإعرابية.
وهو اقتراحٌ متقدمٌ ورائدٌ، إذا قيس بالمقترحات الأخرى في هذا الإطار. وأنا شخصيا، لا أوافق عليه. لأنني أرى باختصار أن ما يسمى بمشكلة اللغة العربية من حيث تراجعها، لا تُحلّ لغويا. المشكلة اللغوية هنا هي، في المقام الأول، عقلية – ثقافية. حين يموتُ عَقْلُ أمة تموت لغتها. واستخدام اللغة الدارجة أو المبسّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يُعيدُ لها عقلها. كيف نستيقظ عقليا؟ تلك هي المسألة.
> لكن، إلى أي مدى ترى أن يوسف الخال جدد القصيدة؟
- أولا، من حيث الشكل والبنية، هو بين أوائل الذين نظّروا للخروج على الوزنية التقليدية، فكتب قصيدة غير شطرية، قائمة على الجُملة، وكتب قصيدة مدوّرة بلا قافية، ونَثْرنَ شِعرية الوَزْن، إضافة إلى أنه كتب بدارجةٍ جديدة هي اللغة الفُصحى دون حركات إعرابية. ثانيا، من حيث المضمون، جَرّد الشعر من انفعاليته وتأوهاته العاطفية الغنائية، بالمعنى البكائي السطحي، وأنينه الذاتي الفردي، ورَبطه برؤية إنسانية حضارية. ثالثا، أسس لمناخ مفتوح يستقبل الشعراء وبخاصة الشبّان، يدعمهم ويشجعهم وينشر لهم، خالقا هكذا حركة ثقافية – فنية، كانت أكثر نضجا ووعيا وفاعلية من جميع الحركات التي سبقتها، على أهميتها التاريخية. واليوم، دون أي مبالغة، يمكن أن نقسّم تاريخ الشعر إلى قسمين: الشعر قبل مجلة «شعر»، والشعر بعدها.
> إلى منْ كنتَ أقربَ في مجلة «شعر»، ما عدا يوسف الخال؟
- إلى أنسي الحاج. وبعده، في مرحلة لاحقة، إلى بدر شاكر السيّاب.
> كنتَ أولَ المرَحّبين بأنسي في رسالتك الشهيرة.
- طبعا. كان بشارة، كما بدا لي آنذاك، لكتابة عربية جديدة، رؤية وبنية.
> ثم واكبتَ أعماله. واختلفتما فترة، أم ماذا؟
- حدث بيننا جفاءٌ، منذ أن تركتُ مجلة «شعر». وأسندَ إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمْرَ مُهاجَمتي بسبب انفصالي عن المجلة. ثم جاءت الحرب الأهلية، وهجرتي من بيروت إلى باريس. هذا كلّه أحدث نوعا من القطيعة على صعيد اللقاء، لكن، على صعيد الكتابة كنت حريصا دائما على قراءته، ولا أزال.
> قلت أكثر من مرة إنك تفضل أنسي على محمد الماغوط. ما السبب؟
- شعر الماغوط طائر جميل مغرّد. شعر أنسي سِرْبٌ من الطيور الجميلة المغرّدة. شعر الماغوط «واحد». شعر أنسي «كثير»: أغنى، وأعمق، وأكثر تنوّعا.
> نستطيع أن نتكلّم عن انقطاع في العلاقة بينك وبين محمد الماغوط ، علمًا أنك كنتَ أولَ من قدّمه في مجلة «شعر»؟
- جميع الذين قدمتهم شعريا، بدءًا من عملي في مجلة «شعر»، ووفرتُ لهم كثيرًا من فُرص التفتّح والنموّ، انقلبوا ضدي. ولا ألوم، هنا، ولا أشكو وإنما ألاحظ.
> أعود إلى محمد الماغوط. متى بدأت العلاقة بينك وبينه تسوء، حتى إنه استمر في مهاجمتك، دون توقف؟
- تعرف طبعا أنني كعادتي مع آخرين كثيرين، لم أرد عليه، ولم أقل عنه أي كلمة مسيئة. كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنيّة صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه، منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحيانا إلى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضًا، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودودًا، ونادمًا، خصوصًا في ما يتعلق بتهجماته عليّ.
> الآن، كيف تقرأ محمد الماغوط؟
- لا أحس بأي حاجة ملحّة لقراءته. مع أنه، كما أظن، يستهوي كثيرا من الشبان. وفي الواقع، استطرادًا، أنني لا أحس بمثل هذه الحاجة لقراءة أي شاعر من شعراء جيلي. خصوصا ذلك الذي كان يملأ دنيا التقدم واليسار والشيوعية، عبد الوهاب البياتي.
> هاجمك البياتي بعنف؟
- لا علاقة لهجومه بما أقول. أقول ذلك، موضوعيا.
> هل تعتقد أن البياتي انتهى كما يقول بعضهم؟
- يصعب عليّ إصدار أحكام من هذا النوع، لذلك، لا أقول: انتهى. أقول إن شعره ضَحلٌ، وليست له أي أهمية فنية – جمالية، بالمعنى الحَصْري للعبارة.
> على عكس السيّاب؟ السيّاب تحبّه؟
- كتب السيّاب عشرَ قصائد، على الأقل، هي بين أجمل القصائد العربية التي كتبت، منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. هذا يكفي لكي يبقى. وهذا يكفي لكي أحبه.
> هل كانت بينك وبين بدر صداقة شخصية؟
- نعم. وبيننا رسائل متبادلة. وأنا، شخصيا، اخترتُ قصائدَ ديوان «أنشودة المطر» من بين القصائد الكثيرة التي وضعها بين يديّ، وفوّضني بالاختيار.
> أين تكمن حداثة السيّاب برأيك؟
- في مُقارَبته للأشياء، وفي طريقة تعبيره عنها. وفي لغته الشعرية، بخاصة: كأنه داخل اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها في آن: فلحظة يبدو لبعضهم «قديما»، يبدو، في العمق» «حديثا» بكامل المعنى. كأنه من التراث كالموجة العالية من البحر: لا هي هو، ولا هي غيره.
وتلك هي «المعادلة» العالية التي نعرفها عند شعراء الحداثة الغربية الكبار.
> نازك الملائكة، ألا ترى أن جزءًا من أسطورتها كان واهيًا؟
- تكتسب نازك أهميتها الشعرية من كونها أولا شاعرة في مجتمع يتردد كثيرًا في الاعتراف باستقلالية المرأة، وحريتها.وتكتسب، ثانيًا، أهميتها من كونها امرأة مثقفة. أعطت للرومنطيقية بعدًا غنائيًا أنثويًا كان جديدًا في وقتها. كانت تتويجًا للغنائية آنذاك، والتي كان يمثلها أفضل تمثيل الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.
> كيف تنظر إليها كناقدة ومنظّرة للشعر؟ هل قرأت كتابها «قضايا الشعر»؟
- طبعًا قرأته. كان عندها في هذا الكتاب زادٌ معرفي، وآراء ثاقبةٌ في كثيرٍ من القضايا التي طرحتها.
> نشرتم لشاعر من الشعراء المهمّين هو سعدي يوسف. كيف تنظر إليه، وإلى تجربته؟
- منذ البداية، قدّرت هذا الشاعر. افتتحنا بقصيدة له العدد الأول من مجلة «شعر»، وازددت، مع الوقت، تقديرًا له ولتجربته. واستحسنت كثيرًا تأثره، في ما بعد، بالشاعر اليوناني ريتسوس، الذي عرفته شخصيًا في بيته، في أثينا، واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية. وهو اتجاهٌ بارزٌ، اليوم، في الكتابة الشعرية العربية، يعيد الصلة بكثير من الشعراء العرب القدامى الذين اهتموا في شعرهم بهذه التفاصيل، بدءًا من الشاعر الكبير ابن الرومي، مرورًا بالصنوبري، والشعراء الآخرين الذين سُمّوا بشعراء «يتيمة الدهر» للثعالبي.
> سنية صالح، كيف تجدها كشاعرة؟ هل ترى أنها أهم من محمد الماغوط وكما يقال أحيانا؟- أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنيّة شاعرة مهمة جدا، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كليا في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيّرت بين الماغوط أو سنيّة؟ لأجبتك: سنيّة.
> طالما تحدثنا عن مصر، لماذا نلاحظ أن بينك وبين الحداثة المصرية حالا من القطيعة؟ مثلا، لم تكتب مرة عن أحمد عبد المعطي حجازي، أو أمل دنقل، أو صلاح عبد الصبور. كيف تنظر إلى هذه الحداثة المصرية؟
- لستُ ناقدا لكي أكتب عن الشعراء. أقوم بين وقت وآخر بتحية لشعراء أقدّرهم. وهذا ما فعلته، بالنسبة إلى صلاح عبد الصبور، ويبدو أنك لم تقرأ ما كتبته عنه.
ثم، من أين أتيتَ بالقطيعة التي تشير إليها؟ معظم المبدعين المصريين في مختلف الميادين، فنونا تشكيلية، وشعرًا، وقصة، ورواية، ونقدًا، تربطني بهم علاقات وصداقات متينة. وأظن أن ما قلته عن صلاح عبد الصبور أساسي، ولم يكشف عنه أحدٌ قبلي: كسر لغة شوقي، السيدة المهيمنة، على صعيد الذائقة، وعلى صعيد المؤسسة، معًا. وهذا مهم جدًا، فكريًا ولغويًا وجماليًا. إضافة إلى الأهمية الشعرية، بحصر الدلالة. فقد كان ذلك بداية النقلة من أفقٍ شعري، إلى آخر مختلف كليًا.
> لكن، ألا تعتقد أنه كانت هناك مرحلة وسيطة بينه وبين شوقي؟
- حتى لو سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فقد كان صلاح عبد الصبور الأكثر جذرية، خصوصًا على صعيد اللغة الشعرية.
> وأمل دنقل؟
- موهبة شعرية عالية. وأنا أقدّر هذه الموهبة كثيرًا، دون أن يعني ذلك، أنني أُعجَبُ بمنجزها الشعري. فالرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالبًا وظيفية – سياسية. وهذا مما جعل شعره وصفا للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، لكن، مهذبة، مُنقحة.
أميل، شخصيًا، إلى الشعر الذي لا يعيد إنتاج الأشياء، وإنما يهدمها برؤية جديدة وشاملة، ويعيد تكوينها، مبتكرًا عالما آخر، بلغة أخرى، وفي أفقٍ آخر.
> عموما، كيف تنظر إلى الحداثة الشعرية في مصر؟ يحاول النقاد المصريون والشعراء أنفسهم في مصر أن يخلقوا حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر إلى هذه الحالة؟
- لا أرى مثل هذه الحالة. الحداثة في مصر جزءٌ عضوي من الحداثة في البلدان العربية كلها. ربما كان هناك تنويع، لكنه حتى الآن، ليس واضحًا، لي على الأقل.
في كل حال، ليست الحداثة، شعريًا أو فنيًا أو فكريًا أو أدبيًا، مصالحة أو توفيقا. الحداثة انشقاق وقطيعة. لكنها، قبل ذلك، رؤية للمستقر الموروث، مغايرة، وجذرية، وشاملة للحياة والإنسان والعالم.
مجرّد الكتابة بالنثر، أو قصيدة النثر، في هذا الإطار، لا تعني في حد ذاتها شيئا. ما يعني هو الآفاق التي تصدر عنها الكتابة، والآفاق التي تفتحها – فنيا وجماليًا وفكريًا.والحداثة العربية، على هذا المستوى، لا تزال في بداياتها. وما يلفت النظر في هذه الحداثة هو نسيان الجمالية ولغتها، أو هو إهمالها. قلّما نجد دراسة تُعنى بجمالية الكتابة العربية الحديثة أو بلغتها، تراكيب وصورًا وموسيقى. الدراسات كلها تعنى بما هو ثانوي: الموضوعات والاتجاهات... الخ. فهذه لا تأخذ أهميتها إلا بكيفية التعبير عنها، أي بمستوى لغتها وجماليتها. وهذا ما نهمله جميعا، تقريبا، شعراء ونقّادًا. أي إننا نهمل ما لا يقوم الشعر إلا به.
> كيف تقرأ أحمد عبد المعطي حجازي؟
- أقرؤه في سياق الشعر المصري الغنائي الذي يمثله، على نحوٍ خاص، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي. فهو في شعره استمرارٌ لهؤلاء مع شيء من التنويع، شكلا ومضمونا، يرتبط بالحدث السياسي – النضالي، وبالحدث الواقعي الاجتماعي. وسواءٌ قرأت شعره، من حيث بنية القصيدة، أو بنية اللغة الشعرية، أو من حيث الرؤية الفنية، بعامة، فإنني لا أجد فيه مُنعطفا، على غرار ما أجد، مثلا، في شعر صلاح عبد الصبور.
> ماذا عن الشعر الفلسطيني؟ كيف تنظر إلى طابعه الإشكالي؟
- هو الآخر جزءٌ من الشعر العربي، غير أنه يتحرّك في مدار من خصوصية المأساة الفلسطينية: شعراء فلسطين يعيشونها، ونحن الشعراء العرب، خارج فلسطين، نُعايشها. والفرق كبير. وهذا يلقي مسؤولية كبيرة وخاصة على الشعراء الفلسطينيين.الخلل، كما يبدو لي هنا، وهذا ما قلته مرارًا، ومن زمن طويل، هو أن فلسطين تحوّلت في الشعر العربي كله، لا في الشعر الفلسطيني وحده، إلى «موضوع» – بدلا من أن تتحول إلى «تجربة»، كما كان مُفترضا.
فلسطين انفجارٌ مأسوي – كارثي في الحياة العربية، اجتماعًا وسياسة. فنا وفكرًا. انفجارٌ يأخذ أبعادًا كونية. ولا أرى أن شعرنا ارتقى إلى مستوى هذا الانفجار.
> ألا تعتقد أن محمود درويش استطاع أن يحقق هذا الإنجاز في شعره الأخير؟
- عَرف محمود درويش، بذكاءٍ كبير، كيف يستقطبُ اهتمامًا كبيرًا، عربيًا وأجنبيًا، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا يتقاطع في شخصه الشاعر والسياسي، البعد الواقعي للنضال الفلسطيني وبعده الرمزي. غير أن شعره في حد ذاته مسألة أخرى. وأجد، شخصيًا، صعوبة في الكلام على شعره، بسبب أساسي من صداقتنا في أثناء إقامته في بيروت، وبخاصة في أثناء إقامته بباريس. وقد كان، كما تعرف، عضوًا في هيئة تحرير «مواقف»، فترة، ثم أنشأ مجلته «الكرمل». ذلك أن الصداقة قد تكون حجابًا، في حالات كثيرة، بينها مثل هذه الحالة.
في كل حالٍ محمود وارثٌ ذكيٌّ لمن سبقه من العرب: نزار قباني، سعدي يوسف وأدونيس. هذا على صعيد طرائق التعبير. أما على صعيد المضمون فهو أيضًا وارثٌ ذكي للثقافة العربية، خصوصًا كما تُعاش في الحياة العربية اليومية. ومعنى ذلك أن شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقا لجميع الأنظمة، بدءًا من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزًا شعريًا وطنيًا، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعًا ذاتيا فنيًا: لا التراث، ولا اللغة، ولا الدين، ولا الذات، ولا الآخر. حتى المشكلات التي كان يطرحها أحيانا، كالموت والمنفى أو غيرهما، إنما كان يطرحها، ثقافيا، وفي إطار ثقافي معروف. شعره مكتوبٌ بلغة الجمع، ورؤية الجمع. غير أنه مكتوبٌ بذكاء غير عادي. يشهد لذلك «الإجماع» عليه.
وفي رأيي أن هذا «الإجماع» يشهد، شعريًا، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع.
> والغنائية لديه، كيف تنظر إليها؟ لا تحب الغنائية أو لست بميالٍ إليها؟
- لستُ مَيّالا إلى غنائية البكاء والندب، غنائية الرثاء الذاتي أو المدح الذاتي. لكن كل شعر عظيم إنما هو شعر غنائي من حيث إنه يحوّل الكون كله إلى نشيد، والإنسان إلى صوتٍ وموسيقى.
> هل استوقفتك تجارب أخرى في الشعر الفلسطيني؟
- هناك، لا شك، كتابات مهمة، خصوصًا تلك التي تُفلت من الغنائية السهلة. تابعت بعضها، لكن يؤسفني أنني لم أقدر أن أُتابعها كلها.
> هل قرأت سميح القاسم؟
- قرأتُ ما وقعت يدي عليه. هو في طليعة شعراء جيله.
> والشعراء الفلسطينيون الجدد؟
- طبعًا، هناك شعراء فلسطينيون آخرون. ويؤسفني أنني لم أقرأ لمعظمهم إلا قصائد متفرقة، محدودة لا تسمح لي، أو لا تُجيز لمن يحترم الشعراء والشعر، أن يُصدر أحكامًا، سلبًا أو إيجابًا.
> سنتحدث عن الشعر المغاربي. أقول مغاربي، قصدًا، لأن الشعرية هناك، في المغرب العربي، في شكل عام، تختلف عن الشعرية المشرقية. هل توافقني على هذا التقسيم أنت الذي تعرف الشعر المغاربي جيدًا، وأنت الحاضر جدا في المغرب العربي؟
- لا أظن أن في المغرب وحدة شعرية، فنيا. ما يُكتب باللغة العربية في تونس مثلا يتميز عما يُكتب في المغرب والجزائر. فهو الأكثر قربًا إلى اللغة الشعرية المشرقية. وما كتب أو يُكتب باللغة الفرنسية، يختلف كليًا عما يُكتب بهذه اللغة في لبنان، مثلا. هذا أولا.
ثانيًا، الكتابة المغاربية الأدبية، الشعرية والروائية، باللغة الفرنسية أكثر قوة منها باللغة العربية، إجمالا. لا نجد في الدول المغاربية حتى الآن روائيين أو شعراء باللغة العربية في مستوى كتابها باللغة الفرنسية: كاتب ياسين أو محمد ديب أو رشيد بوجدرة، أو ياسمينة خضرة، أو آسيا جبار، أو محمد خير الدين أو عبد الكبير الخطيبي، تمثيلا لا حصرًا.
ثالثا، الشعر المغاربي، باللغة العربية – وأعني شعر الأجيال الراهنة الشابة، أعمقُ ثقافة، وأقلّ هجْسًا بالذاتية (وهما مِزيتان)، من شعر الأجيال الراهنة الشابة في المشرق العربي.
رابعًا، وإذا ربطنا بين الشعر والفكر، في المغرب والمشرق، فإن الفكر في المغرب، متمثلا في محمد أركون، وعبد الله العروي، وهشام جعيط تمثيلا لا حصرًا، أكثر غنىً وعمقا من الفكر المشرقي.
خامسًا، تتجلى الإبداعية المغاربية، بشكلها الأكثر خصوصية، في الفنون التشكيلية، وسؤالي هنا هو: ما يكون في هذه الظاهرة، دور التوترات، والصراعات اللاواعية والواعية، التي تعيشها «لغات» المغرب العربي، غير التشكيلية: العربية الفصحى، العربية الدارجة، الأمازيغية، اللغة الفرنسية؟
> أتذكر هنا توفيق صايغ. كيف ترى إلى هذا الشاعر؟
- توفيق صايغ حالة خاصة في كتابة الشعر نثرًا. فهو، فنيًا، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر عن جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بُِنيَةٌ إنكليزية بألفاظٍ عربية. وهو، مضمونيًا أو فكريًا، يصدر عن ثقافة سيكولوجية – مسيحية مُغَربَنَة حضاريًا، أكثر مما يصدر عن مسيحية مشرقية – عربية تشحنُها التجربة الذاتية بغَربٍ مُشَرْقَن. وفي هذا ما يجعل «هويته» في كتابته الشعرية تبدو وكأنها «ثقافية» أكثر منها جمالية. ويجعل شعرَه سَفرًا في الأفكار، أكثر منه سَفرًا في أرض اللغة التي يكتب بها، أو في «جسدها» و «ما وراءه».
مع ذلك، تبقى كتابته، كما يبدو لي، ظاهرة تدفعنا، شعريا وإنسانيا، إلى أن ندرس معنى « الجسر» الذي حاول أن يقيمه بين اللغة العربية وثقافة كونية لا يَبدو فيها من محيط الثقافة العربية إلا «قاربٌ» لغوي، شعري عائمٌ، غائمٌ، بعيد ..

نبليات ـ حَكايا حمدو

كثيرًا ما تمر في الحياة شخصياتٌ ، هي من البساطة ، بحيث يكاد لا يشعرُ أحدٌ بوجودها ، ولا بغيابها ..
وكثيرًا ما تكون حياة مثل أولئك ، حياة ضنكٍ وشقاءٍ ..
فهم على هامش الحياة الاجتماعية ، لا يقيم أحدٌ وزنا لهم ، لأنهم يرونهم أخفَّ من وزن الريشة ، ولا يهتم أحدٌ بأمرهم ، ولا يكون لهم قولٌ أو رأيٌ .. فإذا قالوا شيئا أو عبّروا عن رأي ، صاروا محلَّ استهزاءِ وسخريةِ القوم ، ولا يرَوْن فيهم إلا نموذجًا ساذجًا .. حقهم من الحياة أقلُّ من النصف ، ونصيبهم من العقل أقلُّ من ذلك بكثير ..
يجب عليهم أن ينفذوا فقط ما يُطلبُ منهم بلا تغيير ولا تبديل ، فإذا اجتهد واحدُهم بفعلٍ ما ولم ينجحْ ، حمّلوهُ أخطاءَ الدنيا كلها ، وإذا نجحَ ، صغّروه ، واستكثروا عليه نجاحَه ، واتهموه بما يُضيّع عليه متعته .. وهو مكسر عصا للجميع ..
ولو أنّ ذلك لن يزيدَ عليه إلا الوبال ..
وليس لهم حقّ الاعتراض أو التذمر .. وليس من حقهم بالتأكيد أن يطلبوا ثمنا لأتعابهم أو خدماتهم .. فإذا تفضّل الذواتُ بمنحهم شيئا ، عليهم أن يشكروا ويحمدوا ، وإنْ لم يتفضلوا ، وَجَبَ عليهم تقبيل الأيادي ، والدعاء لهم بالعمر المديد والرزق الوفير ..
وأحيانا ، لا يكتفي الذوات بكل ذلك ، بل يسحبون الأمر على أبناء أولئك المساكين وزوجاتهم ، وكأن الجميع خُلقوا عبيدًا لهم ..

***

لا أعرف إن كانت الصورة المرسومة في ذاكرتي ، هي للرجل المقصود أم لغيره .. لكني سأرسُمها هنا ببعض الكلمات ، وفاءً لذكراه ونباهته ورجاحة عقله وحسن تصرفه في المواقف ، التي يعجز الكثير منا على إدراك كنهها ، أو فهم منعرجاتها ..
كل ذلك يفعله رجلٌ أمّيٌ فقير ٌ معدَمٌ ، وهو من وزن الريشة ، في زمن ومجتمع هو كالذي سبق توصيفه ..

حمدو رجل نحيف ، يُضربُ المثلُ بطول قامته ، أحْنتِ الأيامُ ظهرَه وهو يركض خلف سراب لقمة العيش .. دومًا يحمل في ذراعه اليسرى قرطلا (سلة ) ، يضع فيه أشياءه ، وكأنه في ترحال دائم .. يجول على بيوت الأرامل والمطلقات والعجائز ، يشتري منهن ما توفر من بيض بلدي ( ولم يكن غيره موجودا آنذاك ) ليبيعه للميسورين ، فإذا حصّل رأسماله ، وزاد معه بيضة أو اثنتان ، حمِدَ الله وشكرَه على هذا الربح الوفير ..

عيناه زرقاوان صغيرتان ضيقتان ، مريضتان برَمَدٍ أزلي لا يبرحهما ..
والشمسُ لوّنت وجهَه بسمرةٍ داكنةٍ ، وأحرقتْ له جلدَ أنفه ..
ملابسه لم تتغير : ( شروال وملتان وسكوي كالحة ولفّاحة بلون الغبرا ومشاي مرقعة ) ..


روى حمدو : كنت أحمل قرطل عنب بدراعي هَيْ ، وما اشتراها حدا مني تحت الجيمع ( الجامع ) .. ولبّت الشمس فوقي ، وجُبّ الدولي بعيد .. أجا عبد الله يتدردب ، نيزل من طرف التل للساحة .. قلت لحالي : يمكن يشتري العنبات مني .. مشيت لعندو وأنا ميسك عنقود من وج القرطل : بتشتري هالعنبات ؟؟
سألني : بكم ؟ قلت : بورقة ..
قال : أف ، بورقة ؟! .. بربع ..
المهم اتفقنا ع نص ورقة .. ومدّيتلو كفي تا يقبضني بعد ما اسناول القرطل مني ..
فقال : ما معي ولا قرش .. بكرا من الصبح تعا لعندي بعطيك القرطل ونص ورقة وفوقن حبة مسك .. ولا تريدو إلا صحيح ..
قلت لحالي بعد ما مشيت : أحسن ما آخذ العنب ع البيت وتفرقو كحلا ( زوجته ) هون وهون ..
تاني يوم من الصبح بكير ، رحت ع بيتو .. دقيت الباب ..
ـ تفضل ..
ـ الله يصبحك بالخير .. عَطيني القرطل وحق العنبات ..
ـ خود القرطل .. بس والله ما تيسر معي اليوم .. تعا بكرا بعطيك ..
رحت تالت يوم ، ما هو موجود ..
رحت رابع يوم ، صبّحت عليه ، طلع عليّ بالعيلي وصار يزعّق بوجي (بوجهي) : قاللي : الله لا يصبحك بالخير ، اللي بشوفك بشوف الخير ؟! .. العمى ضربك ، بدنا ناكلن عليك .. كل يوم رايح جي رايح جي ؟؟ اش صرلك .. هِيّ نص ورقة .. فضحتنا في الحارة ..
قلتلو : لا فضحتك ولا شي .. ما عليش .. نص ورقة نص ورقة فهمنا .. طيب عَطيني هِيّ وخلصنا من هالشغلي ..
قال : ما معي تعا بكرا ..
ما كدّبتْ خبر .. رحت بكير .. رجع قال : ما معي .. تعا بكرا .. وطبق الخوخا بوجّي ..
قال أحد المستمعين : يعني أنت ضروري تتطوطح وتروح كل يوم تصبحو وترندحلو .. غِبْ لك يومين وروح ..
ـ يا حجي .. بخاف لو ما رحت كل يوم ، يضربلي كف بكف ، ويقوللي : لهْ .. لهْ .. لهْ .. لو جيت مبيرحة كان معي نص ورقة ، وكنت عطيتك هِي .. بس اليوم ما معي , ليش ما جيت امبيرحة ؟ .. بيكون الحق معي ، بيصير عليّ ..
ياحجي هيك ناس بيكدبوا كتير .. بسْ يوم ما رحت ، بتروح النص ورقة كلا ( كلها ) عليّ ..


رحِمَ الله الجميع .. وصدق منْ قال : لا تؤجلْ عملَ اليوم إلى الغد ..
وإلى اللقاء في حكاية أخرى ..

الثلاثاء ـ 15/حزيران/2010

يوسف رشيد

السبت، 12 يونيو 2010

عَوْرَة الصهيونية الإسرائيلية ـ الناطور والعنب في السياسة الأمريكية

قبل أيام من صدور قرار مجلس الأمن رقم 1929 ، القاضي بفرض مزيد من العقوبات على إيران ، شن القراصنة الصهاينة جريمتهم الأخرى الفظيعة على سفن أسطول الحرية في عرض البحر الأبيض المتوسط ـ المُضافة إلى آلاف الجرائم التي ما يزال الكيان الصهيوني ينفذها يوميا ، وبانتظام ، وعن سابق إصرار وتصميم وترصُّد ـ وما أسفرت عنه هذه الجريمة النكراء ، بكل المقاييس الإنسانية ، من ضحايا ، وما أعقبَها من حملات إدانة واعتصام واحتجاجات عالمية شملت معظمَ دول العالم ، حتى طرقتْ أبوابَ البيت الأبيض ، والسفارات الصهيونية في العالم ..

ولِهَوْل هذه الجريمة ، وفظاعة مرتكبيها ، وحجم الإدانة العالمية ، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاولة لا تقلُّ بشاعة عن الجريمة نفسها ، محاولةً أن تسترَ عورة الكيان الصهيوني ، وتخففَ عنه حالة العداء التي بدأتْ عند معبر رفح ، ولم تنتهِ عند تصريحات غول وأردوغان وأوغلو ، معطوفة على أقوال "جديدة" للأمين العام للأمم المتحدة ، ولمسؤولين في الاتحاد الأوربي ، ودول العالم ومنظماته المختلفة تلامسُ الخطوط الحمرَ لسمعة الكيان الصهيوني ..

إزاء كل ذلك ، كان المطلوب من أمريكا أن تعملَ لوقف تدهور بشاعة الصورة في مرآة الضمير العالمية ، حيث أحسّتْ أمريكا بالإحراج الشديد أمام تركيا ، كعضو من أعضاء الحلف الأطلسي ، وكحليفٍ قوي في المنطقة ، حتى كانت المحطة الأولى التي زارها أوباما ، قبل أن يوجِّه رسالته الشهيرة من القاهرة .. الأمر الذي ألزم أوباما ، ليتصلَ بأردوغان معزيا بضحايا القافلة المستهدفة " فقط ، دون استنكار ولا إدانة " ..

وقد سبق لتركيا والبرازيل ، أن عملتا على توقيع اتفاق مع إيران لتخصيب اليورانيوم خارج أراضيها ، كمطلب ٍ يتوافق مع ما طرحته الدول الكبرى ، في محاولةٍ لحل هذه الأزمة المفتعلة أمريكيا وصهيونيا ..
هذا الاتفاق ، قوبل بحذر أوربي ورفض أمريكي مباشر ، لأن الدولة الصهيونية وأمريكا من ورائها ، لا تريدان " أكل العنب " إنما تستهدفان " الناطور " نفسَه ..
من هنا سَعَتْ أمريكا ، بدأبٍ ، ومن خلال دبلوماسية المصالح المتبادَلة ، مع كل من الصين وروسيا ، العضويْن الدائميْن في مجلس الأمن ، للضغط عليهما ، لكسب صوتيْهما في مجلس الأمن ، لاستصدار قرار جديد بتشديد العقوبات على إيران ..

والهدف الرئيسي من هذه السياسة العدائية ، يتعلق بمواقف إيران السياسية الإقليمية تحديدا ، المتعلقة بدعمها للمقاومة ، ومعاداتها للمشاريع الأمريكية وللكيان الصهيوني ..

والمطلوب من إيران أن تكفَّ عن هذه السياسات ، كي تحظى بالحُبِّ الأمريكي ، الذي كان موجودا أيام الشاه المخلوع ..

فأمريكا هي أول من ساعد الشاه على بناء المفاعلات النووية منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، حين كانت إيران شرطي أمريكا في المنطقة ..

والآن ، لو تراجعتْ إيران عن جزء بسيط من هذه المواقف ، لأسرعتْ أمريكا وربيبتها في إعادة الحرارة والدفء للعلاقات التي وصلتْ إلى حد التهديد المباشر باجتياح إيران وضرب مفاعلاتها ، والقضاء على " طموحاتها " النووية ..

وليس ـ بالتأكيد ـ في معجم السياسة الإيرانية مفردات توافق السياسة الأمريكية وعملاءَها في المنطقة ..

هذا على الصعيد الإيراني فقط ، فكيف إذا اتحدت المعاجم اللغوية لكل من سوريا وتركيا وإيران والمقاومة معا ؟؟!! ..

إن الأحداث المتسارعة مؤخرا في المنطقة العربية ، وظهور ملامح بناء خريطة تحالفات سياسية جديدة ، وخيبات السياسة الأمريكية الصهيونية ، وفي محاولة منها لتمسيح قذارات الكيان الصهيوني ، التي أعقبت قرصنته على أسطول الحرية ، كل ذلك ، جعلَ صانعَ القرار الأمريكي يفقدُ توازنه أمام نمو وبروز الخريطة السياسية المعادية لمشاريعهم ، الأمر الذي سرّعَ القرارَ الأمريكي في مجلس الأمن ضد إيران ..

وقد جاء تصويت تركيا والبرازيل بعدم الموافقة على هذا القرار ، منسجمًا مع قناعتهما وجهودهما التي بُذِلتْ للوصول إلى اتفاق طهران الثلاثي ، فيما برز الموقفُ اللبناني في امتناعه عن التصويت أمرًا مستغربًا ، ولا يعبّر عن حقيقة موقف الشعب اللبناني خصوصًا ، والشعب العربي عموما .. ولا شيء يسوغ للبنان الرسمي قوله : إن لبنان عضوٌ في مجلس الأمن ، ممثلا لمجموع الدول العربية ، وليس ممثلا لنفسه فقط ..

إن امتناعَ لبنان عن التصويت ، أمرٌ سلبي جدا ، ولا ينسجم مطلقا مع صيغة العلاقة اللبنانية الإيرانية ، ولا مع المصلحة اللبنانية ، وقد جاء نتيجة رضوخ لبنان لضغوط أمريكا وحلفائها في المنطقة العربية ..
وبالتالي ، لا يختلف اثنان على تحديد منْ هو الحليف الأقرب والألصق بالسياسة والمصالح الأمريكية في المنطقة ..
بالتأكيد إنه الكيان الصهيوني أولا وثانيا وثالثا حتى اللانهاية ..
إذن ، ألا يصب القرار اللبناني في خانة دعم المصالح الصهيونية الأمريكية في المنطقة ؟؟
أليس لبنان هو من أكثر الدول التي عانتْ وتعاني من هذه المصالح العدائية تجاه أرضه وشعبه ومصالحه ؟؟!!

فما الذي قدمته أمريكا وحلفاؤها العرب للبنان غير العدوان الصهيوني والقتل والتخريب المستمر عليه ، والمؤيَّد عربيا وأمريكيا ؟؟!!..

وإن كانت إيران قد كابرْتْ وتعالتْ على هذا الموقف اللبناني ، فهذا لا يعطي القرارَ مشروعيته ، كما لا يغطي كلامُ الرئيس الإيراني في الصين ، موقفَها المؤيِّد للقرار " الأممي " ..

يوم كانت سوريا عضوا غيرَ دائم في مجلس الأمن ، ونيابة عن المجموعة العربية أيضًا ، وفي وقتٍ كانت معظمُ الدول العربية مؤيدة لبوش وحربه الإجرامية المجنونة ضد العراق ، وكانت سوريا تشهد هجمة شرسة " بوشية ـ شارونية متحالفة مع الاعتدال العربي " ضدها وضد مواقفها الوطنية والقومية ، وقف فاروق الشرع ـ وزير الخارجية آنذاك ـ ليعلنَ الموقفَ السوري الشجاع والمتوافق مع إرادة الشعب العربي كله ، المعارض للقرار " الأممي " المُزمَع التصويت عليه ، والذي يقضي بتفويض أمريكا شن الحرب على العراق ، بذريعة امتلاكه أسلحة تدمير شامل تهدد العالم " الحر " ..
ومع أن ذلك القرار يخصُّ العراق ـ ولم تكن العلاقات السورية العراقية في أحسن أحوالها ـ إلا أن ذلك لم يمنع سورية من اتخاذ الموقف الذي يعبر عن تطلعاتها الوطنية والقومية ، في معاداتها للمشروع الصهيو ـ أمريكي ..
وقد أثبتت السنوات اللاحقة صوابية الموقف السوري في كل حيثياته ودواعيه ..

يجب على الأشقاء العرب أن يكون قلقهم من الأمر الواقع النووي الصهيوني ، وليس من المشروع السلمي لاستخدام الطاقة النووية ..
ولا نتمنى أن يكون صحيحًا الخبر الذي نشرته صحيفة بريطانية اليوم ، مفاده : أن السعودية سمحت للصهاينة " بتدخل أمريكي " بممر جوي تعبره طائراتها لضرب إيران .. لأن ذلك سيكون كارثة كبرى ، يفوق ضررُها على منطقتنا ضررَ الغزو الأمريكي للعراق ، وما نتج عنه من تدمير وضحايا ، لم تخدم إلا الصهاينة ..

إن أمريكا في سعِيها السريع لاستصدار قرار مجلس الأمن ، إنما أرادت إبعاد أنظار العالم عن الجريمة الصهيونية بحق أسطول الحرية ، وبالتالي حصار غزة ، وتظهير صورة لها ، توحي بأنها ما تزال ممسكة بخيوط اللعبة في العالم عامة ، وفي منطقتنا بشكل خاص ..
فهل يجب علينا أن نستكين ونقفَ من ذلك موقفَ المتفرج السلبي ؟؟!!


12/حزيران/2010

يوسف رشيد

الأربعاء، 9 يونيو 2010

عزف منفرد - حين نلتقي

يُعشِبُ الثرى ..
تزهِرُ الحقولُ والأشجارُ ..
تنامُ في الأحلام ذكرياتٌ شتى ..
تهدرُ الأمواجُ طوفانا وراءَ طوفان ..
تقتلعُ جذورًا غضّة ، ترميها بعيدا ..
تهتز عروش البغي ..
ترقدُ آلامُ المرضى ، وتستكين ..
يهجعُ ، في بال طفل ، ألمٌ بالجوع والعَطش ..
تتخدّرُ آلامُ مريض يائس ..
ترتقي سلمَ الذاكرة هواجسُ وأفكارٌ ..
ينتفضُ الجسَدُ باختلاجاتٍ حَرّى ..
أتعرفين لماذا ؟؟ .. ومتى ؟؟ ..
إنه الجوابُ الأسهلُ ، الأبسطُ ..
ذلكَ يكونُ لأني أحبُّكِ ، وحينَ نلتقي ...

***

تبّا لذلك الطفل الذي يُحاولُ أن يدغدغَ أمَّهُ بأنامِلِهِ ، فيُخرْمِشَها ..

إنّ الدموعَ شرُّ عقوبةٍ لذلكَ الذي يخطئُ .. أليسَ كذلك ؟؟

***
29/10/1984

الاثنين، 7 يونيو 2010

الظلم لا يُنسى ـ قصة قصيرة

1 ـ
لا أذكر تماما متى عرفتكِ ، وكيف ؟ ..
لكني أذكر أني حلمت فيكِ أيام حروب الردة ، عندما انتفض الأشهب معلنا بداية رحلة الانتحار عبر شقوق الجدران وثقوبها .. وفي سراديب أمراء البر والبحر .. وحتمتُ أنْ يطولكِ فارسي قبل هروب الشمس إلى مخدعها ، لترتميَ في أحضان عاشق يجهل فنون العشق الحديث ، وقبل أن تُسفحَ مياهُ البحار في جوفِ حوتٍ يحمل همومي ، وكلَّ أسفاري ..

2 ـ
قمر .. خِلتُ أن وجهكِ مُضاء ، إلا أني وجدته مضيئا في ساحات الظلم والقسوة ، يكشف عن سرِّ مسحوق بقدم الجهل وعنجهيته ..

3 ـ
حلمتُ فيكِ أحجية غير عسيرة الحل ، وتراءت لي براءةٌ خِلتُها زيفًا .. وتعانقت الكريات في دمي ، فانبثقت من شفاه الطفلة أغنية أحيَتْ ما تعفن من جذور اليأس في حِلكة القبور ..
فلقد أيقظتِ جروحَ الألم والندم ، دون أن تطفئي في صدري شموعَ ذكرياتي ، ووضعتِ إصبعا تتلمسين مواطنَ القروح ، فغابت الإصبعُ ، فيدُكِ ، فذراعُكِ ، فجسمُكِ كله .. لكنّا لم ننصهر ..

4 ـ
كان قمري يعبث في شعر رأسي باحثا عن مسلكٍ يتسلل فيه إليّ .. وحينما احتضَنَ القنديلُ ظِله ، وتسارعتْ أمواجُ الريح لا تعبأ بمخلفاتها ، طرقتُ أبوابَ الصدر في أماسي شتاءٍ دافئ ، فلم تتحرك السواكن ، رغم وجود الباعث ..

5 ـ
في متاهات زرقة بحر العيون ، تاه مركبي بعدما ضلّ الرُّبانُ طريقه ، وعاش فترة في دوران بحري قاس ، كان خلالها يجوب أطرافَ المركب ، ويتطاولُ على أصابع قدميه ليرى أبعد مسافة ، علّه يستطلعُ سبيلا للنجاة ..
وحينما صار الهمسُ منجاة من عذاب الذات ، وتشاجرتُ مع الموتِ والعينين في خِدرهما ، استُبيحَت شؤونُ الحب ضمن أزقة السماء ، وتبخّرت الغيوم آنذاك ، وظلت الراية مرفرفة في مكانها تهيمُ في شواطئ ثنايا القلب ، وعاد الوطنُ قبلة على جبين طفلةٍ شرعيةٍ لمّا تتعرّف أباها ..

6 ـ
قمر .. أتساءل عجِبا : كيف يقتتلُ الحبيبان بعد خروجهما من كبوة الألم ؟؟!!
أتساءل : منْ علّمَ السكارى آهاتِ الألم وهمَّ الغياب ؟؟!!

7 ـ
أيتها المبحرةُ في همومي ، قد لا أكونُ أكثرَ منكِ همًّا ..
لكني أبعدُ منكِ عمقا .. فلا بدَّ أن يطولَ إبحارُكِ .. فهل أنتِ مستعدة ؟؟..

8 ـ
وتغيب ذكرياتُ الطفولة خجلى مما ترى .. وتهتز الرؤى بفعل أشجار خياليةٍ هزّتْها أنفاسُ طفل دِيسَ على صدره بحذاءٍ أسطوري ، ونزفت الحربة من دمه على عينيه ، فأغمضتا ..

9 ـ
اعتراض : لا تملّ سيدي القمر .. ما عدنا صغارًا ولا ضعفاء ..
قمر : عدتُ أتساءل : متى أنجو ؟؟

10 ـ
وأقتاتُ بقايا زوّادتي ، وللمرة السادسة تجرّعتُ ثمالة الكأس ، ثم نهضتُ غيرَ آبه ، أحملُ الأرض ، وأبحث في كل أقطابها .. ولمّا أجد شيئا .. وسنونُ العمر تجرفني إلى هاوية معلومة القرار ، حتمية النهاية .. فأتشبّثُ بعيدان القمح اليابسة ، وبجدائل طفلة ، قالوا : إنها لقيطة .. فأجدُ لقدميّ مكانا ، وأتلفتُ حولي ، فلا أرى سواكَ قمري .. وأظلُّ أشعر أننا غريبان حتى عن بعضنا ، حتى عن الشمس التي منها ضوءُكِ ودفئي ..

11 ـ
وتأكل الغربةُ جسديْنا .. ولأول مرة ، لا نلبث أن ننصهرَ في جوفها ..

12 ـ
ويتسامى الحبُّ ، فترتحلُ العيونُ مخترقة دوائرَ الصمت المتحجر ، وتتأطر المسافاتُ ، فنرى الجانبيْن ، والبداية ، ورأسَ تمثال إلهٍ إغريقي ..


12/12/1975

يوسف رشيد

الأحد، 6 يونيو 2010

الحرية لأسطول الحرية

ما فعله الصهاينة بسفن أسطول الحرية سيبقى وصمة عار أبدية أخرى ، تُضاف إلى السجل الصهيوني ، الذي امتلأت صفحاته بالمجازر والقتل والتدمير ، حتى صار هذا السجلُّ مثقلا بأشلاء الأطفال ودماء الأبرياء ، عبر أكثر من ستين عامًا من الإجرام المنظم ، الذي طالَ كلَّ شيءٍ ابتداء من فلسطين المحتلة ، وليس انتهاء بتونس والعراق والأردن وسوريا ومصر ولبنان والإمارات والسودان والصومال ، وأمكنة أخرى من العالم ، ارتكبَ فيها كثيرًا من أعمال الاغتيال والخطف و التجسس وغير ذلك ..
والدولة الصهيونية تفعل كلَّ ما تفعله ، على مرأى ومسمع من العالم كله .. بل ، وتلقى الدعم والتأييد قبل الفعل ، وتلقى التسويغ والحنوَّ ، والحماية من المجتمع الدولي والأمم المتحدة بعد الفعل ، ولا يهتز ضميرُ العالم " المتحضّر " لكل تلك الممارسات الإجرامية العدوانية اللا إنسانية ..

إن ما فعلته الدولة الصهيونية ، في عرض البحر الأبيض المتوسط ، وما تزال تفعله مع سفينة راشيل كوري ، لم أجدْ له وصفًا قذِرا وشنيعًا يليق به .. ولا يوجد في كل معاجم اللغات العالمية كلماتٌ توَصِّفُ حجمَ الجريمة التي ارتكبتها العصاباتُ الصهيونية الغادرة ..
وككل مرة ، وقبل أن يصحوَ ضميرُ العالم على هول المجزرة ، خرجتْ علينا الإدارة الأمريكية ، بكل " إنسانيتها " تعلن : أنَّ من حق "إسرائيل" أن تفعلَ ذلك لتدافعَ عن نفسها ..
فما كان من الحكومة الصهيونية إلا أنْ كرّمَت المجرمَ الذي قتلَ ستة من شهداء أسطول الحرية ..

كيف فعلتْ دماءُ الحرية فِعلها ؟؟

لقد انقلب السحر على الساحر، وانتصر السيف على الجلاد ,, ومع كل تلك الوحشية ، فقد حقق المتضامنون وأسطولهم ، أكبرَ النتائج التي لم يتوقعْها أحدٌ ..
وجاء مهرجانُ حزب الله في بيروت ، تأييدًا ودعمًا وشكرًا للموقف التركي من قضايانا ، لما قدَّمه أسطولُ الحرية وشهداؤه من عِبر ونتائج إيجابية ، انعكستْ على مجمل الوضع السياسي للقضية الفلسطينية ككل ، وعلى جريمة حصار غزة وشعبها بشكل خاص ..
وقد أفاضَ ، وأبدعَ سماحة السيد حسن نصر الله ، في إبراز تلك النتائج الإيجابية والعبر المستفادة ، وما يجب علينا أن نفعلَ من أجل استثمار ما حققه الشهداء بدمائهم الطاهرة ..

الأردوغانية : انتقام القراصنة :

إن القراصنة الصهاينة ، بهجومهم الإجرامي على سفينة مرمرة التركية ، وبقية سفن الأسطول ، إنما كانوا ينتقمون من تركيا وحكومتها وشعبها وأسطولها وأردوغانها ، وهم يهاجمون ـ بكل هذه الوحشية ـ أشخاصا عزّلا متضامنين من 32 دولة ، عقابا لتركيا وقيادتها ، جرّاء المواقف التركية الداعمة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية ..
كما جاء هذا العدوان السافر ، انتقاما آخر من شخص رجب طيب أردوغان ، الذي هزّأ " شيمون بيريز" بأشد العبارات في مؤتمر دافوس عام 2009 ..

وليس هذا الانتقامُ بعيدًا عن مجمل المواقف السياسية الأخيرة للحكومة التركية ، في محيطيْها العربي والإسلامي .. بدءًا من العلاقات المتميزة مع سوريا ولبنان ، وانتهاء باتفاق طهران ، حول البرنامج النووي الإيراني ، والذي كان لأردوغان دورٌ كبيرٌ في إنجازه ، لتخفيف التوتر في المنطقة وتجنيبها المزيد من ويلات العدوان والحرب ..
وكل ما يفعله أردوغان ، وكل وما يقوله ، يصب في خانة العداء للدولة الصهيونية ، بعد سنين من العلاقات الممتازة بين الدولتين ، وهذا ما لا يمكن للدولة الصهيونية أن تفهمَه أو تهضمَه أو تقبلَ به ..
لذلك كان ردُّ الفعل الصهيوني قويًا جدًا ، بانتقام موجَّهٍ خصيصًا للدولة التركية " الأردوغانية " ، والتي اختلفتْ كثيرا جدًا عن الدولة التركية " الأتاتوركية " ، بكل مكوناتها ..
ولم يتوقف الشعبُ التركي والحكومة التركية عن وصف الجريمة والمجرمين الصهاينة بأبشع الأوصاف التي يستحقونها بجدارة ، وهذا ما جعل المحللين الصهاينة يتوقعون من تركيا قطعَ علاقاتها الدبلوماسية بهم في أقرب فرصة ..

(( لقد خسرَ الكيانُ الصهيوني ، إيرانَ الشاه ، فعوّضَها بمصر السادات وما تلاه .. وها هو الآن يخسر تركيا أيضًا .. أو في طريق شديد الانحدار نحو خسارةٍ نهائيةٍ لتركيا ..

بالمقابل ، بنى الرئيس الراحل حافظ الأسد تحالفا استراتيجيا ، ما زال مستمرا وفعالا وبأفضل أحواله ، مع إيران الثورة الإسلامية المعادية للصهيونية ودولتها المجرمة ، مضافا إليه التحالف السوري التركي الحالي ، وما نتج عنه من تحولات جذرية ، أهمها ، ربما ، الموقف السياسي التركي من الكيان الصهيوني وعدوانيته )) ..


انكسارات الصهاينة في القرن الجديد :

بدأ القرن الواحدُ والعشرون في منطقتنا العربية ، بانسحاب جيش الاحتلال الصهيوني ، بلا قيد ولا شرط ، من معظم أراضي جنوب لبنان ، تحت ضربات المقاومة ، فخرج مُرغمًا منهزمًا خائبًا ذليلا في 24/05/2000 ..
وكانت هذه بداية انكسارات الكيان الصهيوني في مطلع القرن ..
ثم اجتاحتْ أمريكا العراقَ عام 2003 ، في محاولةٍ منها لسحق الأنظمة العربية المعارضة لها ، ومحاصرة سوريا بين فكيْ الجيش الأمريكي في العراق ، والعصابات الصهيونية .. ومحاصرة إيران ، بين فكيْ القوات الأمريكية في أفغانستان شرقا والعراق غربا ، تمهيدًا لفرض تسوية تنهي الصراعَ العربي ـ الصهيوني لصالح العدو ، وتهيئ للشرق الأوسط الجديد المزعوم ..
ثم شنَّ هذا الكيانُ حربًا على المقاومة اللبنانية عام 2006 ، فمرّغته وأذاقته مرَّ الهزيمة والهوان من جديد ، وخرجت المقاومة أشدَّ وأقوى وأصلبَ ، وهذا ما لم يكنْ يرتجيه ويتمناه بعضُ الأشقاء العرب ، الذين دفعَ بعضُهم نفقاتِ الحرب الصهيونية على حزب الله من حسابهم الخاص ، كي يُنهيَ الجيشُ الصهيوني الذي " لا يُقهر " شيئا اسمه حزب الله ..
ثم تجرّعَ " بوش " حذاءَ الزيدي ، قبلَ أنْ ينتقمَ منه الشعبُ الأمريكي في انتخابات 2008 ..
لكن باراك أوباما الرئيس الأمريكي الجديد ـ آنذاك ـ بارَكَ عدوانَ الصهاينة على غزة ، باعتبارها الحلقة الأضعف في جدار الممانعة العربية ، فخيَّبَتْ غزّةُ أملهم ، وأملَ المراهنين من الأشقاء ، وصمدتْ صمودًا أسطوريا ، بشعبها وحكومتها ومقاوميها ، رغم الحصار والتآمر، وما تزال صامدة بعد أربع سنوات من الحصار الخانق والسور الفولاذي ..

الطيب طيب أردوغان :

في مقال سابق لي بعنوان "القمة العربية الثانية والعشرون 2010" أسهبتُ فيه مطولا بالحديث عن شخصية هذا الرجل ، ومواقفه من قضايانا العربية ، في المرحلة التي تلت الاتفاق الاستراتيجي السوري ـ التركي ..
وقد تابعناه ، وتابع العالم كله ، سلسلة مواقفه التي جاءت ردًّا على عملية القرصنة الصهيونية على أسطول الحرية ، والتي لولاها لمَا أسرع الصهاينة بالإفراج عن جميع المتضامنين الذين كانوا على متن الأسطول ...
ولكل ذلك ، وكلما رأيتُ هذا الرجلَ أو سمعته أقول :
لا بارك الله في حق لا تؤيده قوة ..

هذا الموقف ، لاقى صدًى طيبًا في العالم كله ، وفي الدول العربية والإسلامية ، تجلى في مسيرات التأييد والاحتجاج في مختلف عواصم العالم .. وكان أقواها وأكبرها في المدن التركية المحتقنة غضبًا منذ عدوان الصهاينة على عزة المحاصرة ..
تحية للشعب التركي وزعاماته ..
الخزي والهزيمة للصهاينة ومنْ وراءهم ..
المجد والخلود لجميع الشهداء ..

06/06/2010
يوسف رشيد

سَوا ربينا


29/05/1983
تحتبس في المآقي دموعٌ ، سرعانَ ما تنفرُ عند أوَّل هبة ريح ..
هل توقِفُ الريحُ دموعًا ؟؟
كم أحبُّ السفر عبر مراكبِ الريح ..
لماذا لا نسافر ؟؟
تغني فيروز :
" سوا ربينا ، سوا مشينا ، وسوا قضينا ليالينا ..
معقول الفراق يمحي أسامينا ، ونحنا سوا سوا ربينا ؟؟..
قولك بعد الرفقة والعمر العتيق ..
نوقع متل ورقة ، كل مين ع طريق ؟؟
وينسانا السّهَر .. بليالي السهر ..
ويسألوا عنا أهالينا .."
***

لماذا يلجأ الإنسانُ أحيانا إلى طيِّ أشرعة المراكب ، والاستسلام لمشيئةِ الريح ، تقذف به إلى جهاتٍ يجهلها ؟؟ ..
ما دام البحّارُ قادرًا على أن يُحدِّدَ وجهته ، وطريقه .. فلِمَ الجبن ؟؟!! ولِمَ الخوف ؟؟!!
لِمَ يتمزقُ المرءُ بين إشراقةٍ وضَّاءةٍ ، وغيابٍ لا يُنذرُ إلا بظلمةٍ دامسةٍ ؟؟ ..

***

18/07/1983
ماذا ينفعُ ، لو ربحْنا العالمَ ، وخسِرْنا أنفسَنا ؟؟
لا أريدُ أن يخسرَ أحدُنا الآخرَ ..
ولا أريدُ أن نجمّدَ أنفسَنا في نقطة .. مهما كانت هذه النقطة ..
إن " ثلاجة " التاريخ غيرُ قادرةٍ على أنْ تحتفظ بالعلاقات الإنسانية ، برونقها وبهائها ..
فلنعملْ على أن نبقى في دائرةِ ديمومةِ الطموح والمستقبل الذي لا تشرق فيه الشمس إلا من أجلنا ..
وإلا .. فإلى الجحيم أيُّها الغولُ المفترس ..
إنَّ الطوفانَ ، لا بدَّ ، قادمٌ .. فاحملْ أنيابَك ، وارْحلْ عنا ..
إننا ما نزالُ نحبُّ أنْ نعيشَ ..

***