أحيانا ، يمتطي الصمتُ جوادًا سريعًا ، يُسابق فيه المدى ، ويتستّرُ خلف ليل حالك ، حيث القمرُ في ملكوتٍ بعيدٍ ، والوجودُ كخيالٍ واهٍ ، أو كحلم طفولي ..
يسيرُ الحُبُّ في الشوارع الضيقة التي توصِلُ إلى بحور من الدم ، يغرق الناسُ فيها بلا حساب ..
تصيرُ القطط كالثعابين الهَرمَة ..
معظم الأشياء في سكون قاتل .. أزيزٌ حادٌّ مجهولُ المصدر ، يصمُّ الآذانَ .. بعضٌ من طيور الليل تتطاير ، والهواءُ مكبّلٌ بسلاسلَ ضخمةٍ صلبةٍ ..
في ذلك اليوم ، كان ثمة شيءٌ غريبٌ يعتمل في صدر طاهر ، يريد أن يبوحَ به إلى أي مخلوق .. لكن أمورًا كثيرة تحُولُ دون ذلك ..أولها : سمْعَتها ..
إنه لا يدري لماذا يريد مخالفة الوعد ، لكنه أصرَّ على تنفيذه بالرغم من همساتٍ عديدة ْسمعها ، كانت تدور حولها ، ويخشى سوءَ العاقبة ..
لم يتناولْ طعامَ العشاء مع أهله في البيت .. التجأ إلى زاوية منه ، منزويًا على غير عادته .. جاءَه أخوه الصغير ، ابتسم ببراءة ، واقتربَ منه ، فأبعَدَهُ ، وأشاحَ عنه بوجهٍ جافٍّ ، ونظرةٍ قاسيةٍ ..
خرجَ من البيت ، فتحَ صدرَه لنسماتٍ لطيفةٍ ، سار ببطءٍ إلى هدفٍ لا يعرفه .. داسَ عقبَ السيجارة ، وجلس بعيدًا ، يرقب بيتا في زقاق معتم وضيّق ، ينتظرُ إشارة البداية التي تتحرَّكُ بعدها السواكنُ ، وتهيجُ العواطفُ والعواصفُ ..
في عينيه قلقٌ حائرٌ ، وفي صدره مَللٌ وضجَرٌ يزيدانه حيرة وتعاسة .. لاحَ ضوءٌ قريبٌ منه .. إنه سامي بالتأكيد ..يتحرك الضوءُ دائريًا .. ينبطحُ طاهر أرضًا ، وينعطف سامي وهو يطفئ الضوءَ ويشعله ..
غمغم طاهر: هيا .. أم حمدان بانتظارك أيها البغل ..
وندّتْ عنه آهة حزينة .. لقد ملَّ الانتظار ..
صوتُ حفيفِ العيدان المتخلفة عن الحَصَاد ، انبعثَ مُجَدِّدًا لأملٍ طالَ انتظارُه ..
ـ ما تزالُ الدنيا بخير .. قال ذلك ، دون أن يُحَوّل عينيْه عن الشارع إلا حينما ينظر في ساعته .. لقد اقتربتْ من الحادية عشرة .. إلى متى ؟؟ مضتْ ساعة على الموعد ، ما الذي جرى ؟؟ تنهّدَ .. رفعَ رأسَه إلى السماء :
يا إلهي .. لماذا قرنْتَ الحبَّ بالعذاب ؟؟!!
ملأ قبضته ترابًا .. ذراها مع نسَماتِ الليل .. التمَعَ عودُ الثقاب .. تلمْلمَ مسرعًا على رؤوس أصابع قدميه .. تباطأ .. تسمَّرَ في مكانه .. سطعَ الضوءُ في وجهه .. تابعَ بتمهل ، وعلى بُعْدِ خطواتٍ ، نادى بصوتٍ مُحشرَج : سامي ؟؟!!
لم يجبْ .. نادى ثانية : سامي ..
قهقه ، وقال : يا ابن الأكتع .. ما الذي جاء بك ؟؟
ارتبك طاهر ، ثم قال وهما يتصافحان : أبحثُ عن خروفٍ ضاع من أبي مساء ..
ضحك سامي ساخرًا : وجدْتَه ؟؟!!
بدا سامي شبحًا مخيفا ، ضخم الجثة ، كبير الرأس ، يسحبُ خطاه بتثاقل ، ويقول : عُدْ معي نُكمل السهرة ..
قال طاهر وهما يتباعدان : لا أستطيع الآن .. سآتي بعد العثور على الخروف ..
توارى في الليل ، حتى سمع سامي يقفل باب البيت .. بدأتْ تتسارعُ خفقاتُ قلبه كلما اقتربَ من باب بيتها .. نقرَ بإصبعه ثلاثَ نقراتٍ متتاليةٍ ، علامة وصوله ، أغلق خوخة الباب وراءه .. خطا إلى اليمين وسط الصمت والعتمة ، وحسب الاتفاق ، يجب أن تلتقي الأيدي أولا .. حرَّك ذراعيْه في الهواء ، وسّعَ دائرة البحث ، بدأ يرتجفُ .. لا قيمة للعينيْن في ظلمة كهذه .. دارتْ في رأسه آلافُ الوساوس والهواجس المرعبة .. إذن حانت الفضيحة والنهاية معا ..
تمالكَ أعصابَه .. تجلـَّدَ .. هزئ من نفسه : ليكنْ .. فالموتُ من أجل حليمة ، أفضل من الحياة بدونها ..
ما زالت ذراعاه ممتدتيْن ، وهو يدورُ حول نفسه .. أين أنتِ يا حليمة ؟؟
دارَ .. تخبّط .. لعنَ الظلامَ الذي طالما اختبأ بين جوانحه .. أحسّ بالخيبة والفجيعة قبل أن تلتقط أذناه ضحكة فشلتْ حليمة في كبتها ..
بلهفةٍ مرتعشةٍ همس : أين أنتِ حليمة ؟؟
ينسى العَطاشى أن ماءَ البحر يزيد في ظمَئهم ..
أبعدته عنها بعدما هدأتْ أنفاسهما : لماذا تأخرْتَ ؟؟
قال بحدةٍ تعشقها : لهذا اختبأتِ عني ؟؟!! ثم خيّم الصمت كما العتمة ، وغابا فيهما ..
28/10/1974
يسيرُ الحُبُّ في الشوارع الضيقة التي توصِلُ إلى بحور من الدم ، يغرق الناسُ فيها بلا حساب ..
تصيرُ القطط كالثعابين الهَرمَة ..
معظم الأشياء في سكون قاتل .. أزيزٌ حادٌّ مجهولُ المصدر ، يصمُّ الآذانَ .. بعضٌ من طيور الليل تتطاير ، والهواءُ مكبّلٌ بسلاسلَ ضخمةٍ صلبةٍ ..
في ذلك اليوم ، كان ثمة شيءٌ غريبٌ يعتمل في صدر طاهر ، يريد أن يبوحَ به إلى أي مخلوق .. لكن أمورًا كثيرة تحُولُ دون ذلك ..أولها : سمْعَتها ..
إنه لا يدري لماذا يريد مخالفة الوعد ، لكنه أصرَّ على تنفيذه بالرغم من همساتٍ عديدة ْسمعها ، كانت تدور حولها ، ويخشى سوءَ العاقبة ..
لم يتناولْ طعامَ العشاء مع أهله في البيت .. التجأ إلى زاوية منه ، منزويًا على غير عادته .. جاءَه أخوه الصغير ، ابتسم ببراءة ، واقتربَ منه ، فأبعَدَهُ ، وأشاحَ عنه بوجهٍ جافٍّ ، ونظرةٍ قاسيةٍ ..
خرجَ من البيت ، فتحَ صدرَه لنسماتٍ لطيفةٍ ، سار ببطءٍ إلى هدفٍ لا يعرفه .. داسَ عقبَ السيجارة ، وجلس بعيدًا ، يرقب بيتا في زقاق معتم وضيّق ، ينتظرُ إشارة البداية التي تتحرَّكُ بعدها السواكنُ ، وتهيجُ العواطفُ والعواصفُ ..
في عينيه قلقٌ حائرٌ ، وفي صدره مَللٌ وضجَرٌ يزيدانه حيرة وتعاسة .. لاحَ ضوءٌ قريبٌ منه .. إنه سامي بالتأكيد ..يتحرك الضوءُ دائريًا .. ينبطحُ طاهر أرضًا ، وينعطف سامي وهو يطفئ الضوءَ ويشعله ..
غمغم طاهر: هيا .. أم حمدان بانتظارك أيها البغل ..
وندّتْ عنه آهة حزينة .. لقد ملَّ الانتظار ..
صوتُ حفيفِ العيدان المتخلفة عن الحَصَاد ، انبعثَ مُجَدِّدًا لأملٍ طالَ انتظارُه ..
ـ ما تزالُ الدنيا بخير .. قال ذلك ، دون أن يُحَوّل عينيْه عن الشارع إلا حينما ينظر في ساعته .. لقد اقتربتْ من الحادية عشرة .. إلى متى ؟؟ مضتْ ساعة على الموعد ، ما الذي جرى ؟؟ تنهّدَ .. رفعَ رأسَه إلى السماء :
يا إلهي .. لماذا قرنْتَ الحبَّ بالعذاب ؟؟!!
ملأ قبضته ترابًا .. ذراها مع نسَماتِ الليل .. التمَعَ عودُ الثقاب .. تلمْلمَ مسرعًا على رؤوس أصابع قدميه .. تباطأ .. تسمَّرَ في مكانه .. سطعَ الضوءُ في وجهه .. تابعَ بتمهل ، وعلى بُعْدِ خطواتٍ ، نادى بصوتٍ مُحشرَج : سامي ؟؟!!
لم يجبْ .. نادى ثانية : سامي ..
قهقه ، وقال : يا ابن الأكتع .. ما الذي جاء بك ؟؟
ارتبك طاهر ، ثم قال وهما يتصافحان : أبحثُ عن خروفٍ ضاع من أبي مساء ..
ضحك سامي ساخرًا : وجدْتَه ؟؟!!
بدا سامي شبحًا مخيفا ، ضخم الجثة ، كبير الرأس ، يسحبُ خطاه بتثاقل ، ويقول : عُدْ معي نُكمل السهرة ..
قال طاهر وهما يتباعدان : لا أستطيع الآن .. سآتي بعد العثور على الخروف ..
توارى في الليل ، حتى سمع سامي يقفل باب البيت .. بدأتْ تتسارعُ خفقاتُ قلبه كلما اقتربَ من باب بيتها .. نقرَ بإصبعه ثلاثَ نقراتٍ متتاليةٍ ، علامة وصوله ، أغلق خوخة الباب وراءه .. خطا إلى اليمين وسط الصمت والعتمة ، وحسب الاتفاق ، يجب أن تلتقي الأيدي أولا .. حرَّك ذراعيْه في الهواء ، وسّعَ دائرة البحث ، بدأ يرتجفُ .. لا قيمة للعينيْن في ظلمة كهذه .. دارتْ في رأسه آلافُ الوساوس والهواجس المرعبة .. إذن حانت الفضيحة والنهاية معا ..
تمالكَ أعصابَه .. تجلـَّدَ .. هزئ من نفسه : ليكنْ .. فالموتُ من أجل حليمة ، أفضل من الحياة بدونها ..
ما زالت ذراعاه ممتدتيْن ، وهو يدورُ حول نفسه .. أين أنتِ يا حليمة ؟؟
دارَ .. تخبّط .. لعنَ الظلامَ الذي طالما اختبأ بين جوانحه .. أحسّ بالخيبة والفجيعة قبل أن تلتقط أذناه ضحكة فشلتْ حليمة في كبتها ..
بلهفةٍ مرتعشةٍ همس : أين أنتِ حليمة ؟؟
ينسى العَطاشى أن ماءَ البحر يزيد في ظمَئهم ..
أبعدته عنها بعدما هدأتْ أنفاسهما : لماذا تأخرْتَ ؟؟
قال بحدةٍ تعشقها : لهذا اختبأتِ عني ؟؟!! ثم خيّم الصمت كما العتمة ، وغابا فيهما ..
28/10/1974
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق