1 ـ على موائد الموت ، يتلاقى الهجرُ القاسي ، والنسيانُ الأليم ..
فلقد مات الحبُّ في عينيها ، وانقلبتْ زقزقة العصافير صفيرًا حادًّا في محطة القطار المهاجر ، المُحمّل بخيوطٍ من أشعة الشمس ، وبصيص من لآلئ الليل ..
الأشجارُ تلوّح مودِّعةً ، بعد أن عبّرت الريحُ عن أسفها ، بهيجانها ..
وسكِرَ المودّعون حزنًا ، وتوقفَ الدمُ في أوردتهم ، وتجمّدَ الموتُ في المآقي المتحجرة ..
صفيرُ العصافير ما يزالُ يصمُّ الآذانَ ، ونعيقُ الغربان أضفى على الجوِّ كآبةً مظلمة .. وعجلاتُ القطار تحرّكتْ مُحْدِثة جَلبَة ودويًّا هائليْن ..
تحرّكَ الدمُ ، فخرجَ الموتُ مع الدمع من المَحاجر ، وانتثرَ الدخانُ القاتمُ في الأرجاء معلنًا زوالَ نهار سرمدي .. وامتلأتْ أرضُ المحطة بأوراق الشجر الأخضر ..
وفي مَحَافِظِ اليد النسائية ، اختبأ الصمتُ والكبتُ ، واختبأ الدمعُ معهما في مفارقةٍ عجيبةٍ ..
ربّاه ..!! لماذا لا يكونُ الموتُ بداية البداية ، ونهاية النهاية ؟؟
2 ـ كان الحُبُّ يسيرُ في شوارع المدينة المهجورة .. والناسُ غارقون في بحور أرضية .. ومواءُ القِططِ يدلُّ على أنها تستغيث .. ومجموعة أخيلةٍ تتراقصُ على إيقاعٍ موسيقي صاخبٍ .. كلُّ الأشياء في سكون .. وكلُّ الأشياء في ديمومةٍ حركيةٍ .. الموتُ والخَلقُ في آن واحدٍ .. ونوعٌ من الجراد منتشرٌ يُحَوّمُ فوق الرؤوس .. وروائحُ غيرُ متجانسةٍ ، تنبعث من اتجاهاتٍ معينةٍ .. لكنَّ الأنوفَ مزكومة ..
3 ـ سألتُهُ : والحبُّ الذي بينكما ؟؟!!
حملقَ في وجهي من خلال عينيْن جاحظتيْن محمرّتيْن ، وهزّ برأسِه ذات اليمين وذات الشمال ، كأنه يُؤَنّبني ، ثم رفع حاجبيْه إلى منتصفِ جبينهِ ، وقالَ باستنكار :
تسألني عن الحبِّ ؟؟!! يا لكَ من مُغفّل بليدٍ !!..
وأضافَ بصوتٍ أكثر ارتفاعًا ، كأنه يصرخُ في وجهي :
ومتى كان للحبّ معنى ؟؟!!
ثم : من سنحبُّ ؟ ومنْ سيحبُّنا ، إذا كان ـ كما تشدّقتَ ـ الحبُّ موجودًا ؟؟!!
4 ـ الريحُ الشديدةُ تهزُّ كلَّ شيْءٍ .. والصمتُ ما يزالُ في جمودِهِ المعهود .. وأصواتٌ غريبة تزداد حِدّتُها ..
وضعْتُ سبّابتيّ في أذنيّ ، وفعَلَ الآخرُ مثلي ، وانطلقنا نسير في الشوارع المهجورة .. تاقتْ نفسي لرُؤية مخلوق إنساني آخر .. صارَ ذلكَ هدفا لي أجِدُّ في البحثِ عنه .. لكني ، عبثا كنتُ أحاولُ ..
قلتُ في نفسي : لعلَّ الناسَ مختبئون في منازلهم .. اقتربْتُ من أقربِ بابٍ .. طرقتُه بعنفٍ مراتٍ ومراتٍ .. لا أحدَ هناك ..
انسحبْتُ إلى غيره ، وإلى ثالثٍ فرابع فعاشر .. دون جدوى ..
سألني صاحبي : أين سكانُ المدينة ؟؟
قلبتُ شفتي ، ولم أجبْه ..
أردَفَ بصوتٍ أشدّ : الجوعُ يأكلُ معدتي ..
قلتُ : وما حيلتي ؟؟
قال : سنطرُق أبوابَ المدينةِ كلها ..
قلتُ بملل : هيّا بنا ..
5 ـ في طرَفٍ من المدينة ، فتحَ لنا شابٌّ ، طويلُ القامة ، شعرُه مُرسَلٌ وطويل .. حدّق في وجهيْنا ، وانزاحَ عن الباب ، مشيرا بيده أن ندخل ..
دخلنا في ممر طويل ، أفضى بنا إلى غرفةٍ ينبعث من خلفِ زجاجها ضوءٌ باهتٌ ، يميلُ إلى الصفرة ..
كان يسيرُ أمامَنا دونما كلام .. وكانَ نصفهُ العلوي عاريًا ..
فتحَ باب َ الغرفة ، دخلَ أمامنا ، وتبعْناه ، ثم أرتَجَ البابَ ، وأومأ إلينا بالجلوس ، وانصرفَ إلى سرير في زاويةِ الغرفةِ ، تتمدّدُ فوقه امرأةٌ شبه عارية ، وبلا غطاء ..
6 ـ إلى يمين الباب ، طاولةٌ كبيرةٌ فوقها صحونُ فاكهةٍ ، وزجاجاتُ شرابٍ متنوع ، وقِطعُ لحم مشوي ..
تجوّلتْ عينا صاحبي متنقلة بين السرير والطاولة ووجهي .. ثم جلسْنا إلى الطاولة ..
7 ـ صُفرةُ الضوءِ تزولُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا .. وصارَ المكانُ في شبه اتساع .. همهماتٌ وتمتماتٌ ، تنبعث بين الحين والآخر من فوق السرير ، وأصواتُ القبلاتِ تنفجرُ كقنابلَ هجومية ..
سَرَتِ الحرارةُ في جسدي .. وشعرْتُ بدبيبٍ يسري مع دمي في عروقي .. أفرغَ صاحبي الزجاجة في جوفِهِ ، وجالَ بنظره حوله ، ثم رماها خلفه ، فانبعث صوتٌ قويٌّ في هَدْأة السكون .. لم يُبالِ أحدٌ بشيءٍ .. فالأمورُ تجري طبيعية في الغرفة .. ثم ما لبث أن نهضَ ، توجّهَ إلى السرير ، اقترَبَ منه ، رفعَتِ الفتاةُ يدَها معترضة .. لم يكترثْ .. اقتربَ حتى التصَقَ به .. أعادتِ الفتاةُ يدَها ، ولاحظْتُ أنَّ عينيْها تنطقان بشيءٍ .. تغيَّرَ لونُ الضوء في الغرفة .. صار سماويًا ..
التصقَ الشابُّ في الجدار مبتعدًا عن الفتاة ، ثم نهضَ على عَجَل ، واتجه إلى المائدة .. تلاقتْ عيونُنا بنظرةٍ طبيعيةٍ ، وهمَّتْ أسنانُه بالعمل النشيط ، بينما كان صاحبي يعتلي قبة السرير ..
8 ـ حملتُ زجاجة في يدي ، وخطوْتُ إلى أريكةٍ مقابلةٍ للسرير .. ارتميتُ فوقها ، ووضعتُ فوهة الزجاجة في فمي .. أفرغتُها ورميْتُها جانبًا .. لم تنكسرْ .. انتبه الآخران لصوتها في حركةٍ قسريةٍ ، لكن ، دونما اهتمام ..
اتجه الشابُّ إليّ ، وفي يدٍ كأسٌ ، وفي الأخرى كرسيٌّ صغيرٌ .. جلس قربي ، وحملق في وجهي من خلال عينيْن واسعتيْن ، ثم قال بلهجةٍ ثقيلةٍ :
من أين جئتُما ؟
ورفعَ الكأسَ ببطءٍ إلى شفتيْه ..
قلتُ بصوتٍ أجشّ : كنا نسكنُ غيمة صيفية فوق خط الاستواء ..
وضع الكأسَ بتؤدةٍ فوق طاولةٍ صغيرةٍ بجانبه ، وقال : متى؟..
قلتُ بلا اهتمام : لا أدري .. قال بعجبٍ : وكيف ؟! .. وقبلَ أنْ أجيبَ ، عَلا صوتُ الفتاة قائلة : ما شأنُكَ بهما أيُّها اللعين ؟؟
لم يلتفتْ إليها ، وكأنه لم يسمعْ شيئا .. فتابع : وكيف لا تدري ؟! قلتُ وأنا أعيدُ كلماتِ سؤالِها في ذاكرتي : الزمنُ عندي ، حضورٌ وغيبة .. ولستُ أدري ، جئناكَ في الحضور أم في الغيبة ؟ اتسعتْ عيناهُ ، وأشارَ بيدِهِ علامة استفهام ، ثم قال بحروفٍ متقطعةٍ : غ ، ي ، ب ، ة ؟؟
لم أجبْه .. ضاقتْ دائرة عينيه ، ثم نظرْنا إلى الخلف ، حيث الصراعُ ما يزالُ مستمرًا ..
9 ـ صارَ ضوءُ الغرفةِ ورديًّا قاتمًا ، وأعدادٌ هائلةٌ من الذبابِ تملأ النصفَ العلويَ من فضاءِ الغرفة ..اعتدلتُ في جلستي ، وسألتُ الشابَّ : ما اسمك ؟ قال : جليل ..
ما مهنتك ؟ قال : الصمت ..
قطعَ صاحبي حديثنا ، قادمًا من فوق السرير ، وقال لي مشيرًا بإبهامه الأيسر إلى الخلف : تستدعيك ..
تبادلتُ نظرة مع الشاب ، ونهضتُ ، وجلسَ صاحبي مكاني ..
اقتربْتُ من السرير بخطواتٍ وئيدةٍ وهي تستعجلني .. وقفتُ جانبَ السرير ، أمسكتُ بذراعِها ، وتلاقتْ عيوننا ، فوجدْتُ فيهما صورة محاربٍ جاهلي ، امتزجَ ضوءُ الغرفة بلون آخر ، واختفتْ أسرابُ الذباب ، وانبعث صوتٌ هادئٌ سَرَى في عروقي مع حرارة جسدي ..
كنتُ ما أزالُ مُمْسِكًا بذراع الفتاة ، مالتْ على جنبها ، وتقلّبَتْ .. ثم قالتْ : أطلتَ الوقوف .. قلتُ : النومُ لا يجدي .. قالت : إلا إذا أسفَرَ عن شيءٍ .. قلتُ متسائلا : وهل سيُسفِرُ نومُنا ؟؟
اتسعتْ ابتسامتها ، ولحظتُ قوةً وكبرياءً في عينيْها ، فقفزتُ فوق السرير ، وغبْنا معًا تحت الغطاء ..
10 ـ توقفَ القطارُ في المحطة الأخيرة ، وأعلنَ مذيعٌ للركاب : وصلنا إلى الأرض التي تزهر في الخريف .. وقوفنا هنا لن يطول .. سنتابعُ الرحلة بعد ساعتين ..
11 ـ لاحَ الخيطُ الأولُ من الصباح في عيْنيَّ عبرَ نوافذ الغرفة ، وكانوا ما يزالون في سُباتهم .. لم أدرِ كمْ بتْنا في هذا السُّبَات .. أيقظْتُهم ..
وعند الوداع قالا : لنذهبْ معا .. قلت : لا بأس ، هيا بنا ..
01/03/1975
فلقد مات الحبُّ في عينيها ، وانقلبتْ زقزقة العصافير صفيرًا حادًّا في محطة القطار المهاجر ، المُحمّل بخيوطٍ من أشعة الشمس ، وبصيص من لآلئ الليل ..
الأشجارُ تلوّح مودِّعةً ، بعد أن عبّرت الريحُ عن أسفها ، بهيجانها ..
وسكِرَ المودّعون حزنًا ، وتوقفَ الدمُ في أوردتهم ، وتجمّدَ الموتُ في المآقي المتحجرة ..
صفيرُ العصافير ما يزالُ يصمُّ الآذانَ ، ونعيقُ الغربان أضفى على الجوِّ كآبةً مظلمة .. وعجلاتُ القطار تحرّكتْ مُحْدِثة جَلبَة ودويًّا هائليْن ..
تحرّكَ الدمُ ، فخرجَ الموتُ مع الدمع من المَحاجر ، وانتثرَ الدخانُ القاتمُ في الأرجاء معلنًا زوالَ نهار سرمدي .. وامتلأتْ أرضُ المحطة بأوراق الشجر الأخضر ..
وفي مَحَافِظِ اليد النسائية ، اختبأ الصمتُ والكبتُ ، واختبأ الدمعُ معهما في مفارقةٍ عجيبةٍ ..
ربّاه ..!! لماذا لا يكونُ الموتُ بداية البداية ، ونهاية النهاية ؟؟
2 ـ كان الحُبُّ يسيرُ في شوارع المدينة المهجورة .. والناسُ غارقون في بحور أرضية .. ومواءُ القِططِ يدلُّ على أنها تستغيث .. ومجموعة أخيلةٍ تتراقصُ على إيقاعٍ موسيقي صاخبٍ .. كلُّ الأشياء في سكون .. وكلُّ الأشياء في ديمومةٍ حركيةٍ .. الموتُ والخَلقُ في آن واحدٍ .. ونوعٌ من الجراد منتشرٌ يُحَوّمُ فوق الرؤوس .. وروائحُ غيرُ متجانسةٍ ، تنبعث من اتجاهاتٍ معينةٍ .. لكنَّ الأنوفَ مزكومة ..
3 ـ سألتُهُ : والحبُّ الذي بينكما ؟؟!!
حملقَ في وجهي من خلال عينيْن جاحظتيْن محمرّتيْن ، وهزّ برأسِه ذات اليمين وذات الشمال ، كأنه يُؤَنّبني ، ثم رفع حاجبيْه إلى منتصفِ جبينهِ ، وقالَ باستنكار :
تسألني عن الحبِّ ؟؟!! يا لكَ من مُغفّل بليدٍ !!..
وأضافَ بصوتٍ أكثر ارتفاعًا ، كأنه يصرخُ في وجهي :
ومتى كان للحبّ معنى ؟؟!!
ثم : من سنحبُّ ؟ ومنْ سيحبُّنا ، إذا كان ـ كما تشدّقتَ ـ الحبُّ موجودًا ؟؟!!
4 ـ الريحُ الشديدةُ تهزُّ كلَّ شيْءٍ .. والصمتُ ما يزالُ في جمودِهِ المعهود .. وأصواتٌ غريبة تزداد حِدّتُها ..
وضعْتُ سبّابتيّ في أذنيّ ، وفعَلَ الآخرُ مثلي ، وانطلقنا نسير في الشوارع المهجورة .. تاقتْ نفسي لرُؤية مخلوق إنساني آخر .. صارَ ذلكَ هدفا لي أجِدُّ في البحثِ عنه .. لكني ، عبثا كنتُ أحاولُ ..
قلتُ في نفسي : لعلَّ الناسَ مختبئون في منازلهم .. اقتربْتُ من أقربِ بابٍ .. طرقتُه بعنفٍ مراتٍ ومراتٍ .. لا أحدَ هناك ..
انسحبْتُ إلى غيره ، وإلى ثالثٍ فرابع فعاشر .. دون جدوى ..
سألني صاحبي : أين سكانُ المدينة ؟؟
قلبتُ شفتي ، ولم أجبْه ..
أردَفَ بصوتٍ أشدّ : الجوعُ يأكلُ معدتي ..
قلتُ : وما حيلتي ؟؟
قال : سنطرُق أبوابَ المدينةِ كلها ..
قلتُ بملل : هيّا بنا ..
5 ـ في طرَفٍ من المدينة ، فتحَ لنا شابٌّ ، طويلُ القامة ، شعرُه مُرسَلٌ وطويل .. حدّق في وجهيْنا ، وانزاحَ عن الباب ، مشيرا بيده أن ندخل ..
دخلنا في ممر طويل ، أفضى بنا إلى غرفةٍ ينبعث من خلفِ زجاجها ضوءٌ باهتٌ ، يميلُ إلى الصفرة ..
كان يسيرُ أمامَنا دونما كلام .. وكانَ نصفهُ العلوي عاريًا ..
فتحَ باب َ الغرفة ، دخلَ أمامنا ، وتبعْناه ، ثم أرتَجَ البابَ ، وأومأ إلينا بالجلوس ، وانصرفَ إلى سرير في زاويةِ الغرفةِ ، تتمدّدُ فوقه امرأةٌ شبه عارية ، وبلا غطاء ..
6 ـ إلى يمين الباب ، طاولةٌ كبيرةٌ فوقها صحونُ فاكهةٍ ، وزجاجاتُ شرابٍ متنوع ، وقِطعُ لحم مشوي ..
تجوّلتْ عينا صاحبي متنقلة بين السرير والطاولة ووجهي .. ثم جلسْنا إلى الطاولة ..
7 ـ صُفرةُ الضوءِ تزولُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا .. وصارَ المكانُ في شبه اتساع .. همهماتٌ وتمتماتٌ ، تنبعث بين الحين والآخر من فوق السرير ، وأصواتُ القبلاتِ تنفجرُ كقنابلَ هجومية ..
سَرَتِ الحرارةُ في جسدي .. وشعرْتُ بدبيبٍ يسري مع دمي في عروقي .. أفرغَ صاحبي الزجاجة في جوفِهِ ، وجالَ بنظره حوله ، ثم رماها خلفه ، فانبعث صوتٌ قويٌّ في هَدْأة السكون .. لم يُبالِ أحدٌ بشيءٍ .. فالأمورُ تجري طبيعية في الغرفة .. ثم ما لبث أن نهضَ ، توجّهَ إلى السرير ، اقترَبَ منه ، رفعَتِ الفتاةُ يدَها معترضة .. لم يكترثْ .. اقتربَ حتى التصَقَ به .. أعادتِ الفتاةُ يدَها ، ولاحظْتُ أنَّ عينيْها تنطقان بشيءٍ .. تغيَّرَ لونُ الضوء في الغرفة .. صار سماويًا ..
التصقَ الشابُّ في الجدار مبتعدًا عن الفتاة ، ثم نهضَ على عَجَل ، واتجه إلى المائدة .. تلاقتْ عيونُنا بنظرةٍ طبيعيةٍ ، وهمَّتْ أسنانُه بالعمل النشيط ، بينما كان صاحبي يعتلي قبة السرير ..
8 ـ حملتُ زجاجة في يدي ، وخطوْتُ إلى أريكةٍ مقابلةٍ للسرير .. ارتميتُ فوقها ، ووضعتُ فوهة الزجاجة في فمي .. أفرغتُها ورميْتُها جانبًا .. لم تنكسرْ .. انتبه الآخران لصوتها في حركةٍ قسريةٍ ، لكن ، دونما اهتمام ..
اتجه الشابُّ إليّ ، وفي يدٍ كأسٌ ، وفي الأخرى كرسيٌّ صغيرٌ .. جلس قربي ، وحملق في وجهي من خلال عينيْن واسعتيْن ، ثم قال بلهجةٍ ثقيلةٍ :
من أين جئتُما ؟
ورفعَ الكأسَ ببطءٍ إلى شفتيْه ..
قلتُ بصوتٍ أجشّ : كنا نسكنُ غيمة صيفية فوق خط الاستواء ..
وضع الكأسَ بتؤدةٍ فوق طاولةٍ صغيرةٍ بجانبه ، وقال : متى؟..
قلتُ بلا اهتمام : لا أدري .. قال بعجبٍ : وكيف ؟! .. وقبلَ أنْ أجيبَ ، عَلا صوتُ الفتاة قائلة : ما شأنُكَ بهما أيُّها اللعين ؟؟
لم يلتفتْ إليها ، وكأنه لم يسمعْ شيئا .. فتابع : وكيف لا تدري ؟! قلتُ وأنا أعيدُ كلماتِ سؤالِها في ذاكرتي : الزمنُ عندي ، حضورٌ وغيبة .. ولستُ أدري ، جئناكَ في الحضور أم في الغيبة ؟ اتسعتْ عيناهُ ، وأشارَ بيدِهِ علامة استفهام ، ثم قال بحروفٍ متقطعةٍ : غ ، ي ، ب ، ة ؟؟
لم أجبْه .. ضاقتْ دائرة عينيه ، ثم نظرْنا إلى الخلف ، حيث الصراعُ ما يزالُ مستمرًا ..
9 ـ صارَ ضوءُ الغرفةِ ورديًّا قاتمًا ، وأعدادٌ هائلةٌ من الذبابِ تملأ النصفَ العلويَ من فضاءِ الغرفة ..اعتدلتُ في جلستي ، وسألتُ الشابَّ : ما اسمك ؟ قال : جليل ..
ما مهنتك ؟ قال : الصمت ..
قطعَ صاحبي حديثنا ، قادمًا من فوق السرير ، وقال لي مشيرًا بإبهامه الأيسر إلى الخلف : تستدعيك ..
تبادلتُ نظرة مع الشاب ، ونهضتُ ، وجلسَ صاحبي مكاني ..
اقتربْتُ من السرير بخطواتٍ وئيدةٍ وهي تستعجلني .. وقفتُ جانبَ السرير ، أمسكتُ بذراعِها ، وتلاقتْ عيوننا ، فوجدْتُ فيهما صورة محاربٍ جاهلي ، امتزجَ ضوءُ الغرفة بلون آخر ، واختفتْ أسرابُ الذباب ، وانبعث صوتٌ هادئٌ سَرَى في عروقي مع حرارة جسدي ..
كنتُ ما أزالُ مُمْسِكًا بذراع الفتاة ، مالتْ على جنبها ، وتقلّبَتْ .. ثم قالتْ : أطلتَ الوقوف .. قلتُ : النومُ لا يجدي .. قالت : إلا إذا أسفَرَ عن شيءٍ .. قلتُ متسائلا : وهل سيُسفِرُ نومُنا ؟؟
اتسعتْ ابتسامتها ، ولحظتُ قوةً وكبرياءً في عينيْها ، فقفزتُ فوق السرير ، وغبْنا معًا تحت الغطاء ..
10 ـ توقفَ القطارُ في المحطة الأخيرة ، وأعلنَ مذيعٌ للركاب : وصلنا إلى الأرض التي تزهر في الخريف .. وقوفنا هنا لن يطول .. سنتابعُ الرحلة بعد ساعتين ..
11 ـ لاحَ الخيطُ الأولُ من الصباح في عيْنيَّ عبرَ نوافذ الغرفة ، وكانوا ما يزالون في سُباتهم .. لم أدرِ كمْ بتْنا في هذا السُّبَات .. أيقظْتُهم ..
وعند الوداع قالا : لنذهبْ معا .. قلت : لا بأس ، هيا بنا ..
01/03/1975
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق