1 ـ
في أحلام اليقظة ـ التي تنتابُني عادة ـ أتجاوزُ نفسي ، وأذهبُ بها إلى عوالمَ وتهويماتٍ لا حدودَ لها ..
أجدُ المفقودَ الذي أفنيتُ عمري في البحث عنه .. أمرِّرُ يدي فوق شعر فتاتي التي طالما حلمْتُ بها .. أصيرُ أحدَ عظماءِ العصر .. تُنفّذُ كلمتي قبيل ابتعادها عن شفتيْ ..
ذات مرة ، جلسْتُ منزويًا في ركن غرفتي أرقبُ خيطا من العنكبوت يتدلى بدلالٍ من سقفِ الغرفة ، ويتأرجحُ في كل الاتجاهات ..
كانت سهامُ أنظاري تتجه إليه ، وكنتُ حقا أراه ، لكني مع ذلك ، أرى عالمًا آخر .. فيه رجالٌ ونساءٌ .. خيولٌ .. فِيلة .. نَعامٌ .. وأشياء أخرى كثيرة .. تهتز الصورة في عينيَّ مع اهتزاز خيط العنكبوت الذي لم أرَ منه إلا النصف السفلي ..
في الصورة ، امرأة تنظر إلى وجه شاب قصير القامة ، أسمر البشرة ، كثّ الشعر ، أجعده ، في أنفه احديدابٌ شديدٌ كقوس النبْل ، يبادلها نظراتٍ لم أدر كنهَهَا .. أبتسِمُ حين يبتسمان ، وأكفهرُّ لعبوسهما ..
الخيولُ تعربد في كل الاتجاهات ، والفيلة ترقصُ على إيقاع إفريقي صاخبٍ متواتر .. ترتجُّ الأرضُ تحتي .. وتنقلبُ صورة الأشياء رأسًا على عقب .. تدفن النعامُ رؤوسَها في الرمل .. قلة منها ترى وتسمع ما يجري ..
دموعٌ غزيرة تنهمرُ من عينيْن حمراويْن لامرأة لا تتوقف عن العويل .. وضحكٌ هستيريٌ ينطلق من فم شاب يؤدي حركاتٍ بهلوانية بخفةٍ ورشاقةٍ ..
فجأة ، يلوذان بالصمت ، ثم تدوّي ضحكة المرأة كالرعد ، ويبكي الشاب بكل الحرقة والألم ..
الخيط ما يزال يهتز .. الخيول تعربد .. الفيلة ترقص .. رؤوس النعام بين السماء والأرض ..
تختفي الضحكة والدمعة .. يتبادلان نظراتٍ مبهمة .. يدنوان من بعضهما .. يتقابلان .. يتوقف الجميع عن الحركة .. تسكنُ الأرضُ وتهدأ .. لكن النعامَ تحاولُ أن تدفنَ رؤوسَها عميقا ..
ثقلَ رأسي بين كتفيْ ، وناءَتا بحمله .. حاولتُ أن أغمضَ عينيَّ فلم تستجبْ أجفاني .. تسارَعَ اهتزاز الخيط .. تغيَّرَ المشهدُ أمامي .. أرى مزيجًا من الصور المُبهمة .. حملقتُ .. لا شيءَ واضحٌ أبدًا .. دُقَّ بابُ غرفتي .. تجاهلته .. ازدادَ الصوتُ إلحاحًا .. عيناي على الخيط .. دارَ .. توقّفَ .. انقلبَ المشهدُ وتغيرت الصورة .. غابة كثيفة تنتشرُ القرودُ فوق أغصانها .. ومزيجٌ من أصوات طيور وحيواناتٍ أليفةٍ أخذ طريقه إلى مسمعي .. أومأتُ للشجرة بإصبعي ، فامتثلتْ والتصقتْ بزميلتها .. استمتعتُ بتحريك الأشجار ولصقِها ، حتى غدت الغابة شجرة واحدة هائلة الحجم والانتشار .. كان ثمة أشياء تتساقط من الشجرة العظيمة ، لم أستطعْ تمييزَها لضبابية الرؤية ..
تشاءمْتُ ، اعترتني قشعريرة لاذعة انمغصَتْ لها معدتي بقوة ، فتكوّمْتُ فوق السرير متجنبًا النظر إلى الخيط ، لكنه تبعني ، وكأنه أدركَ سوءَ حالتي ، فغيّرَ المشهدَ من جديد ..
أناسٌ يتزاحمون .. يتدافعون .. يتصادمون ، فيتساقط بعضهم ، ويُداسون ، وكأن شيئا لم يكن ..
تمرُّ الصورة كشريطٍ سينمائي ملوّن ، يبرز وجهٌ من الزحام ، يتطاولُ ، يصدمُه المارّة فيرتدّون عنه كمن يصطدمُ بجدار .. يرمقونه برعبٍ ويًطأطئون ويتابعون .. تحْمَرُّ وجنتاه بوضوح ، وتلسعني حرارة دمه ..
التقتْ عيونُنا .. ابتسمَ .. ابتسمْتُ .. تكلمَ وتكلمَ ، لكني لم أسمعْ .. عندها لوّح لي ، واستدارَ .. رفعْتُ يدي ملوِّحًا ، فصَدَمَتِ الخيط .. وتغيّرَ المشهد ..
غضبْتُ .. استندْتُ إلى الوراء .. كدْتُ أقتلعُ الخيط من جذوره ، لكني أحْجمْتُ في اللحظة الأخيرة ، مُعَللا نفسي بما أريدُ أن أراه عند اللزوم ..
2 ـ
قلتُ : ما دمنا نسير جميعًا في اتجاهٍ واحدٍ ، فلا بد أن نصلَ إلى هدفٍ واحدٍ أيضا ..
قال : الاتجاهُ واحدٌ ، لكن الطرقَ مختلفة ..
قلت : وما المانع ؟؟
ـ هذا يعني أن كلا منا سيرى الهدفَ من زاويةٍ بعينها ..
ـ وهل بتغيّر الزاوية ، يتغيّرُ الهدفُ ؟!
ـ ليس بالضرورة ذلك ..
ـ ما دام الأمر سَيؤول في النهاية إلى نفس المصير ، فما ضرَّنا أنّا نسِيرُ في اتجاهٍ واحدٍ ؟؟
ـ في الزحام تضيعُ المَعَالمُ ..
ـ المعالمُ ضمن عالم شمولي تتأكد أكثر فأكثر ..
ـ هذا صحيح ، إذا كان الأمرُ يخصّ كلَّ الطرق ..
ـ لنبدأ بالطريق الذي نحن فيه ..
ـ أظنُّ الفشلَ حليفنا ..
ـ ظنّكَ في مهبِّ ريح شمالية ..
ـ وصلنا إلى نقطة عقيمة ..
ـ أرى الخِصْبَ مفقودًا لديك ..
هزّ برأسه وجفنيه .. وغاب بعيدا عني ..
3 ـ
قال الأول : منْ يدري أي الفصول أسبق ظهورًا ؟؟
قال الثاني بسرعة : إنه الشتاء حتما ..
قال الثالث : بل الخريف الذي تتعرّى فيه الأشجارُ ، وتبدو الأشياءُ على حقيقتها .. عندئذٍ .. يأتي الشتاءُ بعطائه وخيْره ، فتزهر الأرضُ بما عليها في الربيع ..
قال الرابع : أخطأتما السبيل .. فلولا ثمارُ الصيف ، ما حصَلنا على بذرة الشتاء ..
قال آخر : الربيع وما أدراك ما الربيع أيها القوم .. فلولاه لغرقت الأرضُ ، وتعفنتْ جذورُ الشجر ، وضاعت المعالم ، وتغيَّرَ وجهُ الكون ..
قلت : كفُّوا عن الجدال .. تعالوْا نتفقْ على تطابق الاسم والمسمّى ..
4 ـ
خيط العنكبوت سريعُ الاهتزاز ، والصورُ تتلاحق بسرعة جنونية فوقه .. الشوارعُ مزدحمة ، وطفلي يردّدُ نشيدًا سمعتُه للتوّ من حمامةٍ مزركشةٍ بألوان الطيف ، حوّمتْ فوق المنزل ، وهي تمَوْسِقه بعذوبةٍ وحنان ..
وما زلنا نسيرُ جميعًا في طرق متعددة ، ونستمعُ لهارمونية سيمفونية ، تعلو وتنخفض ، ثم تعلو لتنخفض وتعلو من جديد ، تبعا للمؤثرات الخارجية والجانبية ..
لماذا لا نجعل الشتاءَ أبًا ، والربيعَ أمًّا ، والصيفَ أخًا ، والخريفَ أختًا ؟؟
عندئذ ، قد تنتهي مهزلة أزلية عمرُها آلاف السنين ..
03/نيسان/1975
في أحلام اليقظة ـ التي تنتابُني عادة ـ أتجاوزُ نفسي ، وأذهبُ بها إلى عوالمَ وتهويماتٍ لا حدودَ لها ..
أجدُ المفقودَ الذي أفنيتُ عمري في البحث عنه .. أمرِّرُ يدي فوق شعر فتاتي التي طالما حلمْتُ بها .. أصيرُ أحدَ عظماءِ العصر .. تُنفّذُ كلمتي قبيل ابتعادها عن شفتيْ ..
ذات مرة ، جلسْتُ منزويًا في ركن غرفتي أرقبُ خيطا من العنكبوت يتدلى بدلالٍ من سقفِ الغرفة ، ويتأرجحُ في كل الاتجاهات ..
كانت سهامُ أنظاري تتجه إليه ، وكنتُ حقا أراه ، لكني مع ذلك ، أرى عالمًا آخر .. فيه رجالٌ ونساءٌ .. خيولٌ .. فِيلة .. نَعامٌ .. وأشياء أخرى كثيرة .. تهتز الصورة في عينيَّ مع اهتزاز خيط العنكبوت الذي لم أرَ منه إلا النصف السفلي ..
في الصورة ، امرأة تنظر إلى وجه شاب قصير القامة ، أسمر البشرة ، كثّ الشعر ، أجعده ، في أنفه احديدابٌ شديدٌ كقوس النبْل ، يبادلها نظراتٍ لم أدر كنهَهَا .. أبتسِمُ حين يبتسمان ، وأكفهرُّ لعبوسهما ..
الخيولُ تعربد في كل الاتجاهات ، والفيلة ترقصُ على إيقاع إفريقي صاخبٍ متواتر .. ترتجُّ الأرضُ تحتي .. وتنقلبُ صورة الأشياء رأسًا على عقب .. تدفن النعامُ رؤوسَها في الرمل .. قلة منها ترى وتسمع ما يجري ..
دموعٌ غزيرة تنهمرُ من عينيْن حمراويْن لامرأة لا تتوقف عن العويل .. وضحكٌ هستيريٌ ينطلق من فم شاب يؤدي حركاتٍ بهلوانية بخفةٍ ورشاقةٍ ..
فجأة ، يلوذان بالصمت ، ثم تدوّي ضحكة المرأة كالرعد ، ويبكي الشاب بكل الحرقة والألم ..
الخيط ما يزال يهتز .. الخيول تعربد .. الفيلة ترقص .. رؤوس النعام بين السماء والأرض ..
تختفي الضحكة والدمعة .. يتبادلان نظراتٍ مبهمة .. يدنوان من بعضهما .. يتقابلان .. يتوقف الجميع عن الحركة .. تسكنُ الأرضُ وتهدأ .. لكن النعامَ تحاولُ أن تدفنَ رؤوسَها عميقا ..
ثقلَ رأسي بين كتفيْ ، وناءَتا بحمله .. حاولتُ أن أغمضَ عينيَّ فلم تستجبْ أجفاني .. تسارَعَ اهتزاز الخيط .. تغيَّرَ المشهدُ أمامي .. أرى مزيجًا من الصور المُبهمة .. حملقتُ .. لا شيءَ واضحٌ أبدًا .. دُقَّ بابُ غرفتي .. تجاهلته .. ازدادَ الصوتُ إلحاحًا .. عيناي على الخيط .. دارَ .. توقّفَ .. انقلبَ المشهدُ وتغيرت الصورة .. غابة كثيفة تنتشرُ القرودُ فوق أغصانها .. ومزيجٌ من أصوات طيور وحيواناتٍ أليفةٍ أخذ طريقه إلى مسمعي .. أومأتُ للشجرة بإصبعي ، فامتثلتْ والتصقتْ بزميلتها .. استمتعتُ بتحريك الأشجار ولصقِها ، حتى غدت الغابة شجرة واحدة هائلة الحجم والانتشار .. كان ثمة أشياء تتساقط من الشجرة العظيمة ، لم أستطعْ تمييزَها لضبابية الرؤية ..
تشاءمْتُ ، اعترتني قشعريرة لاذعة انمغصَتْ لها معدتي بقوة ، فتكوّمْتُ فوق السرير متجنبًا النظر إلى الخيط ، لكنه تبعني ، وكأنه أدركَ سوءَ حالتي ، فغيّرَ المشهدَ من جديد ..
أناسٌ يتزاحمون .. يتدافعون .. يتصادمون ، فيتساقط بعضهم ، ويُداسون ، وكأن شيئا لم يكن ..
تمرُّ الصورة كشريطٍ سينمائي ملوّن ، يبرز وجهٌ من الزحام ، يتطاولُ ، يصدمُه المارّة فيرتدّون عنه كمن يصطدمُ بجدار .. يرمقونه برعبٍ ويًطأطئون ويتابعون .. تحْمَرُّ وجنتاه بوضوح ، وتلسعني حرارة دمه ..
التقتْ عيونُنا .. ابتسمَ .. ابتسمْتُ .. تكلمَ وتكلمَ ، لكني لم أسمعْ .. عندها لوّح لي ، واستدارَ .. رفعْتُ يدي ملوِّحًا ، فصَدَمَتِ الخيط .. وتغيّرَ المشهد ..
غضبْتُ .. استندْتُ إلى الوراء .. كدْتُ أقتلعُ الخيط من جذوره ، لكني أحْجمْتُ في اللحظة الأخيرة ، مُعَللا نفسي بما أريدُ أن أراه عند اللزوم ..
2 ـ
قلتُ : ما دمنا نسير جميعًا في اتجاهٍ واحدٍ ، فلا بد أن نصلَ إلى هدفٍ واحدٍ أيضا ..
قال : الاتجاهُ واحدٌ ، لكن الطرقَ مختلفة ..
قلت : وما المانع ؟؟
ـ هذا يعني أن كلا منا سيرى الهدفَ من زاويةٍ بعينها ..
ـ وهل بتغيّر الزاوية ، يتغيّرُ الهدفُ ؟!
ـ ليس بالضرورة ذلك ..
ـ ما دام الأمر سَيؤول في النهاية إلى نفس المصير ، فما ضرَّنا أنّا نسِيرُ في اتجاهٍ واحدٍ ؟؟
ـ في الزحام تضيعُ المَعَالمُ ..
ـ المعالمُ ضمن عالم شمولي تتأكد أكثر فأكثر ..
ـ هذا صحيح ، إذا كان الأمرُ يخصّ كلَّ الطرق ..
ـ لنبدأ بالطريق الذي نحن فيه ..
ـ أظنُّ الفشلَ حليفنا ..
ـ ظنّكَ في مهبِّ ريح شمالية ..
ـ وصلنا إلى نقطة عقيمة ..
ـ أرى الخِصْبَ مفقودًا لديك ..
هزّ برأسه وجفنيه .. وغاب بعيدا عني ..
3 ـ
قال الأول : منْ يدري أي الفصول أسبق ظهورًا ؟؟
قال الثاني بسرعة : إنه الشتاء حتما ..
قال الثالث : بل الخريف الذي تتعرّى فيه الأشجارُ ، وتبدو الأشياءُ على حقيقتها .. عندئذٍ .. يأتي الشتاءُ بعطائه وخيْره ، فتزهر الأرضُ بما عليها في الربيع ..
قال الرابع : أخطأتما السبيل .. فلولا ثمارُ الصيف ، ما حصَلنا على بذرة الشتاء ..
قال آخر : الربيع وما أدراك ما الربيع أيها القوم .. فلولاه لغرقت الأرضُ ، وتعفنتْ جذورُ الشجر ، وضاعت المعالم ، وتغيَّرَ وجهُ الكون ..
قلت : كفُّوا عن الجدال .. تعالوْا نتفقْ على تطابق الاسم والمسمّى ..
4 ـ
خيط العنكبوت سريعُ الاهتزاز ، والصورُ تتلاحق بسرعة جنونية فوقه .. الشوارعُ مزدحمة ، وطفلي يردّدُ نشيدًا سمعتُه للتوّ من حمامةٍ مزركشةٍ بألوان الطيف ، حوّمتْ فوق المنزل ، وهي تمَوْسِقه بعذوبةٍ وحنان ..
وما زلنا نسيرُ جميعًا في طرق متعددة ، ونستمعُ لهارمونية سيمفونية ، تعلو وتنخفض ، ثم تعلو لتنخفض وتعلو من جديد ، تبعا للمؤثرات الخارجية والجانبية ..
لماذا لا نجعل الشتاءَ أبًا ، والربيعَ أمًّا ، والصيفَ أخًا ، والخريفَ أختًا ؟؟
عندئذ ، قد تنتهي مهزلة أزلية عمرُها آلاف السنين ..
03/نيسان/1975
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق