احتضنَ البحرُ الشمسَ وأحزانه ، وأسبلَ جفنيْه ، وغفا ..
وجلسَتْ تغتسلُ بالرّؤى ، وتقطف الأزهار المتدلية من السماء ، تداعب بأوراقها وجوهَ البحارة ، والمجاديفَ الخشبية ، وهي تومِئ للأسماك لحضور حفل زفاف ابن سلطان البَرّ ..
" ملوحة البحر تزيلُ تهدُّلَ الوجوه .."
وتلك الخصلات تصنعُ خيامًا يبيتُ تحتها آلافٌ ممن يعشقون خضرة الليل ، ورطوبته ، وشقاءَ شجيرات الأرصفة ..
قال النورسُ الأول للثاني :
ـ استعِدَّ للرحيل ، لقد مات ـ ههنا ـ الشاطئ ..
ينبري الثالث : لن نرحلَ قبل مجيء أمي ..
يثور الثاني غضبا ، ثم يصافحُ ماءَ البحر ، ويرتفع مع موجة تعاني آلامَ المخاض ، ثم يقول بأعلى صوته كأنه يريد إيقاظ الشمس :
لن نرحلَ .. ولن تأتيَ أمُّكَ ..ولن يموتَ الشاطئ .. ولن ...
***
كان ثمة فجرٌ يلوح باسمًا .. وهمهمات كثيرة تنبعث من هنا وهناك .. وغابت النوارس في زوايا البحر ، تزمجر من هدوئه المقيت ..
سأل النورسُ الثالث أمَّه :
" من الذي يُحتمُ على البحر هدوءَه ؟؟!!
قلبَتْ شفتها ، ونهضتْ تغتسل من آثار الليلة السابقة ، فانتفض البحر مرتعشا ، وبكى .. فتجمّعَتْ دموعُه سدّا في وجه موجة معاكسة ، فاصطدمَتا ، وظل البحرُ يبكي ، فغامت السماء ، وجلجلتْ بالرعد ، فتواردت النوارس من مخابئها فرحة ، تزغرد وترقص ، وتغني أغنياتٍ حفرَتْ أخاديدَ على شفاه البحّارة ..
***
سأل النورسُ الأول :
ـ سنبقى طويلا هنا ؟؟
لم يكلفْ أحدٌ نفسَه عناءَ الردّ .. كانوا يردّدون المقطعَ الأخيرَ من أغنية شعبية :
سكابا يا دموع العين سكابا
تعيْ وحدك ولا تجيبي حدابا
وإن جيتي وجبتي حدا معاك
لأهد الدار واجعلها خرابا
انتظرَ قليلا ثم أعادَ سؤاله ، فأجابت أم النورس الثالث :
ستأتي الريح هذا اليوم .. إننا ننتظرها ، وقد وعدتني بالأمس أن تأتي قبيل الغروب ..
قال ابنها : ما شأننا بالريح مادامت رائحة البحر تزكم أنوفنا ؟؟
لم يسمع أحدٌ كلامه .. كانوا مشغولين بالنظر إلى الزاوية الغربية الشمالية ، حيث لاح لأنظارهم نورسٌ يقتربُ مسرعًا ، اختفى قليلا وراء سفينة ، ثم ظهر بعدها .. توقف قريبا من النوارس ، حملق في وجوهها ، رفرف بجناحيه دون أن يتحرك .. تهاوت الموجة تحت قدميه ، فظل معلقا .. جاءت موجة أخرى احتلتْ مكانها .. أنصتتْ النوارسُ وهي تتبادل النظرات .. ولا شيء يوحي بأن أحدًا يريد أن يتكلم ، رغم امتلاء رؤوسهم بالكثير الكثير ، غير أن النورسَ القادمَ من الزاوية الغربية الشمالية للبحر ، هَمْهَمَ ، وتجوّلتْ عيناه ، ثم قال بهدوء :
تناهى إلى أذنيّ أنكم تودّون مغادرة هذا المكان من البحر ، هل لي أن أعرف السبب ؟؟
صار العَجَبُ موجة عاتية ، أغرقت الجميعَ في حناياها ..
***
يتهامس النورسان :
ـ أكلَ الجوعُ معدتي ..
قال الثاني مشيرُا إلى البحر : أشياءُ كثيرة يمكن أن تُؤكل ..
قال الأول بقرفٍ ، وهو يلوي رقبته بعيدُا : ألا ترى أن البحرَ جيفة ضخمة ؟؟!! ثم أضاف بعد صمتٍ قصير :
انظر إلى تلك العاهرة كيف ترتمي هناك .. " ويشير إلى مكان غروب الشمس " ..
يزفر الثاني ، ويقول قبل أن يحلق : تحدثني دوما عن أمور لستُ مسؤولا عن كينونة حياتها أو مسارها ..
***
17/نيسان/1977
وجلسَتْ تغتسلُ بالرّؤى ، وتقطف الأزهار المتدلية من السماء ، تداعب بأوراقها وجوهَ البحارة ، والمجاديفَ الخشبية ، وهي تومِئ للأسماك لحضور حفل زفاف ابن سلطان البَرّ ..
" ملوحة البحر تزيلُ تهدُّلَ الوجوه .."
وتلك الخصلات تصنعُ خيامًا يبيتُ تحتها آلافٌ ممن يعشقون خضرة الليل ، ورطوبته ، وشقاءَ شجيرات الأرصفة ..
قال النورسُ الأول للثاني :
ـ استعِدَّ للرحيل ، لقد مات ـ ههنا ـ الشاطئ ..
ينبري الثالث : لن نرحلَ قبل مجيء أمي ..
يثور الثاني غضبا ، ثم يصافحُ ماءَ البحر ، ويرتفع مع موجة تعاني آلامَ المخاض ، ثم يقول بأعلى صوته كأنه يريد إيقاظ الشمس :
لن نرحلَ .. ولن تأتيَ أمُّكَ ..ولن يموتَ الشاطئ .. ولن ...
***
كان ثمة فجرٌ يلوح باسمًا .. وهمهمات كثيرة تنبعث من هنا وهناك .. وغابت النوارس في زوايا البحر ، تزمجر من هدوئه المقيت ..
سأل النورسُ الثالث أمَّه :
" من الذي يُحتمُ على البحر هدوءَه ؟؟!!
قلبَتْ شفتها ، ونهضتْ تغتسل من آثار الليلة السابقة ، فانتفض البحر مرتعشا ، وبكى .. فتجمّعَتْ دموعُه سدّا في وجه موجة معاكسة ، فاصطدمَتا ، وظل البحرُ يبكي ، فغامت السماء ، وجلجلتْ بالرعد ، فتواردت النوارس من مخابئها فرحة ، تزغرد وترقص ، وتغني أغنياتٍ حفرَتْ أخاديدَ على شفاه البحّارة ..
***
سأل النورسُ الأول :
ـ سنبقى طويلا هنا ؟؟
لم يكلفْ أحدٌ نفسَه عناءَ الردّ .. كانوا يردّدون المقطعَ الأخيرَ من أغنية شعبية :
سكابا يا دموع العين سكابا
تعيْ وحدك ولا تجيبي حدابا
وإن جيتي وجبتي حدا معاك
لأهد الدار واجعلها خرابا
انتظرَ قليلا ثم أعادَ سؤاله ، فأجابت أم النورس الثالث :
ستأتي الريح هذا اليوم .. إننا ننتظرها ، وقد وعدتني بالأمس أن تأتي قبيل الغروب ..
قال ابنها : ما شأننا بالريح مادامت رائحة البحر تزكم أنوفنا ؟؟
لم يسمع أحدٌ كلامه .. كانوا مشغولين بالنظر إلى الزاوية الغربية الشمالية ، حيث لاح لأنظارهم نورسٌ يقتربُ مسرعًا ، اختفى قليلا وراء سفينة ، ثم ظهر بعدها .. توقف قريبا من النوارس ، حملق في وجوهها ، رفرف بجناحيه دون أن يتحرك .. تهاوت الموجة تحت قدميه ، فظل معلقا .. جاءت موجة أخرى احتلتْ مكانها .. أنصتتْ النوارسُ وهي تتبادل النظرات .. ولا شيء يوحي بأن أحدًا يريد أن يتكلم ، رغم امتلاء رؤوسهم بالكثير الكثير ، غير أن النورسَ القادمَ من الزاوية الغربية الشمالية للبحر ، هَمْهَمَ ، وتجوّلتْ عيناه ، ثم قال بهدوء :
تناهى إلى أذنيّ أنكم تودّون مغادرة هذا المكان من البحر ، هل لي أن أعرف السبب ؟؟
صار العَجَبُ موجة عاتية ، أغرقت الجميعَ في حناياها ..
***
يتهامس النورسان :
ـ أكلَ الجوعُ معدتي ..
قال الثاني مشيرُا إلى البحر : أشياءُ كثيرة يمكن أن تُؤكل ..
قال الأول بقرفٍ ، وهو يلوي رقبته بعيدُا : ألا ترى أن البحرَ جيفة ضخمة ؟؟!! ثم أضاف بعد صمتٍ قصير :
انظر إلى تلك العاهرة كيف ترتمي هناك .. " ويشير إلى مكان غروب الشمس " ..
يزفر الثاني ، ويقول قبل أن يحلق : تحدثني دوما عن أمور لستُ مسؤولا عن كينونة حياتها أو مسارها ..
***
17/نيسان/1977
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق