الأحد، 4 يوليو 2010

أمْراسُ العنكبوت ـ قصة طويلة

كسحابة صيف ، مرَّ العمر ..
ملأت الأرضَ برقا ورعدًا .. شخصت الأبصارُ إليها .. ارتفعت الأكفُّ بالدُّعاء ، وتحشرجَتْ أصواتُ العوانس والأرامل ..
" أنا التي نهش الدودُ أحشائي ، فجعلني جوفاءَ كطبل زنجي .. بقيتُ هيكلا هشًّا .. اختنقتُ في الهواء المنعش ..
" أيكون ثمة ضيق طبيعي في حنجرتي ؟؟
" حولي بساتين ملأى بكل أنواع الثمار والأزاهير ، وأنا أسرابُ جرادٍ أنهَكها مدًى شاسعٌ من البوادي ..
" كنتُ فرَسًا حرونا ، تتملكني عزةُ نفس متعجرفة .. تحلق بي أجنحة الغرور .. تهوّمُ في رأسي أفكارٌ أخجلُ أنْ أفصحَ عنها الآن ..
" لِمَ الأسف ؟؟ لن يعودَ شيءٌ مما مضى ..
" كيف اجتمع النقيضان في رأسي ؟! ..
" أحببْتُ الحياة ، وكرهتُها ..
" صفعتْني الشمسُ بأشعتها ، ولم أنبهر ..
" نسجْتُ شرنقة حول جسدي الناحل ، ثم قطعتها ..
" هممْتُ أقفزُ في الفضاء ، تكللني السعادةُ ، والنشوةُ تبني في داخلي أعشاشًا وقصورًا من الحلم والزنابق ..
" فراغٌ .. صمْتٌ .. كآبةٌ .. ظلمةٌ .. وحدةٌ ..

تلتمع في الأفق بروق .. يأسرني منْ لم أستطع مقاومته .. حطم جدران الوهم ..
بادلني الحبَّ خالد ..
بوسامته .. بجرأته .. بعنفوانه وهدوئه ..
ما صدّقتُ أن ألتقيَ بمنْ يزلزلني ، ليقتلعني ويصهرني ..
غمَرَ حقولي بسنابلَ ذهبية مكتنزة .. غفرَ هفواتي .. حمّلتُه مشاقَّ ما أطلب .. لم يتوانَ .. وقف بكل إبائه أمامي ، عبدًا لإشارتي ..
حقا .. تسرَّبَتْ حرارةُ حبِّه إلى نخاعي ..
أنا جبلٌ صخريٌّ معمَّمٌ بالثلج المتجمد ، وبأشجار البلوط والبطم والسنديان ..
وهو أرضٌ سهلة خيِّرةٌ ، تعجُّ بالخصوبة والنضار ..
" صعودُه إلى قمّتي محفوفٌ بالخطر .. ونزولي إلى مروجه ، أمرٌ مستحيل ..
خلال صعوده ، تسلّحَ بصبْر النملةِ ودأبها ..
راهنْتُ على وصوله إلى القمة .. هل خسرْتُ ؟؟
بدأ الصداع يتنامى في رأسي سرطانا قاتلا .. يطرحني ساعاتٍ في شبه إغماءة .. وقفَ بصلابة .. تخرّجَ مهندسًا .. انقطعْتُ عن الدراسة .. بدأت ساعاتُ الإغماءةِ تتطاول ..
تحوَّلَ عمله إلى جبل آخر ، يحاذيني وينافسني ..
نسّقَ في تسلق الجبليْن ، لكنّ جبلا واحدًا مثلي كفيلٌ باستنزافٍ للقِوى لا يُحَدُّ ..
استقطبه العمل .. لم أعد أجدُهُ وقت صحوتي .. أشار الأطباء بمِصَحٍّ في دولة أجنبية بعدما أغرقوني بمسكناتٍ ، أفقدتْها مناعة جسمي فاعليتها ..
صار يُمنّيني بمستقبل أزهى .. كفرْتُ بالمستقبل .. أريد الحاضر ..
أحسسْتُ أنني حبيسة شرنقة فولاذية الخيوط .. انكفأتُ داخلها كضفدع باغته شتاءٌ قارسٌ .. أكلت الهواجسُ رأسي ، واشتدّت النوباتُ الهذيانية التي تفجِّرُها دموعُ أمي ، وحيرة أبي ..
أحرقتْني الغيرة في الأيام والليالي الطويلة التي يقضيها خالدٌ مسافرًا ..
اشتدَّ اعتراضي ، واشتدّتْ معه نوباتُ الغيبوبة والهذيان .. ضجرْتُ مما أنا فيه .. كنتُ أهبط بالمظلة من مجرّةٍ أخرى تجاه الأرض .. تقطعَتْ بي الحبال ، تشبثتُ بما بقي منها في يدي .. لكن السقوط المفجع كان خاتمة منطقية ..
غاب طويلا .. انتظرْتُه لأكفّرَ عن ذنوبي ، فأرسَلَ لي صورةً تضمُّهُ مع زوجةٍ شقراءَ جميلة .. حزنْتُ .. تشرنقْتُ أجترُّ البقايا .. نمتُ كأهل الكهف .. وغمرني أهلي بأكوام الأغطية لئلا تتسرَّبَ رائحة الجيفة النتنة ..
استعانوا بالأطباء والسَّحَرَة والمشعوذين والمشعوذات ..
كنتُ مجنونة تارةً ، وأخرى عاقلة ، وثالثة صماء بكماء ..
في الحركة ، تسبقني سلحفاة هرمة .. وتضيعُ في أذنيَّ معاني الكلمات بين الطنين الصاخب .. وعينايَ لا ترَيان إلا ظلالا باهتة ، وأشباحًا شفافة ..
أُهْمِلتُ بعدما يئسوا من حالي .. قلَّ عُوَّدي ، وعُزلتُ في غرفة مظلمة .. تجيءُ أمي بصحن الطعام ، وتعود به دون أن ينقص ..
لم أكن أحسّ بالديدان تقرض أمعائي ، وتفتته ..
ذابَ جسدي كشمعة في ضريح مقدس ..
أصبحْتُ هيكلا ساكنا ؟، شبه محطم ..
لم أدرِ كم هجعْتُ في الكهف !..
لكني رأيتُ بعدئذٍ ، طرقاتٍ ، وأحياءً ، وأزقةً جديدة ، وأبنية أزيلتْ وشيِّدَ على أنقاضها ..
معالمُ اندثرَتْ ، وأخرى انبثقتْ من عَدَم ..
شمخَتْ أشجار الحديقة المجاورة لبيتنا .. بلغَتْ حدودَ نافذتي ، استأنسْتُ بها .. أحسست بألمها ، وبدموعها تنسكبُ على الجذع ، حين تتغلغل سهام الريح بين الأغصان ، فتئنُّ ، وتتمايل واقفة عنيدة ..
تغيّرَتْ خرائط العالم السياسية والجغرافية بأسهل مما تغيّرتْ به أزياءُ النسوة ..
خرجتُ من كهفي الضيق .. العالمُ ، غدا كهفًا قميئًا نتنا ..
فَقَدَ الوجودُ معناه .. واستحالت الأشياءُ إلى عَدَم ، يجبُ أن تُرمى في مزابل التاريخ ..
يتحرّك الناس ، ويتناسلون كحيتان برية ضارية ..

تهْتُ في المعالم والمظاهر الجديدة التي تتزيّا بها شوارع المدينة .. ثمة شيء تغيَر .. يريكَ نفسَه رغمًا عنك ، تلهث وراء معرفته ، بعدئذ ، فتصطدم بوجوهٍ لا تعرفها .. بعيون منبهرةٍ ، تحملق فيكَ ، ثم تزوَرُّ هاربة ، توّاقة إلى جديد .. جديد ..
" هكذا خُيِّلَ إليّ .. "
فتى أحولُ ، تتأبّط ذراعَه صبية جميلة الوجه ، عرجاءُ ، ذات شعر فاحم أجعد ..
امرأة تهرولُ خلف رجل ، اعتقدْتُ أنه زوجها ..
آخر ، يحملُ صندوقا فيه زجاجات ملونة ، وفرشاة جديدة ..
صِبية يحملون أشياء صغيرة للبيع ..
شباب لا ترى عيونَهم إلا معلقة في وجه امرأة أو قفاها ..
وفتياتٌ تميسُ أجسادُهنّ ، وتضجُّ أنوثة وعنفوانا وغنجا ..
الشبق والشهوة يسيران مع الناس ، تلمحهما في العيون والوجوه المصبوغة بكل ألوان الطيف وقوس قزح ..
سياراتٌ .. مبانٍ .. حدائق .. أسواق .. أضواء .. ملاهٍ ..
لِمَ لمْ تلسعْني كلمةُ إعجابٍ ؟؟!!
لقد سمعتُ كثيرًا منها ، موجَّهًا لفتياتٍ لا يزدْنَ جمالا عني ..
تباطأتُ .. التفتُّ لعلّ أحدًا يقتفي خطايَ مغمغمًا برغبة ما ..
متى كانت العقاربُ أمينة بريئة إلى هذه الدرجة ؟؟!!
هل تخلت العقاربُ عن غريزتها ؟؟!!
استكشفْتُ وجهي عبر مرآةٍ في محل ضخم يبيع ألبسة نسائية .. ثمة تعابيرُ مُبهَمَة ، لا توحي ولا تغري ، ويصعب على القارئ تفسيرها .. أعترفُ بهذا ..
" تعبْتُ .. لِمَ السرعة ؟؟
ما يزال الوقت متسعًا كي آوي إلى الكهف الضيق .. "
كل اللواتي عرفتُهنّ ، صرْنَ زوجاتٍ وأمهاتٍ ..
كذلك تزوج أخي الأكبر ، وأختاي الصغيرتان ..
ازدادت تضاريسُ وجهِ أمي بروزًا .. شحب لونُها .. صارتْ تدبُّ كالبطة المهيضة ..
وضعُف بصرُ أبي .. بَانَ عليه ثقلُ الهمّ الذي يكابدُه من أجلي .. أمي دائمة الشكوى من قوته .. صوته لم يتغيّرْ .. تعلق بالنرجيلة أكثر ، واتسمتْ حركاته بالتأني والهدوء ..

فرحُوا ليقظتي .. عمَّتِ البيتَ حيويةٌ جديدةٌ ..
نظفتُه .. رتبته .. استقبلتُ الجيرانَ .. حدّثتهم بانطلاق ..
ترمقني النسوة بنظراتٍ لم ألهثْ وراءَ تفسير محددٍ لها .. في وجوههن غبطة حينا ، ودهشة أحيانا أخرى ..
كأنني عرفتُ أختيَّ وزوجيْهما من جديد .. كما لمحْتُ بريقَ دمع صافٍ في عينيْ أخي ، وهو يعانقني ..
جُبْنا بسيارته الحكومية شوارعَ وأحياءَ المدينة ، قديمها وحديثها .. وفي الحديقة العامة نتجوّلُ أو نتفيّأ ياسميَنها ، أو نأوي إلى المقصف .. يحكي لنا عن كل شيء ، كدليل سياحي يريدُ أن يعطيَ صورة مشرقة عن بلاده ، لضيوفٍ مُهمِّين .. ثم توّجَ لي فرحتي " بقرار " أخرجَني نهائيًا من شرنقتي ، وعيّنني موظفة في شركةٍ إنتاجيةٍ ..
أخذتُ وقتي جيدا قبل أن أباشرَ في عملي الوظيفي ..
استبدَلتُ كلَّ ثيابي القديمة .. استعنْتُ بصالونات التجميل وأدواته ، وساعدتني زوجة أخي في استعمال ما يلزم لترميم وجهٍ أنثوي ، أضَرّتْ به عواملُ ألحَتِّ ، وحفرَتْ فيه المصائبُ دروبًا وأخاديدَ واسعة ..
وقفتُ طويلا أمام المرآة ، أتأمّلُ وجهي وشعري .. أدور حول نفسي ، أرنو إلى انسدال الشعر فوق خصر تحدّدُهُ تكوّراتٌ ناعمة لدنة ، فترتسمُ على محيّايَ ملامحُ تفاؤل آنيٍّ لا تحملني على حصان أبيض موعود ..
" هل حقا سأقعدُ وراء طاولة ؟!
" سيكون معنا رجالٌ حتما .. كيف سيعاملونني ؟؟
" هل سيكون حضوري مؤثرًا فيهم ؟؟
" هل سيهتمون بي ؟؟
" هل سيتهامسون حين أمرُّ بجانبهم ؟؟
" أيمكنُ أن لا تسترقَ عيونهم نظراتٍ إليّ من كل الجهات ؟!
" أأردّ تحيتهم بمثلها ؟ أم بأحسن منها ؟؟
" أي الثياب يفضّل أولئك الخبثاء ؟؟
" لن أدَعَ لهم ثغرة ينتقدونني بها .. سأنفقُ كلَّ راتبي لأكونَ أكثر أناقة وسعادة من جميع منْ حولي ...
" سأجعلهم يلهثون خلفي ككلابٍ ضالةٍ عطشى ..
" لن أمَكنَ أحدَهم من نهشي ، قبل أن أمرّغه ..
" إن أشدّهم إخلاصًا ، أكثرُهم دناءة وغدرًا ..


غرفة المكتب فيها ثلاثة موظفين آخرين .. أوكِلَ إليَّ عملٌ إداريٌّ بسيط ..
" ألا يرون فيني الكفاءة اللازمة لتكليفي بعمل آخر ذي أهمية ؟؟!!
" لا يهمني هذا الآن .. سأثبت لهم أني أملك من القدرات فوق ما كانوا يتصورون ..
أصغرُ الموظفين الثلاثة تجاوز الأربعين .. أيامٌ قليلة مضت ، أدركتُ أنهم يعرفون كلَّ شيء عني ..
ومضى رئيسُ الشعبة للقاء وجه ربه ، بعدما فتكتْ بجسمه الأمراض ..
ظلتْ طاولته بيننا وفاءً لذكراه ، وتيمَّنَ الآخران بقدومي خيرًا ..
كنتُ قد قطعتُ أمراسَ الشرنقة ، وغادرْتُها ، وقررتُ ، بإصرار ، أنْ لا رجوع إليها أبدا ..
لم أتأثرْ بما جرى .. أحرقتُ خيوط الشرنقة بماء النار ، فذابتْ وتلاشتْ ..
صمّمْتُ أن لا أستسلمَ لنعومتها ، وألا تُقطعَ بي حبالُ المظلة ثانية .. تعلقتُ بأهداب فرح لا يعرفُ السأم .. رغبْتُ في التمتع بما لم تسلبْه سنواتُ الكهف مني ..

آنسَني العملُ .. بدّدَ وحدتي .. أحببته ..التزمْتُ بنظامه ، واستمتعتُ بكل أوقاته ..
تجوًلتُ في أقسام الشركة .. عرفتُ كثيرين من الزملاء ..
بات الماضي طيفا مُبَدَّدًا .. ذكرياتٍ مبهمة ، كأحلام الغسق المغلفة بغشاوة الحلم وشفافيته .. يولدُ فجأة ، وينطفئ كشهبٍ اضمحَلَّ على بوَابة غيمةٍ دكناء ، منتحرًا على بللوراتِ أسوارها الملونة ..
توَجَّس أهلي من انكفاءٍ أو انتكاس يحطم البقية الباقية ..
تماديْتُ .. فلم أترددْ ، ولم أتراجعْ ، ولم أحْجِمْ مرة ، بعد أن أقرّرَ الإقدامَ ..لكني لم أقدِمْ إلا بعد رَويَّةٍ وتفكير ..
ما عادتْ عظامي هشة ، ولا سهلة الكسر ..
وحياتي تخصّني وحدي .. كفاني ما تجرّعْتُ من علقمها ..
حِلكة الليالي أضاءتْ في شعري مناراتٍ وشهُبًا .. أوجدْتُ قنواتٍ ينسكبُ عبرَها دمعٌ ، يحاولُ عبثا ، أن يروَيَ خدّيْن ظامئيْن لأنفاس حَرّى ، تتهدّجُ ، لتنعشَ عروقهما الذاوية الكسيرة ..

نشيدٌ أول :
" أيها الطوفان ..
خذ لونَ دم الشرايين ..
امتزجْ به .. اندفعْ ..املأ الجوف ..
واسقِ زنبقاتٍ تحبُّ الحياة ..

عبور :

تتسلل الأماني إلى الصدر ، مع هواء الشهيق .. وتتوهّجُ في القلب شموعُ فرح طفولي .. تنامُ بين الجفنيْن رُؤًى سرابية ، تخالها أفراسَ النصر .. تمخرُ عُبابًا أو صحارى ..


قلتُ في نفسي : لا بأس .. فلأركبْ هذا القاربَ ، لعله يوصلني إلى الضفة الأخرى ..
بقيةٌ من التوجّس ، أرجعتني خطوتيْن إلى الوراء ، بعدما تقدمتُ خطوة إلى الأمام ..
يجبُ التأكدُ من سلامة المركب أولا .. لأن المسافة بين الضفتيْن أمرٌ يجبُ حسابه جيدًا .. وماءُ النهر دفّاقٌ قويٌّ .. جاءَني مندفعًا مثله .. تقرَّبَ مني .. قدّمَ نفسَه :
تزوّجَ منذ ست سنواتٍ ، ولم ينجبْ .. رفضتْ زوجتُه أن تندفنَ معه دون أولاد .. صيّرَتْ حياتَه جحيمًا ـ كما قال ـ حتى فرضتْ عليه شروطها في الخلاص منه ..
عاشَ سنتيْن ، بعدها ، وحيدًا ..
خرجْتُ معه .. جلسْنا في مقصف الحديقة .. حاولَ إدخالَ البهجة إلى قلبي .. ملأ الطاولةَ أصنافًا من الطعام .. بدَا طيِّبَ القلب .. مهذبًا ..وبانت السعادة في عينيه .. أحسسْتُ بالفرح يغمرُه حتى قمة رأسه ..
صارحني بما لديه :
هو على ثقةٍ تامة ، بأننا سنكون زوجيْن سعيديْن ، ولو لم ننجبْ .. لا يمنعُنا شيءٌ من أنْ نعيشَ كلَّ دقائق الحياة ، كما يحلو لنا .. ولتذهبْ كلُّ المُنغّصاتِ إلى جحيم ناءٍ ..
حكى ، يومَها ، عن المستقبل ، والسعادة ، ودفءِ الحب ..
قال : إن الحبَّ عظيمٌ .. ولا يتصوَّرُ حياةً لا يزيّنها حبٌّ ومحبّون ..
أنعشتْني حرارةُ كلماته .. وبريق النشوة الأخاذة يتدفق من عينيَّ .. يمتدُّ جسرًا ، أعبرُ فوقه إلى فضائه ، بعيدًا عن قسوة الكهوف وظلمتها ..

نشيدٌ ثانٍ :
" يا شمس المسا ، يا الله تغيبي ..
ويا نجوم طاب السهر ..
اليوم جايي لعنا حبيبي ..
والجفا ولّى زمانه ، وعبَر .. "

ماتَ أبي .. أنجبْتُ وَلدَيْن .. تكدّرَتْ حياتُنا ببعض الشوائب ..شكا ضِيقَ الحال .. غابَ عن البيت والعمل كثيرًا .. نسّقنا معًا حتى فاز برئاسة اللجنة النقابية في الشركة .. تحسّنتْ أحوالنا المعاشية .. لم أدر كيف انصبّت النِّعمُ علينا ، ومن أين ؟؟
جدّدْنا أثاثَ البيت كله .. واستكملنا أدواته الكهربائية وغيرها .. وصار بيتنا مقصدَ الزيارات العائلية الجماعية ..
رُزقنا ببنتٍ جميلةٍ .. اشترى لي ولها ذهبًا ، وسألني :
هل نبحثُ عن بيتٍ أوسعَ ؟؟ أم نشتري سيارة ؟؟
ـ أمعكَ ما يكفي ؟؟
ـ لابأس بالتعويضات والمهمات!!!

" أيمكن أن تكونَ التعويضاتُ والمهماتُ كبيرة إلى هذا الحد ؟؟!!
" لِمَ لا يكتنز غيرُه بمقدار ما يكتنز ، رغم وحدة المصدر والمرجع ؟؟!!
انتبهْتُ إلى العيون ترمقني بحذر وخشية .. ووخزني أحدُ العاملين : لا بدَّ أنكم عثرتم على كنز قارون !! ثم استدار خارجًا وهو يقول بخبثٍ : ربّنا لا تجعلنا من الحاسدين ..

وحين سألني المحققُ عن مصدر الرصيد المصرفي المحترم ، قلت : إنها من التعويضات والمهمات ، هكذا قال لي زوجي ..
قال : ألستما زميليْن في عملٍ واحد ؟؟ فلماذا لم تحَصّلي نفس َ المبالغ ؟؟!!
قلت : هو رئيس اللجنة النقابية ..

اعتقلوهُ على ذمة التحقيق ، مع مدير الشركة ومحاسبها ، وأمين مستودعاتها ..
كانوا شركاءَ بنسبٍ متساوية كما تبيّن ..
حُجزتْ الأموالُ والممتلكاتُ ..بِيعَ كثيرٌ منها بالمزاد العلني .. حملتُ الأولادَ والأمتعة إلى بيت والدتي .. اكتأبَتْ لأجلي .. وواساني أخي .. وعادت الرتابة لتعشش رويدُا في منعرجات رأسي وتضاريسه ..
عاد ابني الأكبر إلى المدرسة .. اصطحبْتُه لزيارة أبيه بعد أن اختفى المدى المنظور لإمكانية الإفراج عنه ..
" لم تتقدّم القضية خطوة إلى الأمام .. " هكذا قال المحامي ..
مرضتْ ابنتى الجميلة بالتيفوئيد ، ثم ماتتْ ..
اقتلعَ الحزنُ جذوري .. تجَسَّدَ فراغا سرطانيًا ، تناسلتْ في رأسي عناكبُ الماضي ، وفجائعُ الحاضر .. حفرَتْ كهوفا .. وبَنَتْ شاهقاتٍ ، حتى انحجبَت الشمسُ والضياءُ ..
تكوّرَتْ في المهجة دماملُ أسًى لا ينتهي ..
خيوط الماضي ، أمراسٌ تشدُّني إلى عبور الجسر باتجاه العودة ..
نفّذنا الطلاقَ بصمتٍ .. لم تبدُ على وجهه علائمُ تأثر ..
شدّت أمي على ساعدي ، وسار أخي بجانبي ، يترقبُ ، بحذر ، لحظةً أفقدُ فيها قواي ، أو يختلُّ توازني ..
وقعْتُ صريعة ، كسَدٍّ صَدّعَهُ ثم جرَفه طوفانٌ عاتٍ ..
أمضيْتُ شهريْن في المرض .. أثبتَ ماجدٌ أنه رجلُ البيت ..
بحثَ لنفسه عن عمل في العطلة ، فوجدَهُ عند نجار قريب .. زالتْ آثارُ النضارة المؤقتة من وجهي ، وتعمّقتْ مجاري الدمع فيه .. وترَكَ الهُزالُ آثارَهُ في جسدي ، حتى بدا ظهري محدودبًا ، وصرتُ كعودٍ أخضر ، انقطعَ عنه الماءُ في صيفٍ قائظ ..
ولداي ، الأملُ الباقي ، الذي يجب أن أعيشَ من أجله ..
منحني الدهرُ فرصتيْن :
بتصَلبي ضيّعْتُ الأولى .. وبغبائي ، ضاعت الثانية ..
تسرّبَ الماءُ من قعر الزورق دون أن أدري .. كنتُ مستمتعة بأنّ الزورقَ قويٌّ ، وقادرٌ أن يوصلني إلى الضفة الأخرى بمزيد من الراحة والهناء ..

" إنَّ الأيامَ تضحكُ لبعضنا .. وتضحكُ على بعضنا الآخر ..

نشيدٌ ثالث :
" يا عدل الرب ، حكمك ليش قاسي ..
والنوايا مش حميدة ..
بعطفك .. شيل أيام التعاسة ..
وعلينا رجّع ليالي السعيدة .."

سُجن ولداي ماجد وسعد ، فقد تشاجَرا مع راكبِ دراجةٍ صدَمَهُما ، فكسِرَتْ يدُ سعد ، واعترفَ كلٌّ منهما ، على انفرادٍ ، أنه الذي شجَّ رأسَ الرجل ، فسبَّبَ له ارتجاجًا في مخه ..
حزنتْ أمي وماتتْ ..
تركتني عزلاءَ بين المحكمة والسجن .. تسَلحْتُ بما تبقى من عزيمة وأمل ..
آنسَني محمود ، ابنُ أخي ، فسَكنَ معي .. تشرّدَتْ خطاي .. وغِبْتُ أيامًا عن العمل ..
كيف أتصرّفُ بدونهما ؟! كانا عيْنيّ وساعِدَيّ ..
تجرّعْتُ ببُعدِهِما مُرَّ الشقاء ، واستوْطنَ السُّهدُ في أجفاني ..
" عودي يا ليالي الكهف .. كم كان طعمُ النوم لذيذا ..
" ألا تغفو منْ كانت في مثل محنتي ؟؟!! أم إن طعمَ الكؤوس التي أتجَرّعُها فريدٌ ؟؟!!
" متى كان النومُ يدنو من بيتي قبل أن يأويا إليه ؟!
" أغطيهما بأهدابي ، أمسحُ بكفي قريبا من وجهيْهما ، وأتمتمُ مستعيذة بالله وملائكته ..
" لم يصدّقوا أنني يمكنُ أن أموتَ إذا تركتُ " سعدًا " وحيدًا أثناء العملية الجراحية في المستشفى الذي نُقِلَ إليه ..
" قلتُ لمدير السجن :
أدفعُ لكَ كلَّ ما أملكُ إذا سجَنتَني معهما ..
قال : لا يُسجَنُ إلا المجرمون ..
قلت : أضربُكَ ! ألا أصيرُ مجرمة بذلك ؟؟ أجبْني .. أقسمُ سأضربُك .. قلْ لي : ألا تسجنني معهما ؟؟!!

هطلَ المطرُ مبكرًا .. خرجْتُ أتسكعُ بلا هدفٍ .. جُبْتُ شوارعَ وأزقةً كثيرة .. صادفني أخي .. لم أرضخْ لتوسُّلاته ، فمضى بسيارته غاضبًا ..
السماءُ في غاية الكرَم ، كانتْ ، والليلُ في أوله ..
تسرّبت البرودة إلى عظامي .. انتشيْتُ .. عادَ إليَّ أخي ..
" ما عدْتِ صبية .. ستمرضين حتما ، وسيقصفُ الزمهريرُ ظهرَكِ ، ولن تكونَ العاقبة هيّنة ..
" هل كبرْتُ ؟؟ لا بأس .. ألم يزلْ ماجد وسعد شابيْن ؟؟
صرْتُ متحصّنة ضد المصائب والأمراض ..
فلتمطر السماء ..
فلتمطر زمهريرًا ، أمراضًا ، مصائبَ ، شرورًا ..
أمطري يا سماءُ ما شئتِ ..
استوتْ كلُّ الطعوم ..

لن أخشى أيَّ شيءٍ .. لن .... لن ....


كانون الثاني 1982

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق