الأحد، 4 يوليو 2010

ميزان الموت ـ قصة قصيرة

انتصفَ النهار .. ضبَط ساعته على ساعة باب الفرج التي ضاع رنينُ ناقوسِها في صَخبِ السيارات .. تلفتَ حوله .. نهضَ بشيءٍ من النشاط الهادئ .. هبَّتْ عاصفة مغبرّة ، امتزجَ الهواءُ برذاذها ، فتسرّبَ إلى الصدور بطمأنينة ويُسْر .. ومن خلف السياج المحيط بخرائب باب الفرج ، انتصبَ عمودٌ ترابيٌّ دوّارٌ ، حمَلَ أوراقا وأكياسًا فارغة ، وعيونا تشرئبُّ إليه ..
أنزلَ القبّعاتِ العسكرية المعلقة في عارضةٍ خشبية متآكلة فوق الدكان ، وكذلك البدلات الأجنبية المستعملة .. ثم دفع إلى الداخل خزانة زجاجية مليئة بالرتب والشارات العسكرية المزركشة البرّاقة .. نفض يديْه .. زفر .. نظر في ساعته .. تلفت كمنْ يترقبُ موعدًا هامًا .. تمشى وئيدًا .. بانَ القلقُ على وجهه .. أشعلَ لفافة ، ثم سحَبَ البابَ بعصًا طويلة ، وأوصده بقفليْن ..
عبَّ دخانَ سيجارته .. ابتعدَ خطواتٍ ، التفتَ ، رفعَ بصرَه إلى العارضة ، خفضَه إلى القفليْن ، تأكّدَ من أنه لم يُهملْ شيئًا .. تعثّرَتْ خطاه قليلا .. توّقفَ .. مرّرَ يديْه على شعره .. نفضَ ثيابَه .. لفحتْه أشعة شمس تموز .. ضيَّق عينيْه .. حدَّق في الأفق ..
" يجبُ أن أموتَ هذا اليوم " قال ذلك في نفسه ..
"سأذهبُ الآن إلى البيت .. أكتبُ وصيّتي خلف الطاولة .. أضعُها في مغلفٍ .. ألصقه جيدًا ..
سترتجفُ يدُ زوجتي المسكينة حين أسلمُه لها بعد أن أحدِّدَ على ظهره موعدَ فضِّه ..
خطا إلى اليمين باتجاه شارع التلل المزدحم .. إلى يمينه سُورٌ قرميديٌ عال ، يحجبُ أكوامًا ومخلفاتٍ ترابية ، هي البقية الباقية من معالمَ حضرية أزيلتْ " لتخلفِها " ..
وعن يساره تمرق سياراتٌ عجلى .. أمواجٌ بشرية .. رجالٌ .. نساءٌ .. أولادٌ .. باعة .. عرباتٌ ..
يعترضُه صبيٌّ في يده موازينُ برونزية صغيرة تستعْمَلُ للزينة .. يشتري واحدًا .. يمزّقُ الأوراقَ الملفوفة عليه .. يتأمّله .. يفرحُ به .. " سأضعُه على الرف الذي يعلو الطاولة " ..
يُمسكه من نقطة التوازن .. انتابته ضحكة هادئة حين وَجدَ الميزانََ ثابتًا ، لاتختلّ كفتاه ولا تتحركان ..
" يجبُ أن يكونَ الإنسانُ كهذا الميزان .. ثابتا ، قويًا ، متمكنا من قدرته على مواجهة الأثقال ، ولا ينوءُ بما يحمل " ..
شارة عبور المشاة حمراء .. توقفَ .. تابعَ في نفسه :
" لماذا لا أمشي ، فتصدمَني سيارةٌ ، فأموت ؟؟!! "
" لا ، لا "
استنكرَ الفكرة فورًا ..
" كيف أموتُ قبل أن أوصيَ ؟؟!! "
الشارة برتقالية .. فخضراء .. تتوقفُ سيولُ السياراتِ القادمة من جادة الخندق ..
تنهَّدَ .. عبَرَ منعطِفًأ نصفَ زاويةٍ قائمةٍ إلى اليمين ، مشيحًا بوجهه عن سياراتِ الشرطة الجاثمة كتماثيل بابلية ، أمام قسم شرطة النجدة ..
في بوّابة القصب ، طالعَتْهُ رطوبةُ الأزقة الضيقة المسقوفة بأقواس طويلة .. محالُّ تجارية وصناعية .. مكاتب .. بيوت عتيقة ..
منذ ثلاثين عامًا ، يَعْبرُ كلَّ يوم هذه الأزقة .. قلما تغيَّرَ فيها شيءٌ سوى الواجهاتِ وديكوراتِها ، وبعض اللافتات ..
مسحَ عرق جبينه ورقبته بمنديل حائل اللون .. أحسَّ بسعادة طفولية .. غاصَ في الماضي :
" سيجتمعُ الأولادُ بعد وصولي .. أكونُ قد كتبْتُ وصيتي .. أودّعُهم .. أعانقهم .. سيُدهشُهم قراري .. يتعلقون بي مُنتحِبين .. أرفضُ دموعَهم وتوسُّلاتِهم " ..
" سأنزعُ أغطية السرير لئلا تتلوّثَ بالموت .. ثم أتعرّى من بعض ثيابي .. أتمدّدُ .. ألقي نظرة حولي .. أبتسِمُ لها .. وحين أقرّرُ اللحظة الأخيرة ، ستكونُ عيناي مثبتتيْن على هذا الميزان الخبيث " ..
يرتطمُ بعربةٍ واقفةٍ .. يرتعدُ .. لم يأبه له صاحبُ العرَبة ، كان منشغلا بميزانه .. يقفُ قريبا .. يُحَمْلقُ في الأصابع التي تعبث في الميزان برشاقة .. تنتقلُ عيناه إلى حبَّاتِ الدّرّاق العجمي .. تقفزُ الشهوة إليها .. يتحرّكُ فكّاه .. يعبُّ شهيقا ، ويزفر ..
" أيُعيدُ التوازنَ المفقودَ بين الكفتين ، أم ؟؟ "
ينتبه البائعُ له .. نعم ؟ تريدُ شيئا ؟؟
يرتبكُ .. يحثُّ خطاه مبتعِدًا ، وملتفتا إلى الوراء بين الخطوة والأخرى ..
اجتازَ بقية الشارع إلى " الجْدَيْدَة " المكتظة بنسوة بأزياء شتى متجوّلات بين محلات الأصواف والأقمشة .. بهيئاتٍ تمازجَتْ فيها روائحُ عَرقِهنّ ، بالعطور ، برائحة الدرّاق ، بعفونة ورطوبة الأقبية والأزقة ..
في البيت .. يتجاهلُ وجهَ زوجته الكامد .. تلحقه إلى غرفته .. يطلبُ ماءً .. يشربُ .. يرجوها أن تتركه وحيدًا .. تحاولُ أنْ تُخبرَه بما لديها .. يكرّرُ رجاءَهُ .. تهتاج ، يزوَرُّ عنها .. تخرجُ .. يُقفلُ البابَ من الداخل .. يضعُ الميزانَ في المكان المُقرّر .. يبتسمُ ساخرًا منه .. يجلسُ إلى الطاولة .. صريرٌ ناعمٌ ينبعث من مفاصلها .. أمامه أوراق وقلم .. يشربُ ما تبقى ..
" كيف أبدأ ؟ .. دائمًا ، الانزلاق تمثله نقطة البداية .. زوجتي لن تتأخّرَ حياتُها بعد يومي هذا .. لن أخصَّها كثيرًا في الوصية .

وصيتي

حلب ـ في الأول من تموز 1982
" أولادي الأحبة ..
تعلمون أنني قضيتُ سنواتِ عمري بالكدّ والشقاء .. وتعلمون أنْ ليس ثمة ما يجعلني أشعرُ بقيمة حياتي سوى وجودكم ، المزيَّن بالعلم والعمل ..
ولقد أحسسْتُ منذ مدة ، بمدى العقم الذي آلتْ إليه أحوالي .. وصار مستحيلا أن أغيّرَ شيئًا فيما أرى ، ولا أدري كيف يستطيعُ الآخرون الاستمرار في حياتهم رغم قسوة ما يحدث وما نشاهد ..
هل تبلدَتْ حواسَُّهم ومشاعرُهم ؟؟
ألا يعنيهم ما يجري ؟؟
إن هذا زمان الأعاجيب ، والأمراض المزمنة ، والجرائم النكراء ..
القاذوراتُ تُحَنَّط ، والخفافيشُ تعششُ في كل مكان ..ولّى زمنُ الموت الثمين .. فمتى أموتُ إنْ لم أمت الآن ؟؟!!
أعطيْتُ كلّ ما لديّ .. أنا راض عنكم ..
بيعوا محتوياتِ الدكان ، واستعينوا بالثمن على تحسين أوضاعِكم .. لقد أبرأتُ ذمّتي تجاهَ الدولة ، وجميع الدائنين عدا زوجتي .. فأنا مَدِينٌ لها ببعض القبلات .. لا أملكُ شيئا آخر .. الموتُ أمرٌ عاديٌّ أيها الأعزاء .. والفارق كبيرٌ بين منْ يموتُ بإرادته ، وبين الآخرين ..
لا أريدُ أنْ يُفاجئني الموتُ غدرًا .. هأنذا أموتُ واقفا كشجرة حَوْر .. مُفتَح العينين كحَدأةٍ برية .. قريرًا كطفل تهدهدُهُ يدُ أمٍّ حنون ..
لا بدّ لكم من مواجهة ذلك بمزيدٍ من الأعصاب الهادئة .. وداعًا .. "
ملاحظة : اعتذِروا عن قبول التعازي .. ولا توكِلوا دفني للجهات المختصة .. واشترُوا لي قبرًا من الفئة السابعة .. وادفنوني دونَ مراسيمَ وشكلياتٍ مزيفةٍ .. ولا تلبسوا الأسْوَدَ أبدًا .. "

رمى القلمَ ، حدّقَ في السقف ، قرأ الكتابة .. لصقَ المُغَلفَ بعد أنْ وضعَ الوصية فيه .. كتبَ على الوجه :
" يُفتَحُ بعد موتي الحقيقي بمئة سنةٍ ميلادية " ..
خرجَ إلى باحة الدار .. تجوَّلَ أمام أحواض الورود المحيطة بالسياج من الداخل .. توقفَ عند ياسمينةٍ كبيرة .. استنشقَ عبيرَها الناعم .. قطفَ بعضَ الأزهار .. جاءَ صوتُ زوجته :
الأولادُ ينتظرونكَ على المائدة ..
غمغمَ في نفسه : ما فائدة طعامي الآن ؟.. سأوفر وجبة هذا اليوم .. إنها اللحظاتُ الأخيرة .."
قال لها : تغدَّوْا أنتم .. تغدّيْتُ ..
عاد إلى الغرفة .. تدخُلُ زوجته بعد أن تناولتْ لقيْماتٍ على عَجَل : ألا تريدُ أنْ تعرفَ ما جرى اليوم ؟
ـ لا أريدُ أنْ أعرفَ .. ذلك لا يُقدِّمُ ولا يُؤخر ..
ـ كيف ؟
ـ اطلبي الأولادَ ..
دخلوا تتقدّمهم الأم ..
" لا بد أنّ أمرًا كبيرًا وخطيرًا وراء هذه الدعوة .."
في عيونهم تساؤلاتٌ ، وفي صدورهم لهفة ورهبة ..
يومئ لهم بالجلوس .. يُطرقُ ، ثم تتجوَّل نظراتُه بين الوجوه الحَيْرى .. يتنحنحُ ، يحكُّ قفا رأسه ورقبته .. ينظر إلى الميزان الثابت ..
قلوبُهم متوجّسة : " لماذا يعاقبهم بهذا الصمت ؟ "
ما اعتادوا مثيلا له من قبل .. كلٌّ منهم يعتقدُ أنَّ أحدَ الآخرين قد أتى فِعْلةً أغضبَتْ والدَهم بهذا الشكل ..
" هل يكونُ الخلافُ الحادُّ مع جارتي قد وصَله من غيري ؟ "
" ما شأنُه بدعوة الأولاد إذن ؟ "
" اليوم سأودِّعُكم يا أحبَّتي " ..
جلجلت الكلماتُ في رؤوسهم انفجاراتٍ أيقظتْهم من سُباتٍ كهفيًّ .. عُقِلتْ ألسنتهم .. شُحِنت النفوس برغبةِ الكشفِ ما يجري .. كان وجهُه متهللا ، مُضاءً بالسعادة والبِشْر .. وكانت عيناه تضحكان أكثر من شفتيْه ..
حدّثهم بكلماتٍ تماثلُ مضمونَ الوصية .. أبلغَهم قرارَه النهائي :
" لقد قرّرْتُ أنْ أموتَ الآن.. "
اتسعَتِ العيونُ دهشة ، وفغرتِ الأفواه .. مضتِ الأم إلى زوجها تحملقُ في وجهه كأنها تشككُ في سلامة عقله .. أدرَكَ الرجلُ ما يدورُ في رأسها :
لقد اتخذتُ قراري بكامل قِواي العقلية ، ولن يُثنيَني عنه أيُّ شيءٍ ..
تحلقَ الأولادُ حوله ذاهلين مستفسرين عن خلفية القرار .. لم يُضِفْ جديدا ذا أهمية لما سبق ..
جرّدَ السريرَ من الأغطية .. تمدّدَ وسط الدهشة والدموع .. ألقى نظرة وداعية حوله .. ابتسم َ لهم .. ثبّت عينيْه فوق الميزان ..
أزفتْ لحظة النهاية .. اشتدَّ الطرْقُ على الباب .. أمَرَ الصغيرَ بمعرفة الطارق دون أن يَسمحَ له بالدخول ..
وقفَ الجارُ في ساحة البيتِ مُزمْجرًا ، مُعترضًا على سخافة الخلافات التي تفرِّقُ بين جيران طيبين ، معلنا أن الصلحَ يجبُ أن يتمَّ فورًا ..
انتزعَ عينيْهِ عن الميزان .. حَوْقلَ واستعاذ .. خبَّأ الأولادُ فرَحًا عظيمًا .. فساعدوا والدَهم على ارتداء ملابسه ، حتى خرجَ أمامَهم مرحِّبًا بالجار العزيز ..
تتالت الأيام .. لم يقبَلْ توسّلاتِ زوجته وأولاده .. هدّدهم بأن يموتَ خارجَ البيت إذا استمرّوا في المُعارضة العنيفة لمشيئته .. طالبوه بوعدٍ بتأجيل التنفيذ .. فلم يَقطعْه على نفسه ، بل حدّدَ موعدًا آخر لموته ..
جاء الموعدُ .. نفذ ذاتَ الطقوس السابقة ، وأضافَ كلمة إلى العبارة المكتوبة على ظهر المغلف ، فصارتْ :
" يُفتحُ بعد موتي الحقيقي بمئةٍ وخمسين سنة ميلادية .."
مُعَللا : خمسة أيام مرّت ، بخمسين سنة قادمة ..
حدّقَ في الميزان ، وهو ممدّدٌ على السرير شبه عار ..
انطلقتْ صفاراتُ الإنذار كعفاريت تزمجر دويًّا متقطعًا .. تحرّكوا بذعر .. توتّرَتْ أعصابُه ..
" هل أزِفَ موعدُ الموتُ الجماعي ؟!
" ما ذنبُ الآخرين يموتون ؟
" أريدُ الموتَ لي فقط .. أليس ذلك من حقي ؟!
" ما هذه الصعوبات كلها ؟؟
يقرفصون في القبو ، تتحرّكُ العيونُ في المَحاجر الغائرة .. تقطرُ دمعًا ، ويضحك الصغيرُ سرًّا ، إذ يُدركُ أنَّ الصفاراتِ انطلقتْ في موعدها التجريبي المعروف ..
في المرة الثالثة ، يُؤجِّلُ موتَه لاختفاء الميزان الخبيث ..
وفي الرابعة ، يجيءُ الخُطَّابُ طالبين يدَ ابنته الجميلة ..
وفي الخامسة ، يُصابُ الصغيرُ بالحمّى ..
وفي السادسة ، يُدعى الابنُ الطبيبُ لخدمة العَلم ..
يغضبُ .. يسخرُ من قراره : " تعسًا له .."
يحرقُ الوصية .. يعودُ إلى الدكان ، يتلهَّى بنفض الغبار عن القبّعاتِ والشاراتِ والرتب اللامعة .. يرمي وراء سياج الخرائبِ الحضرية ، بألبسةٍ قرَضَتْها جيوشُ الجرذان والفئران ..
استنكَرَ قراره بتحدٍّ عنيفٍ .. وقرّرَ أنْ لا يموت أبدًا ..

آب/1982

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق