الأحد، 4 يوليو 2010

نشوى ـ قصة قصيرة

لم أكنْ مُتشجّعًا للسفر لولا إلحاحُ أحمد ، ولم أكنْ راغبًا في عدم تلبية طلبه ..
دخلنا صالة المسافرين في مطار دبي .. صالاته وممراته مكتظة ، والكلُّ في عجلةٍ من أمره ..
أنهيْنا إجراءاتِ السفر ، عبَرْنا الأنفاقَ والممراتِ الطويلة إلى السوق الحرة ، تجوَّلنا ، اشتريْتُ بعضَ الحلوى ، والسجائر .. وجوهٌ مختلفة الأجناس والأعراق .. أزياء متنوعة بتنوع جنسيات الآلاف الذين يعبرون من هنا كل يوم ..
تكشِفُ الواجهة الزجاجية للمبنى عن عشرات الطائرات الضخمة ، الجاثمة وسط آليات وأشخاص يؤدون لها الخدمات اللازمة ..
لا يمكن لأحدٍ أن يَضيعَ هنا ، أو يتوهَ .. يكفيه أنْ يكونَ قارئا لإحدى اللغتين العربية أو الإنجليزية ، وستقوم اللوحاتُ بإيصاله إلى مُبتغاه ..
كانت الطائرة تنتظرُنا عند البوابة الرابعة والعشرين ،
تستحمُّ بمطر غزير ينهمرُ متمايلا وفق هبّات الهواء الشديدة ، والإنارة توحي بأن المشهدَ عبارة عن ألعابٍ مائيةٍ في فضاءٍ فسيح ..
ربطنا حزامَ الأمان ، فيما كانت المُضيفة تؤدّي الحركات الإرشادية المعتادة ..
قلت لأحمد : هل سمعْتَ عن ناجين من حوادث الطيران بسبب تنفيذهم لهذه التعليمات ؟؟
قال واجمًا : هي إجراءات قد يستفيد منها واحد بالمليون ..
صَمَتُّ .. ما به ؟؟
أقلعتِ الطائرة السورية بسلاسة .. بدَتِ المدينة تحتنا كتلة من اللهب المضيء .. تشاغلتُ بالنظر إلى الجُزر الاصطناعية في الخليج .. المنظرُ ساحرٌ ، لكن الموسيقا التصويرية المصاحبة لم تكنْ منسجمة مع روعة الصورة .. فقد تحَوّلَ بكاءُ طفل إلى زعيق ، وبدأتْ رؤوسُ الركاب تشرئبُّ نحو مصدر الصوت ..
كان أحمد إلى يساري ، وبجانبه سيدة وقورة ، استأذنتِ المضيفةَ بالذهاب لمساعدة الطفل ، ثم حملتْ محفظة يدها ومشتْ تجاهه ..
لم أتابعْ ما جرى هناك ، سألتُ أحمد : ما بك ؟
كان يسند رأسَه إلى المقعد ، يغمضُ عينيه قليلا ثم يفتحهما ، وقد غابتْ كل البهجة التي حملتني معه على ركوب الطائرة لنقضيَ إجازتنا معًا ..
لكزته : ما بكَ يا أحمد ؟؟
اعتدلَ على الكرسي بعد أن تخلصَ من حزام الأمان ، وقال :
أريدُ أن أدخن .. قلت : أهذا سببُ وُجومك ؟؟
نهض نحو مؤخرة الطائرة .. بدأ صوت بكاء الطفل يهدأ ، حتى انقطع .. عادت السيدة ، وهي ترد على شكر الركاب واستفساراتهم ..

***

تناولنا الوجبة ، والشايَ .. نقلَ أحمد عينيْه بين سقف الطائرة وبيني ، وقال : هل تعرف نشوى ؟؟
استغربتُ سؤاله ، لكني ربطته بحالة الوجوم التي انتابته فجأة ، وقلت : لا أعرفها .. منْ تكون ؟؟

***

في كلية الهندسة ، يندرُ وجودُ الطلاب في مكتبتها ، لاسيما في غير أوقات الامتحانات ..
وأمين المكتبة ، كثير الغياب ، لأنه من محافظة أخرى .. أما أبو عهد فهو مستخدم خمسيني كلفوه بالاهتمام بالأمور الإجرائية للمكتبة ، فانسحبَ ذلك أيضًا على المستخدَمة الشابة ابتسام ، التي تشاركه غرفة صغيرة ، تغطي جدرانَها الكتبُ الجديدة قيد التسجيل والتصنيف ، وثمة طاولة مُتسِخة دوما ببقايا القهوة والشاي والفول ...
ولم تكن المكتبة تعني لي شيئا ، لولا صدفة جَمعَتني بأمينها ، في مكتبِ التدريب الجامعي ..
ولقربها من القاعة التي نتلقى فيها المحاضرات ، كان الأستاذ عماد يأتي ليصطحبَني إلى مكتبه ، أو يرسل من يدعوني إليه .. نجلس ما وَسِعَنا الوقتُ ، حتى توطدت العلاقة بيننا ، وصارت المكتبة مكانا أثيرًا ، يجدُني فيه كلُّ من يبحثُ عني من الشلة .. وصار المكتب بتصرفي ..

***

لم يكن اهتمام أبو عهد بابتسام خافيًا على العاملين في الكلية ، وذلك شأنه كما يقول الأستاذ عماد ، لكنه ينتقدُ صبغَ شعره ، وتصابيَه بطريقةٍ فجّةٍ أحيانا ..
كنتُ في مكتبه أتناولُ القهوة وحيدًا ، وقد بدأ الربيعُ يتألق خضرة وأزهارًا في حدائق الكلية .. فتحتُ النافذة كي لا يتسبّبَ دخانُ سيجارتي بنوبةِ ربو في صدر ابتسام .. تسربَتْ نسماتٌ رطبة ممزوجة بالعَبق والزقزقة ..
رنَّ جرسُ الهاتف ، قال لي وليد عامل المقسم : إن وكيلَ الكلية يريدُ محادثتك ، فدعاني إليه .. كان عنده إحدى موظفات قسم الامتحانات ، خرَجَتْ ، فسألني مباشرة وبلا مقدمات عن رغبتي بالترشح لانتخابات الهيئة الإدارية لاتحاد الطلبة ، وقال بابتسامة عريضة : نريدُكَ عضوًا في مجلس الكلية ..
وهذا ما صار فعلا ..

يتمتعُ مكتبُ الهيئة بذات مواصفات مكتب الأستاذ عماد ، من حيث الإطلالة والموقع ، إلا أنه في الطابق الثاني ..
فلم يختلفْ عليَّ المنظرُ المُحيط ، سوى ببعض الارتفاع ..
ولم تغبْ عن مرمى نظري تلك الصبية التي ألمَحُ ابتسامتها جليّة ، وهي تتحرّكُ بهدوء على الشرفة المقابلة ، تقرأ ، وتدخن ، وتتناول كثيرًا من القهوة ..
تتوارى قليلا عن الشرفة ، لتعودَ وقد غيَّرتْ ملابسَها ، تتمشى قليلا ثم تأوي إلى طاولة مجاورة للنافذة .. فإذا كنتُ مشغولا عنها ، تبتعد ، حتى إذا ما وقفتُ قربَ النافذة ، تسرعُ إلى الشرفة ، وكأننا على موعد دائم ..
عندما كنت أراها من نافذة المكتبة ، لم أكترثْ ، فلعلها تقصد غيري .. لكن ، تغيرت المعطيات ، وما تزال لا تبرح مكانها ما دمتُ واقفا ..
رفعتُ لها يدي مُحَييًا ، فدخلتْ مسرعة ، وقبل أن أسيءَ الظنَّ بردِّ فِعْلها ، استدارتْ ولوَّحَتْ بيديْها الاثنتين ..
صمَتَ برهة ، وسألني : ماذا تفعلُ أنت لو كنتَ مكاني ؟؟
قلت له على الفور : أومِئ لها أن تأتيَ إليّ ..
قال بفرح : كأنك كنتَ معي ..
غابتْ داخل البيت قليلا ، وعادت إلى الشرفة تريني نفسها جاهزة للمجيء ..
كانت الساعة قرابة الثالثة عصرًا ، دخلَ الطلابُ إلى قاعاتهم ، وانصرف الموظفون ، ووقفتُ حائرًا .. كيف لها أن تعرفَ الوصولَ إلى غرفتي ؟! هل أذهبُ لاصطحابها من مدخل الكلية الوحيد وهو في الجهة المعاكسة من مكتبي ؟؟ هل تعرفني ، ولم ترني إلا عن بُعدٍ ؟؟ ماذا سأقول لها وأنا لا أعرفُ شيئا عنها ؟؟
لم أبرحْ مكاني .. وقفتُ جانب النافذة ، وتصنّعتُ أنني أتكلم بالهاتف بصوت عال ، حتى سمعْتُ نقراتٍ خفيفة على الباب ، استدرتُ وأنا أتكلم ، أومأتُ لها بالدخول والجلوس ، وبهدوءٍ أنهيتُ مكالمتي ، وجلستُ ..
التقطتُ أنفاسي وسألتها : كيف وصلتِ هنا ؟؟
قالت : وهل يجهلُ الطالب ممرات كليته ؟!
وتابعتْ ونحن نشرب القهوة ، بأنها راسبة في السنة الثانية وفق أحكام القانون الجديد ، وأنها حَضَرتْ جلسة انتخابي رئيسًا للهيئة الإدارية ، وهي تعرفني عز المعرفة ، وسالتْ دمعتان من عينيها وهي تستذكِرُ ظلمَ القانون الذي ضيّعَ عليها سنة من عمرها .. ثم مسحَتهما بعنفوان لبؤة جريحة ، وقالت : ليست ههنا نهاية العالم ..
وبالفعل يا صديقي .. لم ينتهِ العالمُ وقتذاك ..



في مجلس الكلية ، ناقشنا نتائجَ امتحانات السنة الثانية ، واستعرضْنا بعض المشكلات الإدارية التي تتعلق بقانون الامتحانات الجديد ، وكيفية تطبيقه على الطلبة الراسبين ، وعَرَضَ الوكيلُ بعضَ الأسماء الذين تضرَّروا ـ بلا قصد ـ من تطبيق أحكام القانون الجديد ، ودعا إلى تصحيح الأوضاع ، وإنصافهم ..
ذهبتُ إلى مدير شؤون الطلاب في رئاسة الجامعة ، وتدارسْنا في صيغةٍ لإيجاد حلّ ، وبدأتُ أعمل على تظهيره مع بقية الزملاء أعضاء مجالس الكليات .. وبعد أخذٍ وردّ ومراسلات مع الوزارة ومجلس التعليم العالي ، صدرت القرارات التي تسوّي أوضاعَ هؤلاء ..
وكنا أنا ونشوى سَعيديْن بما تحقق ، وقطعْنا شوطا طويلا في علاقة حبٍّ شفافٍ وصادق ، أو هكذا بدَتْ لي الأمور ، لاسيما بعد أن دعتني لزيارتهم في البيت ، وقدّمتني لأهلها ، وبدأنا نخطط لمستقبل مشترك ، وكدْنا نعلنْ خطبتنا ..

أتريدُ أن تعرفَ نشوى ؟؟
إنها أمُّ الطفل الذي كان يبكي ..
نزلنا من الطائرة ، شهق أحمد ، وعبّ كمية من الهواء بعد أن لفحتنا ـ خارج الصالة ـ نسماتٌ باردة ، ثم قال : تدبّرْ أمرَك يا صديقي ، أنا لن أعودَ على نفس الرحلة ..


14/06/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق