الأحد، 4 يوليو 2010

كُليب يُدلي باعترافاته ـ قصة قصيرة

لن تمنعَني دهشتُكم من التحدث إليكم ببعض الأمور التي أرى من المفيد إحاطتكم بها ، لاسيما أن مؤتمرَكم الموقرَ هذا ، ما يزالُ في طور انعقاده ، إضافة إلى أن المعلوماتِ المتوفرة لدي ، ستكون زادًا حقيقيًا لكم ، يُنيرُ كثيرًا من زوايا وخبايا مجهولة ، ويسيرُ بكم إلى الأمام طويلا على الطريق الصحيحة نحو مستقبل أفضل لكم كأمة لها ماضيها وتاريخها ، وذلك فيما لو أحسنتم فَهْمَ واستيعابَ ما سأرويه لكم الآن ..
كما أنني أحب أن أعْلِمَكم منذ البداية " أن شاةً مذبوحة لا يهمُّها السّلخُ " ..
فقد مضى على موتي أكثرُ من خمسة عشر قرنا ، ولم يعدْ يهمُّني تقويمُكم لكلامي وتأويلكم له ، يدفعني في ذلك ألمٌ طاغ ألمَّ بي ، وأنا الذي أرى ما أنتم فيه ، فحسمْتُ التردّدَ الذي اعتراني طويلا ، ونفضْتُ عن عظامي ترابَ القبر ، وغبارَ مئاتِ السنين ، وأتيْتُكم بأمور جَعَلتْ منا ـ نحن الأجداد الأولين ـ فتاتا على موائد سلاطين المَمَالك المجاورة آنذاك ..
لقد كنتُ محاربًا صلبًا في المعارك التي خضتُها ضد أعدائي اليمنيّين ، فحززتُ رؤوسَهم كالنعاج ، ونكـّلتُ بهم ، وفتكتُ بأبطالهم ثأرًا لما فعلوه ببني عشيرتي ..
إنه لمِنَ المُعيبِ علينا ـ نحن العرب ـ أن يمدحَ أحدُنا نفسَه ، يختلفُ عن ذلك ما يقوله الشعراءُ والرواة في البطل المقدام منا .. لكن ، لم يعدْ هذا معيبًا بعدما فنِيَ كلُّ أولئك الذين عاصروني ..
وقد بايَعَني قومي على " المُلكِ ، والتاج ، والطاعة " بعدما لمسُوا مني بأسًا ومِراسًا وفتكا رهيبًا ، في ساحات الوغى ..
يصمت .. تتلاحق أنفاسُه .. تبدو على محيّاه علاماتُ الإجهادِ .. تغور عيناه ، وتدوران في محجريْهما كسمكةٍ صغيرة في زجاجة فارغة .. يترنح ..

أخبارُ الرواة عن كليب :
قالوا : " تولّى كليبٌ زعامة مَعَدّ كلها ، ودانتْ له بالطاعة ، فأخذ شيءٌ من الزهو يُداخِلُ نفسَه ، ثم أخذ يستبدُّ به حتى انتهى به إلى أنْ بغى على قومه ، وطغى عليهم ، وتكبّرَ فيهم ، واستبدّ بهم .. وتحوّل كليبٌ إلى طاغيةٍ مستبدٍ ، يحمي مواقعَ السّحاب ، فلا يُرعَى حِمَاهُ ، ويُجيرُ على الدهر ، فلا تُخفَرُ ذِمّتُهُ .. ويقول : وحشُ أرض كذا في جِواري ، فلا يُهاج .. وصيدُ ناحية كذا في حِماي ، فلا يَصيدُ أحدٌ منه شيئا .. ولا تُوردُ إبلٌ مع إبله .. ولا توقَدُ نارٌ مع ناره .. ولا يمرّ بين يديه أحدٌ إذا جلس .. ولا يُحْتبَى أحدٌ في مجلسه غيره " انتهى .
الأغاني ـ ج 4 ـ ص :235

" ينتفض .. ينهض .. تقرقع عظامُه .. يتكلم :
ألا ترون ـ أيها السادة ـ أن قومي والرواة من بعدهم ، قد تحاملوا عليَّ كثيرًا ؟؟!!
لقد بتُّ الآن آسِفا كلَّ الأسف على طِيبِ المعاملة التي كنتُ أسوسُهم بها ..
يحتدّ ويتابع : قولوا بحق اللات والعزّى ، أي شريعة ترضى بأن يُقامَ العبدُ ابنُ العبدِ سليل العبيد ، مقامَ السيدِ ابن السيد سليل السادة ؟؟!!
انظروا كيف جعلوا الحقَّ خافتا شاحبًا باهتا مثل وجوههم ..
ثم ، ماذا يريدُ قومٌ أكثرَ من أن يكونَ سيدُهم أعزّ العرب قاطبة ؟؟ ألا يكفيهم هذا ؟؟!!
تكفهرُّ السماءُ والأرضُ ، وتدوّي في الأرجاء صيحاتُه رعدًا مجلجلا : أي قوم هؤلاء وقد باعوني بأبخس الأثمان أنا الشجاع المغوار ؟؟

أخبار الرواة بعد مقتل كليب : قالوا :
" ورُوِّعَتْ مَعَدٌّ لمَصرع كليب ، وانقسمتْ قبائلها على أنفسها ، وتفرّقتْ شِيَعًا متخاصمة بعد أن كان كليب قد وحّدَ بينها ، ولمَّ شملها ، وقضى على فرقتها ، وخشيَتْ شيبانُ مَغبَّة الأمر ، وأفزعَتْها الطعنةُ القاتلةُ التي سدّدَها فتَيَان طائشان من فِتيانها إلى سيدها وسيد مَعدٍّ كلها ، فارتحلتْ عن المنطقة التي خضّبَتْ رمالّها دماءُ كليب .. وارتفعتْ صيحاتُ الثأر على كل لسان " ..
المصدر السابق ذكره ـ ص : 239

يضطجع كليب .. يقرفص .. يهز رأسَه بأسى ، ثم يصرخ :
بناقةٍ قتلوني ، وأنا الذي ملأتُ ديارَهم نوقا وجِمالا ، وجعلتُهم أسيادَا بعد أن امتهنتْهم حوافرُ خيل اليمنيّين ..
يظهر في المكان هيكلُ رجل هرم ، أشيب ، غائر العينين ، نحيف الجسد ، يتوكأ على بقية رمح مكسور .. ترتعدُ عظامُه كلما ساقتْه خطاه إلى مقربةٍ من كليب ، بينما ابتسم هذا عن أسنان سودٍ داكنةٍ ، فبَدا وكأنه يستجمِعُ خيوط الأحداث ، ثم بدأت الكلمات تنثال من فمه وقورة هادئة ..
قال : " قـُدِّرَ لي أنْ أشهدَ الحربَ التي كنتَ أنتَ ـ أيها البطل المغدور ـ أوّلَ ضحية لها ، حيث آلّمَ زوجتَكَ ، وأقلقها أن يكونَ أخوها قاتلَ زوجها ، فوقعتْ بين ناريْن تصطلي بهما ليل نهار ، حتى إن النسوة طردْنَها ، ومَنَعْنَها من القيام بمأتمكَ ، وعَدُّوا ذلك شماتة وعارًا لا تقبلهما العربُ قاطبة ، فذهبتْ أمُّ الجَرْو إلى أهلها ، يجللها الأسى والتمزق ، وهي تنشدُ شعرًا حزينا تنفطر له القلوب " ..
يصمت الشيخ الهرم ، ثم يتنحنح ، بينما تنحدر دمعتان على وجنتيْ كليب ، حين أحسّ بحرارة ودفء جسد زوجته..
ولم يأبه الشيخ بما حوله ..
لكن سوادًا قاتمًا يتوضّعُ على عيوننا برهة ، لينجليَ وقد اختفى كليبٌ والشيخ ، وقام مقامَهما رجلٌ آخر ، في يده ورقة طويلة ، وعلى وجهه تتكدّسُ ملامحُ أعباءٍ وهموم ثقيلة ..
نظر حوله ، تنحنحَ ، انطلقَ صوته كسيرًا مُنذِرًا :

وجاء في تقرير وزعتْه وكالاتُ الأنباء العالمية عن بيانات أصدَرَها ناطقون رسميون فجرَ اليوم باسم الشقيقيْن المتحاربيْن ، أن القتال بينهما ما يزال مستمرًا بعنفٍ شديدٍ ..
واتهمَ كلٌّ من الطرفين الآخَرَ بأن القواتِ التابعة له قد هاجمتْ أهدافا عسكرية ومدنية على الحدود بينهما ، وأن القواتِ الأخرى تقوم بصدّ الاعتداء والدفاع عن النفس ، وذلك بإنزال أشدّ الضربات وأقواها على القوات المعتدية الغاشمة ..
هذا ، وما تزال قواتُ الطرفيْن الشقيقيْن المتحاربيْن ، تُنزلُ ببعضها خسائرَ جسيمة في الأرواح والمعدّات ..
ويضيف التقرير : إن مندوبَ إحدى الوكالات العالمية للأنباء قد التقى بالهاربين من مواقع الاشتباكات ، واستمع منهم إلى وصفٍ حَيّ لما تفعله القذائفُ الصاروخية والمدفعية الثقيلة ، وصواريخ جو ـ أرض ، دونما تمييز ، بهدف تدمير أكبر قسم ممكن من القوات ..
وقد أكدَ ذلك مراسلٌ آخر ، حينما لم يستطع الدخول إلى منطقة الاشتباكات ، بسبب ضراوة النيران وشدة القصف ..
وقد سبق للناطقيْن الرسمييْن باسم الشقيقيْن المتحاربيْن ، أن اتهَمَ كلٌّ منهما الطرفَ الآخرَ بالبدء في إطلاق النار بتحريض ودعم خارجي غير محدود ، وحمّلهُ مسؤولية النتائج المترتبة على ذلك أمام الأمة والتاريخ ..
وما تزالُ الأسبابُ الحقيقية مجهولة ، ولم يَفهمْ أحدٌ شيئا عن هذه الأسباب التي وصفها مصدرٌ غيرُ رسمي ، بأنها مُلفّقةٌ ، وغيرُ موضوعية ، ولا يجوز أن تسبِّبَ حربًا ضارية بين الدولتين الشقيقتين ..
تدوّي ضربة قوية على الطاولة .. ينهضُ رئيسُ المؤتمر معلنا رفعَ الجلسة إلى إشعار آخر للتداول ..
وتدور عيوننا باحثة عمَّن أتانا بهذه الأخبار .. وتدور .. وندور . وندور ..

تموز / 1977

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق