الاثنين، 5 يوليو 2010

نبليات .. حَكايَا حمدو .. 3

لم يكن السفر من الضيعة إلى حلبَ أمرًا هيّنا ، ولا مُتيسّرًا إلا لفئةٍ معينةٍ من عِلية القوم ، الذين يمتلكون بغالا أو حيوانات أخرى ، تجرُّ عرباتِهم بمَنْ عليها ..
والمسافة حوالي خمسة وعشرين كيلو مترا ، لكن قطعها في ظروف مناخية حارة أو باردة ، يجعل السفر مغامرة خطيرة ..
أما إذا أخذنا ـ بعين الاعتبار ـ توفرَ عناصر الأمان ، والسلامة من مخاطر الاعتداء أو النهب ، فإن ذلك قد يكلف المسافرَ حياته أو ماله أو عِرضه ، أو كلها معًا ، وذلك بسبب الظروف العامة السائدة :
من الاحتلال الفرنسي إلى شريعة الغاب إلى الفقر الكافر إلى موقف أهل المدينة من " الفلاحين " الوافدين إليها ، واشمئزازهم من لون الطين الأحمر الذي يلوث ثيابهم شتاء ، ويعفرهم بالتراب صيفا ..

ولأنه لا بد من التواصل مع المدينة ، بشكل أو بآخر ، ولو كانت النتائج غير سليمة تماما ، فإن الوسائل المتاحة بسيطة ، ونادرة ورغم بساطتها ..

فهناك عربات تنقل المنتجات الزراعية وشقلات الصيفي ، والتبن وغير ذلك إلى المدينة ، لتسويقها ، والعودة ببعض الحاجيات البسيطة ..
وهناك مسافرون لهم أسبابهم وخصوصيتهم الاستثنائية :
فلا بد أن يذهب الشبان إلى المدينة ليلتحقوا بأعمالهم ، المدنية أو العسكرية ..
ولا بد لتجهيز العروس ـ غالبا ـ من السفر إلى المدينة ..
ولا بد من اصطحاب المرضى للعيادات والمستشفيات ..

أما حمدو ، وزوجته كحلا ، فهما خارج كل تلك الحالات الخاصة أو الاستثنائية .. لكنه قرر أن يستجيب ـ مُكرَهًا ـ لإلحاحها ورغبتها في زيارة المدينة ، ولو لمرة واحدة في العمر ..
فقد سمعتْ كحلا كثيرًا عن المدينة التي لا غبار فيها ، ولا بقايا الزرع ، ولا الأريف ..
ويعيش السكان حياة ليس فيها فِلاحة ولا زرع ولا حَصَاد ولا رجاد ولا صيفي ولا تنانير ..
ولا تلبس المرأة مشاية ولا طربوشا ولا غطا ولا كفخا ولا أرامل .. ولا حزيم .. ولا صَف .. ولا شوكي .. ولا .. ولا ..
ويصعدون أدراجا لبيوتهم التي تعلو مئذنة الجامع ، ولها نوافذ زجاجية ، وأبواب ملونة ، وأرضها من البلاط الذي يشتهي أن ينام الإنسان فوقه مباشرة ..
وهم بسهولة يحصلون على الماء .. وبتدوير الزر ، ينتشر ضوء الكهرباء في غرفهم ..
وتتبختر السيارات على كروزات مرصوفة بحجر يتداخل فيه اللونان الأبيض والأسود ، أو شوارع جديدة يغطيها الزفت الأسود اللامع ..


أما عن أسواقها فحدّث ولا حرج .. فهي مليئة بالمتاجر المتنوعة ، والمطاعم التي تقدّم وجباتٍ شهية من الكباب الحلبي برائحته التي تشق الرأس ، واللحومات والكبب والسَّلطات ..

والحديث عن المطاعم وكبابها ، ودخان الشواء الذي يزكم الأنوف ويًُدمِعُ العينيْن هو الأهمّ عند كحلا ، لكثرة ما سمِعتْ عن نكهته اللذيذة والشهية ..
وجَرَتْ عادة الذاهبين إلى تجهيز العروس ، أن يزوروا أحدَ المطاعم لتناول وجبة من الكباب الحلبي ، قد لا يسمح الزمنُ لبعضهم ، بتكرارها .. وذلك بعد جولة طويلة متعبة في الأسواق ، لشراء الذهب وثياب العروس ، ومتطلباتها ..
وبعد الغداء " التاريخي " تذهب العروس ومرافقاتها إلى أحد حمَّامات النساء في المدينة .. وبانتهائهن من الحمَّام ، تبدأ رحلة العودة إلى الضيعة ..
وقد أصغتْ كحلا باهتمام ولهفة ، لمثل هذا الشرح المُفصَّل ، من العائدات من المدينة ، لكنها لم يَسبقْ لها أنْ رأتها ولا في المنام ، ولا حتى يوم تزوّجتْ من حمدو ، الذي نقلها من بيت أخيها إلى بيته بلا مراسم ولا احتفالات ، ولا هُمْ يحزنون .. لأن العين بصيرة و .....

لذا ، بقيت المدينة في خيال كحلا حلمًا يراودها ، ويقضّ عليها مضجَعَها الكئيب ..
فكلما حدّثتها إحداهُن ، تضيف ـ كالعادة ـ إلى الواقع تبهيرًا يجعلُ الصورة ملونة بألف لون ولون من شدة المبالغة والتهويل ، حتى بات خيالُ كحلا المحدود بعالم من الأمور البدائية جدا ، متوهجًا توهّجَ العشاق ، وشوقهم للقيا ..
قالت ، مرة ، لعمة العروس التي رافقتها في رحلة التجهيز : إنني إذا لم أرَ المدينة سأنفجر ، وأطق ..
وقد أبدتْ حسرَتها مرارًا وتكرارًا ، لكل من تروي لها حكاية سفرها إلى المدينة .. وبقيتْ أمنيتُها الوحيدة التي لا تريدُ شيئا آخرَ من الدنيا غيرَها :
أن ترى المدينة ، وأن تأكلَ في أحد مطاعمها ، سِيخًا من الكباب الحلبي ، مُبَهَّرًا ، وملفوفا برغيفٍ من الخبز الحلبي الأبيض ، مع البيواظ ، والبندورة والبصل المشويّيْن ..
وقد ضجر حمدو ، وسئم من كثرة حديثها عن تلك الأحلام والأمنيات ، لكنها ، لم تفقد الأمل أبدًا ، وظلت تُلح ، وتنقّ ، لعل وعسى أن يستجيبَ لها زوجُها العاثر ، فيحقق لها هذه الأمنية الغالية ..
وليست المسألة متعلقة بما تشتهيه كحلا من الطعام رغم أهميتها بالنسبة لجيب حمدو .. بل المشكلة تكمن في مشقة الرحلة ، ونفقاتها الهائلة التي لا تطيقها كفه ولا جيبه ..
مع كل ذلك ، وإنهاءً لحلقات مسلسل الإلحاح والنق الدائميْن ، قرّر حمدو أنْ يؤمّنَ وسيلة نقل ، ليصطحبَ كحلا إلى المدينة ، فركبتْ كحلا على الحمارة التي استعاروها من جارهم ، ومشى وراءَها ، متجهين جنوبا ، وهو مطمئن أن عليق الحمارة لن يكلفه شيئا ، فالوقت في أوائل موسم الحصاد ، وستأكل الحمارة من بقايا الزرع المحصود ، ومن قشور الجبس والبطيخ ..
وكانت كحلا قد استعدّتْ لهذه الرحلة جيدًا ، وفضّلتْ ألا تأكل أو تشربَ أيَّ شيءٍ ، كي تملأ معدَتها من الكباب الحلبي المبهّر والخبز الأبيض ..
وكانت طيلة الطريق تحث الحمارة ، وتنهرها ، وتضربها عندما تتوقف لتقضم شيئا من شرور الصيفي أو القشور أو بقايا الزرع المحصود .. فالطريقُ طويلة إلى المدينة ، ولا بد من الذهاب والعودة قبل أن ينقضيَ النهار ، وقد نطفَ قلبها قبل أن يستجيبَ حمدو لرغبتها هذه ..
أما حمدو فكان في وادٍ آخر .. إذ راح يرسم خريطة ذهنية للطرق والأسواق التي سيمرُّ عبرها موكبُ كحلا ..

ولو أنه يحبُّ الكبابَ أيضًا ، ويشتهيه .. وما يزال يتلمَّظ بطعمه ، ويتذكره كأنه بين أضراسه الآن .. وإنْ كانت الحقيقة أنه يحدّه حَدَدًا .. لكن .. من أين له تلك النفقة الباهظة ، في وقتٍ صار كل شيءٍ غاليا ، فكيف بالكباب ؟؟!!
المهم .. كحلا في شوارع المدينة .. تتلفت حولها سعيدة ، مزهوّة ، تكاد الدهشة تطيّر عقلها ، وتربط لسانَها ..
إن شوارع المدينة الشمالية أجمل بكثير مما سمعت به .. وها هي حديقة كبيرة ، ذات أشجار خضر كبيرة ، ومروج واسعة ، تحيطها الكراسي التي يجلس فوقها أناس يرتدون ألبسة لا تشبه كلَّ الملابس التي رأتْها في حياتها ..
لكن الأدهى أن بعض النسوة لا يغطين رؤوسَهن ، الأمر الذي جعلها تستنكر وتعيب وتشهق ، وتطلب من حمدو أن يكف بصرَه ، وأن يقود الحمارة خارج أسوار بيوت الناس .. معتقدة أن رأس المرأة المكشوف لا يمكن أن يكون إلا داخل سور البيت ..
ضحك حمدو من قلبه ، حين بدت كحلا مذهولة ، تستعيذ ، وتبسمل ، وتدعو على النسوة السافرات ، وتطلق عليهن أوصافها الفاجرة الفريدة ..
نهاها حمدو ، وقال : أغمضي عينيك ريثما نصل ..

وصلت القافلة إلى أطراف بستان كل آب ، فباب اجنين ، ومخازن الجملة ، وخلفها الورّاقة ، وساحات تصنيع السّحّارات وصناديق الخضراوات ، فربَط الحمارة هناك ، جانب صبّاب القهوة المرة ، واستأمنه عليها ، واستمهله قليلا من الوقت ، ومشتْ كحلا وراءه تتغندر ..
قال لها حمدو وهما يدخلان باب أنطاكية :
لا تتأخري عني .. ولا تضيّعيني في الزحام .. هنا نحن في حلب ، فاحذري وانتبهي جيدا ، ولا تختفي عني .. فإذا ضعْتِ هنا ، ستموتين قبل أن تعودي ..
دبَّ الخوف في أوصال كحلا ..

" كيف سأموتُ قبل أن أتذوق الكباب ؟؟!!
لو آكلَ الكباب حتى تؤبَّ عروقُ رقبتي ثم أموت لما تحسّرتُ على الدنيا كلها " ..

أمسكتْ بطرف ملتانه ، وهي تميل على وركيها لاهثة خلفه ، تستمهله ، فيقول دون أن يلتفت إليها :
ألم تأتِ لرؤية حلب .. يجب أن نسرعَ لتشاهديها كلها ..
كانت كحلا تخاف أن تتلفت حولها لئلا تشرد ، فتتوه ، وتضيع وهي لم تصدق أنها في المدينة .. وأنها ستأكل الكباب والخبز الأبيض بعد قليل ..
وشغّل حمدو في رأسه الكومبيوتري ، محرِّكَ البحث ، واستعان بخدمة " gps " ، وبدأت المعلومات والخرائط تقودانه وتوجهانه إلى أهم الأسواق المتفرعة من باب أنطاكية ..
فمن سوق الحدّادين إلى سوق الحِبال والخيش ، ومن سوق الصرمايات والكلاشات إلى سوق الكلس وأدوات البناء ، ومن سوق الزنابيل والقواديس إلى سوق النجارين ، ومن سوق إلى سوق ، حتى وصل به المطاف خارجًا من باب أنطاكية باتجاه الورّاقة ..
فاستمْهَلته كحلا ، لأنها ما عادت قادرة على التقاط أنفاسها .. وسألته :
أين المطعم ؟؟
قال مستهجنا : أي مطعم ؟؟
قالت لاهثة : المطعم الذي يأكلون فيه الكباب المشوي ..
سألها بخبث : هل رأيتِ مطعما في كل تلك الأسواق التي مَرَرْنا بها ؟؟
قالت : لا .. لكن أين يكون المطعم الذي حَكوا لي عنه ؟؟
هم قالوا لي : المطعم في حلب ..
سألها : ألسنا في حلب ؟؟ ألم نتجول فيها سوقا سوقا ، وحارة حارة ؟؟
قالت وقد نال منها التعبُ والجوعُ والعطشُ : هل هذه هي حلب ؟؟ كيف قالوا لي : إن فيها مطاعمَ كثيرة ، وبيّاعين يشوُون المعلاقَ والسّودا على العربات أيضا ؟؟!!
قال حمدو : إنهم يضحكون عليكِ يا هبلة ، ويكذبون .. لو كان كلامهم صحيحًا ، لرأينا ما تحدثوا لكِ عنه ..
هل رأيتِ مطعمًا في كلِّ حلبَ التي قطعْناها من أولها إلى آخرها ؟؟!!
تهاوتْ أحلام كحلا في وجبة من الكباب .. فطلبتْ من حمدو أن يأتيَها برغيفِ خبز أبيض يشبه ذلك الذي يقضمه أحد المارة .. وانتظرتْ كحلا أن ينفذ لها رغبتها ، لكن حمدو ، أسندَ ظهرَه المُتعبَ على السور الحجري العالي لباب أنطاكية ، وانزلق جالسا ، فيما كانت كحلا ما تزال واقفة ، تؤمّلُ أنْ ينهضَ حمدو ليأتيَها برغيفِ خبز أبيض ..
لكنه ، وبتؤدة ، استلَّ من عبِّه كعكة ، هي آخر ما تبقى ، كان يخبئها لأوقات الشدة .. قسَمَها نصفيْن ، ومدَّ يدَه المعروقة يناولها حصتها ..
غامتْ عينا كحلا ، فأغمضتهما أسفا ، وحزنا ، ويأسًا ، وخارتْ قواها ، فتهالكتْ جالسة إلى جانبه .. ورفضتْ يدَه الممدودة إليها بنصف الكعكة ..


الاثنين ـ 05/تموز/2010

نبليات .. الليلة عيد .. يا عيني

ليس سهلا ، أن يعيشَ الإنسانُ فقط ، ليُفلـِّيَ الزمنَ كعصفورة مَهيضة ..
ليس سهلا ، أن يجريَ وراءَ الثواني والدقائق ، يتوسّلهما سرعة المرور عبرَ أنفاق الممرِّ الإكراهي ..
ليس سهلا ، أن تمرقَ بجانبكَ لحظة هاربة من أيامِكَ الغالية ، فتهزكَ ، ثم تقتلعكَ من جذور الحاضر ، لترميَ بكَ في زنازين فؤادٍ ملتاع مكسور الخاطر ..
ليس سهلا ، أن يغزوَكَ الشيبُ ، فيُحَوّلكَ ـ بين ليلة وضحاها ـ من أغنية تحيا الأفئدةُ بسماعها ، إلى أسير مكبَّل ، يستجدي اللطفَ والعفوَ من السّجّان الرجيم ..
ليس سهلا ، أن تكونَ كلُّ ألحانكَ كالحة ، كئيبة ، خارجة إليكَ من جحور الفئران والسحالي النزقة ..
ليس سهلا ، أن تعزفَ ألحانـَكَ على أوتار المرارة والأسى المستديم ..
ليس سهلا ، أن تكونَ أعصابُكَ المتحفزة ، المشدودة ، أوتارَ الهوى الذي لا يندمل ..
ليس سهلا ، أن يكونَ ليلُ امرئ القيس ، ذرّةً في محيطات ليْلِكَ .. ونهارُه ساطعًا مشمِسًا إذا قِيسَ به نهارُكَ ..
ليس سهلا ،أن تعيشَ عُُجْمَة المتنبي العظيم في " شِعْبِ بَوَّان " معكوسة ، بداية ونهاية ..
ليس سهلا ، أن يُحسَدَ الإنسانُ على " نعمة العَمى " البهيم ..
لذاااااااااااااااااا ، رحمكَ اللهُ يا أبا العلاء ، وطيّبَ ثراك :

ماذا لقِيتُ من الدنيا ، وأعْجَبُهُ
أني ، بما أنا شاكٍ منه ، مَحسُودُ


ليس سهلا ، أن يتسرّبَ العمرُ من بين الأصابع ، ويتسللَ كسِيرًا بلا وَجَل ..
ليس سهلا ، أن ينامَ بكَ العمرُ على قارعةِ قلبٍ ، دَفنَتـْهُ الرياحُ السودُ في أحشاء كثيبٍ مُتصلـِّب ..

ليس سهلا ، أن تكونَ إنسانا أولا ، وطبيعيا ثانيا ، إذا كان :

رأسُك بلا مخّ ، وعظامُك بلا نخاع ، وقلبُك بلا دم ، وعيناك بلا بصيرة ، ولسانك بلا لسان ، وأنفك بلا هواء ، وكفاك بلا أصابع ، وذراعاك بلا عضلات ، وساقاكَ بلا قدميْن ......... وإلخ ... إلخ

ليس سهلا ، أن تعيشَ حياتكَ ، وأنتَ تتنفسُ غيرَ الهواء الذي تنفّسْتهُ هناااااااك ، لحظة الولادة ..
ليس سهلا ، ألا تأكلَ من سنبلاتِ أرضِك ،الطيبةِ ، الحنون ، الطريّةِ ، التي انجَبَلتْ ـ على مرّ العصور ـ بدمع ودماءِ آبائِكَ وأجدادِكَ وإخوتِكَ وأخواتِكَ ..
ليس سهلا ، أن تفقدَ من بين ضلوعكَ الشهقةَ الأولى ، واللهفةَ الأولى ، والخلجةَ الأولى ..
ليس سهلا ، أن تزوغَ من باصرتيْكَ ، فرحةٌ بريئةٌ طاهرةٌ ، دثروكَ بها تحت القنداق ، يوم كانت كفاك مُطبِقتيْن على أحلام الدنيا الآتية ، فشدّو عليهما القِماط لئلا تطيرَ مع أسرابِ السنونو والحمام البري ، والجقيّاتِ السارحاتِ في السدّ تتلقط رزقها ، قبل أن يَصيدَها فخُّ فتىً مراهقٍ يعشقُ الصيدَ والطراد ..
ليس سهلا ، أن تُحْرَمَ إليتاكَ ،من دفْءِ الترابِ الأحمر المُسَخّن على كانون اللذة ، وأثفية البراءة ..
ليس سهلا ، أن لا تتمشى ، مُتقافزًا بكل الاحترام والأناة والحب ، بين القبور ، بعد صلاة العيديْن ، لتتفقدَ أحبةً ينتظرون عودَتك بفارغ الصبر ..
ليس سهلا ، أن لا تُشَنَّفَ أذناكَ ، إلا بأصواتِ النعيق الأجربِ ، الممزوجَةِ بالفخر المُدَّّعَى ، والمجدِ المزعوم ، والعِزّةِ الجوفاء ، والإيمان المشلول ..
ليس سهلا ، أن تأويَ إلى سرير الوهم القاتل ، ووسادةِ الضنى ، ولحافِ الكوابيس ، وعتمةِ القلق ، والهَجْعَة تحت سقفِ الأماني الخادعةِ الكاذبةِ ..

يا أيها العُمرُ البريءُ إلا من دمي ..
يا سُوَيْداءَ القلبِ المسحور ..
إنه الترحالُ القذرُ ..
إنه الترحالُ الملعونُ ..
إنه ترَقـُّبٌ لا شاطئَ له ..


الاثنين ـ 05/ تموز ـ يوليو /2010

الأحد، 4 يوليو 2010

نشوى ـ قصة قصيرة

لم أكنْ مُتشجّعًا للسفر لولا إلحاحُ أحمد ، ولم أكنْ راغبًا في عدم تلبية طلبه ..
دخلنا صالة المسافرين في مطار دبي .. صالاته وممراته مكتظة ، والكلُّ في عجلةٍ من أمره ..
أنهيْنا إجراءاتِ السفر ، عبَرْنا الأنفاقَ والممراتِ الطويلة إلى السوق الحرة ، تجوَّلنا ، اشتريْتُ بعضَ الحلوى ، والسجائر .. وجوهٌ مختلفة الأجناس والأعراق .. أزياء متنوعة بتنوع جنسيات الآلاف الذين يعبرون من هنا كل يوم ..
تكشِفُ الواجهة الزجاجية للمبنى عن عشرات الطائرات الضخمة ، الجاثمة وسط آليات وأشخاص يؤدون لها الخدمات اللازمة ..
لا يمكن لأحدٍ أن يَضيعَ هنا ، أو يتوهَ .. يكفيه أنْ يكونَ قارئا لإحدى اللغتين العربية أو الإنجليزية ، وستقوم اللوحاتُ بإيصاله إلى مُبتغاه ..
كانت الطائرة تنتظرُنا عند البوابة الرابعة والعشرين ،
تستحمُّ بمطر غزير ينهمرُ متمايلا وفق هبّات الهواء الشديدة ، والإنارة توحي بأن المشهدَ عبارة عن ألعابٍ مائيةٍ في فضاءٍ فسيح ..
ربطنا حزامَ الأمان ، فيما كانت المُضيفة تؤدّي الحركات الإرشادية المعتادة ..
قلت لأحمد : هل سمعْتَ عن ناجين من حوادث الطيران بسبب تنفيذهم لهذه التعليمات ؟؟
قال واجمًا : هي إجراءات قد يستفيد منها واحد بالمليون ..
صَمَتُّ .. ما به ؟؟
أقلعتِ الطائرة السورية بسلاسة .. بدَتِ المدينة تحتنا كتلة من اللهب المضيء .. تشاغلتُ بالنظر إلى الجُزر الاصطناعية في الخليج .. المنظرُ ساحرٌ ، لكن الموسيقا التصويرية المصاحبة لم تكنْ منسجمة مع روعة الصورة .. فقد تحَوّلَ بكاءُ طفل إلى زعيق ، وبدأتْ رؤوسُ الركاب تشرئبُّ نحو مصدر الصوت ..
كان أحمد إلى يساري ، وبجانبه سيدة وقورة ، استأذنتِ المضيفةَ بالذهاب لمساعدة الطفل ، ثم حملتْ محفظة يدها ومشتْ تجاهه ..
لم أتابعْ ما جرى هناك ، سألتُ أحمد : ما بك ؟
كان يسند رأسَه إلى المقعد ، يغمضُ عينيه قليلا ثم يفتحهما ، وقد غابتْ كل البهجة التي حملتني معه على ركوب الطائرة لنقضيَ إجازتنا معًا ..
لكزته : ما بكَ يا أحمد ؟؟
اعتدلَ على الكرسي بعد أن تخلصَ من حزام الأمان ، وقال :
أريدُ أن أدخن .. قلت : أهذا سببُ وُجومك ؟؟
نهض نحو مؤخرة الطائرة .. بدأ صوت بكاء الطفل يهدأ ، حتى انقطع .. عادت السيدة ، وهي ترد على شكر الركاب واستفساراتهم ..

***

تناولنا الوجبة ، والشايَ .. نقلَ أحمد عينيْه بين سقف الطائرة وبيني ، وقال : هل تعرف نشوى ؟؟
استغربتُ سؤاله ، لكني ربطته بحالة الوجوم التي انتابته فجأة ، وقلت : لا أعرفها .. منْ تكون ؟؟

***

في كلية الهندسة ، يندرُ وجودُ الطلاب في مكتبتها ، لاسيما في غير أوقات الامتحانات ..
وأمين المكتبة ، كثير الغياب ، لأنه من محافظة أخرى .. أما أبو عهد فهو مستخدم خمسيني كلفوه بالاهتمام بالأمور الإجرائية للمكتبة ، فانسحبَ ذلك أيضًا على المستخدَمة الشابة ابتسام ، التي تشاركه غرفة صغيرة ، تغطي جدرانَها الكتبُ الجديدة قيد التسجيل والتصنيف ، وثمة طاولة مُتسِخة دوما ببقايا القهوة والشاي والفول ...
ولم تكن المكتبة تعني لي شيئا ، لولا صدفة جَمعَتني بأمينها ، في مكتبِ التدريب الجامعي ..
ولقربها من القاعة التي نتلقى فيها المحاضرات ، كان الأستاذ عماد يأتي ليصطحبَني إلى مكتبه ، أو يرسل من يدعوني إليه .. نجلس ما وَسِعَنا الوقتُ ، حتى توطدت العلاقة بيننا ، وصارت المكتبة مكانا أثيرًا ، يجدُني فيه كلُّ من يبحثُ عني من الشلة .. وصار المكتب بتصرفي ..

***

لم يكن اهتمام أبو عهد بابتسام خافيًا على العاملين في الكلية ، وذلك شأنه كما يقول الأستاذ عماد ، لكنه ينتقدُ صبغَ شعره ، وتصابيَه بطريقةٍ فجّةٍ أحيانا ..
كنتُ في مكتبه أتناولُ القهوة وحيدًا ، وقد بدأ الربيعُ يتألق خضرة وأزهارًا في حدائق الكلية .. فتحتُ النافذة كي لا يتسبّبَ دخانُ سيجارتي بنوبةِ ربو في صدر ابتسام .. تسربَتْ نسماتٌ رطبة ممزوجة بالعَبق والزقزقة ..
رنَّ جرسُ الهاتف ، قال لي وليد عامل المقسم : إن وكيلَ الكلية يريدُ محادثتك ، فدعاني إليه .. كان عنده إحدى موظفات قسم الامتحانات ، خرَجَتْ ، فسألني مباشرة وبلا مقدمات عن رغبتي بالترشح لانتخابات الهيئة الإدارية لاتحاد الطلبة ، وقال بابتسامة عريضة : نريدُكَ عضوًا في مجلس الكلية ..
وهذا ما صار فعلا ..

يتمتعُ مكتبُ الهيئة بذات مواصفات مكتب الأستاذ عماد ، من حيث الإطلالة والموقع ، إلا أنه في الطابق الثاني ..
فلم يختلفْ عليَّ المنظرُ المُحيط ، سوى ببعض الارتفاع ..
ولم تغبْ عن مرمى نظري تلك الصبية التي ألمَحُ ابتسامتها جليّة ، وهي تتحرّكُ بهدوء على الشرفة المقابلة ، تقرأ ، وتدخن ، وتتناول كثيرًا من القهوة ..
تتوارى قليلا عن الشرفة ، لتعودَ وقد غيَّرتْ ملابسَها ، تتمشى قليلا ثم تأوي إلى طاولة مجاورة للنافذة .. فإذا كنتُ مشغولا عنها ، تبتعد ، حتى إذا ما وقفتُ قربَ النافذة ، تسرعُ إلى الشرفة ، وكأننا على موعد دائم ..
عندما كنت أراها من نافذة المكتبة ، لم أكترثْ ، فلعلها تقصد غيري .. لكن ، تغيرت المعطيات ، وما تزال لا تبرح مكانها ما دمتُ واقفا ..
رفعتُ لها يدي مُحَييًا ، فدخلتْ مسرعة ، وقبل أن أسيءَ الظنَّ بردِّ فِعْلها ، استدارتْ ولوَّحَتْ بيديْها الاثنتين ..
صمَتَ برهة ، وسألني : ماذا تفعلُ أنت لو كنتَ مكاني ؟؟
قلت له على الفور : أومِئ لها أن تأتيَ إليّ ..
قال بفرح : كأنك كنتَ معي ..
غابتْ داخل البيت قليلا ، وعادت إلى الشرفة تريني نفسها جاهزة للمجيء ..
كانت الساعة قرابة الثالثة عصرًا ، دخلَ الطلابُ إلى قاعاتهم ، وانصرف الموظفون ، ووقفتُ حائرًا .. كيف لها أن تعرفَ الوصولَ إلى غرفتي ؟! هل أذهبُ لاصطحابها من مدخل الكلية الوحيد وهو في الجهة المعاكسة من مكتبي ؟؟ هل تعرفني ، ولم ترني إلا عن بُعدٍ ؟؟ ماذا سأقول لها وأنا لا أعرفُ شيئا عنها ؟؟
لم أبرحْ مكاني .. وقفتُ جانب النافذة ، وتصنّعتُ أنني أتكلم بالهاتف بصوت عال ، حتى سمعْتُ نقراتٍ خفيفة على الباب ، استدرتُ وأنا أتكلم ، أومأتُ لها بالدخول والجلوس ، وبهدوءٍ أنهيتُ مكالمتي ، وجلستُ ..
التقطتُ أنفاسي وسألتها : كيف وصلتِ هنا ؟؟
قالت : وهل يجهلُ الطالب ممرات كليته ؟!
وتابعتْ ونحن نشرب القهوة ، بأنها راسبة في السنة الثانية وفق أحكام القانون الجديد ، وأنها حَضَرتْ جلسة انتخابي رئيسًا للهيئة الإدارية ، وهي تعرفني عز المعرفة ، وسالتْ دمعتان من عينيها وهي تستذكِرُ ظلمَ القانون الذي ضيّعَ عليها سنة من عمرها .. ثم مسحَتهما بعنفوان لبؤة جريحة ، وقالت : ليست ههنا نهاية العالم ..
وبالفعل يا صديقي .. لم ينتهِ العالمُ وقتذاك ..



في مجلس الكلية ، ناقشنا نتائجَ امتحانات السنة الثانية ، واستعرضْنا بعض المشكلات الإدارية التي تتعلق بقانون الامتحانات الجديد ، وكيفية تطبيقه على الطلبة الراسبين ، وعَرَضَ الوكيلُ بعضَ الأسماء الذين تضرَّروا ـ بلا قصد ـ من تطبيق أحكام القانون الجديد ، ودعا إلى تصحيح الأوضاع ، وإنصافهم ..
ذهبتُ إلى مدير شؤون الطلاب في رئاسة الجامعة ، وتدارسْنا في صيغةٍ لإيجاد حلّ ، وبدأتُ أعمل على تظهيره مع بقية الزملاء أعضاء مجالس الكليات .. وبعد أخذٍ وردّ ومراسلات مع الوزارة ومجلس التعليم العالي ، صدرت القرارات التي تسوّي أوضاعَ هؤلاء ..
وكنا أنا ونشوى سَعيديْن بما تحقق ، وقطعْنا شوطا طويلا في علاقة حبٍّ شفافٍ وصادق ، أو هكذا بدَتْ لي الأمور ، لاسيما بعد أن دعتني لزيارتهم في البيت ، وقدّمتني لأهلها ، وبدأنا نخطط لمستقبل مشترك ، وكدْنا نعلنْ خطبتنا ..

أتريدُ أن تعرفَ نشوى ؟؟
إنها أمُّ الطفل الذي كان يبكي ..
نزلنا من الطائرة ، شهق أحمد ، وعبّ كمية من الهواء بعد أن لفحتنا ـ خارج الصالة ـ نسماتٌ باردة ، ثم قال : تدبّرْ أمرَك يا صديقي ، أنا لن أعودَ على نفس الرحلة ..


14/06/2010

ميزان الموت ـ قصة قصيرة

انتصفَ النهار .. ضبَط ساعته على ساعة باب الفرج التي ضاع رنينُ ناقوسِها في صَخبِ السيارات .. تلفتَ حوله .. نهضَ بشيءٍ من النشاط الهادئ .. هبَّتْ عاصفة مغبرّة ، امتزجَ الهواءُ برذاذها ، فتسرّبَ إلى الصدور بطمأنينة ويُسْر .. ومن خلف السياج المحيط بخرائب باب الفرج ، انتصبَ عمودٌ ترابيٌّ دوّارٌ ، حمَلَ أوراقا وأكياسًا فارغة ، وعيونا تشرئبُّ إليه ..
أنزلَ القبّعاتِ العسكرية المعلقة في عارضةٍ خشبية متآكلة فوق الدكان ، وكذلك البدلات الأجنبية المستعملة .. ثم دفع إلى الداخل خزانة زجاجية مليئة بالرتب والشارات العسكرية المزركشة البرّاقة .. نفض يديْه .. زفر .. نظر في ساعته .. تلفت كمنْ يترقبُ موعدًا هامًا .. تمشى وئيدًا .. بانَ القلقُ على وجهه .. أشعلَ لفافة ، ثم سحَبَ البابَ بعصًا طويلة ، وأوصده بقفليْن ..
عبَّ دخانَ سيجارته .. ابتعدَ خطواتٍ ، التفتَ ، رفعَ بصرَه إلى العارضة ، خفضَه إلى القفليْن ، تأكّدَ من أنه لم يُهملْ شيئًا .. تعثّرَتْ خطاه قليلا .. توّقفَ .. مرّرَ يديْه على شعره .. نفضَ ثيابَه .. لفحتْه أشعة شمس تموز .. ضيَّق عينيْه .. حدَّق في الأفق ..
" يجبُ أن أموتَ هذا اليوم " قال ذلك في نفسه ..
"سأذهبُ الآن إلى البيت .. أكتبُ وصيّتي خلف الطاولة .. أضعُها في مغلفٍ .. ألصقه جيدًا ..
سترتجفُ يدُ زوجتي المسكينة حين أسلمُه لها بعد أن أحدِّدَ على ظهره موعدَ فضِّه ..
خطا إلى اليمين باتجاه شارع التلل المزدحم .. إلى يمينه سُورٌ قرميديٌ عال ، يحجبُ أكوامًا ومخلفاتٍ ترابية ، هي البقية الباقية من معالمَ حضرية أزيلتْ " لتخلفِها " ..
وعن يساره تمرق سياراتٌ عجلى .. أمواجٌ بشرية .. رجالٌ .. نساءٌ .. أولادٌ .. باعة .. عرباتٌ ..
يعترضُه صبيٌّ في يده موازينُ برونزية صغيرة تستعْمَلُ للزينة .. يشتري واحدًا .. يمزّقُ الأوراقَ الملفوفة عليه .. يتأمّله .. يفرحُ به .. " سأضعُه على الرف الذي يعلو الطاولة " ..
يُمسكه من نقطة التوازن .. انتابته ضحكة هادئة حين وَجدَ الميزانََ ثابتًا ، لاتختلّ كفتاه ولا تتحركان ..
" يجبُ أن يكونَ الإنسانُ كهذا الميزان .. ثابتا ، قويًا ، متمكنا من قدرته على مواجهة الأثقال ، ولا ينوءُ بما يحمل " ..
شارة عبور المشاة حمراء .. توقفَ .. تابعَ في نفسه :
" لماذا لا أمشي ، فتصدمَني سيارةٌ ، فأموت ؟؟!! "
" لا ، لا "
استنكرَ الفكرة فورًا ..
" كيف أموتُ قبل أن أوصيَ ؟؟!! "
الشارة برتقالية .. فخضراء .. تتوقفُ سيولُ السياراتِ القادمة من جادة الخندق ..
تنهَّدَ .. عبَرَ منعطِفًأ نصفَ زاويةٍ قائمةٍ إلى اليمين ، مشيحًا بوجهه عن سياراتِ الشرطة الجاثمة كتماثيل بابلية ، أمام قسم شرطة النجدة ..
في بوّابة القصب ، طالعَتْهُ رطوبةُ الأزقة الضيقة المسقوفة بأقواس طويلة .. محالُّ تجارية وصناعية .. مكاتب .. بيوت عتيقة ..
منذ ثلاثين عامًا ، يَعْبرُ كلَّ يوم هذه الأزقة .. قلما تغيَّرَ فيها شيءٌ سوى الواجهاتِ وديكوراتِها ، وبعض اللافتات ..
مسحَ عرق جبينه ورقبته بمنديل حائل اللون .. أحسَّ بسعادة طفولية .. غاصَ في الماضي :
" سيجتمعُ الأولادُ بعد وصولي .. أكونُ قد كتبْتُ وصيتي .. أودّعُهم .. أعانقهم .. سيُدهشُهم قراري .. يتعلقون بي مُنتحِبين .. أرفضُ دموعَهم وتوسُّلاتِهم " ..
" سأنزعُ أغطية السرير لئلا تتلوّثَ بالموت .. ثم أتعرّى من بعض ثيابي .. أتمدّدُ .. ألقي نظرة حولي .. أبتسِمُ لها .. وحين أقرّرُ اللحظة الأخيرة ، ستكونُ عيناي مثبتتيْن على هذا الميزان الخبيث " ..
يرتطمُ بعربةٍ واقفةٍ .. يرتعدُ .. لم يأبه له صاحبُ العرَبة ، كان منشغلا بميزانه .. يقفُ قريبا .. يُحَمْلقُ في الأصابع التي تعبث في الميزان برشاقة .. تنتقلُ عيناه إلى حبَّاتِ الدّرّاق العجمي .. تقفزُ الشهوة إليها .. يتحرّكُ فكّاه .. يعبُّ شهيقا ، ويزفر ..
" أيُعيدُ التوازنَ المفقودَ بين الكفتين ، أم ؟؟ "
ينتبه البائعُ له .. نعم ؟ تريدُ شيئا ؟؟
يرتبكُ .. يحثُّ خطاه مبتعِدًا ، وملتفتا إلى الوراء بين الخطوة والأخرى ..
اجتازَ بقية الشارع إلى " الجْدَيْدَة " المكتظة بنسوة بأزياء شتى متجوّلات بين محلات الأصواف والأقمشة .. بهيئاتٍ تمازجَتْ فيها روائحُ عَرقِهنّ ، بالعطور ، برائحة الدرّاق ، بعفونة ورطوبة الأقبية والأزقة ..
في البيت .. يتجاهلُ وجهَ زوجته الكامد .. تلحقه إلى غرفته .. يطلبُ ماءً .. يشربُ .. يرجوها أن تتركه وحيدًا .. تحاولُ أنْ تُخبرَه بما لديها .. يكرّرُ رجاءَهُ .. تهتاج ، يزوَرُّ عنها .. تخرجُ .. يُقفلُ البابَ من الداخل .. يضعُ الميزانَ في المكان المُقرّر .. يبتسمُ ساخرًا منه .. يجلسُ إلى الطاولة .. صريرٌ ناعمٌ ينبعث من مفاصلها .. أمامه أوراق وقلم .. يشربُ ما تبقى ..
" كيف أبدأ ؟ .. دائمًا ، الانزلاق تمثله نقطة البداية .. زوجتي لن تتأخّرَ حياتُها بعد يومي هذا .. لن أخصَّها كثيرًا في الوصية .

وصيتي

حلب ـ في الأول من تموز 1982
" أولادي الأحبة ..
تعلمون أنني قضيتُ سنواتِ عمري بالكدّ والشقاء .. وتعلمون أنْ ليس ثمة ما يجعلني أشعرُ بقيمة حياتي سوى وجودكم ، المزيَّن بالعلم والعمل ..
ولقد أحسسْتُ منذ مدة ، بمدى العقم الذي آلتْ إليه أحوالي .. وصار مستحيلا أن أغيّرَ شيئًا فيما أرى ، ولا أدري كيف يستطيعُ الآخرون الاستمرار في حياتهم رغم قسوة ما يحدث وما نشاهد ..
هل تبلدَتْ حواسَُّهم ومشاعرُهم ؟؟
ألا يعنيهم ما يجري ؟؟
إن هذا زمان الأعاجيب ، والأمراض المزمنة ، والجرائم النكراء ..
القاذوراتُ تُحَنَّط ، والخفافيشُ تعششُ في كل مكان ..ولّى زمنُ الموت الثمين .. فمتى أموتُ إنْ لم أمت الآن ؟؟!!
أعطيْتُ كلّ ما لديّ .. أنا راض عنكم ..
بيعوا محتوياتِ الدكان ، واستعينوا بالثمن على تحسين أوضاعِكم .. لقد أبرأتُ ذمّتي تجاهَ الدولة ، وجميع الدائنين عدا زوجتي .. فأنا مَدِينٌ لها ببعض القبلات .. لا أملكُ شيئا آخر .. الموتُ أمرٌ عاديٌّ أيها الأعزاء .. والفارق كبيرٌ بين منْ يموتُ بإرادته ، وبين الآخرين ..
لا أريدُ أنْ يُفاجئني الموتُ غدرًا .. هأنذا أموتُ واقفا كشجرة حَوْر .. مُفتَح العينين كحَدأةٍ برية .. قريرًا كطفل تهدهدُهُ يدُ أمٍّ حنون ..
لا بدّ لكم من مواجهة ذلك بمزيدٍ من الأعصاب الهادئة .. وداعًا .. "
ملاحظة : اعتذِروا عن قبول التعازي .. ولا توكِلوا دفني للجهات المختصة .. واشترُوا لي قبرًا من الفئة السابعة .. وادفنوني دونَ مراسيمَ وشكلياتٍ مزيفةٍ .. ولا تلبسوا الأسْوَدَ أبدًا .. "

رمى القلمَ ، حدّقَ في السقف ، قرأ الكتابة .. لصقَ المُغَلفَ بعد أنْ وضعَ الوصية فيه .. كتبَ على الوجه :
" يُفتَحُ بعد موتي الحقيقي بمئة سنةٍ ميلادية " ..
خرجَ إلى باحة الدار .. تجوَّلَ أمام أحواض الورود المحيطة بالسياج من الداخل .. توقفَ عند ياسمينةٍ كبيرة .. استنشقَ عبيرَها الناعم .. قطفَ بعضَ الأزهار .. جاءَ صوتُ زوجته :
الأولادُ ينتظرونكَ على المائدة ..
غمغمَ في نفسه : ما فائدة طعامي الآن ؟.. سأوفر وجبة هذا اليوم .. إنها اللحظاتُ الأخيرة .."
قال لها : تغدَّوْا أنتم .. تغدّيْتُ ..
عاد إلى الغرفة .. تدخُلُ زوجته بعد أن تناولتْ لقيْماتٍ على عَجَل : ألا تريدُ أنْ تعرفَ ما جرى اليوم ؟
ـ لا أريدُ أنْ أعرفَ .. ذلك لا يُقدِّمُ ولا يُؤخر ..
ـ كيف ؟
ـ اطلبي الأولادَ ..
دخلوا تتقدّمهم الأم ..
" لا بد أنّ أمرًا كبيرًا وخطيرًا وراء هذه الدعوة .."
في عيونهم تساؤلاتٌ ، وفي صدورهم لهفة ورهبة ..
يومئ لهم بالجلوس .. يُطرقُ ، ثم تتجوَّل نظراتُه بين الوجوه الحَيْرى .. يتنحنحُ ، يحكُّ قفا رأسه ورقبته .. ينظر إلى الميزان الثابت ..
قلوبُهم متوجّسة : " لماذا يعاقبهم بهذا الصمت ؟ "
ما اعتادوا مثيلا له من قبل .. كلٌّ منهم يعتقدُ أنَّ أحدَ الآخرين قد أتى فِعْلةً أغضبَتْ والدَهم بهذا الشكل ..
" هل يكونُ الخلافُ الحادُّ مع جارتي قد وصَله من غيري ؟ "
" ما شأنُه بدعوة الأولاد إذن ؟ "
" اليوم سأودِّعُكم يا أحبَّتي " ..
جلجلت الكلماتُ في رؤوسهم انفجاراتٍ أيقظتْهم من سُباتٍ كهفيًّ .. عُقِلتْ ألسنتهم .. شُحِنت النفوس برغبةِ الكشفِ ما يجري .. كان وجهُه متهللا ، مُضاءً بالسعادة والبِشْر .. وكانت عيناه تضحكان أكثر من شفتيْه ..
حدّثهم بكلماتٍ تماثلُ مضمونَ الوصية .. أبلغَهم قرارَه النهائي :
" لقد قرّرْتُ أنْ أموتَ الآن.. "
اتسعَتِ العيونُ دهشة ، وفغرتِ الأفواه .. مضتِ الأم إلى زوجها تحملقُ في وجهه كأنها تشككُ في سلامة عقله .. أدرَكَ الرجلُ ما يدورُ في رأسها :
لقد اتخذتُ قراري بكامل قِواي العقلية ، ولن يُثنيَني عنه أيُّ شيءٍ ..
تحلقَ الأولادُ حوله ذاهلين مستفسرين عن خلفية القرار .. لم يُضِفْ جديدا ذا أهمية لما سبق ..
جرّدَ السريرَ من الأغطية .. تمدّدَ وسط الدهشة والدموع .. ألقى نظرة وداعية حوله .. ابتسم َ لهم .. ثبّت عينيْه فوق الميزان ..
أزفتْ لحظة النهاية .. اشتدَّ الطرْقُ على الباب .. أمَرَ الصغيرَ بمعرفة الطارق دون أن يَسمحَ له بالدخول ..
وقفَ الجارُ في ساحة البيتِ مُزمْجرًا ، مُعترضًا على سخافة الخلافات التي تفرِّقُ بين جيران طيبين ، معلنا أن الصلحَ يجبُ أن يتمَّ فورًا ..
انتزعَ عينيْهِ عن الميزان .. حَوْقلَ واستعاذ .. خبَّأ الأولادُ فرَحًا عظيمًا .. فساعدوا والدَهم على ارتداء ملابسه ، حتى خرجَ أمامَهم مرحِّبًا بالجار العزيز ..
تتالت الأيام .. لم يقبَلْ توسّلاتِ زوجته وأولاده .. هدّدهم بأن يموتَ خارجَ البيت إذا استمرّوا في المُعارضة العنيفة لمشيئته .. طالبوه بوعدٍ بتأجيل التنفيذ .. فلم يَقطعْه على نفسه ، بل حدّدَ موعدًا آخر لموته ..
جاء الموعدُ .. نفذ ذاتَ الطقوس السابقة ، وأضافَ كلمة إلى العبارة المكتوبة على ظهر المغلف ، فصارتْ :
" يُفتحُ بعد موتي الحقيقي بمئةٍ وخمسين سنة ميلادية .."
مُعَللا : خمسة أيام مرّت ، بخمسين سنة قادمة ..
حدّقَ في الميزان ، وهو ممدّدٌ على السرير شبه عار ..
انطلقتْ صفاراتُ الإنذار كعفاريت تزمجر دويًّا متقطعًا .. تحرّكوا بذعر .. توتّرَتْ أعصابُه ..
" هل أزِفَ موعدُ الموتُ الجماعي ؟!
" ما ذنبُ الآخرين يموتون ؟
" أريدُ الموتَ لي فقط .. أليس ذلك من حقي ؟!
" ما هذه الصعوبات كلها ؟؟
يقرفصون في القبو ، تتحرّكُ العيونُ في المَحاجر الغائرة .. تقطرُ دمعًا ، ويضحك الصغيرُ سرًّا ، إذ يُدركُ أنَّ الصفاراتِ انطلقتْ في موعدها التجريبي المعروف ..
في المرة الثالثة ، يُؤجِّلُ موتَه لاختفاء الميزان الخبيث ..
وفي الرابعة ، يجيءُ الخُطَّابُ طالبين يدَ ابنته الجميلة ..
وفي الخامسة ، يُصابُ الصغيرُ بالحمّى ..
وفي السادسة ، يُدعى الابنُ الطبيبُ لخدمة العَلم ..
يغضبُ .. يسخرُ من قراره : " تعسًا له .."
يحرقُ الوصية .. يعودُ إلى الدكان ، يتلهَّى بنفض الغبار عن القبّعاتِ والشاراتِ والرتب اللامعة .. يرمي وراء سياج الخرائبِ الحضرية ، بألبسةٍ قرَضَتْها جيوشُ الجرذان والفئران ..
استنكَرَ قراره بتحدٍّ عنيفٍ .. وقرّرَ أنْ لا يموت أبدًا ..

آب/1982

ليل ونهار ـ قصة قصيرة

أحيانا ، يمتطي الصمتُ جوادًا سريعًا ، يُسابق فيه المدى ، ويتستّرُ خلف ليل حالك ، حيث القمرُ في ملكوتٍ بعيدٍ ، والوجودُ كخيالٍ واهٍ ، أو كحلم طفولي ..
يسيرُ الحُبُّ في الشوارع الضيقة التي توصِلُ إلى بحور من الدم ، يغرق الناسُ فيها بلا حساب ..
تصيرُ القطط كالثعابين الهَرمَة ..
معظم الأشياء في سكون قاتل .. أزيزٌ حادٌّ مجهولُ المصدر ، يصمُّ الآذانَ .. بعضٌ من طيور الليل تتطاير ، والهواءُ مكبّلٌ بسلاسلَ ضخمةٍ صلبةٍ ..
في ذلك اليوم ، كان ثمة شيءٌ غريبٌ يعتمل في صدر طاهر ، يريد أن يبوحَ به إلى أي مخلوق .. لكن أمورًا كثيرة تحُولُ دون ذلك ..أولها : سمْعَتها ..
إنه لا يدري لماذا يريد مخالفة الوعد ، لكنه أصرَّ على تنفيذه بالرغم من همساتٍ عديدة ْسمعها ، كانت تدور حولها ، ويخشى سوءَ العاقبة ..
لم يتناولْ طعامَ العشاء مع أهله في البيت .. التجأ إلى زاوية منه ، منزويًا على غير عادته .. جاءَه أخوه الصغير ، ابتسم ببراءة ، واقتربَ منه ، فأبعَدَهُ ، وأشاحَ عنه بوجهٍ جافٍّ ، ونظرةٍ قاسيةٍ ..

خرجَ من البيت ، فتحَ صدرَه لنسماتٍ لطيفةٍ ، سار ببطءٍ إلى هدفٍ لا يعرفه .. داسَ عقبَ السيجارة ، وجلس بعيدًا ، يرقب بيتا في زقاق معتم وضيّق ، ينتظرُ إشارة البداية التي تتحرَّكُ بعدها السواكنُ ، وتهيجُ العواطفُ والعواصفُ ..
في عينيه قلقٌ حائرٌ ، وفي صدره مَللٌ وضجَرٌ يزيدانه حيرة وتعاسة .. لاحَ ضوءٌ قريبٌ منه .. إنه سامي بالتأكيد ..يتحرك الضوءُ دائريًا .. ينبطحُ طاهر أرضًا ، وينعطف سامي وهو يطفئ الضوءَ ويشعله ..
غمغم طاهر: هيا .. أم حمدان بانتظارك أيها البغل ..
وندّتْ عنه آهة حزينة .. لقد ملَّ الانتظار ..
صوتُ حفيفِ العيدان المتخلفة عن الحَصَاد ، انبعثَ مُجَدِّدًا لأملٍ طالَ انتظارُه ..
ـ ما تزالُ الدنيا بخير .. قال ذلك ، دون أن يُحَوّل عينيْه عن الشارع إلا حينما ينظر في ساعته .. لقد اقتربتْ من الحادية عشرة .. إلى متى ؟؟ مضتْ ساعة على الموعد ، ما الذي جرى ؟؟ تنهّدَ .. رفعَ رأسَه إلى السماء :
يا إلهي .. لماذا قرنْتَ الحبَّ بالعذاب ؟؟!!
ملأ قبضته ترابًا .. ذراها مع نسَماتِ الليل .. التمَعَ عودُ الثقاب .. تلمْلمَ مسرعًا على رؤوس أصابع قدميه .. تباطأ .. تسمَّرَ في مكانه .. سطعَ الضوءُ في وجهه .. تابعَ بتمهل ، وعلى بُعْدِ خطواتٍ ، نادى بصوتٍ مُحشرَج : سامي ؟؟!!
لم يجبْ .. نادى ثانية : سامي ..
قهقه ، وقال : يا ابن الأكتع .. ما الذي جاء بك ؟؟
ارتبك طاهر ، ثم قال وهما يتصافحان : أبحثُ عن خروفٍ ضاع من أبي مساء ..
ضحك سامي ساخرًا : وجدْتَه ؟؟!!
بدا سامي شبحًا مخيفا ، ضخم الجثة ، كبير الرأس ، يسحبُ خطاه بتثاقل ، ويقول : عُدْ معي نُكمل السهرة ..
قال طاهر وهما يتباعدان : لا أستطيع الآن .. سآتي بعد العثور على الخروف ..
توارى في الليل ، حتى سمع سامي يقفل باب البيت .. بدأتْ تتسارعُ خفقاتُ قلبه كلما اقتربَ من باب بيتها .. نقرَ بإصبعه ثلاثَ نقراتٍ متتاليةٍ ، علامة وصوله ، أغلق خوخة الباب وراءه .. خطا إلى اليمين وسط الصمت والعتمة ، وحسب الاتفاق ، يجب أن تلتقي الأيدي أولا .. حرَّك ذراعيْه في الهواء ، وسّعَ دائرة البحث ، بدأ يرتجفُ .. لا قيمة للعينيْن في ظلمة كهذه .. دارتْ في رأسه آلافُ الوساوس والهواجس المرعبة .. إذن حانت الفضيحة والنهاية معا ..
تمالكَ أعصابَه .. تجلـَّدَ .. هزئ من نفسه : ليكنْ .. فالموتُ من أجل حليمة ، أفضل من الحياة بدونها ..
ما زالت ذراعاه ممتدتيْن ، وهو يدورُ حول نفسه .. أين أنتِ يا حليمة ؟؟
دارَ .. تخبّط .. لعنَ الظلامَ الذي طالما اختبأ بين جوانحه .. أحسّ بالخيبة والفجيعة قبل أن تلتقط أذناه ضحكة فشلتْ حليمة في كبتها ..
بلهفةٍ مرتعشةٍ همس : أين أنتِ حليمة ؟؟
ينسى العَطاشى أن ماءَ البحر يزيد في ظمَئهم ..
أبعدته عنها بعدما هدأتْ أنفاسهما : لماذا تأخرْتَ ؟؟
قال بحدةٍ تعشقها : لهذا اختبأتِ عني ؟؟!! ثم خيّم الصمت كما العتمة ، وغابا فيهما ..


28/10/1974

لا بأس .. فليتحرك الخيط ـ قصة قصيرة

1 ـ
في أحلام اليقظة ـ التي تنتابُني عادة ـ أتجاوزُ نفسي ، وأذهبُ بها إلى عوالمَ وتهويماتٍ لا حدودَ لها ..
أجدُ المفقودَ الذي أفنيتُ عمري في البحث عنه .. أمرِّرُ يدي فوق شعر فتاتي التي طالما حلمْتُ بها .. أصيرُ أحدَ عظماءِ العصر .. تُنفّذُ كلمتي قبيل ابتعادها عن شفتيْ ..

ذات مرة ، جلسْتُ منزويًا في ركن غرفتي أرقبُ خيطا من العنكبوت يتدلى بدلالٍ من سقفِ الغرفة ، ويتأرجحُ في كل الاتجاهات ..
كانت سهامُ أنظاري تتجه إليه ، وكنتُ حقا أراه ، لكني مع ذلك ، أرى عالمًا آخر .. فيه رجالٌ ونساءٌ .. خيولٌ .. فِيلة .. نَعامٌ .. وأشياء أخرى كثيرة .. تهتز الصورة في عينيَّ مع اهتزاز خيط العنكبوت الذي لم أرَ منه إلا النصف السفلي ..
في الصورة ، امرأة تنظر إلى وجه شاب قصير القامة ، أسمر البشرة ، كثّ الشعر ، أجعده ، في أنفه احديدابٌ شديدٌ كقوس النبْل ، يبادلها نظراتٍ لم أدر كنهَهَا .. أبتسِمُ حين يبتسمان ، وأكفهرُّ لعبوسهما ..
الخيولُ تعربد في كل الاتجاهات ، والفيلة ترقصُ على إيقاع إفريقي صاخبٍ متواتر .. ترتجُّ الأرضُ تحتي .. وتنقلبُ صورة الأشياء رأسًا على عقب .. تدفن النعامُ رؤوسَها في الرمل .. قلة منها ترى وتسمع ما يجري ..
دموعٌ غزيرة تنهمرُ من عينيْن حمراويْن لامرأة لا تتوقف عن العويل .. وضحكٌ هستيريٌ ينطلق من فم شاب يؤدي حركاتٍ بهلوانية بخفةٍ ورشاقةٍ ..
فجأة ، يلوذان بالصمت ، ثم تدوّي ضحكة المرأة كالرعد ، ويبكي الشاب بكل الحرقة والألم ..
الخيط ما يزال يهتز .. الخيول تعربد .. الفيلة ترقص .. رؤوس النعام بين السماء والأرض ..
تختفي الضحكة والدمعة .. يتبادلان نظراتٍ مبهمة .. يدنوان من بعضهما .. يتقابلان .. يتوقف الجميع عن الحركة .. تسكنُ الأرضُ وتهدأ .. لكن النعامَ تحاولُ أن تدفنَ رؤوسَها عميقا ..
ثقلَ رأسي بين كتفيْ ، وناءَتا بحمله .. حاولتُ أن أغمضَ عينيَّ فلم تستجبْ أجفاني .. تسارَعَ اهتزاز الخيط .. تغيَّرَ المشهدُ أمامي .. أرى مزيجًا من الصور المُبهمة .. حملقتُ .. لا شيءَ واضحٌ أبدًا .. دُقَّ بابُ غرفتي .. تجاهلته .. ازدادَ الصوتُ إلحاحًا .. عيناي على الخيط .. دارَ .. توقّفَ .. انقلبَ المشهدُ وتغيرت الصورة .. غابة كثيفة تنتشرُ القرودُ فوق أغصانها .. ومزيجٌ من أصوات طيور وحيواناتٍ أليفةٍ أخذ طريقه إلى مسمعي .. أومأتُ للشجرة بإصبعي ، فامتثلتْ والتصقتْ بزميلتها .. استمتعتُ بتحريك الأشجار ولصقِها ، حتى غدت الغابة شجرة واحدة هائلة الحجم والانتشار .. كان ثمة أشياء تتساقط من الشجرة العظيمة ، لم أستطعْ تمييزَها لضبابية الرؤية ..
تشاءمْتُ ، اعترتني قشعريرة لاذعة انمغصَتْ لها معدتي بقوة ، فتكوّمْتُ فوق السرير متجنبًا النظر إلى الخيط ، لكنه تبعني ، وكأنه أدركَ سوءَ حالتي ، فغيّرَ المشهدَ من جديد ..
أناسٌ يتزاحمون .. يتدافعون .. يتصادمون ، فيتساقط بعضهم ، ويُداسون ، وكأن شيئا لم يكن ..
تمرُّ الصورة كشريطٍ سينمائي ملوّن ، يبرز وجهٌ من الزحام ، يتطاولُ ، يصدمُه المارّة فيرتدّون عنه كمن يصطدمُ بجدار .. يرمقونه برعبٍ ويًطأطئون ويتابعون .. تحْمَرُّ وجنتاه بوضوح ، وتلسعني حرارة دمه ..
التقتْ عيونُنا .. ابتسمَ .. ابتسمْتُ .. تكلمَ وتكلمَ ، لكني لم أسمعْ .. عندها لوّح لي ، واستدارَ .. رفعْتُ يدي ملوِّحًا ، فصَدَمَتِ الخيط .. وتغيّرَ المشهد ..
غضبْتُ .. استندْتُ إلى الوراء .. كدْتُ أقتلعُ الخيط من جذوره ، لكني أحْجمْتُ في اللحظة الأخيرة ، مُعَللا نفسي بما أريدُ أن أراه عند اللزوم ..

2 ـ
قلتُ : ما دمنا نسير جميعًا في اتجاهٍ واحدٍ ، فلا بد أن نصلَ إلى هدفٍ واحدٍ أيضا ..
قال : الاتجاهُ واحدٌ ، لكن الطرقَ مختلفة ..
قلت : وما المانع ؟؟
ـ هذا يعني أن كلا منا سيرى الهدفَ من زاويةٍ بعينها ..
ـ وهل بتغيّر الزاوية ، يتغيّرُ الهدفُ ؟!
ـ ليس بالضرورة ذلك ..
ـ ما دام الأمر سَيؤول في النهاية إلى نفس المصير ، فما ضرَّنا أنّا نسِيرُ في اتجاهٍ واحدٍ ؟؟
ـ في الزحام تضيعُ المَعَالمُ ..
ـ المعالمُ ضمن عالم شمولي تتأكد أكثر فأكثر ..
ـ هذا صحيح ، إذا كان الأمرُ يخصّ كلَّ الطرق ..
ـ لنبدأ بالطريق الذي نحن فيه ..
ـ أظنُّ الفشلَ حليفنا ..
ـ ظنّكَ في مهبِّ ريح شمالية ..
ـ وصلنا إلى نقطة عقيمة ..
ـ أرى الخِصْبَ مفقودًا لديك ..
هزّ برأسه وجفنيه .. وغاب بعيدا عني ..

3 ـ
قال الأول : منْ يدري أي الفصول أسبق ظهورًا ؟؟
قال الثاني بسرعة : إنه الشتاء حتما ..
قال الثالث : بل الخريف الذي تتعرّى فيه الأشجارُ ، وتبدو الأشياءُ على حقيقتها .. عندئذٍ .. يأتي الشتاءُ بعطائه وخيْره ، فتزهر الأرضُ بما عليها في الربيع ..
قال الرابع : أخطأتما السبيل .. فلولا ثمارُ الصيف ، ما حصَلنا على بذرة الشتاء ..
قال آخر : الربيع وما أدراك ما الربيع أيها القوم .. فلولاه لغرقت الأرضُ ، وتعفنتْ جذورُ الشجر ، وضاعت المعالم ، وتغيَّرَ وجهُ الكون ..
قلت : كفُّوا عن الجدال .. تعالوْا نتفقْ على تطابق الاسم والمسمّى ..

4 ـ
خيط العنكبوت سريعُ الاهتزاز ، والصورُ تتلاحق بسرعة جنونية فوقه .. الشوارعُ مزدحمة ، وطفلي يردّدُ نشيدًا سمعتُه للتوّ من حمامةٍ مزركشةٍ بألوان الطيف ، حوّمتْ فوق المنزل ، وهي تمَوْسِقه بعذوبةٍ وحنان ..
وما زلنا نسيرُ جميعًا في طرق متعددة ، ونستمعُ لهارمونية سيمفونية ، تعلو وتنخفض ، ثم تعلو لتنخفض وتعلو من جديد ، تبعا للمؤثرات الخارجية والجانبية ..

لماذا لا نجعل الشتاءَ أبًا ، والربيعَ أمًّا ، والصيفَ أخًا ، والخريفَ أختًا ؟؟
عندئذ ، قد تنتهي مهزلة أزلية عمرُها آلاف السنين ..


03/نيسان/1975

كُليب يُدلي باعترافاته ـ قصة قصيرة

لن تمنعَني دهشتُكم من التحدث إليكم ببعض الأمور التي أرى من المفيد إحاطتكم بها ، لاسيما أن مؤتمرَكم الموقرَ هذا ، ما يزالُ في طور انعقاده ، إضافة إلى أن المعلوماتِ المتوفرة لدي ، ستكون زادًا حقيقيًا لكم ، يُنيرُ كثيرًا من زوايا وخبايا مجهولة ، ويسيرُ بكم إلى الأمام طويلا على الطريق الصحيحة نحو مستقبل أفضل لكم كأمة لها ماضيها وتاريخها ، وذلك فيما لو أحسنتم فَهْمَ واستيعابَ ما سأرويه لكم الآن ..
كما أنني أحب أن أعْلِمَكم منذ البداية " أن شاةً مذبوحة لا يهمُّها السّلخُ " ..
فقد مضى على موتي أكثرُ من خمسة عشر قرنا ، ولم يعدْ يهمُّني تقويمُكم لكلامي وتأويلكم له ، يدفعني في ذلك ألمٌ طاغ ألمَّ بي ، وأنا الذي أرى ما أنتم فيه ، فحسمْتُ التردّدَ الذي اعتراني طويلا ، ونفضْتُ عن عظامي ترابَ القبر ، وغبارَ مئاتِ السنين ، وأتيْتُكم بأمور جَعَلتْ منا ـ نحن الأجداد الأولين ـ فتاتا على موائد سلاطين المَمَالك المجاورة آنذاك ..
لقد كنتُ محاربًا صلبًا في المعارك التي خضتُها ضد أعدائي اليمنيّين ، فحززتُ رؤوسَهم كالنعاج ، ونكـّلتُ بهم ، وفتكتُ بأبطالهم ثأرًا لما فعلوه ببني عشيرتي ..
إنه لمِنَ المُعيبِ علينا ـ نحن العرب ـ أن يمدحَ أحدُنا نفسَه ، يختلفُ عن ذلك ما يقوله الشعراءُ والرواة في البطل المقدام منا .. لكن ، لم يعدْ هذا معيبًا بعدما فنِيَ كلُّ أولئك الذين عاصروني ..
وقد بايَعَني قومي على " المُلكِ ، والتاج ، والطاعة " بعدما لمسُوا مني بأسًا ومِراسًا وفتكا رهيبًا ، في ساحات الوغى ..
يصمت .. تتلاحق أنفاسُه .. تبدو على محيّاه علاماتُ الإجهادِ .. تغور عيناه ، وتدوران في محجريْهما كسمكةٍ صغيرة في زجاجة فارغة .. يترنح ..

أخبارُ الرواة عن كليب :
قالوا : " تولّى كليبٌ زعامة مَعَدّ كلها ، ودانتْ له بالطاعة ، فأخذ شيءٌ من الزهو يُداخِلُ نفسَه ، ثم أخذ يستبدُّ به حتى انتهى به إلى أنْ بغى على قومه ، وطغى عليهم ، وتكبّرَ فيهم ، واستبدّ بهم .. وتحوّل كليبٌ إلى طاغيةٍ مستبدٍ ، يحمي مواقعَ السّحاب ، فلا يُرعَى حِمَاهُ ، ويُجيرُ على الدهر ، فلا تُخفَرُ ذِمّتُهُ .. ويقول : وحشُ أرض كذا في جِواري ، فلا يُهاج .. وصيدُ ناحية كذا في حِماي ، فلا يَصيدُ أحدٌ منه شيئا .. ولا تُوردُ إبلٌ مع إبله .. ولا توقَدُ نارٌ مع ناره .. ولا يمرّ بين يديه أحدٌ إذا جلس .. ولا يُحْتبَى أحدٌ في مجلسه غيره " انتهى .
الأغاني ـ ج 4 ـ ص :235

" ينتفض .. ينهض .. تقرقع عظامُه .. يتكلم :
ألا ترون ـ أيها السادة ـ أن قومي والرواة من بعدهم ، قد تحاملوا عليَّ كثيرًا ؟؟!!
لقد بتُّ الآن آسِفا كلَّ الأسف على طِيبِ المعاملة التي كنتُ أسوسُهم بها ..
يحتدّ ويتابع : قولوا بحق اللات والعزّى ، أي شريعة ترضى بأن يُقامَ العبدُ ابنُ العبدِ سليل العبيد ، مقامَ السيدِ ابن السيد سليل السادة ؟؟!!
انظروا كيف جعلوا الحقَّ خافتا شاحبًا باهتا مثل وجوههم ..
ثم ، ماذا يريدُ قومٌ أكثرَ من أن يكونَ سيدُهم أعزّ العرب قاطبة ؟؟ ألا يكفيهم هذا ؟؟!!
تكفهرُّ السماءُ والأرضُ ، وتدوّي في الأرجاء صيحاتُه رعدًا مجلجلا : أي قوم هؤلاء وقد باعوني بأبخس الأثمان أنا الشجاع المغوار ؟؟

أخبار الرواة بعد مقتل كليب : قالوا :
" ورُوِّعَتْ مَعَدٌّ لمَصرع كليب ، وانقسمتْ قبائلها على أنفسها ، وتفرّقتْ شِيَعًا متخاصمة بعد أن كان كليب قد وحّدَ بينها ، ولمَّ شملها ، وقضى على فرقتها ، وخشيَتْ شيبانُ مَغبَّة الأمر ، وأفزعَتْها الطعنةُ القاتلةُ التي سدّدَها فتَيَان طائشان من فِتيانها إلى سيدها وسيد مَعدٍّ كلها ، فارتحلتْ عن المنطقة التي خضّبَتْ رمالّها دماءُ كليب .. وارتفعتْ صيحاتُ الثأر على كل لسان " ..
المصدر السابق ذكره ـ ص : 239

يضطجع كليب .. يقرفص .. يهز رأسَه بأسى ، ثم يصرخ :
بناقةٍ قتلوني ، وأنا الذي ملأتُ ديارَهم نوقا وجِمالا ، وجعلتُهم أسيادَا بعد أن امتهنتْهم حوافرُ خيل اليمنيّين ..
يظهر في المكان هيكلُ رجل هرم ، أشيب ، غائر العينين ، نحيف الجسد ، يتوكأ على بقية رمح مكسور .. ترتعدُ عظامُه كلما ساقتْه خطاه إلى مقربةٍ من كليب ، بينما ابتسم هذا عن أسنان سودٍ داكنةٍ ، فبَدا وكأنه يستجمِعُ خيوط الأحداث ، ثم بدأت الكلمات تنثال من فمه وقورة هادئة ..
قال : " قـُدِّرَ لي أنْ أشهدَ الحربَ التي كنتَ أنتَ ـ أيها البطل المغدور ـ أوّلَ ضحية لها ، حيث آلّمَ زوجتَكَ ، وأقلقها أن يكونَ أخوها قاتلَ زوجها ، فوقعتْ بين ناريْن تصطلي بهما ليل نهار ، حتى إن النسوة طردْنَها ، ومَنَعْنَها من القيام بمأتمكَ ، وعَدُّوا ذلك شماتة وعارًا لا تقبلهما العربُ قاطبة ، فذهبتْ أمُّ الجَرْو إلى أهلها ، يجللها الأسى والتمزق ، وهي تنشدُ شعرًا حزينا تنفطر له القلوب " ..
يصمت الشيخ الهرم ، ثم يتنحنح ، بينما تنحدر دمعتان على وجنتيْ كليب ، حين أحسّ بحرارة ودفء جسد زوجته..
ولم يأبه الشيخ بما حوله ..
لكن سوادًا قاتمًا يتوضّعُ على عيوننا برهة ، لينجليَ وقد اختفى كليبٌ والشيخ ، وقام مقامَهما رجلٌ آخر ، في يده ورقة طويلة ، وعلى وجهه تتكدّسُ ملامحُ أعباءٍ وهموم ثقيلة ..
نظر حوله ، تنحنحَ ، انطلقَ صوته كسيرًا مُنذِرًا :

وجاء في تقرير وزعتْه وكالاتُ الأنباء العالمية عن بيانات أصدَرَها ناطقون رسميون فجرَ اليوم باسم الشقيقيْن المتحاربيْن ، أن القتال بينهما ما يزال مستمرًا بعنفٍ شديدٍ ..
واتهمَ كلٌّ من الطرفين الآخَرَ بأن القواتِ التابعة له قد هاجمتْ أهدافا عسكرية ومدنية على الحدود بينهما ، وأن القواتِ الأخرى تقوم بصدّ الاعتداء والدفاع عن النفس ، وذلك بإنزال أشدّ الضربات وأقواها على القوات المعتدية الغاشمة ..
هذا ، وما تزال قواتُ الطرفيْن الشقيقيْن المتحاربيْن ، تُنزلُ ببعضها خسائرَ جسيمة في الأرواح والمعدّات ..
ويضيف التقرير : إن مندوبَ إحدى الوكالات العالمية للأنباء قد التقى بالهاربين من مواقع الاشتباكات ، واستمع منهم إلى وصفٍ حَيّ لما تفعله القذائفُ الصاروخية والمدفعية الثقيلة ، وصواريخ جو ـ أرض ، دونما تمييز ، بهدف تدمير أكبر قسم ممكن من القوات ..
وقد أكدَ ذلك مراسلٌ آخر ، حينما لم يستطع الدخول إلى منطقة الاشتباكات ، بسبب ضراوة النيران وشدة القصف ..
وقد سبق للناطقيْن الرسمييْن باسم الشقيقيْن المتحاربيْن ، أن اتهَمَ كلٌّ منهما الطرفَ الآخرَ بالبدء في إطلاق النار بتحريض ودعم خارجي غير محدود ، وحمّلهُ مسؤولية النتائج المترتبة على ذلك أمام الأمة والتاريخ ..
وما تزالُ الأسبابُ الحقيقية مجهولة ، ولم يَفهمْ أحدٌ شيئا عن هذه الأسباب التي وصفها مصدرٌ غيرُ رسمي ، بأنها مُلفّقةٌ ، وغيرُ موضوعية ، ولا يجوز أن تسبِّبَ حربًا ضارية بين الدولتين الشقيقتين ..
تدوّي ضربة قوية على الطاولة .. ينهضُ رئيسُ المؤتمر معلنا رفعَ الجلسة إلى إشعار آخر للتداول ..
وتدور عيوننا باحثة عمَّن أتانا بهذه الأخبار .. وتدور .. وندور . وندور ..

تموز / 1977

قصة قصيرة جدا

قال العصفور لأمه : أنا لا أحب الطيران ، ولا أريد أن أطير بعد اليوم ..
قالت الأم : كيف ستأكل وتشرب؟
قال : ألا تريدين مساعدتي؟
قالت : ولكني قد لا أستطيع أن أجلب لك الماء..
قال: لا أريد ماء ..
قالت : لن تعيش بدونه ..
ظلت الأم تأتي لعصفورها الوحيد بالطعام والشراب أياما ، وحين اصطادها طير جارح ، انتظرها طويلا ..
فلما تأخرت ، وكاد يموت عطشا ، حاول أن يطير ، فسقط من العش .. وحاول ، وحاول .. فلم تحمله جناحاه .. وصار طعاما للزواحف ..

24/06/2010

في ربوع الذاكرة ـ قصة قصيرة

ـ الضَّياع :
لم أشك لحظة في حبها لي ، لكني مع ذلك ، كنتُ موقنا أن حبنا هذا لن يعصِمَنا عن مخاطرَ جمَّة ، لا بد أنها ستعترضنا شئنا أم أبينا ..
لماذا لم تصرّحْ لي بحبها حتى هذه اللحظة ؟
رحم الله جدّتي ، كانت تقول لي : في العتمة تستوي كل النسوة ..
بقيتُ في الغرفة وحيدًا مع دمعة لا أعرف لماذا سقطتْ ..
قلبتُ شفتي ، قد تكون ترحّمًا على جدتي .. قلت ذلك وأنا أسحق عقب السيجارة ..
أيام تمطر السماءُ حزنا ، يقولون : ها هي السماء غضبى ..
ويقولون : إننا أشرار ونستحق ذلك ..
ويقولون : ما يزال في العمر متسع ، وسنكون .....

ـ التمرُّد :
في صغري ، كان حلمي الأوحد ، أن أكبرَ بسرعة ، لئلا يحاسبَني أبي فيما لو تأخرتُ قليلا ، أو بتُّ خارج البيت دون إذن مسبق .. لكن حلمي لم يكنْ يكتمل إلا حين أكون في الأزقة والشوارع والحقول التي نزحْتُ عنها مبكرا مع الأسرة .. فإذا ذهبتُ إلى القرية ، تضيق أمامي الحقولُ الفسيحة ، وتشردُ بي الأفكارُ بعيدا ، يغمرني فرحٌ باللهو وبالمحبة البريئة ، وبالعشق الذي لم أذقه ..
كنتُ أنا وهادي نتمشى عبر الحقول الشمالية ، حين نظر إليّ ضاحكا عن أسنان متباعدة متسخة ، كأنه فرغ للتو من أكل حفنة تراب ، ثم ضيَّق عينيْه ، وسألني بلهجة رجل متزن : أراكَ تفكر فيها ؟!
استغربتُ سؤاله ، وقلتُ بسرعة : منْ هي ؟؟
قال ، فيما تكاد عيناه تغمضان : حبيبتك ..
صمتُّ طويلا ، لفحتْنا هبّاتُ هواء محمّلة بالغبار المُثار من غنمتيْن تتناطحان على نبتة خضراء ..
قال هادي : عدْتَ إليها ؟؟
كنتُ أبحثُ عن الجواب : أأكذّبُ تخميناته ، أم أحكي له مزاعمَ مختلقة ؟؟
لم يطلْ تفكيري ، فقلتُ له : أحبها كثيرا .. وأتخيلها قادمة من الشفق الذي يعتلي الأفق ، وأكادُ أسارعُ لاستقبالها ..
نظرَ إلي والدهشة باعدََتْ أجفانه ، فبدتْ عيناه في أقصى اتساع لهما .. لكني تابعتُ متجاهلا :
منذ أيام غافلتها عندما كانت عندنا ، وسرقتُ قبلة من خدها ، فغضبتْ ، وحزنتُ كثيرا ، لكني تنفستُ الصعداء حين رمقتني بنظرة رضى وهي تغادر بيتنا ..
توقفتُ عن الكلام ، كان هادي ينتظر مني المزيد ، وعندما طال صمتي ، لكزني بعدما أشعل سيجارته وقال :
أنسيتَ البقية ؟؟ ما بك ؟ تكلم ..
بدأ الظلام يخيّم علينا ، وبدأنا نستجمعُ أنفسنا للعودة ، فقال بلا مقدمات : أنا أعشق أغنامي .. وأنت تعشق جارتك .. أتبادلني ؟؟!!
من العجيب في ذلك اليوم ، أن العصافيرَ والطيورَ غابت عن السماء .. والأعجب ، أني صدّقتُ نفسي فيما رويْتُ ، حتى ظننتُ أن طريق العودة ، صار أقصر بكثير ..

على طاولتي ، تنهدْتُ ، وبين أصابعي سيجارة لم أشعلها :
ترى !! لماذا يفقدُ المُحِبُّ الجرأة على لمْس حبيبته بعدما يكبران ؟؟!!

ـ الممارسة :
كنتُ مسافرًا إلى دمشق ، حين صعدَتْ إلى باص الهوب هوب امرأةٌ تغطي وجهَهَا بغطاء أسود ، يشفُّ عن مساحيق فاقعة ، وترتدي في يديْها قفازيْن أسوديْن ، وفي ذراعها محفظة نسائية كبيرة نسبيا ..
خيّرَها المعاونُ في مكان جلوسها ، فطلبَتْ مني بصوتٍ أجشَّ أن تجلسَ بجانب النافذة ..
وبعد حديث طويل ابتدأتْه باعتراضها على موقف المجتمع من تدخين المرأة في مكان عام .. مرورًا بموجز عن قصة حياتها ، وطريقة عيشها ، ومقصدها الذاهبة إليه ، ثم عن جيرانها الذين نصّبُوا من أنفسهم أوصياءَ عليها ، وانتهاءً بالجنس في أبشع صوره وأنواعه وممارساته .. أخذت المرأة راحتها بجانبي ، واسترْسَلتْ :
تحبُّني النساءُ أكثر من حبّهن للرجال ، لآني أتحسّسُ خلجاتهن ، وأتفهَّم مطاليبهن ، وأساعدُهن على تحقيق كل رغباتهن ..
كأنْ أصْحَبَ فتاة إلى بيت عشيقها ، أو أنفردَ بأخرى لنتداعبَ ، فترتمي بين يديَّ كقطعة قماش بالية ، فترجوني وتستزيدني وهي تقبّلُ قدمي ..
وكثيرًا ما يأتينني بالهدايا النفيسة ، لتحصلَ واحدتهن على موعدٍ تزورني فيه أو أزورُها .. وقد ننامُ ليلتنا في سرير واحد ..
ولي صديقة تنتظرُ غيابَ زوجها بفارغ الصبر ، لنقضيَ الليل معًا ، فلا يُغمَضُ لنا جفنٌ ، حتى إذا ما طلعَ الصبحُ ترانا متهالِكتيْن لا قدرة لنا على الحراك ..
وتابعتْ وهي تقرأ ملامحَ وجهي من تحت النقاب :
أعرفُ اثنتيْن طلقتا زوجيْهما وتعيشان الآن معًا كما يعيش أي زوجين ..
وعندما شاهدتْ في وجهي استهجانا ، قالتْ وهي تدفعُ بساقها تحت ساقي :
هنّ مجنوناتٌ ، وقليلاتُ العدد ، ولا يشكلنَ قاعدة ، ولا يعرفنَ ملذاتِ الدنيا الحقيقية ..
كان غطاءُ وجهها يُخفي تحته سنواتِها الخمسين ـ ربما ـ
وقد خلعَتْ قفازيْها ، لتأكلَ من علبة الحلوى التي قدّمَها لها المعاونُ ، بعد توقفنا في استراحة النبك ، فناولتني شيئا منها وسألتني بخبثٍ ماكر : متى ستعود إلى حلب ؟؟

ـ المُنطـَلـَق :
لماذا يستهوي الأولادَ عَدُّ النجوم ؟؟ ولماذا يُصِرّون على ذلك إذا مَنعَهم أحدٌ ؟؟
حين نكون نائمِين على دكة بيتنا في الضيعة ، كانت أمي تخيفني من عَدّها ، كي لا تنتشر الثآليلُ في جسمي ، فسألتها مرة : إذا كانت كلُّ نجمةٍ بثؤلولة واحدة ، فكم واحدة يساوي القمرُ يا أمي ؟؟

الجمعة / 02ـ30/ كانون الثاني/1976

على ذمّة الرّاوي ـ قصة قصيرة

كنتُ أعرفُ كلَّ شيءٍ ، لكنّي لم أقلْ أيَّ شيءٍ .. لم أجد المناسبة التي أضمنُ فيها تقبّلكَ لما أريدُ قوله .. كنتُ أضيقُ أحيانا من نفسي ، ومن ثقل ما يحملهُ رأسي المُتعَب ..
لكنَّ حبّي لكَ ، وإشفاقي عليكَ ، جعلاني أؤثرُ شيئا من العذاب في نفسي ، على أن أبوحَ لكَ بكلام ، أرى أنكَ لستَ مستعدًا لتقبُّله ، واستيعابه .. فبقيتُ صامتا طيلة الوقت الذي مضى من عمر العلاقة بينكما ..
ولم يكنْ صمتي ، صمتَ الغافل الذي لا يرى ما يجري حوله ، أو صمتَ الماكر الذي يفركُ يديْه فرحًا وشماتة ..
كنتُ أحزنُ حينا ، وتهزّني قشعريرة فرح حينا آخر ..
حيث إن المعركة التي قُدِّرَ لي مراقبتُها عن قربٍ ، لم يكنْ فيها سواكما ، وأنتما عندي في منزلةٍ أعز عليّ من أعز إنسان آخر في الوجود .. فآثرْتُ الصمتَ ، والتزمتُ به ، ورعيْتُ علاقتكما رعاية أبٍ لطفلهِ الوحيد ، يحاولُ أن يؤمّنَ له كلَّ أسبابِ السعادة والراحة .. يفرح ُ لفرحِه ، ويتألمُ لألمِه ..
كنتُ أحسُّ بكلّ خلجةٍ تختلجُ في صدريْكما .. كانتْ تبدو على الوجهيْن بأدلةٍ قاطعةٍ لا تقبلُ الشكَّ ولا التأويل ..
أحاولُ رأبَ الصدْع حيثما رأيته .. أجمعُ الشمْلَ .. أصلحُ ما أراه فاسدًا بينكما .. أشنُّ هجومًا على كل فردٍ منكما منفردًا عن الآخر .. ألومُه ، وأؤنبُه ، حتى يتسارعَ كلٌّ إلى الاعتذار ..
وظلَّ تصاعُدُ العلاقة بينكما ونموُّها ماثلا أمام عينيّ .. كذّبْتُ نفسي بادئ ذي بدء ، وقلتُ : إني أحَمِّلُ الأمورَ أكثرَ مما تحتملُ .. لعلهما لا يقصدان شيئا غيرَ توطيدِ عُرَى الصداقة ، والحفاظ على معانيها ..
أسمعُ همساتٍ من الأطراف ، فأسرعُ إلى تكذيبها وتفنيدها ..
ومن دافِع الحبِّ الذي أكنُّهُ لكما ، والصداقةِ التي تربطنا ، لم أحاولْ قط ، إثارة أمر أرى فيه إزعاجًا لكَ خاصة ، لأني ضعيفٌ أمام تهكمكَ في مثل هذه الأحوال ..
أما الآن ، فلقد قرّرْتُ أن لا أتركَ شيئا دونما النظر فيه ..

إنكَ أخطأتَ كثيرًا ..
آنذاك ، لم أجد الشجاعة الكافية لأقولَ لكَ : إنكَ مخطئ ..
لقد كنتَ في نظري إنسانا آخر .. أسوِّغ لكَ أخطاءَك ، وأصوغها مصبوغة بألفِ لون ولون .. وأقلبُها على كافة الوجوه ، حيث يرضيني أقلُّ الوجوه جمالا .. لا يهمّني في ذلك أيُّ شيء ، سوى أنْ تكون بعيدًا عن الخطأ ولو في نظري على الأقل ..
وهكذا بقيتُ معكَ طيلة أكثر من سنة ، هي عمرُ العلاقة بينكما ، إذا صحّت التسمية ، لأني مع ذلك ، أشكّ في أنها علاقة حقيقية ..
إنّ جزئياتٍ كثيرةً ، يتوهّمُ معظمُ الناس ، فيظنونها حقائقَ .. لكنها لا تلبثُ أن تتبدّى لهم وهْمًا وسَرابًا ، لا تختلفُ في شيءٍ عن الأوهام التي تسيطرُ على عقولهم ..
حتى إن ثقتي المطلقة بتصرّفاتك ، وبكَ شخصيا ، جعلتْني أكذّبُ فيكَ ما تراه عيناي ، إذا لم تقله لي أنتَ بلسانك ..
ومع كل هذا ، كان لا بد أن تصِلا إلى ما وصلتما إليه ..
ولعلي إذا أردتُ أن أحدّدَ المسؤولية ، لقلتُ بلا تردد : إنكَ أنتَ المسؤولُ عن كل ما جرى .. وعليكَ المضيُّ إلى الأمام ، وفي نفس الاتجاه والطريق ، لأنكَ قطعتَ شوطا طويلا ، ولم تحدّدْ له نقطة الوصول منذ البداية ..
أكرّر : إنكَ أنتَ المسؤول أولا وأخيرا ، لأنكَ لو أذبْتَ جسدَها ، وجعلتَه عجينة ليّنة ، وجعلتَ فيه قوّة التخلق بهيئةٍ له حرية اختيارها ، لوجدْتَه ، بعد لحظاتٍ ، قلبًا يحتوي الجسدَ ، لا جسدًا يحتوي القلب ..
وبعبارة موجزة :
إنها كتلة من العواطف والأحاسيس المرهَفة .. إنها قلبٌ كبيرٌ بصورة جسدٍ كامل ..
لقد كنتَ لها مزرعة خصبة ، انزرعَتْ فيكَ شجرةَ زيتون ، ونَمَتْ ، وأزهرَتْ ، وأثمَرَتْ .. فما بالك اليوم تتأفّفُ وتتضجّرُ سأمًا لغيرتِها من تصرفاتك ؟؟!!
إنكَ تجرحُها في الصميم ، تقتلعُها من جذورها التي رعيْتَها أنتَ بذاتك ، وتحرقها ، ثم تذروها رمادًا في عاصفة هوجاء ..
إنها لم تتوانَ في لحظةٍ من اللحظات ، عن التضحية بكل غالٍ ورخيص من أجلك .. إنها تحزنُ وتضحكُ من خلالك .. تعيشُ معكَ ، حاضرًا كنتَ أو غائبًا .. لسانها يلهَجُ بذِكركَ ، كلسان متصوف ..
أنسيتَ ؟!
إني لم أنسَ يوم قلتَ لي كذا وكذا وكذا ....
هل تذكرُ كيف كانت إجابتي آنذاك ؟؟ حسنا ، سأذكّرُك ،
قلتُ لك : إنها محسوبة علينا ، والأفضلُ أن تبقى علاقتنا كما هي .. إنكَ لسْتَ بحاجةٍ إليها الآن ، وها نحن سعداءُ وقانعون بهذه العلاقة ..
إني أعرفُ أنكَ لم تقتنعْ بكلامي ، وبقيتُ بيني وبين نفسي ، خائفا من المصير المرتقب ، لأنك عنيدٌ ، وعمليٌّ ، ولا يمكن أن تمرَّ فكرةٌ برأسكَ دون أن تسعى بدأبٍ لبلوغها ..
وثمة تصرفاتٌ كثيرة لك ، أكّدتْ لي هواجسي ، وجعلتْني متيقنا من نواياكَ تجاهها ..
إني أراها تتهَرَّبُ منكَ ، تهرُّبَ الراغبِ الخائفِ .. إنها بمقدار ما ترغب بتلبية ما يروق لك ، تتهرّبُ خوفا من الوقوع في هاويةٍ يصعبُ الخروجُ منها ، ولئلا تتلوثان بما يسيءُ إليكما ، الأمر الذي سيؤدي إلى إشكالات ، أنتما في غِنى عنها .. وهي ترى وراءَ الأكمة ما لا تريد الوقوع فيه ..
إني أقولُ نيابة عنها : إنها تفضّلُ أن تظلَّ قريبًا منها طيلة العمر ، على أن تقضيَ معكَ لحظاتِ هيام وشوق وغرام ، ثم ينتهي ذلك سريعًا ..
إنها لا تريدُ لذةً مؤقتة .. إنها وَلهَى بكَ ، مأسورةٌ لك .. ترغبُك دومًا وأبدًا .. إنكَ ملاكٌ في عينيْها ، حتى لقد جعلتكَ ملاكا في أعين الذين عرَفوكَ من خلالها .. وعَرَفَ القاصي والداني أنها واقعة في حبائلك ، وغارقة في لجَّتك .. فرحماك ..
لماذا بقيتَ أنتَ بعيدًا ؟؟ بقيْتَ في برج عنادِكَ الذي قلما تزحزحتَ عنه .. لا أعرفُ لجهلٍ ، أم لتجاهل ؟!
حقيقة .. كان أمرًا محيرًا ..
لكن الذي يزيدُ حيرتي قوةً ، أنكَ فجأة ، فتحْتَ لها بابَ قلبكَ على مصراعيْه ، فأخافَها الولوجُ خشية الضياع والانتهاء .. لكنّ إصرارَكَ وإلحاحَكَ عليها بالولوج ، جعلاها تنساقُ وراءَ عاطفتها التي طالما أرّقها بُعدُها عنكَ .
إنكَ لم تكنْ مقتنعًا بهذا الموقف .. لكن مجرَّدَ التفكير فيه ، ثم انفتاح السيرة ، دفعاكَ لتنفيذه دون أن تحسبَ حسابَ النتائج ، أو لخطأ في تقديرها ..
لكنها هي لم تكن لتصدِّقَ أنها بين ذراعيك ، فطارتْ على جناحيْ نسر خرافي وهمي ، ظنتْهُما بساط الريح ، تسيّرُهُ بأمرها إلى حيثُ تشاء ، ووقتما تشاء ، تصحبُ فارسَها ، مزهوّةً به ، سعيدةً إلى درجة الجنون ..
وكان لا بد أن ينالَ أحدُكما من الآخر .. فرويْتَ ظمأكَ المعهود .. وأطفأتَ قلبَها الملتاع ، فأصابكَ شيءٌ من الذي يصيبُ آكلَ العسل ..
وازدادتْ هي التصاقا وولوعًا ..
وهذا ما لم ولن أسوِّغَه لكَ ما حييتُ ..
لقد كفرْتَ بكل القيم ، حتى صارَ الغفران ُ مستحيلا .. هدّمْتَ بيديكَ كلَّ صَرْح ، وتركتَها بين الأنقاض ، دون أن تمدَّ لها يدَكَ لتساعدَها ، ولو بدافع الصداقة على الأقل ، إذا افترضنا عدم قدرتكَ على إنقاذها .. وهذا ما أشكُّ فيه ..

اعذرني على قلة أدبي معك ، لأول مرة في علاقتنا ، لكني ما زلتُ أحترمُكَ كلَّ الاحترام ، وأقدِّرُكَ كلَّ التقدير .. إلا أنّ الحقيقة تستدعي مني توضيحَ دقائق الأمور حسبما كنتُ أرى وأسمع ..
صدّقني : ما عرفتُكَ جبّارًا إلا لأيام قليلةٍ مضَتْ ..
لكنّ الجوادَ الذي حَمَلك وتحَمّلكَ فترةً طويلة ، آنَ وقتُ كبوته ، فكبا ..
كنتُ أتمنى أن لا أراكَ في هذه الحال ، في نفس الوقت الذي لم أكنْ فيه راضيًا عن دموعِها ، المنهمرةِ بسخاءِ دِيَم الشتاء ..
لقد عزَّ عليَّ ما أنتما فيه من ألم ، وحيرةٍ ، وضيق .. فلم يكنْ لي بدّ من مواساتِها ، لأنكَ أنتَ المجرمُ بحقها .. ومع ذلك ، لم أحاولْ تعميق الشرخ بينكما ، وجاهدْتُ أنْ أخففَ وقْعَ المصيبة عليها ، وأصوِّرَ الأمرَ بأنه طبيعي وعادي .. لكنه في حقيقته أكبرُ من جريمةٍ بحق إنسانةٍ تعَبّدَتْ في محرابكَ ..
اعذرْني ثانية .. فلقد صار جُبْنًا صمتي عمّا أرى ، وخيانة بحق الصداقة التي نستظلُّ بظلها ..

لا أدري إذا كان في صدركَ شيءٌ تريدُ البوحَ به .. ها إني منتظرٌ كلامك ..
.......................................................................

حسنا .. سأكملُ إذن ما دمتَ لا تريدُ الكلام ..
إني لا أعيبُ ، الآنَ ، عليكَ صمتَكَ .. بل لعله يساعدني ، ويشجّعني .. والعتمة تخفي عن عينيّ ما يعتلي وجهَكَ من قسماتٍ وغضبٍ .. لذا ، لن أجدَ وقتا أفضلَ من الآن ، لأنفثَ كلَّ ما تراكمَ في صدري وعقلي وقلبي ..
صحيحٌ أنكَ كالشاطئ الذي تنتهي على رماله وصخوره أعتى الأمواج .. لكني موجة تمتطي قاربًا فولاذيًا ، فاستعصى على رمالكَ وصخوركَ ..
هبْني ما شئتَ .. إني صديقكَ فُرضْتُ عليْكَ ، وفُرضتَ عليَّ .. وأصْدَرَ القدرُ حكمَهُ القطعيّ علينا بذلك .. فسواءٌ تكلمْتَ أم لم تتكلمْ .. الأمرُ سيّان عندي .. حتى إنه لا يهمُّني رأيُكَ في كل الكلام السابق ، لأني واثقٌ من صحة كل ما قلتُ ، وواثقٌ أنكَ أولُ منْ يُؤيدُني فيه ..
فهلاّ رغبْتَ في الكلام ؟؟ أم ما زلتَ راغبًا عنه ؟؟
قلْ أيَّ شيءٍ .. قلْ لي إنكَ مخطئٌ ، إنكَ مجنونٌ ، العنّي ، اشتمني ، اضربني .. افعل بي ما شئتَ .. أسْمِعْني صوتَكَ ، رأيَكَ ، قل .. تكلمْ .. لا تتركني في لجّة الحيرة ..

لكني ـ وحقِّ السماء ـ لسْتُ مخطئًا .. إنما مكابرتكَ أولا وآخرًا هي التي قادتْك في ذاك الطريق ، وهي التي تمنعكَ عن الكلام الآن ..
كنْ جريئًا كما عهدتُكَ .. أهي الحقيقة المُرّة تكمُّ الأفواهَ ، وتقطعُ الألسنَ ؟؟!!
إني لأخشى أن تثورَ ثائرتكَ عليَّ لوقاحةِ ما أقولُ ..
إني أعرفُ ذلك .. لكنْ .. أقسمُ لكَ ، إنها ليستْ بإرادتي .. ولستُ أقصدُ إغاظتك ، إنما طبيعة الصدق وضرورتها في علاقتنا ، تستوجبُ كلَّ هذه القسوة .
ثم ، مُرْني لأصمت ، إن لم تكن راغبًا في سماعي ..

لله ما أفظعَك !!.. الخنجرُ في صدرها ينزُّ دمًا ، وتأتي صارخا بأعلى صوتكَ ، محتجًّا على معاملتها لك .. وتلومنا على مجاراتها !!
هل كنتَ ترضى أن نتركها تنصرفُ وحيدة ، وهي في هذه الحال ؟؟
أم نأتي بها إليكَ ، وأنتَ بين جليساتكَ ، ليسخرْنَ من دموعها ؟؟!!
أم نترككَ ، ونمشي معها ، لنخففَ عنها ألمَ طعناتك ؟؟
تُرى ؟؟ هل كنتَ أنتَ مقتنعًا بذلك ؟؟ أم جأرْتَ علينا بصوتكَ استباقا للحوادث ، على مبدأ " ضربَني وبكى ، وسبقني واشتكى " ..
كنتُ آملُ أنْ تضعَ نفسَكَ مكانها أولا ، ثم مكاننا ثانيا .. بعدها ، قل ما شئت ، وافعل ما شئت ..
ثم إن معلوماتي تؤكد أنكَ ما تزالُ تعيشُ قصة غرام ، جذورُها في أعمق أعماقك .. فكم من الأسى والمرارة كنتَ ستتجرَّعُ ، فيما لو جافتْكَ حبيبتُكَ مقدارَ طرفةِ عين ؟؟..
منذ متى سيطرَتْ عليكَ كلُّ هذه الأنانية المقيتة ؟؟!!
أليس الحبُّ تضحية ؟؟!! فمن هم الضحايا ؟؟
......................................................................................................................................................
مازال صمتُكَ يشجّعني .. ليتني فاتحْتُك من زمن ،، هل كنت ستلزمَ صمتَ أبي الهول هذا ؟؟ أم إنك فقدْتَ كلَّ أسلحتكَ الدفاعية ، أمام شموس من الحقائق تبهرُ العيون ؟؟!!
ليس بأكثر من خمس كلمات ، وينتهي كل شيءٍ على ما يُرام .. انفضْ من رأسِكَ العنادَ والمكابرة ، وكنْ فوق الأنانيات .. ولستَ بحاجةٍ إلى مثلي ليعرضَ عليكَ حلولا استقاها منكَ خلالَ مِحَنِهِ ..
لكنه في رأيي ، إذا كان الحظ السيئُ حليفَ السبّاح الماهر ، فلا بد له من يدٍ تنقذه إلى برِّ الأمان ..
أعِدْ صياغة العلاقة بينكما ، واجعلها في إطار محدّدٍ ، له أبعادٌ ومقاساتٌ ثابتة .. واشرحْ لها ما يجولُ في رأسكَ ، وما يعتملُ في صدركَ ، بصراحة ووضوح .. عندها ، يتبيَنُ الخيط الأبيضُ من الخيط الأسودِ .. وهذا هو طريقك للخلاص والنجاة ..

الجمعة ـ 17/12/1976

أمْراسُ العنكبوت ـ قصة طويلة

كسحابة صيف ، مرَّ العمر ..
ملأت الأرضَ برقا ورعدًا .. شخصت الأبصارُ إليها .. ارتفعت الأكفُّ بالدُّعاء ، وتحشرجَتْ أصواتُ العوانس والأرامل ..
" أنا التي نهش الدودُ أحشائي ، فجعلني جوفاءَ كطبل زنجي .. بقيتُ هيكلا هشًّا .. اختنقتُ في الهواء المنعش ..
" أيكون ثمة ضيق طبيعي في حنجرتي ؟؟
" حولي بساتين ملأى بكل أنواع الثمار والأزاهير ، وأنا أسرابُ جرادٍ أنهَكها مدًى شاسعٌ من البوادي ..
" كنتُ فرَسًا حرونا ، تتملكني عزةُ نفس متعجرفة .. تحلق بي أجنحة الغرور .. تهوّمُ في رأسي أفكارٌ أخجلُ أنْ أفصحَ عنها الآن ..
" لِمَ الأسف ؟؟ لن يعودَ شيءٌ مما مضى ..
" كيف اجتمع النقيضان في رأسي ؟! ..
" أحببْتُ الحياة ، وكرهتُها ..
" صفعتْني الشمسُ بأشعتها ، ولم أنبهر ..
" نسجْتُ شرنقة حول جسدي الناحل ، ثم قطعتها ..
" هممْتُ أقفزُ في الفضاء ، تكللني السعادةُ ، والنشوةُ تبني في داخلي أعشاشًا وقصورًا من الحلم والزنابق ..
" فراغٌ .. صمْتٌ .. كآبةٌ .. ظلمةٌ .. وحدةٌ ..

تلتمع في الأفق بروق .. يأسرني منْ لم أستطع مقاومته .. حطم جدران الوهم ..
بادلني الحبَّ خالد ..
بوسامته .. بجرأته .. بعنفوانه وهدوئه ..
ما صدّقتُ أن ألتقيَ بمنْ يزلزلني ، ليقتلعني ويصهرني ..
غمَرَ حقولي بسنابلَ ذهبية مكتنزة .. غفرَ هفواتي .. حمّلتُه مشاقَّ ما أطلب .. لم يتوانَ .. وقف بكل إبائه أمامي ، عبدًا لإشارتي ..
حقا .. تسرَّبَتْ حرارةُ حبِّه إلى نخاعي ..
أنا جبلٌ صخريٌّ معمَّمٌ بالثلج المتجمد ، وبأشجار البلوط والبطم والسنديان ..
وهو أرضٌ سهلة خيِّرةٌ ، تعجُّ بالخصوبة والنضار ..
" صعودُه إلى قمّتي محفوفٌ بالخطر .. ونزولي إلى مروجه ، أمرٌ مستحيل ..
خلال صعوده ، تسلّحَ بصبْر النملةِ ودأبها ..
راهنْتُ على وصوله إلى القمة .. هل خسرْتُ ؟؟
بدأ الصداع يتنامى في رأسي سرطانا قاتلا .. يطرحني ساعاتٍ في شبه إغماءة .. وقفَ بصلابة .. تخرّجَ مهندسًا .. انقطعْتُ عن الدراسة .. بدأت ساعاتُ الإغماءةِ تتطاول ..
تحوَّلَ عمله إلى جبل آخر ، يحاذيني وينافسني ..
نسّقَ في تسلق الجبليْن ، لكنّ جبلا واحدًا مثلي كفيلٌ باستنزافٍ للقِوى لا يُحَدُّ ..
استقطبه العمل .. لم أعد أجدُهُ وقت صحوتي .. أشار الأطباء بمِصَحٍّ في دولة أجنبية بعدما أغرقوني بمسكناتٍ ، أفقدتْها مناعة جسمي فاعليتها ..
صار يُمنّيني بمستقبل أزهى .. كفرْتُ بالمستقبل .. أريد الحاضر ..
أحسسْتُ أنني حبيسة شرنقة فولاذية الخيوط .. انكفأتُ داخلها كضفدع باغته شتاءٌ قارسٌ .. أكلت الهواجسُ رأسي ، واشتدّت النوباتُ الهذيانية التي تفجِّرُها دموعُ أمي ، وحيرة أبي ..
أحرقتْني الغيرة في الأيام والليالي الطويلة التي يقضيها خالدٌ مسافرًا ..
اشتدَّ اعتراضي ، واشتدّتْ معه نوباتُ الغيبوبة والهذيان .. ضجرْتُ مما أنا فيه .. كنتُ أهبط بالمظلة من مجرّةٍ أخرى تجاه الأرض .. تقطعَتْ بي الحبال ، تشبثتُ بما بقي منها في يدي .. لكن السقوط المفجع كان خاتمة منطقية ..
غاب طويلا .. انتظرْتُه لأكفّرَ عن ذنوبي ، فأرسَلَ لي صورةً تضمُّهُ مع زوجةٍ شقراءَ جميلة .. حزنْتُ .. تشرنقْتُ أجترُّ البقايا .. نمتُ كأهل الكهف .. وغمرني أهلي بأكوام الأغطية لئلا تتسرَّبَ رائحة الجيفة النتنة ..
استعانوا بالأطباء والسَّحَرَة والمشعوذين والمشعوذات ..
كنتُ مجنونة تارةً ، وأخرى عاقلة ، وثالثة صماء بكماء ..
في الحركة ، تسبقني سلحفاة هرمة .. وتضيعُ في أذنيَّ معاني الكلمات بين الطنين الصاخب .. وعينايَ لا ترَيان إلا ظلالا باهتة ، وأشباحًا شفافة ..
أُهْمِلتُ بعدما يئسوا من حالي .. قلَّ عُوَّدي ، وعُزلتُ في غرفة مظلمة .. تجيءُ أمي بصحن الطعام ، وتعود به دون أن ينقص ..
لم أكن أحسّ بالديدان تقرض أمعائي ، وتفتته ..
ذابَ جسدي كشمعة في ضريح مقدس ..
أصبحْتُ هيكلا ساكنا ؟، شبه محطم ..
لم أدرِ كم هجعْتُ في الكهف !..
لكني رأيتُ بعدئذٍ ، طرقاتٍ ، وأحياءً ، وأزقةً جديدة ، وأبنية أزيلتْ وشيِّدَ على أنقاضها ..
معالمُ اندثرَتْ ، وأخرى انبثقتْ من عَدَم ..
شمخَتْ أشجار الحديقة المجاورة لبيتنا .. بلغَتْ حدودَ نافذتي ، استأنسْتُ بها .. أحسست بألمها ، وبدموعها تنسكبُ على الجذع ، حين تتغلغل سهام الريح بين الأغصان ، فتئنُّ ، وتتمايل واقفة عنيدة ..
تغيّرَتْ خرائط العالم السياسية والجغرافية بأسهل مما تغيّرتْ به أزياءُ النسوة ..
خرجتُ من كهفي الضيق .. العالمُ ، غدا كهفًا قميئًا نتنا ..
فَقَدَ الوجودُ معناه .. واستحالت الأشياءُ إلى عَدَم ، يجبُ أن تُرمى في مزابل التاريخ ..
يتحرّك الناس ، ويتناسلون كحيتان برية ضارية ..

تهْتُ في المعالم والمظاهر الجديدة التي تتزيّا بها شوارع المدينة .. ثمة شيء تغيَر .. يريكَ نفسَه رغمًا عنك ، تلهث وراء معرفته ، بعدئذ ، فتصطدم بوجوهٍ لا تعرفها .. بعيون منبهرةٍ ، تحملق فيكَ ، ثم تزوَرُّ هاربة ، توّاقة إلى جديد .. جديد ..
" هكذا خُيِّلَ إليّ .. "
فتى أحولُ ، تتأبّط ذراعَه صبية جميلة الوجه ، عرجاءُ ، ذات شعر فاحم أجعد ..
امرأة تهرولُ خلف رجل ، اعتقدْتُ أنه زوجها ..
آخر ، يحملُ صندوقا فيه زجاجات ملونة ، وفرشاة جديدة ..
صِبية يحملون أشياء صغيرة للبيع ..
شباب لا ترى عيونَهم إلا معلقة في وجه امرأة أو قفاها ..
وفتياتٌ تميسُ أجسادُهنّ ، وتضجُّ أنوثة وعنفوانا وغنجا ..
الشبق والشهوة يسيران مع الناس ، تلمحهما في العيون والوجوه المصبوغة بكل ألوان الطيف وقوس قزح ..
سياراتٌ .. مبانٍ .. حدائق .. أسواق .. أضواء .. ملاهٍ ..
لِمَ لمْ تلسعْني كلمةُ إعجابٍ ؟؟!!
لقد سمعتُ كثيرًا منها ، موجَّهًا لفتياتٍ لا يزدْنَ جمالا عني ..
تباطأتُ .. التفتُّ لعلّ أحدًا يقتفي خطايَ مغمغمًا برغبة ما ..
متى كانت العقاربُ أمينة بريئة إلى هذه الدرجة ؟؟!!
هل تخلت العقاربُ عن غريزتها ؟؟!!
استكشفْتُ وجهي عبر مرآةٍ في محل ضخم يبيع ألبسة نسائية .. ثمة تعابيرُ مُبهَمَة ، لا توحي ولا تغري ، ويصعب على القارئ تفسيرها .. أعترفُ بهذا ..
" تعبْتُ .. لِمَ السرعة ؟؟
ما يزال الوقت متسعًا كي آوي إلى الكهف الضيق .. "
كل اللواتي عرفتُهنّ ، صرْنَ زوجاتٍ وأمهاتٍ ..
كذلك تزوج أخي الأكبر ، وأختاي الصغيرتان ..
ازدادت تضاريسُ وجهِ أمي بروزًا .. شحب لونُها .. صارتْ تدبُّ كالبطة المهيضة ..
وضعُف بصرُ أبي .. بَانَ عليه ثقلُ الهمّ الذي يكابدُه من أجلي .. أمي دائمة الشكوى من قوته .. صوته لم يتغيّرْ .. تعلق بالنرجيلة أكثر ، واتسمتْ حركاته بالتأني والهدوء ..

فرحُوا ليقظتي .. عمَّتِ البيتَ حيويةٌ جديدةٌ ..
نظفتُه .. رتبته .. استقبلتُ الجيرانَ .. حدّثتهم بانطلاق ..
ترمقني النسوة بنظراتٍ لم ألهثْ وراءَ تفسير محددٍ لها .. في وجوههن غبطة حينا ، ودهشة أحيانا أخرى ..
كأنني عرفتُ أختيَّ وزوجيْهما من جديد .. كما لمحْتُ بريقَ دمع صافٍ في عينيْ أخي ، وهو يعانقني ..
جُبْنا بسيارته الحكومية شوارعَ وأحياءَ المدينة ، قديمها وحديثها .. وفي الحديقة العامة نتجوّلُ أو نتفيّأ ياسميَنها ، أو نأوي إلى المقصف .. يحكي لنا عن كل شيء ، كدليل سياحي يريدُ أن يعطيَ صورة مشرقة عن بلاده ، لضيوفٍ مُهمِّين .. ثم توّجَ لي فرحتي " بقرار " أخرجَني نهائيًا من شرنقتي ، وعيّنني موظفة في شركةٍ إنتاجيةٍ ..
أخذتُ وقتي جيدا قبل أن أباشرَ في عملي الوظيفي ..
استبدَلتُ كلَّ ثيابي القديمة .. استعنْتُ بصالونات التجميل وأدواته ، وساعدتني زوجة أخي في استعمال ما يلزم لترميم وجهٍ أنثوي ، أضَرّتْ به عواملُ ألحَتِّ ، وحفرَتْ فيه المصائبُ دروبًا وأخاديدَ واسعة ..
وقفتُ طويلا أمام المرآة ، أتأمّلُ وجهي وشعري .. أدور حول نفسي ، أرنو إلى انسدال الشعر فوق خصر تحدّدُهُ تكوّراتٌ ناعمة لدنة ، فترتسمُ على محيّايَ ملامحُ تفاؤل آنيٍّ لا تحملني على حصان أبيض موعود ..
" هل حقا سأقعدُ وراء طاولة ؟!
" سيكون معنا رجالٌ حتما .. كيف سيعاملونني ؟؟
" هل سيكون حضوري مؤثرًا فيهم ؟؟
" هل سيهتمون بي ؟؟
" هل سيتهامسون حين أمرُّ بجانبهم ؟؟
" أيمكنُ أن لا تسترقَ عيونهم نظراتٍ إليّ من كل الجهات ؟!
" أأردّ تحيتهم بمثلها ؟ أم بأحسن منها ؟؟
" أي الثياب يفضّل أولئك الخبثاء ؟؟
" لن أدَعَ لهم ثغرة ينتقدونني بها .. سأنفقُ كلَّ راتبي لأكونَ أكثر أناقة وسعادة من جميع منْ حولي ...
" سأجعلهم يلهثون خلفي ككلابٍ ضالةٍ عطشى ..
" لن أمَكنَ أحدَهم من نهشي ، قبل أن أمرّغه ..
" إن أشدّهم إخلاصًا ، أكثرُهم دناءة وغدرًا ..


غرفة المكتب فيها ثلاثة موظفين آخرين .. أوكِلَ إليَّ عملٌ إداريٌّ بسيط ..
" ألا يرون فيني الكفاءة اللازمة لتكليفي بعمل آخر ذي أهمية ؟؟!!
" لا يهمني هذا الآن .. سأثبت لهم أني أملك من القدرات فوق ما كانوا يتصورون ..
أصغرُ الموظفين الثلاثة تجاوز الأربعين .. أيامٌ قليلة مضت ، أدركتُ أنهم يعرفون كلَّ شيء عني ..
ومضى رئيسُ الشعبة للقاء وجه ربه ، بعدما فتكتْ بجسمه الأمراض ..
ظلتْ طاولته بيننا وفاءً لذكراه ، وتيمَّنَ الآخران بقدومي خيرًا ..
كنتُ قد قطعتُ أمراسَ الشرنقة ، وغادرْتُها ، وقررتُ ، بإصرار ، أنْ لا رجوع إليها أبدا ..
لم أتأثرْ بما جرى .. أحرقتُ خيوط الشرنقة بماء النار ، فذابتْ وتلاشتْ ..
صمّمْتُ أن لا أستسلمَ لنعومتها ، وألا تُقطعَ بي حبالُ المظلة ثانية .. تعلقتُ بأهداب فرح لا يعرفُ السأم .. رغبْتُ في التمتع بما لم تسلبْه سنواتُ الكهف مني ..

آنسَني العملُ .. بدّدَ وحدتي .. أحببته ..التزمْتُ بنظامه ، واستمتعتُ بكل أوقاته ..
تجوًلتُ في أقسام الشركة .. عرفتُ كثيرين من الزملاء ..
بات الماضي طيفا مُبَدَّدًا .. ذكرياتٍ مبهمة ، كأحلام الغسق المغلفة بغشاوة الحلم وشفافيته .. يولدُ فجأة ، وينطفئ كشهبٍ اضمحَلَّ على بوَابة غيمةٍ دكناء ، منتحرًا على بللوراتِ أسوارها الملونة ..
توَجَّس أهلي من انكفاءٍ أو انتكاس يحطم البقية الباقية ..
تماديْتُ .. فلم أترددْ ، ولم أتراجعْ ، ولم أحْجِمْ مرة ، بعد أن أقرّرَ الإقدامَ ..لكني لم أقدِمْ إلا بعد رَويَّةٍ وتفكير ..
ما عادتْ عظامي هشة ، ولا سهلة الكسر ..
وحياتي تخصّني وحدي .. كفاني ما تجرّعْتُ من علقمها ..
حِلكة الليالي أضاءتْ في شعري مناراتٍ وشهُبًا .. أوجدْتُ قنواتٍ ينسكبُ عبرَها دمعٌ ، يحاولُ عبثا ، أن يروَيَ خدّيْن ظامئيْن لأنفاس حَرّى ، تتهدّجُ ، لتنعشَ عروقهما الذاوية الكسيرة ..

نشيدٌ أول :
" أيها الطوفان ..
خذ لونَ دم الشرايين ..
امتزجْ به .. اندفعْ ..املأ الجوف ..
واسقِ زنبقاتٍ تحبُّ الحياة ..

عبور :

تتسلل الأماني إلى الصدر ، مع هواء الشهيق .. وتتوهّجُ في القلب شموعُ فرح طفولي .. تنامُ بين الجفنيْن رُؤًى سرابية ، تخالها أفراسَ النصر .. تمخرُ عُبابًا أو صحارى ..


قلتُ في نفسي : لا بأس .. فلأركبْ هذا القاربَ ، لعله يوصلني إلى الضفة الأخرى ..
بقيةٌ من التوجّس ، أرجعتني خطوتيْن إلى الوراء ، بعدما تقدمتُ خطوة إلى الأمام ..
يجبُ التأكدُ من سلامة المركب أولا .. لأن المسافة بين الضفتيْن أمرٌ يجبُ حسابه جيدًا .. وماءُ النهر دفّاقٌ قويٌّ .. جاءَني مندفعًا مثله .. تقرَّبَ مني .. قدّمَ نفسَه :
تزوّجَ منذ ست سنواتٍ ، ولم ينجبْ .. رفضتْ زوجتُه أن تندفنَ معه دون أولاد .. صيّرَتْ حياتَه جحيمًا ـ كما قال ـ حتى فرضتْ عليه شروطها في الخلاص منه ..
عاشَ سنتيْن ، بعدها ، وحيدًا ..
خرجْتُ معه .. جلسْنا في مقصف الحديقة .. حاولَ إدخالَ البهجة إلى قلبي .. ملأ الطاولةَ أصنافًا من الطعام .. بدَا طيِّبَ القلب .. مهذبًا ..وبانت السعادة في عينيه .. أحسسْتُ بالفرح يغمرُه حتى قمة رأسه ..
صارحني بما لديه :
هو على ثقةٍ تامة ، بأننا سنكون زوجيْن سعيديْن ، ولو لم ننجبْ .. لا يمنعُنا شيءٌ من أنْ نعيشَ كلَّ دقائق الحياة ، كما يحلو لنا .. ولتذهبْ كلُّ المُنغّصاتِ إلى جحيم ناءٍ ..
حكى ، يومَها ، عن المستقبل ، والسعادة ، ودفءِ الحب ..
قال : إن الحبَّ عظيمٌ .. ولا يتصوَّرُ حياةً لا يزيّنها حبٌّ ومحبّون ..
أنعشتْني حرارةُ كلماته .. وبريق النشوة الأخاذة يتدفق من عينيَّ .. يمتدُّ جسرًا ، أعبرُ فوقه إلى فضائه ، بعيدًا عن قسوة الكهوف وظلمتها ..

نشيدٌ ثانٍ :
" يا شمس المسا ، يا الله تغيبي ..
ويا نجوم طاب السهر ..
اليوم جايي لعنا حبيبي ..
والجفا ولّى زمانه ، وعبَر .. "

ماتَ أبي .. أنجبْتُ وَلدَيْن .. تكدّرَتْ حياتُنا ببعض الشوائب ..شكا ضِيقَ الحال .. غابَ عن البيت والعمل كثيرًا .. نسّقنا معًا حتى فاز برئاسة اللجنة النقابية في الشركة .. تحسّنتْ أحوالنا المعاشية .. لم أدر كيف انصبّت النِّعمُ علينا ، ومن أين ؟؟
جدّدْنا أثاثَ البيت كله .. واستكملنا أدواته الكهربائية وغيرها .. وصار بيتنا مقصدَ الزيارات العائلية الجماعية ..
رُزقنا ببنتٍ جميلةٍ .. اشترى لي ولها ذهبًا ، وسألني :
هل نبحثُ عن بيتٍ أوسعَ ؟؟ أم نشتري سيارة ؟؟
ـ أمعكَ ما يكفي ؟؟
ـ لابأس بالتعويضات والمهمات!!!

" أيمكن أن تكونَ التعويضاتُ والمهماتُ كبيرة إلى هذا الحد ؟؟!!
" لِمَ لا يكتنز غيرُه بمقدار ما يكتنز ، رغم وحدة المصدر والمرجع ؟؟!!
انتبهْتُ إلى العيون ترمقني بحذر وخشية .. ووخزني أحدُ العاملين : لا بدَّ أنكم عثرتم على كنز قارون !! ثم استدار خارجًا وهو يقول بخبثٍ : ربّنا لا تجعلنا من الحاسدين ..

وحين سألني المحققُ عن مصدر الرصيد المصرفي المحترم ، قلت : إنها من التعويضات والمهمات ، هكذا قال لي زوجي ..
قال : ألستما زميليْن في عملٍ واحد ؟؟ فلماذا لم تحَصّلي نفس َ المبالغ ؟؟!!
قلت : هو رئيس اللجنة النقابية ..

اعتقلوهُ على ذمة التحقيق ، مع مدير الشركة ومحاسبها ، وأمين مستودعاتها ..
كانوا شركاءَ بنسبٍ متساوية كما تبيّن ..
حُجزتْ الأموالُ والممتلكاتُ ..بِيعَ كثيرٌ منها بالمزاد العلني .. حملتُ الأولادَ والأمتعة إلى بيت والدتي .. اكتأبَتْ لأجلي .. وواساني أخي .. وعادت الرتابة لتعشش رويدُا في منعرجات رأسي وتضاريسه ..
عاد ابني الأكبر إلى المدرسة .. اصطحبْتُه لزيارة أبيه بعد أن اختفى المدى المنظور لإمكانية الإفراج عنه ..
" لم تتقدّم القضية خطوة إلى الأمام .. " هكذا قال المحامي ..
مرضتْ ابنتى الجميلة بالتيفوئيد ، ثم ماتتْ ..
اقتلعَ الحزنُ جذوري .. تجَسَّدَ فراغا سرطانيًا ، تناسلتْ في رأسي عناكبُ الماضي ، وفجائعُ الحاضر .. حفرَتْ كهوفا .. وبَنَتْ شاهقاتٍ ، حتى انحجبَت الشمسُ والضياءُ ..
تكوّرَتْ في المهجة دماملُ أسًى لا ينتهي ..
خيوط الماضي ، أمراسٌ تشدُّني إلى عبور الجسر باتجاه العودة ..
نفّذنا الطلاقَ بصمتٍ .. لم تبدُ على وجهه علائمُ تأثر ..
شدّت أمي على ساعدي ، وسار أخي بجانبي ، يترقبُ ، بحذر ، لحظةً أفقدُ فيها قواي ، أو يختلُّ توازني ..
وقعْتُ صريعة ، كسَدٍّ صَدّعَهُ ثم جرَفه طوفانٌ عاتٍ ..
أمضيْتُ شهريْن في المرض .. أثبتَ ماجدٌ أنه رجلُ البيت ..
بحثَ لنفسه عن عمل في العطلة ، فوجدَهُ عند نجار قريب .. زالتْ آثارُ النضارة المؤقتة من وجهي ، وتعمّقتْ مجاري الدمع فيه .. وترَكَ الهُزالُ آثارَهُ في جسدي ، حتى بدا ظهري محدودبًا ، وصرتُ كعودٍ أخضر ، انقطعَ عنه الماءُ في صيفٍ قائظ ..
ولداي ، الأملُ الباقي ، الذي يجب أن أعيشَ من أجله ..
منحني الدهرُ فرصتيْن :
بتصَلبي ضيّعْتُ الأولى .. وبغبائي ، ضاعت الثانية ..
تسرّبَ الماءُ من قعر الزورق دون أن أدري .. كنتُ مستمتعة بأنّ الزورقَ قويٌّ ، وقادرٌ أن يوصلني إلى الضفة الأخرى بمزيد من الراحة والهناء ..

" إنَّ الأيامَ تضحكُ لبعضنا .. وتضحكُ على بعضنا الآخر ..

نشيدٌ ثالث :
" يا عدل الرب ، حكمك ليش قاسي ..
والنوايا مش حميدة ..
بعطفك .. شيل أيام التعاسة ..
وعلينا رجّع ليالي السعيدة .."

سُجن ولداي ماجد وسعد ، فقد تشاجَرا مع راكبِ دراجةٍ صدَمَهُما ، فكسِرَتْ يدُ سعد ، واعترفَ كلٌّ منهما ، على انفرادٍ ، أنه الذي شجَّ رأسَ الرجل ، فسبَّبَ له ارتجاجًا في مخه ..
حزنتْ أمي وماتتْ ..
تركتني عزلاءَ بين المحكمة والسجن .. تسَلحْتُ بما تبقى من عزيمة وأمل ..
آنسَني محمود ، ابنُ أخي ، فسَكنَ معي .. تشرّدَتْ خطاي .. وغِبْتُ أيامًا عن العمل ..
كيف أتصرّفُ بدونهما ؟! كانا عيْنيّ وساعِدَيّ ..
تجرّعْتُ ببُعدِهِما مُرَّ الشقاء ، واستوْطنَ السُّهدُ في أجفاني ..
" عودي يا ليالي الكهف .. كم كان طعمُ النوم لذيذا ..
" ألا تغفو منْ كانت في مثل محنتي ؟؟!! أم إن طعمَ الكؤوس التي أتجَرّعُها فريدٌ ؟؟!!
" متى كان النومُ يدنو من بيتي قبل أن يأويا إليه ؟!
" أغطيهما بأهدابي ، أمسحُ بكفي قريبا من وجهيْهما ، وأتمتمُ مستعيذة بالله وملائكته ..
" لم يصدّقوا أنني يمكنُ أن أموتَ إذا تركتُ " سعدًا " وحيدًا أثناء العملية الجراحية في المستشفى الذي نُقِلَ إليه ..
" قلتُ لمدير السجن :
أدفعُ لكَ كلَّ ما أملكُ إذا سجَنتَني معهما ..
قال : لا يُسجَنُ إلا المجرمون ..
قلت : أضربُكَ ! ألا أصيرُ مجرمة بذلك ؟؟ أجبْني .. أقسمُ سأضربُك .. قلْ لي : ألا تسجنني معهما ؟؟!!

هطلَ المطرُ مبكرًا .. خرجْتُ أتسكعُ بلا هدفٍ .. جُبْتُ شوارعَ وأزقةً كثيرة .. صادفني أخي .. لم أرضخْ لتوسُّلاته ، فمضى بسيارته غاضبًا ..
السماءُ في غاية الكرَم ، كانتْ ، والليلُ في أوله ..
تسرّبت البرودة إلى عظامي .. انتشيْتُ .. عادَ إليَّ أخي ..
" ما عدْتِ صبية .. ستمرضين حتما ، وسيقصفُ الزمهريرُ ظهرَكِ ، ولن تكونَ العاقبة هيّنة ..
" هل كبرْتُ ؟؟ لا بأس .. ألم يزلْ ماجد وسعد شابيْن ؟؟
صرْتُ متحصّنة ضد المصائب والأمراض ..
فلتمطر السماء ..
فلتمطر زمهريرًا ، أمراضًا ، مصائبَ ، شرورًا ..
أمطري يا سماءُ ما شئتِ ..
استوتْ كلُّ الطعوم ..

لن أخشى أيَّ شيءٍ .. لن .... لن ....


كانون الثاني 1982

اللقاء الثاني ـ قصة قصيرة

1 ـ على موائد الموت ، يتلاقى الهجرُ القاسي ، والنسيانُ الأليم ..
فلقد مات الحبُّ في عينيها ، وانقلبتْ زقزقة العصافير صفيرًا حادًّا في محطة القطار المهاجر ، المُحمّل بخيوطٍ من أشعة الشمس ، وبصيص من لآلئ الليل ..
الأشجارُ تلوّح مودِّعةً ، بعد أن عبّرت الريحُ عن أسفها ، بهيجانها ..
وسكِرَ المودّعون حزنًا ، وتوقفَ الدمُ في أوردتهم ، وتجمّدَ الموتُ في المآقي المتحجرة ..
صفيرُ العصافير ما يزالُ يصمُّ الآذانَ ، ونعيقُ الغربان أضفى على الجوِّ كآبةً مظلمة .. وعجلاتُ القطار تحرّكتْ مُحْدِثة جَلبَة ودويًّا هائليْن ..
تحرّكَ الدمُ ، فخرجَ الموتُ مع الدمع من المَحاجر ، وانتثرَ الدخانُ القاتمُ في الأرجاء معلنًا زوالَ نهار سرمدي .. وامتلأتْ أرضُ المحطة بأوراق الشجر الأخضر ..
وفي مَحَافِظِ اليد النسائية ، اختبأ الصمتُ والكبتُ ، واختبأ الدمعُ معهما في مفارقةٍ عجيبةٍ ..
ربّاه ..!! لماذا لا يكونُ الموتُ بداية البداية ، ونهاية النهاية ؟؟

2 ـ كان الحُبُّ يسيرُ في شوارع المدينة المهجورة .. والناسُ غارقون في بحور أرضية .. ومواءُ القِططِ يدلُّ على أنها تستغيث .. ومجموعة أخيلةٍ تتراقصُ على إيقاعٍ موسيقي صاخبٍ .. كلُّ الأشياء في سكون .. وكلُّ الأشياء في ديمومةٍ حركيةٍ .. الموتُ والخَلقُ في آن واحدٍ .. ونوعٌ من الجراد منتشرٌ يُحَوّمُ فوق الرؤوس .. وروائحُ غيرُ متجانسةٍ ، تنبعث من اتجاهاتٍ معينةٍ .. لكنَّ الأنوفَ مزكومة ..

3 ـ سألتُهُ : والحبُّ الذي بينكما ؟؟!!
حملقَ في وجهي من خلال عينيْن جاحظتيْن محمرّتيْن ، وهزّ برأسِه ذات اليمين وذات الشمال ، كأنه يُؤَنّبني ، ثم رفع حاجبيْه إلى منتصفِ جبينهِ ، وقالَ باستنكار :
تسألني عن الحبِّ ؟؟!! يا لكَ من مُغفّل بليدٍ !!..
وأضافَ بصوتٍ أكثر ارتفاعًا ، كأنه يصرخُ في وجهي :
ومتى كان للحبّ معنى ؟؟!!
ثم : من سنحبُّ ؟ ومنْ سيحبُّنا ، إذا كان ـ كما تشدّقتَ ـ الحبُّ موجودًا ؟؟!!

4 ـ الريحُ الشديدةُ تهزُّ كلَّ شيْءٍ .. والصمتُ ما يزالُ في جمودِهِ المعهود .. وأصواتٌ غريبة تزداد حِدّتُها ..
وضعْتُ سبّابتيّ في أذنيّ ، وفعَلَ الآخرُ مثلي ، وانطلقنا نسير في الشوارع المهجورة .. تاقتْ نفسي لرُؤية مخلوق إنساني آخر .. صارَ ذلكَ هدفا لي أجِدُّ في البحثِ عنه .. لكني ، عبثا كنتُ أحاولُ ..
قلتُ في نفسي : لعلَّ الناسَ مختبئون في منازلهم .. اقتربْتُ من أقربِ بابٍ .. طرقتُه بعنفٍ مراتٍ ومراتٍ .. لا أحدَ هناك ..
انسحبْتُ إلى غيره ، وإلى ثالثٍ فرابع فعاشر .. دون جدوى ..
سألني صاحبي : أين سكانُ المدينة ؟؟
قلبتُ شفتي ، ولم أجبْه ..
أردَفَ بصوتٍ أشدّ : الجوعُ يأكلُ معدتي ..
قلتُ : وما حيلتي ؟؟
قال : سنطرُق أبوابَ المدينةِ كلها ..
قلتُ بملل : هيّا بنا ..

5 ـ في طرَفٍ من المدينة ، فتحَ لنا شابٌّ ، طويلُ القامة ، شعرُه مُرسَلٌ وطويل .. حدّق في وجهيْنا ، وانزاحَ عن الباب ، مشيرا بيده أن ندخل ..
دخلنا في ممر طويل ، أفضى بنا إلى غرفةٍ ينبعث من خلفِ زجاجها ضوءٌ باهتٌ ، يميلُ إلى الصفرة ..
كان يسيرُ أمامَنا دونما كلام .. وكانَ نصفهُ العلوي عاريًا ..
فتحَ باب َ الغرفة ، دخلَ أمامنا ، وتبعْناه ، ثم أرتَجَ البابَ ، وأومأ إلينا بالجلوس ، وانصرفَ إلى سرير في زاويةِ الغرفةِ ، تتمدّدُ فوقه امرأةٌ شبه عارية ، وبلا غطاء ..

6 ـ إلى يمين الباب ، طاولةٌ كبيرةٌ فوقها صحونُ فاكهةٍ ، وزجاجاتُ شرابٍ متنوع ، وقِطعُ لحم مشوي ..
تجوّلتْ عينا صاحبي متنقلة بين السرير والطاولة ووجهي .. ثم جلسْنا إلى الطاولة ..

7 ـ صُفرةُ الضوءِ تزولُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا .. وصارَ المكانُ في شبه اتساع .. همهماتٌ وتمتماتٌ ، تنبعث بين الحين والآخر من فوق السرير ، وأصواتُ القبلاتِ تنفجرُ كقنابلَ هجومية ..
سَرَتِ الحرارةُ في جسدي .. وشعرْتُ بدبيبٍ يسري مع دمي في عروقي .. أفرغَ صاحبي الزجاجة في جوفِهِ ، وجالَ بنظره حوله ، ثم رماها خلفه ، فانبعث صوتٌ قويٌّ في هَدْأة السكون .. لم يُبالِ أحدٌ بشيءٍ .. فالأمورُ تجري طبيعية في الغرفة .. ثم ما لبث أن نهضَ ، توجّهَ إلى السرير ، اقترَبَ منه ، رفعَتِ الفتاةُ يدَها معترضة .. لم يكترثْ .. اقتربَ حتى التصَقَ به .. أعادتِ الفتاةُ يدَها ، ولاحظْتُ أنَّ عينيْها تنطقان بشيءٍ .. تغيَّرَ لونُ الضوء في الغرفة .. صار سماويًا ..
التصقَ الشابُّ في الجدار مبتعدًا عن الفتاة ، ثم نهضَ على عَجَل ، واتجه إلى المائدة .. تلاقتْ عيونُنا بنظرةٍ طبيعيةٍ ، وهمَّتْ أسنانُه بالعمل النشيط ، بينما كان صاحبي يعتلي قبة السرير ..

8 ـ حملتُ زجاجة في يدي ، وخطوْتُ إلى أريكةٍ مقابلةٍ للسرير .. ارتميتُ فوقها ، ووضعتُ فوهة الزجاجة في فمي .. أفرغتُها ورميْتُها جانبًا .. لم تنكسرْ .. انتبه الآخران لصوتها في حركةٍ قسريةٍ ، لكن ، دونما اهتمام ..
اتجه الشابُّ إليّ ، وفي يدٍ كأسٌ ، وفي الأخرى كرسيٌّ صغيرٌ .. جلس قربي ، وحملق في وجهي من خلال عينيْن واسعتيْن ، ثم قال بلهجةٍ ثقيلةٍ :
من أين جئتُما ؟
ورفعَ الكأسَ ببطءٍ إلى شفتيْه ..
قلتُ بصوتٍ أجشّ : كنا نسكنُ غيمة صيفية فوق خط الاستواء ..
وضع الكأسَ بتؤدةٍ فوق طاولةٍ صغيرةٍ بجانبه ، وقال : متى؟..
قلتُ بلا اهتمام : لا أدري .. قال بعجبٍ : وكيف ؟! .. وقبلَ أنْ أجيبَ ، عَلا صوتُ الفتاة قائلة : ما شأنُكَ بهما أيُّها اللعين ؟؟
لم يلتفتْ إليها ، وكأنه لم يسمعْ شيئا .. فتابع : وكيف لا تدري ؟! قلتُ وأنا أعيدُ كلماتِ سؤالِها في ذاكرتي : الزمنُ عندي ، حضورٌ وغيبة .. ولستُ أدري ، جئناكَ في الحضور أم في الغيبة ؟ اتسعتْ عيناهُ ، وأشارَ بيدِهِ علامة استفهام ، ثم قال بحروفٍ متقطعةٍ : غ ، ي ، ب ، ة ؟؟
لم أجبْه .. ضاقتْ دائرة عينيه ، ثم نظرْنا إلى الخلف ، حيث الصراعُ ما يزالُ مستمرًا ..

9 ـ صارَ ضوءُ الغرفةِ ورديًّا قاتمًا ، وأعدادٌ هائلةٌ من الذبابِ تملأ النصفَ العلويَ من فضاءِ الغرفة ..اعتدلتُ في جلستي ، وسألتُ الشابَّ : ما اسمك ؟ قال : جليل ..
ما مهنتك ؟ قال : الصمت ..
قطعَ صاحبي حديثنا ، قادمًا من فوق السرير ، وقال لي مشيرًا بإبهامه الأيسر إلى الخلف : تستدعيك ..
تبادلتُ نظرة مع الشاب ، ونهضتُ ، وجلسَ صاحبي مكاني ..
اقتربْتُ من السرير بخطواتٍ وئيدةٍ وهي تستعجلني .. وقفتُ جانبَ السرير ، أمسكتُ بذراعِها ، وتلاقتْ عيوننا ، فوجدْتُ فيهما صورة محاربٍ جاهلي ، امتزجَ ضوءُ الغرفة بلون آخر ، واختفتْ أسرابُ الذباب ، وانبعث صوتٌ هادئٌ سَرَى في عروقي مع حرارة جسدي ..
كنتُ ما أزالُ مُمْسِكًا بذراع الفتاة ، مالتْ على جنبها ، وتقلّبَتْ .. ثم قالتْ : أطلتَ الوقوف .. قلتُ : النومُ لا يجدي .. قالت : إلا إذا أسفَرَ عن شيءٍ .. قلتُ متسائلا : وهل سيُسفِرُ نومُنا ؟؟
اتسعتْ ابتسامتها ، ولحظتُ قوةً وكبرياءً في عينيْها ، فقفزتُ فوق السرير ، وغبْنا معًا تحت الغطاء ..

10 ـ توقفَ القطارُ في المحطة الأخيرة ، وأعلنَ مذيعٌ للركاب : وصلنا إلى الأرض التي تزهر في الخريف .. وقوفنا هنا لن يطول .. سنتابعُ الرحلة بعد ساعتين ..

11 ـ لاحَ الخيطُ الأولُ من الصباح في عيْنيَّ عبرَ نوافذ الغرفة ، وكانوا ما يزالون في سُباتهم .. لم أدرِ كمْ بتْنا في هذا السُّبَات .. أيقظْتُهم ..
وعند الوداع قالا : لنذهبْ معا .. قلت : لا بأس ، هيا بنا ..


01/03/1975

أحاديث على مستوى سطح البحر

احتضنَ البحرُ الشمسَ وأحزانه ، وأسبلَ جفنيْه ، وغفا ..
وجلسَتْ تغتسلُ بالرّؤى ، وتقطف الأزهار المتدلية من السماء ، تداعب بأوراقها وجوهَ البحارة ، والمجاديفَ الخشبية ، وهي تومِئ للأسماك لحضور حفل زفاف ابن سلطان البَرّ ..
" ملوحة البحر تزيلُ تهدُّلَ الوجوه .."
وتلك الخصلات تصنعُ خيامًا يبيتُ تحتها آلافٌ ممن يعشقون خضرة الليل ، ورطوبته ، وشقاءَ شجيرات الأرصفة ..

قال النورسُ الأول للثاني :
ـ استعِدَّ للرحيل ، لقد مات ـ ههنا ـ الشاطئ ..
ينبري الثالث : لن نرحلَ قبل مجيء أمي ..
يثور الثاني غضبا ، ثم يصافحُ ماءَ البحر ، ويرتفع مع موجة تعاني آلامَ المخاض ، ثم يقول بأعلى صوته كأنه يريد إيقاظ الشمس :
لن نرحلَ .. ولن تأتيَ أمُّكَ ..ولن يموتَ الشاطئ .. ولن ...

***
كان ثمة فجرٌ يلوح باسمًا .. وهمهمات كثيرة تنبعث من هنا وهناك .. وغابت النوارس في زوايا البحر ، تزمجر من هدوئه المقيت ..
سأل النورسُ الثالث أمَّه :
" من الذي يُحتمُ على البحر هدوءَه ؟؟!!
قلبَتْ شفتها ، ونهضتْ تغتسل من آثار الليلة السابقة ، فانتفض البحر مرتعشا ، وبكى .. فتجمّعَتْ دموعُه سدّا في وجه موجة معاكسة ، فاصطدمَتا ، وظل البحرُ يبكي ، فغامت السماء ، وجلجلتْ بالرعد ، فتواردت النوارس من مخابئها فرحة ، تزغرد وترقص ، وتغني أغنياتٍ حفرَتْ أخاديدَ على شفاه البحّارة ..

***
سأل النورسُ الأول :
ـ سنبقى طويلا هنا ؟؟
لم يكلفْ أحدٌ نفسَه عناءَ الردّ .. كانوا يردّدون المقطعَ الأخيرَ من أغنية شعبية :
سكابا يا دموع العين سكابا
تعيْ وحدك ولا تجيبي حدابا
وإن جيتي وجبتي حدا معاك
لأهد الدار واجعلها خرابا

انتظرَ قليلا ثم أعادَ سؤاله ، فأجابت أم النورس الثالث :
ستأتي الريح هذا اليوم .. إننا ننتظرها ، وقد وعدتني بالأمس أن تأتي قبيل الغروب ..
قال ابنها : ما شأننا بالريح مادامت رائحة البحر تزكم أنوفنا ؟؟
لم يسمع أحدٌ كلامه .. كانوا مشغولين بالنظر إلى الزاوية الغربية الشمالية ، حيث لاح لأنظارهم نورسٌ يقتربُ مسرعًا ، اختفى قليلا وراء سفينة ، ثم ظهر بعدها .. توقف قريبا من النوارس ، حملق في وجوهها ، رفرف بجناحيه دون أن يتحرك .. تهاوت الموجة تحت قدميه ، فظل معلقا .. جاءت موجة أخرى احتلتْ مكانها .. أنصتتْ النوارسُ وهي تتبادل النظرات .. ولا شيء يوحي بأن أحدًا يريد أن يتكلم ، رغم امتلاء رؤوسهم بالكثير الكثير ، غير أن النورسَ القادمَ من الزاوية الغربية الشمالية للبحر ، هَمْهَمَ ، وتجوّلتْ عيناه ، ثم قال بهدوء :
تناهى إلى أذنيّ أنكم تودّون مغادرة هذا المكان من البحر ، هل لي أن أعرف السبب ؟؟
صار العَجَبُ موجة عاتية ، أغرقت الجميعَ في حناياها ..

***
يتهامس النورسان :
ـ أكلَ الجوعُ معدتي ..
قال الثاني مشيرُا إلى البحر : أشياءُ كثيرة يمكن أن تُؤكل ..
قال الأول بقرفٍ ، وهو يلوي رقبته بعيدُا : ألا ترى أن البحرَ جيفة ضخمة ؟؟!! ثم أضاف بعد صمتٍ قصير :
انظر إلى تلك العاهرة كيف ترتمي هناك .. " ويشير إلى مكان غروب الشمس " ..
يزفر الثاني ، ويقول قبل أن يحلق : تحدثني دوما عن أمور لستُ مسؤولا عن كينونة حياتها أو مسارها ..

***

17/نيسان/1977

الخميس، 1 يوليو 2010

الملحق رقم 1 لما سبق

بطاقة دعوة في مطلع العام الجديد
" في نهاية العالم ، تتوحّد المآسي " ..
وأحلمُ بعينيكِ سرًّا عن أعين الرقباء ، يا امرأةً مزروعة في كل الدروب ، تحاذين الأسوارَ والأشجارَ والأعمدة .. تلهثين .. آه ، صرْتِ كباقي النسوة تلهثين !!
صوتكِ ، حملني بعيدًا ، نحو الشمس التي انتحرَتْ حيال الرؤيا ، فذبلَ القمرُ بين يدي ، وتاهتْ ابتسامة حزن على شفتيْه ، والعالمُ يصخبُ ، ويصخب ..
ها قد أتى عامٌ جديدٌ ..
لا تحزني يا امرأةً تأبَيْنَ العودة إلى نفسكِ .. هيا اخرجي مني .. ما عدْتُ أطيقُ الاحتمالَ .. ما عدْتُ أصبرُ على مضغ لحمي .. فإلامَ المَطاف ؟؟..
إلامَ المطاف يا امرأة الآلام ، والعالم يكبر ؟، ونحن نكبر ، والأقزام تكبر .. فهل بعد الحياة حياة ؟؟!!
يا امرأة الآمال ، عودي ، نحلمْ معًا .. عودي ، نجلسْ معًا ..
نحكي ، نضحك ، أموت ، تموتين ، نتهادى موجةً ربيعيةً على شاطئ خريفِ الزمن ، قادمةً من أقاصي القيعان ، وعلى شفتيْها كلماتٌ محفورة لا يفهمُها سوانا .. نعيش فيها ، ولها ..
يا امرأةً لا أعرف أين تسكنين ، لكني أعرف أين وُجدْتِ ، وأعرف متى، ولماذا وُجدْتِ .. وأعرف .. وأعرف ..

آه يا امرأة .. ما عدْتُ أعرفُ شيئا ..
آه يا امرأة القسوة .. منْ علّمَكِ إيّاها ؟؟!!
تقولين : أنتَ ..
وأقول : أنتِ ..
ونقول : هم ..
فتعاليْ نقلْها ، يا ساكنةً أقاصيَ فروعِ الشجر .. بُحَّ صوتي ، فهيّا انزلي ..
إنّ الصعودَ إليكِ مشقةٌ ، والبقاءُ مستحيل ..
يعتصرُ الألمُ ضوءَ العينين مني ، ويتراجعُ دمي في أغنية احتجاج من أجل الولادة ..
مَضغني الدهرُ ، يا امرأة يعيش صداعُ العالم في قلبها ..
فهيا يا امرأة العشق ، سئمْتُ الانتظارَ ..


الأحد ـ 02/01/1977