لم يكن السفر من الضيعة إلى حلبَ أمرًا هيّنا ، ولا مُتيسّرًا إلا لفئةٍ معينةٍ من عِلية القوم ، الذين يمتلكون بغالا أو حيوانات أخرى ، تجرُّ عرباتِهم بمَنْ عليها ..
والمسافة حوالي خمسة وعشرين كيلو مترا ، لكن قطعها في ظروف مناخية حارة أو باردة ، يجعل السفر مغامرة خطيرة ..
أما إذا أخذنا ـ بعين الاعتبار ـ توفرَ عناصر الأمان ، والسلامة من مخاطر الاعتداء أو النهب ، فإن ذلك قد يكلف المسافرَ حياته أو ماله أو عِرضه ، أو كلها معًا ، وذلك بسبب الظروف العامة السائدة :
من الاحتلال الفرنسي إلى شريعة الغاب إلى الفقر الكافر إلى موقف أهل المدينة من " الفلاحين " الوافدين إليها ، واشمئزازهم من لون الطين الأحمر الذي يلوث ثيابهم شتاء ، ويعفرهم بالتراب صيفا ..
ولأنه لا بد من التواصل مع المدينة ، بشكل أو بآخر ، ولو كانت النتائج غير سليمة تماما ، فإن الوسائل المتاحة بسيطة ، ونادرة ورغم بساطتها ..
فهناك عربات تنقل المنتجات الزراعية وشقلات الصيفي ، والتبن وغير ذلك إلى المدينة ، لتسويقها ، والعودة ببعض الحاجيات البسيطة ..
وهناك مسافرون لهم أسبابهم وخصوصيتهم الاستثنائية :
فلا بد أن يذهب الشبان إلى المدينة ليلتحقوا بأعمالهم ، المدنية أو العسكرية ..
ولا بد لتجهيز العروس ـ غالبا ـ من السفر إلى المدينة ..
ولا بد من اصطحاب المرضى للعيادات والمستشفيات ..
أما حمدو ، وزوجته كحلا ، فهما خارج كل تلك الحالات الخاصة أو الاستثنائية .. لكنه قرر أن يستجيب ـ مُكرَهًا ـ لإلحاحها ورغبتها في زيارة المدينة ، ولو لمرة واحدة في العمر ..
فقد سمعتْ كحلا كثيرًا عن المدينة التي لا غبار فيها ، ولا بقايا الزرع ، ولا الأريف ..
ويعيش السكان حياة ليس فيها فِلاحة ولا زرع ولا حَصَاد ولا رجاد ولا صيفي ولا تنانير ..
ولا تلبس المرأة مشاية ولا طربوشا ولا غطا ولا كفخا ولا أرامل .. ولا حزيم .. ولا صَف .. ولا شوكي .. ولا .. ولا ..
ويصعدون أدراجا لبيوتهم التي تعلو مئذنة الجامع ، ولها نوافذ زجاجية ، وأبواب ملونة ، وأرضها من البلاط الذي يشتهي أن ينام الإنسان فوقه مباشرة ..
وهم بسهولة يحصلون على الماء .. وبتدوير الزر ، ينتشر ضوء الكهرباء في غرفهم ..
وتتبختر السيارات على كروزات مرصوفة بحجر يتداخل فيه اللونان الأبيض والأسود ، أو شوارع جديدة يغطيها الزفت الأسود اللامع ..
أما عن أسواقها فحدّث ولا حرج .. فهي مليئة بالمتاجر المتنوعة ، والمطاعم التي تقدّم وجباتٍ شهية من الكباب الحلبي برائحته التي تشق الرأس ، واللحومات والكبب والسَّلطات ..
والحديث عن المطاعم وكبابها ، ودخان الشواء الذي يزكم الأنوف ويًُدمِعُ العينيْن هو الأهمّ عند كحلا ، لكثرة ما سمِعتْ عن نكهته اللذيذة والشهية ..
وجَرَتْ عادة الذاهبين إلى تجهيز العروس ، أن يزوروا أحدَ المطاعم لتناول وجبة من الكباب الحلبي ، قد لا يسمح الزمنُ لبعضهم ، بتكرارها .. وذلك بعد جولة طويلة متعبة في الأسواق ، لشراء الذهب وثياب العروس ، ومتطلباتها ..
وبعد الغداء " التاريخي " تذهب العروس ومرافقاتها إلى أحد حمَّامات النساء في المدينة .. وبانتهائهن من الحمَّام ، تبدأ رحلة العودة إلى الضيعة ..
وقد أصغتْ كحلا باهتمام ولهفة ، لمثل هذا الشرح المُفصَّل ، من العائدات من المدينة ، لكنها لم يَسبقْ لها أنْ رأتها ولا في المنام ، ولا حتى يوم تزوّجتْ من حمدو ، الذي نقلها من بيت أخيها إلى بيته بلا مراسم ولا احتفالات ، ولا هُمْ يحزنون .. لأن العين بصيرة و .....
لذا ، بقيت المدينة في خيال كحلا حلمًا يراودها ، ويقضّ عليها مضجَعَها الكئيب ..
فكلما حدّثتها إحداهُن ، تضيف ـ كالعادة ـ إلى الواقع تبهيرًا يجعلُ الصورة ملونة بألف لون ولون من شدة المبالغة والتهويل ، حتى بات خيالُ كحلا المحدود بعالم من الأمور البدائية جدا ، متوهجًا توهّجَ العشاق ، وشوقهم للقيا ..
قالت ، مرة ، لعمة العروس التي رافقتها في رحلة التجهيز : إنني إذا لم أرَ المدينة سأنفجر ، وأطق ..
وقد أبدتْ حسرَتها مرارًا وتكرارًا ، لكل من تروي لها حكاية سفرها إلى المدينة .. وبقيتْ أمنيتُها الوحيدة التي لا تريدُ شيئا آخرَ من الدنيا غيرَها :
أن ترى المدينة ، وأن تأكلَ في أحد مطاعمها ، سِيخًا من الكباب الحلبي ، مُبَهَّرًا ، وملفوفا برغيفٍ من الخبز الحلبي الأبيض ، مع البيواظ ، والبندورة والبصل المشويّيْن ..
وقد ضجر حمدو ، وسئم من كثرة حديثها عن تلك الأحلام والأمنيات ، لكنها ، لم تفقد الأمل أبدًا ، وظلت تُلح ، وتنقّ ، لعل وعسى أن يستجيبَ لها زوجُها العاثر ، فيحقق لها هذه الأمنية الغالية ..
وليست المسألة متعلقة بما تشتهيه كحلا من الطعام رغم أهميتها بالنسبة لجيب حمدو .. بل المشكلة تكمن في مشقة الرحلة ، ونفقاتها الهائلة التي لا تطيقها كفه ولا جيبه ..
مع كل ذلك ، وإنهاءً لحلقات مسلسل الإلحاح والنق الدائميْن ، قرّر حمدو أنْ يؤمّنَ وسيلة نقل ، ليصطحبَ كحلا إلى المدينة ، فركبتْ كحلا على الحمارة التي استعاروها من جارهم ، ومشى وراءَها ، متجهين جنوبا ، وهو مطمئن أن عليق الحمارة لن يكلفه شيئا ، فالوقت في أوائل موسم الحصاد ، وستأكل الحمارة من بقايا الزرع المحصود ، ومن قشور الجبس والبطيخ ..
وكانت كحلا قد استعدّتْ لهذه الرحلة جيدًا ، وفضّلتْ ألا تأكل أو تشربَ أيَّ شيءٍ ، كي تملأ معدَتها من الكباب الحلبي المبهّر والخبز الأبيض ..
وكانت طيلة الطريق تحث الحمارة ، وتنهرها ، وتضربها عندما تتوقف لتقضم شيئا من شرور الصيفي أو القشور أو بقايا الزرع المحصود .. فالطريقُ طويلة إلى المدينة ، ولا بد من الذهاب والعودة قبل أن ينقضيَ النهار ، وقد نطفَ قلبها قبل أن يستجيبَ حمدو لرغبتها هذه ..
أما حمدو فكان في وادٍ آخر .. إذ راح يرسم خريطة ذهنية للطرق والأسواق التي سيمرُّ عبرها موكبُ كحلا ..
ولو أنه يحبُّ الكبابَ أيضًا ، ويشتهيه .. وما يزال يتلمَّظ بطعمه ، ويتذكره كأنه بين أضراسه الآن .. وإنْ كانت الحقيقة أنه يحدّه حَدَدًا .. لكن .. من أين له تلك النفقة الباهظة ، في وقتٍ صار كل شيءٍ غاليا ، فكيف بالكباب ؟؟!!
المهم .. كحلا في شوارع المدينة .. تتلفت حولها سعيدة ، مزهوّة ، تكاد الدهشة تطيّر عقلها ، وتربط لسانَها ..
إن شوارع المدينة الشمالية أجمل بكثير مما سمعت به .. وها هي حديقة كبيرة ، ذات أشجار خضر كبيرة ، ومروج واسعة ، تحيطها الكراسي التي يجلس فوقها أناس يرتدون ألبسة لا تشبه كلَّ الملابس التي رأتْها في حياتها ..
لكن الأدهى أن بعض النسوة لا يغطين رؤوسَهن ، الأمر الذي جعلها تستنكر وتعيب وتشهق ، وتطلب من حمدو أن يكف بصرَه ، وأن يقود الحمارة خارج أسوار بيوت الناس .. معتقدة أن رأس المرأة المكشوف لا يمكن أن يكون إلا داخل سور البيت ..
ضحك حمدو من قلبه ، حين بدت كحلا مذهولة ، تستعيذ ، وتبسمل ، وتدعو على النسوة السافرات ، وتطلق عليهن أوصافها الفاجرة الفريدة ..
نهاها حمدو ، وقال : أغمضي عينيك ريثما نصل ..
وصلت القافلة إلى أطراف بستان كل آب ، فباب اجنين ، ومخازن الجملة ، وخلفها الورّاقة ، وساحات تصنيع السّحّارات وصناديق الخضراوات ، فربَط الحمارة هناك ، جانب صبّاب القهوة المرة ، واستأمنه عليها ، واستمهله قليلا من الوقت ، ومشتْ كحلا وراءه تتغندر ..
قال لها حمدو وهما يدخلان باب أنطاكية :
لا تتأخري عني .. ولا تضيّعيني في الزحام .. هنا نحن في حلب ، فاحذري وانتبهي جيدا ، ولا تختفي عني .. فإذا ضعْتِ هنا ، ستموتين قبل أن تعودي ..
دبَّ الخوف في أوصال كحلا ..
" كيف سأموتُ قبل أن أتذوق الكباب ؟؟!!
لو آكلَ الكباب حتى تؤبَّ عروقُ رقبتي ثم أموت لما تحسّرتُ على الدنيا كلها " ..
أمسكتْ بطرف ملتانه ، وهي تميل على وركيها لاهثة خلفه ، تستمهله ، فيقول دون أن يلتفت إليها :
ألم تأتِ لرؤية حلب .. يجب أن نسرعَ لتشاهديها كلها ..
كانت كحلا تخاف أن تتلفت حولها لئلا تشرد ، فتتوه ، وتضيع وهي لم تصدق أنها في المدينة .. وأنها ستأكل الكباب والخبز الأبيض بعد قليل ..
وشغّل حمدو في رأسه الكومبيوتري ، محرِّكَ البحث ، واستعان بخدمة " gps " ، وبدأت المعلومات والخرائط تقودانه وتوجهانه إلى أهم الأسواق المتفرعة من باب أنطاكية ..
فمن سوق الحدّادين إلى سوق الحِبال والخيش ، ومن سوق الصرمايات والكلاشات إلى سوق الكلس وأدوات البناء ، ومن سوق الزنابيل والقواديس إلى سوق النجارين ، ومن سوق إلى سوق ، حتى وصل به المطاف خارجًا من باب أنطاكية باتجاه الورّاقة ..
فاستمْهَلته كحلا ، لأنها ما عادت قادرة على التقاط أنفاسها .. وسألته :
أين المطعم ؟؟
قال مستهجنا : أي مطعم ؟؟
قالت لاهثة : المطعم الذي يأكلون فيه الكباب المشوي ..
سألها بخبث : هل رأيتِ مطعما في كل تلك الأسواق التي مَرَرْنا بها ؟؟
قالت : لا .. لكن أين يكون المطعم الذي حَكوا لي عنه ؟؟
هم قالوا لي : المطعم في حلب ..
سألها : ألسنا في حلب ؟؟ ألم نتجول فيها سوقا سوقا ، وحارة حارة ؟؟
قالت وقد نال منها التعبُ والجوعُ والعطشُ : هل هذه هي حلب ؟؟ كيف قالوا لي : إن فيها مطاعمَ كثيرة ، وبيّاعين يشوُون المعلاقَ والسّودا على العربات أيضا ؟؟!!
قال حمدو : إنهم يضحكون عليكِ يا هبلة ، ويكذبون .. لو كان كلامهم صحيحًا ، لرأينا ما تحدثوا لكِ عنه ..
هل رأيتِ مطعمًا في كلِّ حلبَ التي قطعْناها من أولها إلى آخرها ؟؟!!
تهاوتْ أحلام كحلا في وجبة من الكباب .. فطلبتْ من حمدو أن يأتيَها برغيفِ خبز أبيض يشبه ذلك الذي يقضمه أحد المارة .. وانتظرتْ كحلا أن ينفذ لها رغبتها ، لكن حمدو ، أسندَ ظهرَه المُتعبَ على السور الحجري العالي لباب أنطاكية ، وانزلق جالسا ، فيما كانت كحلا ما تزال واقفة ، تؤمّلُ أنْ ينهضَ حمدو ليأتيَها برغيفِ خبز أبيض ..
لكنه ، وبتؤدة ، استلَّ من عبِّه كعكة ، هي آخر ما تبقى ، كان يخبئها لأوقات الشدة .. قسَمَها نصفيْن ، ومدَّ يدَه المعروقة يناولها حصتها ..
غامتْ عينا كحلا ، فأغمضتهما أسفا ، وحزنا ، ويأسًا ، وخارتْ قواها ، فتهالكتْ جالسة إلى جانبه .. ورفضتْ يدَه الممدودة إليها بنصف الكعكة ..
الاثنين ـ 05/تموز/2010
والمسافة حوالي خمسة وعشرين كيلو مترا ، لكن قطعها في ظروف مناخية حارة أو باردة ، يجعل السفر مغامرة خطيرة ..
أما إذا أخذنا ـ بعين الاعتبار ـ توفرَ عناصر الأمان ، والسلامة من مخاطر الاعتداء أو النهب ، فإن ذلك قد يكلف المسافرَ حياته أو ماله أو عِرضه ، أو كلها معًا ، وذلك بسبب الظروف العامة السائدة :
من الاحتلال الفرنسي إلى شريعة الغاب إلى الفقر الكافر إلى موقف أهل المدينة من " الفلاحين " الوافدين إليها ، واشمئزازهم من لون الطين الأحمر الذي يلوث ثيابهم شتاء ، ويعفرهم بالتراب صيفا ..
ولأنه لا بد من التواصل مع المدينة ، بشكل أو بآخر ، ولو كانت النتائج غير سليمة تماما ، فإن الوسائل المتاحة بسيطة ، ونادرة ورغم بساطتها ..
فهناك عربات تنقل المنتجات الزراعية وشقلات الصيفي ، والتبن وغير ذلك إلى المدينة ، لتسويقها ، والعودة ببعض الحاجيات البسيطة ..
وهناك مسافرون لهم أسبابهم وخصوصيتهم الاستثنائية :
فلا بد أن يذهب الشبان إلى المدينة ليلتحقوا بأعمالهم ، المدنية أو العسكرية ..
ولا بد لتجهيز العروس ـ غالبا ـ من السفر إلى المدينة ..
ولا بد من اصطحاب المرضى للعيادات والمستشفيات ..
أما حمدو ، وزوجته كحلا ، فهما خارج كل تلك الحالات الخاصة أو الاستثنائية .. لكنه قرر أن يستجيب ـ مُكرَهًا ـ لإلحاحها ورغبتها في زيارة المدينة ، ولو لمرة واحدة في العمر ..
فقد سمعتْ كحلا كثيرًا عن المدينة التي لا غبار فيها ، ولا بقايا الزرع ، ولا الأريف ..
ويعيش السكان حياة ليس فيها فِلاحة ولا زرع ولا حَصَاد ولا رجاد ولا صيفي ولا تنانير ..
ولا تلبس المرأة مشاية ولا طربوشا ولا غطا ولا كفخا ولا أرامل .. ولا حزيم .. ولا صَف .. ولا شوكي .. ولا .. ولا ..
ويصعدون أدراجا لبيوتهم التي تعلو مئذنة الجامع ، ولها نوافذ زجاجية ، وأبواب ملونة ، وأرضها من البلاط الذي يشتهي أن ينام الإنسان فوقه مباشرة ..
وهم بسهولة يحصلون على الماء .. وبتدوير الزر ، ينتشر ضوء الكهرباء في غرفهم ..
وتتبختر السيارات على كروزات مرصوفة بحجر يتداخل فيه اللونان الأبيض والأسود ، أو شوارع جديدة يغطيها الزفت الأسود اللامع ..
أما عن أسواقها فحدّث ولا حرج .. فهي مليئة بالمتاجر المتنوعة ، والمطاعم التي تقدّم وجباتٍ شهية من الكباب الحلبي برائحته التي تشق الرأس ، واللحومات والكبب والسَّلطات ..
والحديث عن المطاعم وكبابها ، ودخان الشواء الذي يزكم الأنوف ويًُدمِعُ العينيْن هو الأهمّ عند كحلا ، لكثرة ما سمِعتْ عن نكهته اللذيذة والشهية ..
وجَرَتْ عادة الذاهبين إلى تجهيز العروس ، أن يزوروا أحدَ المطاعم لتناول وجبة من الكباب الحلبي ، قد لا يسمح الزمنُ لبعضهم ، بتكرارها .. وذلك بعد جولة طويلة متعبة في الأسواق ، لشراء الذهب وثياب العروس ، ومتطلباتها ..
وبعد الغداء " التاريخي " تذهب العروس ومرافقاتها إلى أحد حمَّامات النساء في المدينة .. وبانتهائهن من الحمَّام ، تبدأ رحلة العودة إلى الضيعة ..
وقد أصغتْ كحلا باهتمام ولهفة ، لمثل هذا الشرح المُفصَّل ، من العائدات من المدينة ، لكنها لم يَسبقْ لها أنْ رأتها ولا في المنام ، ولا حتى يوم تزوّجتْ من حمدو ، الذي نقلها من بيت أخيها إلى بيته بلا مراسم ولا احتفالات ، ولا هُمْ يحزنون .. لأن العين بصيرة و .....
لذا ، بقيت المدينة في خيال كحلا حلمًا يراودها ، ويقضّ عليها مضجَعَها الكئيب ..
فكلما حدّثتها إحداهُن ، تضيف ـ كالعادة ـ إلى الواقع تبهيرًا يجعلُ الصورة ملونة بألف لون ولون من شدة المبالغة والتهويل ، حتى بات خيالُ كحلا المحدود بعالم من الأمور البدائية جدا ، متوهجًا توهّجَ العشاق ، وشوقهم للقيا ..
قالت ، مرة ، لعمة العروس التي رافقتها في رحلة التجهيز : إنني إذا لم أرَ المدينة سأنفجر ، وأطق ..
وقد أبدتْ حسرَتها مرارًا وتكرارًا ، لكل من تروي لها حكاية سفرها إلى المدينة .. وبقيتْ أمنيتُها الوحيدة التي لا تريدُ شيئا آخرَ من الدنيا غيرَها :
أن ترى المدينة ، وأن تأكلَ في أحد مطاعمها ، سِيخًا من الكباب الحلبي ، مُبَهَّرًا ، وملفوفا برغيفٍ من الخبز الحلبي الأبيض ، مع البيواظ ، والبندورة والبصل المشويّيْن ..
وقد ضجر حمدو ، وسئم من كثرة حديثها عن تلك الأحلام والأمنيات ، لكنها ، لم تفقد الأمل أبدًا ، وظلت تُلح ، وتنقّ ، لعل وعسى أن يستجيبَ لها زوجُها العاثر ، فيحقق لها هذه الأمنية الغالية ..
وليست المسألة متعلقة بما تشتهيه كحلا من الطعام رغم أهميتها بالنسبة لجيب حمدو .. بل المشكلة تكمن في مشقة الرحلة ، ونفقاتها الهائلة التي لا تطيقها كفه ولا جيبه ..
مع كل ذلك ، وإنهاءً لحلقات مسلسل الإلحاح والنق الدائميْن ، قرّر حمدو أنْ يؤمّنَ وسيلة نقل ، ليصطحبَ كحلا إلى المدينة ، فركبتْ كحلا على الحمارة التي استعاروها من جارهم ، ومشى وراءَها ، متجهين جنوبا ، وهو مطمئن أن عليق الحمارة لن يكلفه شيئا ، فالوقت في أوائل موسم الحصاد ، وستأكل الحمارة من بقايا الزرع المحصود ، ومن قشور الجبس والبطيخ ..
وكانت كحلا قد استعدّتْ لهذه الرحلة جيدًا ، وفضّلتْ ألا تأكل أو تشربَ أيَّ شيءٍ ، كي تملأ معدَتها من الكباب الحلبي المبهّر والخبز الأبيض ..
وكانت طيلة الطريق تحث الحمارة ، وتنهرها ، وتضربها عندما تتوقف لتقضم شيئا من شرور الصيفي أو القشور أو بقايا الزرع المحصود .. فالطريقُ طويلة إلى المدينة ، ولا بد من الذهاب والعودة قبل أن ينقضيَ النهار ، وقد نطفَ قلبها قبل أن يستجيبَ حمدو لرغبتها هذه ..
أما حمدو فكان في وادٍ آخر .. إذ راح يرسم خريطة ذهنية للطرق والأسواق التي سيمرُّ عبرها موكبُ كحلا ..
ولو أنه يحبُّ الكبابَ أيضًا ، ويشتهيه .. وما يزال يتلمَّظ بطعمه ، ويتذكره كأنه بين أضراسه الآن .. وإنْ كانت الحقيقة أنه يحدّه حَدَدًا .. لكن .. من أين له تلك النفقة الباهظة ، في وقتٍ صار كل شيءٍ غاليا ، فكيف بالكباب ؟؟!!
المهم .. كحلا في شوارع المدينة .. تتلفت حولها سعيدة ، مزهوّة ، تكاد الدهشة تطيّر عقلها ، وتربط لسانَها ..
إن شوارع المدينة الشمالية أجمل بكثير مما سمعت به .. وها هي حديقة كبيرة ، ذات أشجار خضر كبيرة ، ومروج واسعة ، تحيطها الكراسي التي يجلس فوقها أناس يرتدون ألبسة لا تشبه كلَّ الملابس التي رأتْها في حياتها ..
لكن الأدهى أن بعض النسوة لا يغطين رؤوسَهن ، الأمر الذي جعلها تستنكر وتعيب وتشهق ، وتطلب من حمدو أن يكف بصرَه ، وأن يقود الحمارة خارج أسوار بيوت الناس .. معتقدة أن رأس المرأة المكشوف لا يمكن أن يكون إلا داخل سور البيت ..
ضحك حمدو من قلبه ، حين بدت كحلا مذهولة ، تستعيذ ، وتبسمل ، وتدعو على النسوة السافرات ، وتطلق عليهن أوصافها الفاجرة الفريدة ..
نهاها حمدو ، وقال : أغمضي عينيك ريثما نصل ..
وصلت القافلة إلى أطراف بستان كل آب ، فباب اجنين ، ومخازن الجملة ، وخلفها الورّاقة ، وساحات تصنيع السّحّارات وصناديق الخضراوات ، فربَط الحمارة هناك ، جانب صبّاب القهوة المرة ، واستأمنه عليها ، واستمهله قليلا من الوقت ، ومشتْ كحلا وراءه تتغندر ..
قال لها حمدو وهما يدخلان باب أنطاكية :
لا تتأخري عني .. ولا تضيّعيني في الزحام .. هنا نحن في حلب ، فاحذري وانتبهي جيدا ، ولا تختفي عني .. فإذا ضعْتِ هنا ، ستموتين قبل أن تعودي ..
دبَّ الخوف في أوصال كحلا ..
" كيف سأموتُ قبل أن أتذوق الكباب ؟؟!!
لو آكلَ الكباب حتى تؤبَّ عروقُ رقبتي ثم أموت لما تحسّرتُ على الدنيا كلها " ..
أمسكتْ بطرف ملتانه ، وهي تميل على وركيها لاهثة خلفه ، تستمهله ، فيقول دون أن يلتفت إليها :
ألم تأتِ لرؤية حلب .. يجب أن نسرعَ لتشاهديها كلها ..
كانت كحلا تخاف أن تتلفت حولها لئلا تشرد ، فتتوه ، وتضيع وهي لم تصدق أنها في المدينة .. وأنها ستأكل الكباب والخبز الأبيض بعد قليل ..
وشغّل حمدو في رأسه الكومبيوتري ، محرِّكَ البحث ، واستعان بخدمة " gps " ، وبدأت المعلومات والخرائط تقودانه وتوجهانه إلى أهم الأسواق المتفرعة من باب أنطاكية ..
فمن سوق الحدّادين إلى سوق الحِبال والخيش ، ومن سوق الصرمايات والكلاشات إلى سوق الكلس وأدوات البناء ، ومن سوق الزنابيل والقواديس إلى سوق النجارين ، ومن سوق إلى سوق ، حتى وصل به المطاف خارجًا من باب أنطاكية باتجاه الورّاقة ..
فاستمْهَلته كحلا ، لأنها ما عادت قادرة على التقاط أنفاسها .. وسألته :
أين المطعم ؟؟
قال مستهجنا : أي مطعم ؟؟
قالت لاهثة : المطعم الذي يأكلون فيه الكباب المشوي ..
سألها بخبث : هل رأيتِ مطعما في كل تلك الأسواق التي مَرَرْنا بها ؟؟
قالت : لا .. لكن أين يكون المطعم الذي حَكوا لي عنه ؟؟
هم قالوا لي : المطعم في حلب ..
سألها : ألسنا في حلب ؟؟ ألم نتجول فيها سوقا سوقا ، وحارة حارة ؟؟
قالت وقد نال منها التعبُ والجوعُ والعطشُ : هل هذه هي حلب ؟؟ كيف قالوا لي : إن فيها مطاعمَ كثيرة ، وبيّاعين يشوُون المعلاقَ والسّودا على العربات أيضا ؟؟!!
قال حمدو : إنهم يضحكون عليكِ يا هبلة ، ويكذبون .. لو كان كلامهم صحيحًا ، لرأينا ما تحدثوا لكِ عنه ..
هل رأيتِ مطعمًا في كلِّ حلبَ التي قطعْناها من أولها إلى آخرها ؟؟!!
تهاوتْ أحلام كحلا في وجبة من الكباب .. فطلبتْ من حمدو أن يأتيَها برغيفِ خبز أبيض يشبه ذلك الذي يقضمه أحد المارة .. وانتظرتْ كحلا أن ينفذ لها رغبتها ، لكن حمدو ، أسندَ ظهرَه المُتعبَ على السور الحجري العالي لباب أنطاكية ، وانزلق جالسا ، فيما كانت كحلا ما تزال واقفة ، تؤمّلُ أنْ ينهضَ حمدو ليأتيَها برغيفِ خبز أبيض ..
لكنه ، وبتؤدة ، استلَّ من عبِّه كعكة ، هي آخر ما تبقى ، كان يخبئها لأوقات الشدة .. قسَمَها نصفيْن ، ومدَّ يدَه المعروقة يناولها حصتها ..
غامتْ عينا كحلا ، فأغمضتهما أسفا ، وحزنا ، ويأسًا ، وخارتْ قواها ، فتهالكتْ جالسة إلى جانبه .. ورفضتْ يدَه الممدودة إليها بنصف الكعكة ..
الاثنين ـ 05/تموز/2010