لكل
مشكلة حل ، إلا هذه
مع منتصف تسعينيات القرن الماضي ، أخذت الحركة
العقارية والعمرانية ـ متأثرة بظروف الاستقرار السياسي عقب حربي الخليج ـ تنمو
وتزدهر في دول الخليج العربية عموما ، والإمارات خصوصا ، ومستفيدة من الظروف
الاقتصادية المتنامية صعودا ، ومن الانتعاش العالمي ..
وكان لهذه الحركة آثار كثيرة ومنعكسات
على الحالة المعيشية السائدة في البلاد ..
فالتطوير العمراني يستلزم مواد أولية
ومكاتب وشركات هندسية وإنشائية ووسائط اتصالات ونقل وبنية تحتية ....
وكل ذلك ، يحتاج إلى أيدٍ عاملة ..
وهذه لها مستلزماتها وحاجاتها أيضا : كالمسكن العائلي أو المشترك ، والملبس
والمأكل والتعليم والطبابة والترفيه والخدمات والحاجات المتعددة ....
ومع الازدياد الكبير والسريع في عدد
الوافدين ، نجمت ونتجت مشاكل أخرى :
ارتفاع سقف الإيجارات العقارية والتجارية
بشكل جنوني ، التوسع العمراني أفقيا وشاقوليا ، الحاجة الماسة لبنية تحتية وخدمية
تستوعب هذه الزيادات ، الاختناقات المرورية التي عانت منها تحديدا مدينتان
رئيسيتان من مدن الإمارات : دبي ، والشارقة ..
ففي فترتي الظهيرة والمساء ، تكتظ
الشوارع بالسيارات المتحركة ببطء شديد ، وتغص المفترقات والمستديرات وإشارات
المرور بطوابير طويلة منها ، تنفث من عوادمها ومحركاتها لهيبا يؤجج سعير الشمس
والإسفلت ، فـ " لا أرض تقيك ولا
سماء " فكأنك في قعر البركان ..
وتوصف مدينة الشارقة بأنها " فندق
دبي " ..
أي : يعمل في دبي معظم القاطنين في
الشارقة وعجمان وما بعدها من إمارات ، حيث يقصدونها صباحا وعصرا حسب فترتي الدوام
الصباحية والمسائية ، ويعودون منها على فترتين أيضا ، ليناموا في بيوتهم ..
وفي كل ذهاب وإياب يتسببون بحالات
فظيعة من الازدحام المروري الخانق ..
ورغم كل المحاولات لحل هذه المشكلة عبر
السنين ، إلا أنه بدا لنا أن لكل مشكلة حلا هنا ، إلا تلك .. وباعتقادنا ، لو أن الإرادة
شاءت حلها ، لحُلت قبل أن يرتدَّ طرفك إليك ، لكنها لم تشأ ، لأسباب مبهمة ظاهريا
، ولم يُتخذ قرارٌ حقيقي جريء بحلها نهائيا ، مثلما حُلـَّت كثيرٌ من المعضلات
الأكثر تعقيدا وتشابكا ، سواء على صعيد الطرق والجسور والأنفاق أو غير ذلك ..
وكنت من هؤلاء الذين " يكاكون في
دبي ويبيضون في الشارقة " كما يُقال .. لأن عملي في دبي وبيتي في الشارقة ، لأسباب
تتعلق بالفارق الكبير في إيجارات الشقق بين المدينتين ، إضافة إلى أسباب اجتماعية
أخرى ..
وتهربا من الزحام كنت ـ أنا وغيري ـ
إذا خرجت من البيت في السادسة صباحا ، فطريقي تحتاج أقل من نصف ساعة للوصول ،
بينما لو تأخرت في الخروج ربع ساعة أخرى لما وصلت قبل ستين أو سبعين دقيقة ..
ومع الأيام ، ومع تكاثر العابرين صباحا
، صار جسر " الملا بلازا " " عنقَ زجاجةٍ " لقاصدي دبي ،
يختنق ويغص منذ السادسة صباحا ، فصار لزاما أن نصل إليه في الخامسة والنصف ، ومع
مرور الشهور صار الوصول إليه في الخامسة فجرا .. وكلما تقدمت السنون تفاقمت الأزمة
وتعقدت ..
ويشكل شارعا الوحدة والعروبة في
الشارقة معبريْن هامّيْن ورئيسييْن يصلان بين دبي من جهة وعجمان من جهة أخرى ، وما
وراءهما ..
أما شارع العروبة فهو طريق ضيقة
التفافية ومواربة ، وفيه جسران قبل نفق الرولة ، وثلاثة بعده ، أوسطها فوق بحيرة
خالد ، وكلها توصل إلى شارع الاتحاد الذي هو بوابة العبور الرئيسية إليها ، وصلة
الوصل إلى عجمان وأم القيوين وما بعدهما ، وإلى دبي والعين وأبو ظبي ومحيطها ..
وكانت تلك الطرق والجسور أكثر المناطق
ازدحاما في أوقات الذروة ، ثم اتسع نطاق " الذروة " ليشمل معظم ساعات
اليوم ..
وكثيرا ما يتخذ العابرون ـ وخاصة ـ بين
الشارقة ودبي ـ طرقا عبر المناطق الرملية الجانبية ، تهربا من الزحام ، ليواجهوا
مشاكل أخرى ، كان آخرها قيام الشرطة بمخالفة هؤلاء ، ثم إغلاقها بسواتر رملية
عالية ، ثم بموانع وحواجز إسمنتية ..
بين قوسين : (( وفيما بعد ، عندما تم تطوير شارع
الاتحاد من جهة دبي تفاءلنا بوجود ممرات إلى اليمين باتجاه الممزر ، وتؤدي إلى نفق
الشندغة ، لكن ذلك سبّب لدبي ـ كما قيل ـ اختناقات أخرى داخل المدينة مما جعلهم
يسدون هذه التفرعات بالحواجز الإسمنتية !!!
" وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه منذ قليل "
)) ..
كل تلك المقدمة ، تستهدف توضيح الضغوط
النفسية والعصبية التي عانينا منها في شق صفوف الزحام ذهابا وإيابا وصولا إلى
العمل بلا تأخير ، إضافة إلى هدر كثير من الوقت في ظل ظروف جوية قاسية .....
لذا ، كنا نتقاعس ، ونستغني أحيانا ،
عن الذهاب إلى دبي إلا لضرورة قصوى ، أو في غير أوقات الذروة العصيبة ..
ولم يكن يخطر ببالي ـ ولا ببال غيري
ربما ـ أن يكون الحادث المروري خطيرا جدا إلى هذه الدرجة ، والذي وقع لي في شارع
العروبة في الشارقة ، وتحديدا فوق قمة الجسر المحدودب معتليا بحيرة خالد ..
وحصل هذا الحادث بعد تسعة أشهر من ذاك الذي
وقع لي في السعودية في طريق العودة من سورية ..
كنت عائدا من دبي إلى الشارقة بعد
انتهاء الدوام ، وقد بلغت ذروة الزحام مجدَها في شارع الاتحاد عند عنقه " جسر
الخان ـ سابقا ـ وحاليا جسر الخلفاء الراشدين " ، وانسدت آفاق شارع العروبة وتفريعاته
وجسوره الأخرى بسبب عنق ثانية عند نفق " الرولة " ..
وهاتان العنقان كانتا سبب الزحام في
الشارقة على هذا المحور ..
وقبيل بداية تسلق منطقة الجسور الثلاثة
، كنت أشاهد خلفي في المرآة سيارة هوندا حمراء تحاول أن تتجاوز الزحام بكل السبل
.. فتارة يستخدم سائقها الإلحاح بالمنبه ، ليوحي أنه في حالة طارئة ، وتارة يستخدم
الأنوار الخطافة لينبه من أمامه بضرورة تمريره ، وكانت السيارات تسير بسرعة
السلحفاة ، وهو يريد أن يسير بسرعة الأرنب ..
ولا تكون المسافة بين السيارة والأخرى طويلة
، حين يكون السير بطيئا ، بينما تتطاول المسافة طردا مع ازدياد سرعة السيارات ..
وفوق قمة الجسر المحدودب بدأ صاحبنا
" راعي الهوندا الحمراء " تكتيكا جديدا مستخدما طريقة " زيك زاك "
في المرور بين السيارات عبر مسربي الطريق فوق الجسر ..
كنت على الطرف الأيسر جانب المنصِّف
حين أراد أن يدخل أمامي من يميني ، والمسافة بين السيارات لا تتناسب مع سرعته في
الانتقال والزكزكة يمينا ويسارا ، لكنه حشر نفسه أمام سيارتي ..
ومع التزامي بأقصى يسار الطريق إلا أن
الجناح الأيسر من مؤخرة سيارته سَحَجَ الجناح الأيمن الأمامي من سيارتي وضغطه دافعا
مقدمة السيارة يسارا ، فقفزت السيارة كالبهلوان الشاطر فوق الرصيف المُنصِّف ،
وكأنّ يدًا جبارة أمسكت بها ونقلتها من الطريق الأيمن إلى الأيسر ، وأكملت طريقها
ـ منحدرة مع انحدار الطريق أمامها ـ نحو أقصى يسار الجسر فوق البحيرة ...
يا سلالالام !! .. لا يمكن لأحد أن
يحسدني على ما أنا فيه :
أولا : كيف السبيل الآن للتخلص من
السقوط من أعلى الجسر في مياه البحيرة ؟؟
وثانيا : إذا تخلصت من ذلك ، كيف أتجنب
الاصطدام بالسيارات القادمة من الاتجاه المعاكس مسرعة ، كون هذا الاتجاه لا يشهد
زحاما كالذي كنت فيه ؟؟
وثالثا : وفوق ذلك ، انعدم تأثير الفرامل
بعد احتكاك أسفل السيارة بأحجار الرصيف المنصف وسطحه ، وهذا سيمنع وقوف سيارتي ولو
نجح الآخرون في الوقوف بعيدا ، مما يعني وقوع الاصطدام وجها لوجه لا محالة ....
في تلك الثواني المصيرية قررت تنفيذ
أهون الشرور ..
قررت الاصطدام بأقرب عمود من أعمدة
الإنارة المزروعة في المنصف ، وليكن ما يكون .. فهل ستستجيب السيارة لرغبتي ؟؟
لمحت الذعر الذي أصاب السيارات القادمة
صوبي ، وهي تفرمل مذعورة ، ويكاد بعضها يصطدم بالآخر ..
حزمت أمري .. وبكل قوتي أدرت المقود
إلى اليمين بعد أن أوشكت تجاوز الرصيف الثاني نحو الهاوية .. وهنا تجنبتني سيارة
احتار سائقها : هل يبتعد عني يمينا أو يسارا ؟ وبصعوبة وحزم اتجهت نحو أقرب عمود ،
مصمما أن يكون اصطدامي به من يمين السيارة تخفيفا لأثر الصدمة عليّ إلى أقل ضرر
متوقع ..
وهكذا كان .. صدمتُ المقدمة اليمنى
للسيارة بعمود الكهرباء ، وتمترستُ بالكرسي ، وثبَّتُّ جذعي بمسنده كي لا يرتطم
رأسي بالزجاج الأمامي من قوة الاصطدام ، فانخلعت المرآة الداخلية وطارت صوبي لتصيب
وجهي وأنفي وتدميهما ..
توقف السير في الاتجاهين ، وأسرع عدد
من الناس يساعدونني على النزول من السيارة خوفا من ماس كهربائي أو حريق ..
وقبل أن أترك بقية الحديث للصور التالية
، لا أجد بدًّا من توجيه جزيل الشكر والامتنان للزميل الأخ عثمان مكانسي "
أبي حسان " الذي صودف وجوده لحظة الحادث ، فوقف إلى جانبي وقفة شهامة معهودة
فيه ، ولم يتوان في بلسمة ما أمكنه في تلك اللحظة ، فجزاه الله عني كل خير أينما
كان .. والحمد لله على كل حال ..
وبعد التي واللتيا ، تنازلتُ عن
السيارة لشركة التأمين الضامنة لسيارة المتسبِّب ، واستلمتُ تعويضا كاملا عنها بعد
أن صارت سكرابا محطما ..
وهنا أعلنت التوبة عن اقتناء المرسيدس
والتويوتا ..
وكانت بداية عهد " الكابريس
" ـ الذي امتد لأحد عشر عاما تلت ذلك ـ موزعة على سيارتين من جيلين متتابعين لكل
منهما شجون وشجون ..
عشتم سالمين غانمين ..
الخميس / 15/ 09 / 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق