صيف 1980
حتى ذلك
الوقت ، لم أكن قد تعرضت لأي حادث سير نهائيا ، رغم أسفاري " الودية "
الكثيرة ، وشغفي بالقيادة السريعة ..
أما في ذلك الصيف ، فقد تهيأت لنا ظروف
مناسِبة لقضاء إجازة على شاطئ البحر ، أنا وصديقي أبو حسام وصديقنا أبو عبدو وأخوه
علي وابن أختهما عباس ، الذي اشترى له والده سيارة بيجو لندشنها برحلتنا هذه ..
لم نصطحب سوى أمتعتنا الشخصية البسيطة
، وانطلقنا باكرا من القرية بعد سهرة وداعية مليئة بالضجيج الذي يريد منه الأصدقاء
ثنينا عن الرحلة ، أو اصطحابهم معنا .. لكن الموقف لا يحتمل مزيدا من المشاركين ،
ولاسيما أن عددهم أكثر من عددنا بكثير .
وطلب عباس أن يقود بنا السيارة إلى حلب
، على أن أتولى ذلك بعدها ، لوعورة الطريق إلى الساحل ، وقلة خبرته به وبالقيادة
..
كان الفجر لطيفا .. تترامى حقول الخضار
الصيفية على جانبي الطريق .. وثمة فلاحون رجال ونساء ، يتحركون بين خطوط أراضيهم
يتلقطون رزقهم مما تجود به أرضهم ..
الطريق الإسفلتية ضيقة نسبيا ، ولا أثر
يذكر لحركة السير .. لذا فإن قائد مركبتنا مصمم على أن يغذ السير رغم تنبيهات خاله
له بالتمهل .. وكان جالسا بجانبه ، فيما جلس أبو حسام عن يمين خاله علي وأنا عن يساره
..
وحين بدا أن سرعته تجاوزت الحد المقبول
، طالبه أبو حسام بالتباطؤ ، فرد : بأنه سيجرب قوة ونشاط السيارة .. وكنا قد
اقتربنا من منطقة المخفر وظهر الكرم المرتفعة ، حيث تم مؤخرا توسيع الطريق لثلاثة
أضعافه ، مما يعطي أريحية للسيارة المسرعة ، إلا أنها تباطأت فعليا بسبب ميل
الطريق للارتفاع ، وظهرت سيارة فولكسفاكن صغيرة وحيدة قادمة من حلب وهي تتسارع
نزولا باتجاهنا وتتمايل يمنة ويسرة ، بما يوحي بأن سائقها نائم أو غائب عن الوعي
..
ارتبك عباس وهو يرى السيارة تهوي
وتتحول أمامه قاطعة عرض الطريق ، فحرك المقود يمينا ليهرب من تلك التي تقترب منا
مباشرة ، وحين غيرت تلك اتجاهها ، غير اتجاه المقود وهو على سرعته ، فتمايلت بنا
السيارة يمينا ويسارا مرات ، حتى انقلبت على جنبها الأيمن وانزلقت فوق الإسفلت
الجديد ، فانفتح الباب الخلفي الأيمن وشكل عمودا بين السيارة والأرض منعها من مزيد
التشقلب ، وظل الباب يسندها طيلة مسافة انزلاقها حتى توقفت ..
كانت الشمس في خيوطها الأولى .. وأشجار
الفستق الحلبي المنتشرة على جانبي الطريق مزهوة بعناقيدها الحمر ..
اطمأننا على بعضنا ونحن نتسلل بالخروج
من الباب المفتوح ومن نافذتها الأمامية التي طار زجاجها ولم ينكسر ، وتأكدنا أن لا
إصابات تذكر ..
وهُرع إلينا شبان ممَن رأوا الحادث ،
وعرضوا علينا ما نحتاج من خدمات أو إسعاف .. ثم ساعدونا في تجليس السيارة على
عجلاتها ، وبقي عدد منهم حولنا حتى جمعنا ما تبعثر من أمتعة ، وحملنا الزجاج ، ووجدنا
على الأرض مفتاح خزان الوقود الذي فقدناه أمس ولم نعثر عليه ، وبتنا في ورطة البحث
عن طريقة للتزود بالوقود دون تخريب الغطاء والقفل ..
أدرت المحرك ، فدار بعد تريث وعنعنة ،
ثم كأن شيئا لم يكن ..
شكرنا الأشخاص الذين ساعدونا ،
واستدرنا عائدين بفرحةٍ فاقت مشاعرنا التي طبَعَت صباحنا قبيل الحادث ..
لم يكن قد تغير شيء مما حولنا في طريق
العودة ، سوى أن الشمس خرجت لنا ، وبدت أكثر سطوعا ، بينما ازدادت علينا برودة
نسمات الصباح لعدم وجود الزجاج الأمامي للسيارة في مكانه ، فكنت أزيد السرعة
أحيانا ليلفحَ وجوهَنا الهواءُ البارد فتعلو الأصوات احتجاجا " لأننا لا يجب
أن نعود فورا وسريعا إلى بيوتنا التي خرجنا منها قبل ساعة ونيف ، لئلا يشك أحد
بغير حقيقة ما جرى " ..
وعليه قررنا أن نذهب إلى بيت صديق
نتوقع استيقاظه باكرا ..
فوجئ بنا صديقنا إبراهيم على باب داره
، فاستفسر بلهفة عن سبب عودتنا بهذه السرعة ، ولم يهدأ إلا بعد التأكد من سلامتنا
جميعا ، والباقي لا يهم ..
لم أعد أذكر كثيرا من التفاصيل ،
وأهمها : مكان إخفاء السيارة عن عيون الفضوليين والشامتين ممن لم نتمكن من
اصطحابهم ، لكن عددا شاهدونا عائدين بحال ليست طبيعية ، فبدأت التساؤلات والتكهنات
تسري خِفية ، ثم تحولت جهرا بعد أن ضيّعوا مكان وجودنا ليطمئنوا على حالنا ،
فانتشرت ظنون السوء بما جرى ، واشتد القلق عند أهلنا ونحن في منأى عن كل ذلك ، لولا
تسرب بعض المعلومات المطمِئنة المتأخرة من زوجة صديقنا إبراهيم كونها خالة أولادي ..
واتفقنا أن نمضي بقية النهار متخفين في بيت صديقنا مصطفى ، بحيث لا يكون فيه أحد
سوى الشلة ، وكلفنا من يزودنا بما نحتاج من أطعمةٍ للغداء والعشاء ، دون أن يعرفَ
أحدٌ مكاننا ..
في الواقع ، ليس ثمة عيب أو سوء
اقترفناه فيما جرى ، لكننا شعرنا بخيبةٍ لم يكن لنا يدٌ في بلوغها ، وانتابنا شيء
من الإحساس بالمسؤولية تجاه ما تسَبَّبْنا به من عطل وضرر للسيارة ، على الرغم من
يقيننا أن ذلك لا يشكل أي عبء يذكر لإصلاحها .. لكنها بالنتيجة : فرحة لم تتم ...
وأردنا أخيرا أن ننجو من ألسنة الأحبة
الشامتين .. لكننا لم نتحمل بُعْدَهم عنا وقلقهم علينا ، فاستقدمناهم ليرجمونا
بسيل مشاعرهم وألفاظهم الممزوجة بكل شيء ، إلا الشماتة ...
الخميس / 08/09/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق