" معارك ثقافية في سورية "
1975 ـ 1977
تتمة
القسم الأول
" يوسف اليوسف .. والخروج من أزمة الشريحة باتجاه
اليسار " ..
( من
المنهج النفسي ، إلى المنهج المتكامل ) .
يقدم لنا يوسف
اليوسف نفسه من خلال عطائه النقدي ، الذي اتسم منذ ظهوره بالمنهج النفسي ـ الفرويدي
خاصة ـ ، ولكنه ، وبعد مرحلة طويلة ، كتب خلالها الكثير من الدراسات ، استنادا على
معطيات هذا المنهج ، ورفضه ، ودعا إلى استبداله بـ " المنهج المتكامل "
.
ولم يكن طرح
يوسف اليوسف مرتبطا بالاستنتاجات الخاطئة والمرفوضة التي وصل إليها من خلال المنهج
فحسب ، بل إنه مرتبط أيضا ، بموقع اجتماعي معين ، وبطريقة تفكير معينة .
لذا ، وتأسيسا
على ذلك ، فإننا لا نعلم فيما إذا كان يوسف اليوسف سيتخلى عن منهجه المتكامل هذا
أيضا ويؤمن بمنهج بديل .. ولكننا نعرف جيدا ، أن ما مرَّ به يوسف اليوسف ، يمثل
إحدى خصائص البورجوازية الصغيرة ، وهي تنزع للخلاص من أزمة طبقتها .. وهذا الشيء
الذي تراه عنده كفرد ، يعبر أيضا عن قطاع اجتماعي يتخذ صورة مجسمة تكشف كل
ازدواجية وتخبط هذا القطاع .
هذه الصورة ـ
التجريبية ـ هي التي تطبقها البورجوازية الصغيرة من خلال السياسة ، والاقتصاد ،
والفكر ، والأدب أيضا .. أي : إنها تتنكر لكل التجربة الحضارية الإنسانية ، وتدعو
إلى خلق التجربة الخصوصية من خلال التجريب . إن نموذج يوسف اليوسف ، هو بُعْدٌ
مكثف لهذه الصورة .. أي : إننا نسمح لأنفسنا بالقول : إن ما مرّ به يوسف اليوسف
كناقد ـ فرد ، يتحول إلى ـ تجريبية ـ كاملة فيما إذا كان في إطار الجماعة
البورجوازية الصغيرة .
وانطلاقا من
هذا التحليل ، فإن عدم جذرية البورجوازية الصغيرة ، وتخلخل موقعها الطبقي بين
البروليتاريا والبورجوازية الكبيرة ، لا تسمح لها باتخاذ منهج محدد ، أو ، إنها
تنزلق إلى مناهج تعبر عن ازدواجيتها ، أو تأخذ شكلا آخر ، فتبني منهجها من خلال
التجريب .
ويوسف اليوسف
، نموذج حي لهذه الحالة بالضبط .
فخلال مرحلة
اللاوعي ، كان يجهد نفسه كثيرا في أن يلائم ـ ولكن قسريا ـ ما بين النظرية
الفرويدية ، والنتاج الأدبي الذي ينقده ( على وجه التحديد : الشعر الجاهلي ) .
فهو ،
بالإضافة إلى أنه حجَّمَ العمل الإبداعي في مجموعة عقد نفسية ، نجد شرحها النصي
الكامل في كتب فرويد ، فإنه لم يستطع أن يقدم من خلال هذا المنهج تفسيرا للجانب
الواعي المرتبط بجملة أمور اجتماعية وطبقية وفكرية معقدة .
ونحن نجنح إلى
أن عدم دراسة يوسف اليوسف للشعر الحديث ، كان مرتبطا بعدم استطاعة هذا المنهج ، أن
يقدم إجابات للجانب اللاواعي أو النفسي في العمل الأدبي ، فكيف يستطيع تقديم مثل
هذه الإجابات للجانب الواعي ؟!.
وكمثال عملي
على ذلك ، نذكر القصيدة الحديثة التي قطعت شوطا كبيرا في مسيرة ما يمن تسميته بـ (
القصيدة التركيبية ) التي تمزج : الحب ، بالأرض ، بالثورة ، بالإنسان ، بالطبقة ،
بالأمة ، بالتاريخ ، بالحضارة .. فهذه القصيدة حصيلة لعملية فكرية معقدة ، وتراكم ثقافي
هائل ، وواع بالدرجة الأولى . فكيف يستطيع المنهج النفسي ، بنظرته الأحادية أن
ينقد مثل هذا العمل الأدبي ؟! .
من الواضح أنه
لا يمتلك القدرة ، ولو الجزئية ، على ذلك ... ولهذا نرى هروب ممثلي المنهج النفسي
إلى الشعر القديم الذي يمثل محصلة للحظةٍ انفعاليةٍ لا شك أن لها رابطها الاجتماعي
..
ففي دراسته
لرواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " يقزِّم هذا العمل في
مجموعة من العقد النفسية .. فيرى أن الطيب صالح قد " تعمَّدَ الجنس ، وربما
عقده أيضا ، واتخذه أرضية يبني عليها بنيانا ذا صلةٍ بالإيديولوجيا الاجتماعية
والتاريخية " .
واضح في هذا
التحليل ، أن هناك قسرا لنظرية فرويد ، ومحاولة استخلاص تأثيراتها في هذا العمل ،
مما جعل يوسف اليوسف ، يلحِق بهذه العقد ـ وبما سماه : تعمّد الجنس عند الطيب صالح
ـ كلَّ الهمِّ الاجتماعي والإيديولوجي فيها ، رغم أن هذا الهمَّ هو البارز لكل
قارئ أو ناقد للرواية .
وهذا ما أكده (
محمد كامل الخطيب ) في كتابه ( المغامرة المعقدة ) ، حيث : إن الطيب صالح لا يقف
وقفة اندهاش أمام الحضارة الغربية ، بل يلتقي بها من خلال حركة تجاوزية تتمثل
الأبعاد الإيجابية لها .
وفي ذات النقد
، لذات العمل ، يُحَمِّل اليوسف بطلَ الرواية " مصطفى سعيد " عقد أوديب
..
"وهنا
تظهر القسرية في الطرح النقدي ، من خلال تعقيبه على نجاح العلاقات الجنسية خارج
الأسرة ، وبالتالي ، نجاح الحياة الزوجية " . فكان همّ يوسف اليوسف كله ،
البرهان على تلك النظرية من خلال العمل الأدبي ، وليس البرهان على حقيقة العمل
الأدبي ذاته ، والتي يزعم ـ من خلال النظرية ـ أنها نفسية ..
وهذه الرؤية
ذاتها ، يسجلها يوسف اليوسف على نقده للشعر الجاهلي .
فهو في دراسته
له ، ينطلق من ( الكشف عن ردود فعل النفس البدائية إزاء ظواهر بُنية معينة ، وعن
الصيغة التي استطاعت بها هذه البُنية أن تصوغ النفس وتصنعها ) .
وهنا يصبح
الأدب الجاهلي عنده، ردة فعل ، قد تكون غريزية ، أو فجائية ، أو عاطفية ، أو
انفعالية تجاه الظواهر التي وجدت في طبيعة الحياة الجاهلية ..
أي : إنه يركض
خلف كل شيء يتعلق بالناحية النفسية ، وينسى إطارها الاجتماعي .. وهذا ما يؤكد فشل
المنهج النفسي ، والذي أحَسَّ به يوسف اليوسف عمليا ..
نلمس ذلك أيضا
في ( إرجاعه عدم ظهور الشعر الملحمي في التراث الجاهلي ، إلى عدم تمتع الجاهلي
بالشحنة النفسية الصِّدَامية التي تلحُّ في طلبها للتفريغ ) . كما أننا نجد نفس
هذه الرؤية التحليلية القسرية في إرجاعه ( ظهور المعلقة إلى القمع الجنسي ) و (
والقمع الجنسي هو العامل الأول في إنتاج المعلقة ) . إن دراسة لإحدى التطبيقات
النقدية ليوسف اليوسف ، من خلال تحليله لـ " لامية الشنفرى " ، توضح لنا
ذلك .
فهل يبدأ هذا
التحليل ، بشرح أبيات اللامية ، تماما كالطريقة الكلاسيكية ، ثم يقوم بالتفسير ؟ .
فيعتبر هروب
الشنفرى إلى الغابة ـ أي عالم الوحوش ـ هروبا رومانسيا ، كالهروب الرومانسي عند
أبي القاسم الشابي إلى أحضان الطبيعة .. وفي هذا بركان أكيد وحتمي ، على أن يوسف
اليوسف لا يستطيع أن يرى شيئا خارج الدائرة المنهاجية التي يدور فيها ، دون
استطاعته الدخول إلى عالم العمل الأدبي . لأن هروب الشنفرى ليس كهروب الشابي ..
فهروب الأول يحتفظ ببعده الطبقي كواحد من ( الغربان السود ) ، تلك الشريحة التي
كانت في أسفل السلم الاجتماعي الطبقي ، بينما نجد هروب الشابي يمثل ردة فعل سلبية
، لا تمتلك القدرة على المواجهة ـ بل تكتفي بالحياة وسط التهويمات الرومانسية .
إن هذه
المغالطة القاتلة في الرؤية التحليلية مرتبطة بواقع البورجوازية الصغيرة ، ولا
جذرية إيديولوجيتها عندما تدرس ظاهرة اجتماعية ، أو نتاجا إنسانيا ، معيَّنيْن ..
حيث أنها بسبب ضبابية وضعها الطبقي تعيش نفس الحالة أيضا في وضعها الفكري ، وهذه
الحالة تحجب عنها دوما الجوهر الاجتماعي للحقيقة .
ولكن ، ألم
تمتلك هذه الرؤية ـ في بعض جوانبها ـ بعدا تقدميا ؟
لقد كان
الاتجاه الذي سار فيه اليوسف في منهجه النقدي النفسي ، اتجاها تجديديا بورجوازيا
صغيرا ..
لكن هذا
الاتجاه ، كان أول رؤية نقدية ـ رغم بعض مغالطاتها ـ حاولت تقديم محاولة جدية لبعث
التراث ، بنـَفـَس نقدي يخالف النفس التراثي السلفي الذي كان يحاول دائما أن يجد
تسويغا أو مشروعية له ، وهنا تكمن القيمة لهذه الرؤية ، التي لم تعطِ العمل الأدبي
الإبداعي أبعادَه الجدلية الكاملة .
1977
يليه القسم
الثاني من الدراسة ، ويتناول كلا من :
ـ فائق
المحمد
ـ وفيق
خنسة
ـ نبيل
سليمان
"" من الجدير
التنويه ، إلى أن كتاب " معارك ثقافية في سورية " هو عبارة عن تجميع
لمقالات منشورة في الدوريات السورية بين عامي 1975/1977 ، فقام المعدّون بتصنيفها
وتبويبها دون التعليق إلا لضرورة توضيحية "" ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق