الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011


" معارك ثقافية في سورية "
1975 ـ 1977
تتمة القسم الأول

 " يوسف اليوسف .. والخروج من أزمة الشريحة باتجاه اليسار " ..
( من المنهج النفسي ، إلى المنهج المتكامل ) .

يقدم لنا يوسف اليوسف نفسه من خلال عطائه النقدي ، الذي اتسم منذ ظهوره بالمنهج النفسي ـ الفرويدي خاصة ـ ، ولكنه ، وبعد مرحلة طويلة ، كتب خلالها الكثير من الدراسات ، استنادا على معطيات هذا المنهج ، ورفضه ، ودعا إلى استبداله بـ " المنهج المتكامل " .
ولم يكن طرح يوسف اليوسف مرتبطا بالاستنتاجات الخاطئة والمرفوضة التي وصل إليها من خلال المنهج فحسب ، بل إنه مرتبط أيضا ، بموقع اجتماعي معين ، وبطريقة تفكير معينة .
لذا ، وتأسيسا على ذلك ، فإننا لا نعلم فيما إذا كان يوسف اليوسف سيتخلى عن منهجه المتكامل هذا أيضا ويؤمن بمنهج بديل .. ولكننا نعرف جيدا ، أن ما مرَّ به يوسف اليوسف ، يمثل إحدى خصائص البورجوازية الصغيرة ، وهي تنزع للخلاص من أزمة طبقتها .. وهذا الشيء الذي تراه عنده كفرد ، يعبر أيضا عن قطاع اجتماعي يتخذ صورة مجسمة تكشف كل ازدواجية وتخبط هذا القطاع .
هذه الصورة ـ التجريبية ـ هي التي تطبقها البورجوازية الصغيرة من خلال السياسة ، والاقتصاد ، والفكر ، والأدب أيضا .. أي : إنها تتنكر لكل التجربة الحضارية الإنسانية ، وتدعو إلى خلق التجربة الخصوصية من خلال التجريب . إن نموذج يوسف اليوسف ، هو بُعْدٌ مكثف لهذه الصورة .. أي : إننا نسمح لأنفسنا بالقول : إن ما مرّ به يوسف اليوسف كناقد ـ فرد ، يتحول إلى ـ تجريبية ـ كاملة فيما إذا كان في إطار الجماعة البورجوازية الصغيرة .
وانطلاقا من هذا التحليل ، فإن عدم جذرية البورجوازية الصغيرة ، وتخلخل موقعها الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية الكبيرة ، لا تسمح لها باتخاذ منهج محدد ، أو ، إنها تنزلق إلى مناهج تعبر عن ازدواجيتها ، أو تأخذ شكلا آخر ، فتبني منهجها من خلال التجريب .
ويوسف اليوسف ، نموذج حي لهذه الحالة بالضبط .
فخلال مرحلة اللاوعي ، كان يجهد نفسه كثيرا في أن يلائم ـ ولكن قسريا ـ ما بين النظرية الفرويدية ، والنتاج الأدبي الذي ينقده ( على وجه التحديد : الشعر الجاهلي ) .
فهو ، بالإضافة إلى أنه حجَّمَ العمل الإبداعي في مجموعة عقد نفسية ، نجد شرحها النصي الكامل في كتب فرويد ، فإنه لم يستطع أن يقدم من خلال هذا المنهج تفسيرا للجانب الواعي المرتبط بجملة أمور اجتماعية وطبقية وفكرية معقدة .
ونحن نجنح إلى أن عدم دراسة يوسف اليوسف للشعر الحديث ، كان مرتبطا بعدم استطاعة هذا المنهج ، أن يقدم إجابات للجانب اللاواعي أو النفسي في العمل الأدبي ، فكيف يستطيع تقديم مثل هذه الإجابات للجانب الواعي ؟!.
وكمثال عملي على ذلك ، نذكر القصيدة الحديثة التي قطعت شوطا كبيرا في مسيرة ما يمن تسميته بـ ( القصيدة التركيبية ) التي تمزج : الحب ، بالأرض ، بالثورة ، بالإنسان ، بالطبقة ، بالأمة ، بالتاريخ ، بالحضارة .. فهذه القصيدة حصيلة لعملية فكرية معقدة ، وتراكم ثقافي هائل ، وواع بالدرجة الأولى . فكيف يستطيع المنهج النفسي ، بنظرته الأحادية أن ينقد مثل هذا العمل الأدبي ؟! .
من الواضح أنه لا يمتلك القدرة ، ولو الجزئية ، على ذلك ... ولهذا نرى هروب ممثلي المنهج النفسي إلى الشعر القديم الذي يمثل محصلة للحظةٍ انفعاليةٍ لا شك أن لها رابطها الاجتماعي ..
ففي دراسته لرواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " يقزِّم هذا العمل في مجموعة من العقد النفسية .. فيرى أن الطيب صالح قد " تعمَّدَ الجنس ، وربما عقده أيضا ، واتخذه أرضية يبني عليها بنيانا ذا صلةٍ بالإيديولوجيا الاجتماعية والتاريخية " .
واضح في هذا التحليل ، أن هناك قسرا لنظرية فرويد ، ومحاولة استخلاص تأثيراتها في هذا العمل ، مما جعل يوسف اليوسف ، يلحِق بهذه العقد ـ وبما سماه : تعمّد الجنس عند الطيب صالح ـ كلَّ الهمِّ الاجتماعي والإيديولوجي فيها ، رغم أن هذا الهمَّ هو البارز لكل قارئ أو ناقد للرواية .
وهذا ما أكده ( محمد كامل الخطيب ) في كتابه ( المغامرة المعقدة ) ، حيث : إن الطيب صالح لا يقف وقفة اندهاش أمام الحضارة الغربية ، بل يلتقي بها من خلال حركة تجاوزية تتمثل الأبعاد الإيجابية لها .
وفي ذات النقد ، لذات العمل ، يُحَمِّل اليوسف بطلَ الرواية " مصطفى سعيد " عقد أوديب .. 
"وهنا تظهر القسرية في الطرح النقدي ، من خلال تعقيبه على نجاح العلاقات الجنسية خارج الأسرة ، وبالتالي ، نجاح الحياة الزوجية " . فكان همّ يوسف اليوسف كله ، البرهان على تلك النظرية من خلال العمل الأدبي ، وليس البرهان على حقيقة العمل الأدبي ذاته ، والتي يزعم ـ من خلال النظرية ـ أنها نفسية ..
وهذه الرؤية ذاتها ، يسجلها يوسف اليوسف على نقده للشعر الجاهلي .
فهو في دراسته له ، ينطلق من ( الكشف عن ردود فعل النفس البدائية إزاء ظواهر بُنية معينة ، وعن الصيغة التي استطاعت بها هذه البُنية أن تصوغ النفس وتصنعها ) .
وهنا يصبح الأدب الجاهلي عنده، ردة فعل ، قد تكون غريزية ، أو فجائية ، أو عاطفية ، أو انفعالية تجاه الظواهر التي وجدت في طبيعة الحياة الجاهلية ..
أي : إنه يركض خلف كل شيء يتعلق بالناحية النفسية ، وينسى إطارها الاجتماعي .. وهذا ما يؤكد فشل المنهج النفسي ، والذي أحَسَّ به يوسف اليوسف عمليا ..
نلمس ذلك أيضا في ( إرجاعه عدم ظهور الشعر الملحمي في التراث الجاهلي ، إلى عدم تمتع الجاهلي بالشحنة النفسية الصِّدَامية التي تلحُّ في طلبها للتفريغ ) . كما أننا نجد نفس هذه الرؤية التحليلية القسرية في إرجاعه ( ظهور المعلقة إلى القمع الجنسي ) و ( والقمع الجنسي هو العامل الأول في إنتاج المعلقة ) . إن دراسة لإحدى التطبيقات النقدية ليوسف اليوسف ، من خلال تحليله لـ " لامية الشنفرى " ، توضح لنا ذلك .
فهل يبدأ هذا التحليل ، بشرح أبيات اللامية ، تماما كالطريقة الكلاسيكية ، ثم يقوم بالتفسير ؟ .
فيعتبر هروب الشنفرى إلى الغابة ـ أي عالم الوحوش ـ هروبا رومانسيا ، كالهروب الرومانسي عند أبي القاسم الشابي إلى أحضان الطبيعة .. وفي هذا بركان أكيد وحتمي ، على أن يوسف اليوسف لا يستطيع أن يرى شيئا خارج الدائرة المنهاجية التي يدور فيها ، دون استطاعته الدخول إلى عالم العمل الأدبي . لأن هروب الشنفرى ليس كهروب الشابي .. فهروب الأول يحتفظ ببعده الطبقي كواحد من ( الغربان السود ) ، تلك الشريحة التي كانت في أسفل السلم الاجتماعي الطبقي ، بينما نجد هروب الشابي يمثل ردة فعل سلبية ، لا تمتلك القدرة على المواجهة ـ بل تكتفي بالحياة وسط التهويمات الرومانسية .
إن هذه المغالطة القاتلة في الرؤية التحليلية مرتبطة بواقع البورجوازية الصغيرة ، ولا جذرية إيديولوجيتها عندما تدرس ظاهرة اجتماعية ، أو نتاجا إنسانيا ، معيَّنيْن .. حيث أنها بسبب ضبابية وضعها الطبقي تعيش نفس الحالة أيضا في وضعها الفكري ، وهذه الحالة تحجب عنها دوما الجوهر الاجتماعي للحقيقة .
ولكن ، ألم تمتلك هذه الرؤية ـ في بعض جوانبها ـ بعدا تقدميا ؟
لقد كان الاتجاه الذي سار فيه اليوسف في منهجه النقدي النفسي ، اتجاها تجديديا بورجوازيا صغيرا ..
لكن هذا الاتجاه ، كان أول رؤية نقدية ـ رغم بعض مغالطاتها ـ حاولت تقديم محاولة جدية لبعث التراث ، بنـَفـَس نقدي يخالف النفس التراثي السلفي الذي كان يحاول دائما أن يجد تسويغا أو مشروعية له ، وهنا تكمن القيمة لهذه الرؤية ، التي لم تعطِ العمل الأدبي الإبداعي أبعادَه الجدلية الكاملة .

1977

يليه القسم الثاني من الدراسة ، ويتناول كلا من :
ـ فائق المحمد
ـ وفيق خنسة
ـ نبيل سليمان  

"" من الجدير التنويه ، إلى أن كتاب " معارك ثقافية في سورية " هو عبارة عن تجميع لمقالات منشورة في الدوريات السورية بين عامي 1975/1977 ، فقام المعدّون بتصنيفها وتبويبها دون التعليق إلا لضرورة توضيحية "" ..





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق