" معارك ثقافية في سورية "
1975 ـ
1977
ذاك عنوان
كتاب هام ، أرشف للمعارك الثقافية التي دارت رحاها في الساحة الثقافية السورية بين
عامي 1975 ـ 1977 أعدَّه كل من الأساتذة :
محمد كامل خطيب ـ ونبيل سليمان ـ وبو علي ياسين ..
وصدر عن دار ابن رشد للطباعة والنشر في خريف 1978..
والمعركة الأخيرة من الكتاب ص " 288 ـ 312
" ، هي معركة :
" النقد والإيديولوجيا في سوريا
"
والمقال ، دراسة نقدية ، قدمْتها ـ أساسا ـ كحلقة
بحث للأستاذ الدكتور فؤاد المرعي ، في السنة الرابعة في قسم اللغة العربية في
جامعة حلب .. بعنوان " النقد والنقاد
في سورية ـ دراسة في المناهج النقدية وتطبيقاتها "
وبنفس العنوان نشر الجزء الأول منه ، في جريدة
الدستور الأردنية ـ العدد 3558 / تاريخ 24/06/1977.
وفيها
أيضا ، نشر الجزء الثاني بعنوان : " وقفة
مع ثلاثة نقاد من سوريا " ـ العدد 3705 / تاريخ 25/11/1977.
(( وسأنشرها لاحقا في صياغتها هذه )) ..
وحينها ، اقترح علي الصديق محمد جمال باروت أن
يعيد صياغة الدراسة بمنظور منهج نقدي مختلف ، لينشرها في " الملحق الثقافي
" لجريدة الثورة الدمشقية ..
وساهم معه في الصياغة الصديق صالح الرزوق ، ونشرت
على قسمين في الملحق الثقافي لجريدة الثورة الدمشقية ، بعنوان :
"" النقد
والإيديولوجيا في سوريا "" :
القسم الأول : نشر في العدد 36 ـ تاريخ :
17/11/1977
القسم الثاني : نشر في العدد 41 ـ تاريخ :
29/12/1977
" ولأني لم أعثر على النص الأصلي الذي نشر في
الملحق الثقافي ، اعتمدت النص المنشور في الكتاب المشار إليه ، وقد نقلته بحذافيره
، ماعدا بعض علامات الترقيم " .
النقد والإيديولوجيا في سوريا
القسم الأول :
"" تحاول هذه الدراسة أن تستقرئ
علاقة المناهج النقدية السائدة بالإيديولوجيا ، دون حد الطموح إلى طرح منهج نقدي
بديل ، لأن ذلك ليس من مهمتها ، وبالتأكيد ..
لكنها ـ في
نفس الوقت ـ تستند إلى منهجية علمية متماسكة ، ورؤيا مادية ديالكتيكية ، ترفض بحزم
، الميكانيكية والدوغمائية معا ..
وذلك يشكل
خطوة أخرى لما بدأه : نبيل سليمان وبوعلي ياسين في كتابهما المشترك " الأدب
والإيديولوجيا في سوريا ""
1 ـ
الاتجاه السلفي التجديدي :
محي الدين صبحي
والمنهج النقدي السلفي التجديدي :
يمثل محي
الدين صبحي احتضار الفكر السلفي عندما يتجاوزه التاريخ .. فقد جسّد هذا الناقد ـ
ومنذ البداية ـ القيمَ البورجوازية ـ الإقطاعية بشكل " مزجي " وتوفيقي
مرتبط بطبيعة التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية لكل من الإقطاع والبورجوازية
العربية ..
فقد شهدت
التجربة الحضارية العربية ذلك التواطؤ المريع بين البورجوازية والإقطاع ، وكمحصلة
لهذا التواطؤ ، لم تستطع البورجوازية أن تكون ثورية ، وتنسف المرتكزات الاقتصادية
والإيديولوجية لنمط التشكيل الإقطاعي على خلاف البورجوازية الأوربية التي وجدت
نفسها وجها لوجه أمام أسلوب الإنتاج الإقطاعي ، فنسّقته إيديولوجيا واقتصاديا
وقوميا . من هنا أصبحت السمة المشتركة لتواطؤ الإقطاع والبورجوازية هي السمة
السلفية الرجعية ، لكن السلفية برهنت ـ من خلال تاريخها الطويل ـ على أنها قادرة
على القيام بعدة عمليات قيصرية للحفاظ على ديمومتها في ظل صيرورة التاريخ . إلا أن
هذا التوافق بين ذاتها المحتضِرة ، وتطور المعارف الحديثة ، يبقى في إطار الفكر
السلفي ، وإن امتدَّ أحيانا ليتجاوز جزءًا من تكويناته التي لا تعطي في كل الأحوال
مؤشرا على التجاوز العام .
إن المنهج
النقدي لمحي الدين صبحي هو نموذج لتلك الانتقائية بين الفكر السلفي التراثي والفكر
البورجوازي المعاصر . فالمقياس الذي يعتمد عليه الناقد هو ( الفعاليات الخلاقة
السابقة " التراث " ) مستنتجا منها معاييره . كما أنه يتخذ من "
استبصارات العلوم الإنسانية الأخرى ، ومجريات تطور العلوم روافد تقوّم مجراه
وتغنيه " ، " وبذلك يكون للنقد ثوابته التي تعتمد على نظرة الأنواع
الأدبية " .
وهنا نجد أن
محي الدين صبحي ينطلق من السلفية التراثية ، لكن هذه الانطلاقة لا تعني انغلاقه
ضمن الأطر المعروفة لهذا النتاج الإنساني ، بل إنه يستفيد من منجزات العلوم
الإنسانية الأخرى ، والمعارف الحديثة ، وعلى أساس هذا التكوين المزجي بين سلفية
الأساس ، وثانوية المنجزات المعاصرة ، يكوّن محي الدين صبحي منهجه النقدي .
وقد جانبَ
الصوابَ الأستاذ نبيل سليمان حينما صنف محي الدين صبحي مع خلدون الشمعة في نطاق (
النقد البورجوازي ) ، لأن محي الدين صبحي يمثل السلفية الجديدة ، والمنطق السلفي
التجديدي ، وهما بنية فوقية للتحالف التاريخي بين الإقطاع والبورجوازية ..
وعلى هذا
الأساس ، فإن محي الدين صبحي ، من خلال منهجه النقدي ، يمثل الإيديولوجية
الإقطاعية وهي تتلمس ـ بشكل محافظ ، وبحبال متينة تربطها بتراثيتها ـ الإيديولوجية
البورجوازية المعاصرة ، وهذا مخالف لمنهج خلدون الشمعة الذي يمثل يمين البورجوازية
الصغيرة ، و " كولونياليتها الميكانيكية للثقافة البورجوازية الغربية ، كما
سيتضح ذلك بعد قليل .
لقد تميز هذا
المزيج الطبقي من التشكيلين الاجتماعيين السالفين ، بروحه الفردية ، في البحث
العلمي ، لهذا ، فإننا نرى محي الدين صبحي يعتمد أولا وأخيرا على الإدراك العام ،
والذوق الفردي . ولكن ما هو هذا الإدراك العام ؟ وما هي أبعاده ؟ وما هي خصائص
الذوق الفردي المثقف ليصلح حكما نقديا ؟
.. إن الإجابة على هذه التساؤلات ، غير واردة
عند محي الدين صبحي ، ولكن يمكن للباحث أن يجد الروابط التي يعتمد عليها ناقدنا أولا
وأخيرا .. أي : الإدراك العام ، والذوق الفردي المثقف .. بثنائية التوفيق بين
الفكر السلفي الإقطاعي ، والفكر البورجوازي المعاصر .
فبالنسبة
لأبناء هذه الطبقة ، يشكل وعيهم الطبقي ـ الإيديولوجي ، ضمن حدود طبقتهم ـ إدراكهم
العام .. أي : ما سماه محي الدين صبحي بـ " الفعاليات الخلاقة للتراث "
. بينما نرى الذوق الفردي المثقف في ذلك الإحساس غير المنهج ، والذي يستفيد مما
تقدمه المعارف البورجوازية .. وهنا يبدو واضحا نموذج التواطؤ الطبقي مجسدا في
نموذج التواطؤ الفكري . وأما الذي يؤكد أساسية الانطلاق السلفي ـ الإقطاعي عند محي
الدين صبحي هو أن ما طرحه لا يختلف في جزئياته عما طرحه ابن سلام الجمحي قبل مئات
السنين .
وبذلك ، يصر
ممثل هذا المنهج على إلا يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام ، إلا ويكون قد تقدم العشرات
بالنسبة إليها ، ولكن إلى الخلف هذه المرة . وفي حين أن خلدون الشمعة يتميز
بالشكلية من الخطوط العامة لدراسة كل من المبنى والمعنى ، ولكن ، بتداخل مختلف في
كل نموذج تطبيقي له .
ففي دراسته عن
ديوان عبد الوهاب البياتي ( الكتابة على الطين ) يركز محي الدين صبحي على ما يسميه
: بالمطابقة والتماذج ، دون الخروج بأي معنى ، أو محصلة أو فهم محدد لهذا التطابق
والتماذج . وعدم الوصول هذا ن يرتبط أيضا في طبيعة المزاج الهجيني غير العلمي بين
ثقافة تحتضر ، وثقافة متقدمة .. وهو انعكاس للوضعية الإيديولوجية لطبقة محي الدين
صبحي . بينما نراه في دراسته لقصيدة أخرى من شعر البياتي ـ بكائية إلى شمس حزيران
ـ يركز على المعنى .. ثم إنه حين يحدد مهمة الناقد فإنه يكلفه بـ " أن يقلب
الترتيب الذي يفرضه الفن رأسا على عقب ، فيكشف المعاني ويفسر الرموز عبر تمزيق
النسيج الفني الذي يكنها في شرنقته " .
وهكذا ، فإنه
يغرق أحيانا في التشكيلة النقدية ، ولكن بشكل مغاير لخلدون الشمعة . إنه يكشف
المعاني " .... " ولا يحللها ، وبالتالي ، فإنه انسجاما مع سلفيته
الطبقية والفكرية ، يمثل امتدادا لتفسيرات النقاد العرب القدماء ممثلي ذات السلفية
، وهذا محصلة لسبب بسيط ، وهو أن التصور الطبقي لمحي الدين صبحي لا يؤهله لأن يربط
المعاني بجذرها الاجتماعي برؤية علمية صحيحة ، ومتماسكة . وهو يعيش حالة تناقض بين
ذينك القطبين وبين خصائصها التي يجب أن يتبناها .
ومن خلال
تحليل موسع قام به الناقد لقصيدتين من أصعب قصائد نزار قباني ـ كما يقول ـ وأكثرها
إمعانا في الذاتية : " ليتبين صورة الإنسان القائمة والمقترَحة فيها " ،
يحكم بسلطة القاضي المتمكن ، فيقول : " إن قيمة هذا الشعر لا تكمن في جماله
الفني ، بل ، إن حماله الفني مستمَدٌّ من قيمته الأخلاقية المتطورة " .
ولو حاولنا
فهم هذه القيمة الأخلاقية المتطورة عند نزار قباني ، لوجدنا مرتبطة بطبيعة
الانحلال البورجوازي المكرس من خلال لولبية وتذبذب نزار قباني .. ذاك الذي عمل
هجّاءً ، وزيرا للنساء ، ومنفسا ذكيا لكبت المراهقين ، وعواطفهم ، كما عمل في إحدى
مراحله هتـّافا وطنيا .. فما الذي دعا محي الدين صبحي لأن يسِمَ قيَمَ نزار قباني
بـ " الأخلاقية المتطورة " ؟
لقد ارتبط اسم
نزار قباني ـ منذ ظهوره تقريبا ـ باسم الناقد محي الدين صبحي الذي ألف كتابا نقديا
في الخمسينيات ، وضعه لخدمة ما يقول نزار قباني ، وهو في موقعه هذا حتى اليوم .
فنزار يمثل ـ
أيضا ـ الاتجاه السلفي التجديدي في ذروته البورجوازية ، وذلك من خلال تأكيده على
القيم الإقطاعية البورجوازية المعادية لحركة التقدم . وهذا ما يتوافق تماما مع
طبيعة المنهج النقدي لمحي الدين صبحي ، بحيث أ، هذا يجد في نزار قيمة بذاتها ،
وذلك هو بالضبط الذي يدفعه إلى نعتها بـ " القيمة الأخلاقية المتطورة "
.
وعندما يتضخم
الاتجاه السلفي النقدي لدى الناقد ، فإنه يغرق في تشنج قومي شوفيني ، مُدان من قبل
النظرة القومية ـ الاشتراكية . حيث يُعَدّ النقد أهم عناصر المحافظة على الشخصية
القومية لأدب أمة من الأمم ، مثلما هو من العناصر الهامة في تطوير هذه الشخصية ،
وعكس تفاعلها مع الثقافات الأجنبية . وذلك يدفعنا إلى التسليم بأن محي الدين صبحي "
سلفي " في أساسه النقدي ، و " كولونيالي بورجوازي " في استفادته من
المناهج والمعطيات الثقافية البورجوازية و " قومي شوفيني " في فصله
الشخصية القومية عن الشخصية الإنسانية ، حيث يعتبر أن " إحدى أزمات النقد في
أدبنا الحديث أنه لا يصدر عن شخصية قومية متبلورة ومتمايزة " .
وهذا ما يقودنا
إلى القول بأن هذا المنهج يمثل تفاقم أزمة التواطؤ الإقطاعي ـ البورجوازي ،
واحتضاره ، حينما يصبح خارج الإطار التاريخي .
إن تفاقم أزمة
هذه الطبقة ، يتضح من خلال الخاصة الأساسية للمنهج " النقدي السلفي التجديدي
" وهي " التلون السريع " ، وعدم وجود ضابط يحكم علاقاته .. وللوهلة
الأولى فإن هذا الطرح قد يبدو صحيحا ، أي : إن كل عمل أدبي يفرض منهجه الذي يلائمه
.
ولكن هناك
شيئين أخيرين هما : " العام " ، و" الخاص " ..
وهذان الطرفان
يخضعان لعلاقة تأثيرية فيما بينهما ، تفض " الدوغمائية " ، ولكنها ترفض
أكثر من ذلك " التمييع " .
يقول محي
الدين صلحي : " إن لكل نتاج منطقا داخليا يفرض المنهج النقدي الذي يلائمه
ويكشفه " ، ومن خلال ذلك المنطق الداخلي الذي يفرض المنهج النقدي ، ينطلق في
نقده لقصيدة عبد الوهاب البياتي " بكائية إلى شمس حزيران " مستعينا
بالمنهج الفكري ، والتحليل السياسي البورجوازيين . ثم في دراسة لديوان البياتي
أيضا " الكتابة على الطين " اتبع " العرف الأدبي العظيم للنقاد
العرب حيث استعملوا مصطلح النقد " .. وذلك رغبة من الناقد في "الارتباط
بهذا التراث النقدي العظيم " .
وفي دراسة
لشعر نازك الملائكة " الفرق في الرمز والهمس والتدقيق ، استخدم المنهج النفسي
الفرويدي " لإبراز ما ينطوي عليه هذا الشعر من إحباطات ونكوصات " .
إن هذا الشرح
المسهب ، ضروري جدا لفهم الخاصية التي تحدثنا عنها ، وعلاقتها بالإيديولوجيا ..
فليس التخبط في المنهج ، والوقوع في أزمته ، إلا محصلة لتفاقم أزمة ، ولا تاريخية
التواطؤ الإقطاعي البورجوازي .
من خلال ذلك
كله ، نخلص إلى علاقة المنهج النقدي السلفي التجديدي بالإيديولوجيا ، كما يلي :
1 ـ إن هذا
المنهج مرتبط بتواطؤ الإقطاع والبورجوازية التاريخي في بلادنا ، حين يدخل مرحلة
الاحتضار .
2 ـ إن هذا المنهج
يتحرك في ثلاثة محاور متماسة هي :
السلفية ـ
القومية الشوفينية ـ التجديدية . بمعنى الارتباط " الكولونيالي "
بالثقافة البورجوازية الغربية المعاصرة .
2 :
الاتجاه البورجوازي الصغير :
** خلدون
الشمعة ، والمنهج النقدي الشكلي .
" الخروج
من أزمة الشريحة باتجاه اليمين "
توطئة :
يقف خلدون
الشمعة في الساحة النقدية السورية في مفرق الطريق الواصلة بين الثقافة النقدية
الإنجليزية ـ الأوربية ، والثقافة العربية السائدة .
وهذا الوقوف
حقن النقد العربي بدم جديد ، وأكد على ضرورة توافر منهج نقدي متماسك ، يمتلك أداته
النقدية الواضحة ، من أجل دخول صحيح إلى عالم العمل الإبداعي . ولكن طريقة الحقن
التجديدية هذه ، هي ككل فعالية إنسانية تحتفظ بشروطها التاريخية ، وخلفيتها
الاجتماعية الطبقية .
من هنا لم يكن
المنهج النقدي الذي قدمه خلدون الشمعة يعيش في الفراغ ، بل إن له جذوره في عمق
التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، ومن هنا أيضا ، تأتي ضرورة ربط هذا المنهج بهذه
التشكيلة ، مع توضيح الأبعاد الإيديولوجية لمؤثراتها الثقافية .
ـ دخول
" 1 " :
في العشرينيات
من هذا القرن ، قدّم الناقد المصري أحمد ضيف ، الناقدَ الفرنسي : لانسون ( 1857 ـ
1934 ) إلى قراء العربية، وكان هذا الناقد معروفا بموقفه السلبي جدا ، ونفوره من
النقد الإيديولوجي ، وتكريسه للقيم الشكلية والبورجوازية في العمل الأدبي ، حيث
اعتبر لانسون " أن العمل الأبي يختلف عن الوثيقة التاريخية ، بما تثيره
صياغته من استجابات عاطفية وفنية ، وأن على الناقد أن يتوقف إزاء هذه الصياغة ،
لأنه قد يكتشف ـ من خلال تراكيبها ، الأغراض العميقة الخفية ، التي كثيرا ما تصحح
وتغني ، بل ، قد تعارض المعنى الظاهر للعمل الأدبي " .
كما أكد
لانسون على ضرورة دراسة النصوص من داخل النصوص ذاتها ، دون التركيز على أي معطى
غجتماعي إنساني ، حيث يقول : " وليس ثمة مبادئ صارمة لدراسة صياغة كل عمل
أدبي .. المهم ، التوقف عندها ، والطرح المستمر لمشاكلها ، ومحاولة حل المشاكل من
داخل النصوص نفسها ، وهذا يؤدي إلى تحديد أصالة الأفراد ، أي الظواهر الفردية التي
لا شبيه لها ولا تحديد " ..
نتيجة :
من الملاحظ
هنا ، أن الناقد الفرنسي لانسون في موقفه النقدي ، يحدد عدة آراء ، هي :
ـ رفض الرؤية
الإيديولوجية للمبدَع الفني .
ـ التوقف إزاء
صياغة العمل الأدبي .
ـ اكتشاف
الأغراض العميقة الخفية من خلال هذه الصياغة .
ـ دراسة
النصوص من داخل النصوص فقط .
ـ فرادة
الظاهرة الفنية وعدم تكرارها .
ـ دخول ( 2
) :
يعتقد خلدون
الشمعة ، أن إحدى أزمات النقد العربي المعاصر ، هي : " إنكار فرادة الظاهرة
الفنية " . " فلكل عمل أدبي نظامه الداخلي المتفرد والذي يمنحه وجودا
خاصا لا يتكرر " .
ثم يؤكد ضرورة
تفسير العمل الفني من خلال العمل الفني ذاته . وليس من خلال الجذر الاجتماعي ، حيث يقول :
" إن
العمل الفني بنيان موضوعي يكتسب استقلاله بعد عملية الخلق ، ويصبح تفسيره نابعا من
طبيعته الجديدة وليس من عناصر تكوينه في المجتمع " .
ويتابع خلدون
الشمعة قوله : " لعل من أبرز الأزمات في التطبيقات المنهجية في النقد العربي
المعاصر ، هو أنها لم تحاول أن تروض الأنظمة التي جاءت بها من مناهج المعرفة
الأخرى ، وأن تخضعها لنسق أو منهج معرفي نقدي صادر عن المبدعات الأدبية نفسها
" .
لذا فإن خلدون
الشمعة يعتبر أن أحد مزالق المنهجية لدى عدد غير قليل من نقادنا المعاصرين ـ من
أمثال : محمد مندور وحسين مروة ومحمد النويهي ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش ـ
تتصل على الأغلب وبمستويات متفاوتة ، بنظريات لم يتم اكتشافها من خلال معرفتهم
بالأدب نفسه ، وإنما من خلال معرفتهم بالنظريات النقدية الإنسانية . أي : إنهم لا
يكتشفون الأغراض العميقة الخفية من خلال الصياغة الأدبية فقط ، على حد تعبير
لانسون .
كما يقول
خلدون الشمعة في موضع آخر : يفترض أن يُعامَلَ الشكل في العمل الأدبي كـ غاية في
حد ذاته ، كيما يصبح وسيلة ناجعة لغاية أخرى ..
نتيجة :
مما سبق ،
يمكن القول : إن هناك رابطا إيديولوجيا بين منهجية خلدون الشمعة وتأثراتها
بالثقافة النقدية الغربية ، وهذا الذي يهمنا من تقديم المقارنة . فكما نجد تطابقا
في الموقف النقدي بين الشمعة ولانسون ، نجد أيضا أن هذا التطابق مرتبط بمعنى
إيديولوجي ، هو النظرة اللا جدلية واللا اجتماعية للمبدَع الإنساني ، وتفريغ العمل
من جوهره الاجتماعي ، وسياقه التاريخي ، وواقعه الموضوعي ..
وإذا كانت
الرؤية البورجوازية للحياة ، ومبدعاتها الإنسانية ترتبط بخواص مشتركة فيما بينها ،
فإننا نجد أن خلدون الشمعة عندما يقول : إن العمل الفني بنيان موضوعي يكتسب
استقلاله بعد عملية الخلق ، ويصبح تفسيره نابعا من طبيعته الجديدة، وليس من عناصر
تكوينه في المجتمع . فإنه يلتقي مع نظرية " الخلق " في " الوضعية
المنطقية " أو " التجريبية العلمية " كما تسمى في فيينا ، والتي
حمل لواءها في الشرق العربي الدكتور زكي نجيب محمود .
ومن المعروف
أن " الوضعية المنطقية " كانت ثمرة احتضار البورجوازية الأوربية ،
ورديفا أساسيا للفلسفة المثالية الذاتية . وهي تطرح نفس المبدأ الذي طرحه خلدون
الشمعة ، فتفصل هذه النظرية " الخلق " الفنَّ ، عن شخصية الفنان المبدع
، وتتعامل معه باعتباره مخلوقا مستقلا موضوعيا فريدا ، لا يتكرر . إنه : "
عالم من فن وأدب قائم بذاته ، وعلى من يرتاده أن يعيش فيه ، فلا يأخذ منه مجرد
نافذة يطل منها على شيء سواه " .
كذلك ، فإنه
يلتقي بما دعا إليه بلاكور وجون كرورانسوم وروبرت بن وآردن وبروكس ، من تفسير
العمل الأدبي من خلال علاقاته الداخلية وبنيانه الشكلي .
وهذه الدعوة
التي سادت في الثلاثينيات " باسم المنهج الموضوعي " تزامنت مع التناقضات
الاقتصادية بين البروليتاريا والرأسمالية العالمية .
إن هذا
التطابق بين المناهج النقدية وإيديولوجيتها ، ليس ميكانيكيا ، بل يظل يحتفظ بقدر
معين من الخصوصية ، مع أنه يبقى متماسا في الخطوط العامة ، والنقطة الانطلاقية .
فإذا كان كل
من لانسون والمنهج النقدي الأدبي للوضعية المنطقية ، يحدد موقفه بشكل صارم ، فإننا
في مثال خلدون الشمعة ، لا نرى مثل هذا التحديد . بل نرى محاولة جاهدة للتأكيد على
الشكل ، كالموقفين السالفين تماما ، ولكنها أحيانا تجنح نظريا إلى محاولة الاقتراب
من الإشارة للموضوع تنظيريا فقط ، وليس تطبيقيا ، وهذا ما سنرى أبعاده فيما بعد .
وذلك يعود إلى الشرط الاجتماعي لكل من لانسون والوضعية المنطقية وخلدون الشمعة ،
لأن منهج وإيديولوجيا لانسون والوضعية المنطقية ، منطلِقان بالأساس من قلب الطبقة
المتمايزة " البورجوازية " ، بينما في حالة خلدون الشمعة ، هي منطلِقة نحو
الطبقة المتمايزة لا من قلبها ، لأن تكوينها الأساسي بورجوازي صغير يجهد نفسه في
حل زئبقية طبقته وأزمتها عن طريق النزوع إلى إحدى الطبقات المتمايزة ..
الخواص الأساسية
وعلاقتها بالإيديولوجيا :
1 ـ يستند
خلدون الشمعة في منهجه النقدي ، أول ما يستند ، على المصطلح النقدي المحدد ،
فيعتبره مركز الثقل لكتابه التنظيري ( النقد والحرية ) ، إذ يقول : " لهذا
فقد حاولت أن أجعل مركز الثقل في هذه الأبحاث منصبا على بلورة المصطلح النقدي
العري " .
ومن ذلك ، فهو يعتبر أن " حركة التوليد
اللغوي الاصطلاحي التي تجتاح الثقافة المعاصرة هي التي ستتيح للناقد الحديث أن
يسبر الظاهرة الفنية والثقافية سبرا دقيقا يدفع بالنقد إلى تحقيق المزيد من عمليته
" .
2 ـ
الكولونيالية الثقافية ، للثقافة الغربية التي تخفي وراءها كولونيالية إيديولوجية
كما رأينا في المقارنة بين خلدون الشمعة ولانسون والوضعية المنطقية والمنهج
الموضوعي . فخلدون الشمعة لا يبني نظريته الموضوعية من خلال معطيات الأدب العربي
ومبدعاته ، بل يبنيها من خلال تبعيته الثقافية للمناهج الغربية عامة ، والإنجليزية
منها بشكل خاص .
3 ـ رفض دراسة
مضمون العمل الإبداعي ، ورفض الرؤية التقدمية لهذا المضمون ثانيا .. وعندما يطرح
خلدون الشمعة المضمون بشكل خجول ، فإنه يطالب بوجود قضية في العمل الفني ، ولكنه
لا يطالب بوجود قضية طبقية لأنه يعترض على بعض النقاد الماركسيين الذين ( يتعاملون
مع العمل الأدبي بفكرة مسبقة ) ، أي : بمنهجية فكرية محددة ، تمتلك رؤيتها لحركة
الواقع والحياة ، ولأن كل النقاد الماركسيين يتعاملون مع العمل الأدبي ( بفكرة
مسبقة ) كما يسميها الشمعة ، فإنه يعترض
على جميعهم ، وليس على بعضهم ، وهذا له علاقة بخاصية أخرى ، وهي :
4 ـ الشكلية :
الشكلية تعني الاحتفاء بالشكل مع عدم إنكار القيمة المضمونية .
والشكلانية :
بحث الشكل الخالص . وخلدون الشمعة ، شكلي نظريا ) فهو يكتب عن الواقعية ) ، لكنه
شكلاني عمليا ( يعتبر الواقعية شكلا تعبيريا لا أكثر) .
وهو يتفق مع
لانسون والوضعية المنطقية بهذا الموقف النقدي المشترك ، الذي يكشف بالضرورة عن
موقف إيديولوجي مشترك . فعلى إدراك الشكل ، يتوقف إدراك الغايات والأبعاد الأخرى
للعمل الفني ( وفي إدراك الشكل باعتباره غاية حتى يتمكن من أن يكون الوسيلة الأفضل
لتحقيق غاية أخرى ، يكمن معناه التعبيري الصائت والمنبثق من طبيعته الإنسانية )
وهو لا يتوقف عند هذا الحد فحسب ، بل إنه يعتبر حتى المضمون شكلا : " إذا كان
الشكل مظهرا يعبر عن جوهر فليس ثمة من مادة يتناولها الناقد غير هذا المظهر الذي
يبدو في التحليل الأخير الجوهر نفسه " .
وهذه الرؤية
هي نوع من الشكلية بحد ذاتها ، لأنها لا تنظر إلى علاقة الشكل بالمضمون ، أو
المظهر بالجوهر كما يسميها الأستاذ الناقد نظرة جدلية حيوية . لذلك فإن خلدون
الشمعة يشكك في قيمة أي دراسة نقدية لا تدرس الشكل ، حيث يقول : " إذا كان
ثمة توافق بين الشكل والمضمون في العمل الفني ، أي أن يتوقف وجود كل من القطبين
على الآخر فإن جلَّ ما كتبه الأستاذ محمود أمين العالم عن المضمون خلال ربع قرن
تقريبا ، تصبح قيمته مشكوكا فيها ، نظرا لأنه صادرٌ عن تجاهل الشكل " ..
ونحن نقلب
المقولة التي طرحها الأستاذ الشمعة ، فنقول من ذات المنطق الذي يحاول فيه أن يطبق
مبدأ " من فمك أدينك " : ( إذا كان ثمة توافق بين الشكل والمضمون في
العمل الفني ، أي أن يتوقف وجود كل من القطبين على الآخر ، فإن جلّ ما كتبه
الأستاذ خلدون الشمعة عن الشكل ، تصبح قيمته مشكوكا فيها ، نظرا لأنه صادرٌ عن
تجاهل للمضمون ) . ولكن كيف ذلك ؟
في كتابه : "
النقد والحرية " كتب بحثا " يشتمل على عنصري التاريخ والنقد الأدبي في
آن واحد " أسماه " مدخل لدراسة الحركة الأدبية المعاصرة في سورية "
التي يحددها بمرحلة الستينيات ومنتصف السبعينيات ، فلا يرى من خلال هذه الحركة ،
شعرا كانت أم قصة ، سوى المصطلحات التالية : التلفيظ والترميز والتجريد والتجريب
والتنميط . وذلك ممال يؤكد شكليته النقدية أولا ، وبورجوازيته ثانيا ، السطحية
الرصدية ، دون النفاذ الديالكتيكي إلى العمق . فهل نطبق مقولة خلدون الشمعة التي
انتقد فيها محمود أمين العالم في أن جلّ ما كتبه تصبح قيمته مشكوكا فيها لأنها
صادرة عن تجاهل للمضمون ؟!
5 ـ الطرح
الخجول والذكي للقضايا المتعلقة بالموقف الإيديولوجي ، حيث يقول : من المتعذر
اكتشاف حياة الكاتب في العمل الفني ، فـ " الأنا " الروائية ، تختلف عن
" أنا " الكاتب .
وهنا تبدو لنا
قضيتان :
1 ـ تعذر
اكتشاف حياة الكاتب في العمل الفني .
2 ـ فصل
الكاتب عن نتاجه الإنساني .
فلأن خلدون
الشمعة ينتمي إلى شريحة البورجوازية الصغيرة ، وبالتحديد إلى ذلك الجناح الذي يتجه
للنزوع نحو الطبقة المتمايزة ـ البورجوازية ـ فإنه يبقى محتفظا بالرؤية الفردية
لطبيعة الكاتب ، وطبيعة مبدعه الإنساني ، والتي طالما كانت سمة أساسية من سمات
التفكير البورجوازي الذي توّج نفسه في تصور التاريخ على أنه تاريخ الأفراد
الموهوبين ، والأبطال ، لا تاريخ الجماعة المنتجة .. وهذا الطرح اليميني الخجول
والذكي ، يتبين من خلال ما يلي :
من قال بأن من
مهمة النقد كشف حياة الأديب ؟!
نحن نعتقد أنه
لم يقل أحد ذلك .. ولكن من مهمة النقد أن يكتشف مواقف الأديب التي تبرز من خلال
هذا العمل بشكل أو بآخر .. وعلى أساس هذا الموقف تتم محاسبته الإيديولوجية .
ولأن خلدون
الشمعة شكلي في نقده ، فإنه لا يريد أن يقول : إن الفن مرتبط بإطاره الاجتماعي ،
بل يقول ذلك بصورة أخرى ، وهي أن " أنا " الروائية تختلف عن " أنا
" الكاتب ، لأنه من المتعذر اكتشاف حياة الكاتب في العمل . فعدم تقريره
الجذري لفكرته ، يمثل ذلك الطرح الخجول المرتبط بالبورجوازية الصغيرة ، حتى عندما
تكون تقدمية ، كما يمثل ذلك الطرح الذكي محاولة الحصول على إجابة من الجميع عبر
طرح فكرة متصلة بالموضوع ، ترضي الجميع لأنها عادية ، ومتفق عليها .
6 ـ تزاوج
الموقف الشكلي ، مع انعدام الرؤية التقدمية ورفضها : هذه الرؤية يسميها خلدون
الشمعة " النظرة المسبقة " التي يتناقض أو يختلف فيها مع النقاد
الماركسيين حين يبدي اشمئزازه من الناقد الذي يريد أن يطبق هذه النظرة المسبقة على
العمل الأدبي ، ويشبهه " بمن جاء لحضور مسرحية ما ، ولكن ليس لمشاهدة العرض ،
وإنما لكي يغمض عينيه بشدة ، ويرهف أذنيه لسماع الموسيقى التصويرية الملازمة للعرض
، ثم يزعم أنه شاهد المسرحية أفضل من أي متفرج آخر " .
ورفض الأستاذ
خلدون الشمعة لما يسميه : برؤية مسبقة عند النقاد الماركسيين يكشف هو أيضا عن منحى
إيديولوجي معين متناقض مع منحى هؤلاء النقاد الذين يستندون على ما يسميه بفكرة
" النظرة المسبقة " ، التي تعني أخيرا " الاشتراكية العلمية "
خلاصة ما قدمته الإنسانية التقدمية حتى الآن .
خاتمة :
من خلال ذلك
كله ، نخلص إلى نتيجة ، هي : أن كل ما قدمه خلدون الشمعة ، ليس إلا المنهج النقدي
الشكلي ، وأن هذا المنهج ، بخواصه الأساسية مرتبط بتخلي البورجوازية الصغيرة عن
أزمتها كشريحة متذبذبة ، والنزوع اليميني نحو البورجوازية الكبيرة ، وأن هذا
الواقع الطبقي الإيديولوجي يطبع منهجها النقدي ببصماته الحادة ، بحيث يصبح بنية
فوقية لأساسه التحتي الطبقي ، ولكن بعملية معقدة ، يتخللها الاستفادة من الثقافة
النقدية البورجوازية المعاصرة ، وتلقيحها بالثقافة العربية البورجوازية المعاصرة
أيضا .وذلك مؤشر حقيقي على انتهاء هذا المنهج ، بانتهاء التشكيل الطبقي الذي أوجده
..
1977
يليه : تتمة هذا القسم الأول :
" يوسف
اليوسف .. والخروج من أزمة الشريحة باتجاه اليسار " ..
( من
المنهج النفسي ، إلى المنهج المتكامل ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق