النقد
والنقاد في سورية
دراسة في
المناهج النقدية وتطبيقاتها
ثمة حكم عام ، يمكننا أن نسم به أدب الخمسينيات
، مفاده : أنه صوّرَ معاناة الجماهير ، وتحدّث عن أمراض المجتمع وآفاته ، وطرح
تساؤلاتٍ عدة حول مجمل القضايا التي سادت ..
ثم حاول البعض التطلع ـ من خلال ذلك ـ
إلى رؤية مستقبلية ، تستهدف استشفاف بؤرة ضوء في مستقبل الوطن ، مستلهمين بذلك ،
الحوادث التاريخية التي مر بها العالم العربي وما عاناه من أشكال الاستعمار الحديث
وآثاره ، تخلفا وفقرا مدقعا ، وتجزئة مريرة ، وأمية قاتمة ، إلى آخر ما هنالك من
أوصاف كان المجتمع يزخر بالعديد العديد منها ..
وجاءت سنوات الوحدة ـ التي اعتبرها الأدباء ثمرة
من ثمار أشجارهم التي زرعوها ورووها ورعوها طويلا ـ فاستبشر الأدباء خيرا ، وسجلوا
بذلك نقطة تحول حقيقية في التاريخ الوطني الحديث .
فكان لا بد من أن يرافقَ التحوّلَ
السياسي ، تحوُّلٌ اجتماعي ، فظهرت على الساحة قوى جديدة ، تبعها ـ بشكل عفوي حينا
، ومدروس حينا آخر ـ تحولٌ أدبي ..
وهكذا ، فإن تشابك ظروف الحياة ،
وتعقيداتها ، وظهور التيارات المتآلفة والمتناقضة والأفكار المستوردة ، إضافة إلى
مجموعة من التحولات المختلفة ، كل ذلك ، جعل من الأدب ملاحمَ ترصد هذه التحولات
وتعايشها ، وتمتح من معينها ، وصفا وتحليلا وهجاء ومدحا ، كل حسب ما يدور في
خلفيته ..
يضاف إلى ذلك ، انتشار شيء من الوعي
بين الأوساط الجماهيرية ، وبين الطلبة والمثقفين بشكل خاص ، مما جعل الجو مناسبا
لإحداث هذا التغيير الحتمي نحو اتجاه معين ظهر مواكبا لتطور الأحداث في مطلع
الستينات ، حيث كانت هذه الفترة مليئة بأهم الإرهاصات السياسية في المنطقة العربية
عامة ..
وقد واكب الأدب مسير الثورة في سورية ، يمتد
لامتدادها ، وينحسر لتقوقعها ، متتبعا بذلك الخطوات التي ترتادها ، والتي اعتبرت
في وقت من الأوقات ، إكمالا لما بدأته سنوات الوحدة ..
ثم كان لنكسة حزيران ـ ذلك الانعطاف
الأهم في التاريخ العربي لتلك الفترة ـ الأثر الأكبر في نفوس الأدباء وقرائهم ..
فنكسة حزيران ، خلقت وضعا جديدا في مسار الأدب ، إذ بدا انهزاميا ، مخلخلا ، هزيلا
، ينعى العرب ، وينال منهم أحيانا .. واليأس والقنوط ، صفة معظم ما كتب ..
هذه النظرة السوداوية القاتمة ، التي
شملت أدب تلك المرحلة ، ساهمت إلى حد بعيد في تثبيط همم القراء ، انسجاما مع ما
يقرؤون ، بحيث أفقدتهم الثقة بقدرات الوطن ، وجعلتهم يعيشون حالة قهر داخلي ممزوج
بكراهيةٍ للذات العربية التي خسرت الحرب أمام شرذمة قليلة ، وخرج الجميع بخيبة أمل
، بعدما ترددت صيحات مدوية كثيرة توحي بقوة العرب ، وشدة مراسهم ..
ومع تأصل جذور تلك الأحداث في الواقع
العربي ، كان لابد للأدب أيضا ، من أن يعمق مجراه أكثر فأكثر ، فبدت الواقعية أشد
التصاقا بالذات العربية ، وصار الالتزام راية ترفرف في سماء الأدب ، وثار جدال
طويل ، امتدادا لما مضى حول الالتزام والإلزام ، وعالج الأدباء مأساة الهزيمة ضمن
إطار تاريخي ، آخذين بعين الاعتبار مجمل التحولات التي شهدها الوطن في تلك المرحلة
، والتي تتمثل فيما كتب كل من : صدقي إسماعيل ، وفارس زرزور ، ومحمد الماغوط ،
وعلي الجندي ، وممدوح عدوان ، ومحمد عمران ، وسعد الله ونوس ، وسليمان العيسى ،
وزكريا تامر ، وشوقي بغدادي ، وفايز خضور ....
وآخرون كثيرون غيرهم ، متبعين طرقا شتى
، رمزا وإيحاء ومباشرة وإسقاطا وتاريخيا ..
والنقد ، " ذلك الفعالية التابعة " ،
استطاع أن يواكب الأدب في مسيره ، لكنه ظل أقل منه تأثيرا وتأثرا بما حوله ..
موجز لنشأة النقد :
فاليونان القدماء ، هم الذين سبقوا إلى
وضع أصول النقد وقواعده ، لكنه ، ابتدأ عندهم ابتداء ساذجا ، ثم أخذ يتعقد شيئا
فشيئا ، حتى أخذ شكله النهائي عند أرسطو .
وإذا انتقلنا إلى أوربا بعد عصورها
المظلمة ، لا حظنا أن النقد الأدبي يمر فيها بعصور ثلاثة :
ـ عصر النهضة وما يليه إلى نهاية القرن
الثامن عشر .
ـ القرن التاسع عشر .
ـ قرننا الذي نعيش فيه . (( أي القرن
العشرون وقت كتابة الدراسة سنة 1977 )) .
وفي الجاهلية العربية ، كانت الصياغة
والمعاني هي ما يُنتقد في الشعر ، يتمثل ذلك في : أفضل بيت يقال في هذا المعنى أو
ذاك ..
وشواهد سوق عكاظ أكثر من أن تحصى .
ولو صحت قضية المعلقات ، لأمكن القول :
إن ذلك كان نوعا من أنواع النقد ، إذ أنها اختيار لقصائد بعينها ، وحكمٌ ضمني
بجودتها وتفضيلها على سواها .
وأعقب ذلك ظهور الكتابات النقدية لدى
كل من : الأميري والجرجاني وقدامة بن جعفر وابن سلام وغيرهم ، مبثوثة في الكتب
التي ألفوها .
فقد حكم ابن سلام على الشعر والشعراء
معا ، وأجرى تمحيصا مطولا في الشعر المنحول ، وجعل الشعراء في طبقات تبعا لعوامل
محددة ..
ومع ذلك فقد ظل النقد ذاتيا ، يقوم على
الشعور والذوق ، ويختلف باختلاف الأذواق والنقاد .
موقف :
++ يقول زكريا تامر : " إن معظم
ما قدم على أنه دراسات نقدية محلية ، ما هو إلا تعليقات كتبت بسرعة كي تنشر في
صفحات أدبية في الصحف وبعض المجلات وهدفها المغنم المادي " ..
فهل حقا بلغ الأمر بالنقاد ألا يكتبوا
إلا لمغنم مادي فقط ؟!
يبدو أن الأمر أبعد وأعمق .. وأردّه
إلى أنه من قبيل " العداء التاريخي الأزلي بين الكاتب والناقد " شأنهما
شأن العداء بين الكنة وحماتها ..
وإلا ، ما الذي يجعل كاتبا كـ "
زكريا تامر " ينطلق بالحكم على النقد السوري بأنه ذو هدف مادي ؟!
إنها مصادرة حقيقية تعني شل الحركة
النقدية ، بل ، إلغاءها من خلال هذا المنظار القاتم الذي يعلو وجه كاتبنا ..
++ المنهج في النقد العربي المعاصر :
هل للنقد منهج ؟ أم هو مزاج خاص بكل
ناقد ؟
هل للنقد مفاهيم محددة كالعلم ؟
وفي حال وجودها ، أين تكمن ؟
وما هي تلك المفاهيم ؟ ومن الذي وضعها
؟
أسئلة كثيرة أثيرت حول هذا الموضوع
بالذات ، وأخذت من النقاد وقتا طويلا ، يبحثون هنا وهناك ، ويدققون ، ويعقدون اللقاءات
والندوات ، يناقشون فيها الأمور تفصيلا وجملة ، في محاولة منهم لتأطير النقد ،
ووضعه ضمن أسس ينطلق منها كل نقد .
ولعل المنهج في النقد ، أقرب ما يكون
إلى المذهب السياسي ، كلٌّ يحاول أن يقنع الآخرين بصواب منهجه أو مذهبه . والكل
مصيبون في نظر أنفسهم ، على الأقل ..
ففي صيف عام 1972 ، عقدت ندوة تبحث
" أزمة المنهج في النقد العربي المعاصر " ، ناقش فيها مجموعة من النقاد
تلك الأزمة المستعصية وظواهرها ومسبباتها ، وحاولوا الخروج منها بأرضية مشتركة ،
لكن الدليل على إخفاقها أنه ظهرت مؤخرا وقائع ندوة أخرى ، تبحث الموضوع نفسه ، دون
تغيير يذكر في الشخصيات المشاركة .
ومن خلال الحديث عن الاتجاهات النقدية
، سنعرض لأهم ما تعرضت له هاتان الندوتان النقديتان على لسان أحد المشاركين فيهما
:
الدكتور حسام الخطيب :
" إنه لا يود المبالغة في الميل
إلى إعدام النقد الأدبي العربي الحديث " .. ويضيف قائلا : " أعتقد أن
المفقود ليس المنهج ، لكن المفقود هو وجود معيار عام مشترك يميز الساحة النقدية
العربية المعاصرة " ..
كما أن مشكلة النقد ـ عنده ـ تتمثل في
أنه مضطر للتركيز على النواحي المضمونية ، لأن معظم الأعمال التي سيتعرض لها ، ما
زالت في مرحلة ما قبل التشكل ..
ويرجِع ضعف النقد الأدبي إلى عدة أسباب
، منها :
طبيعة النقد الذي يتطور آخرا ،
باعتباره آخر الفعاليات الفنية ، إضافة إلى البلبلة الثقافية والاجتماعية
والسياسية الموجودة في الوطن العربي ، وإلى أن الأدب العربي ما يزال يتلمس طريقه
..
ثم يبدي الدكتور الخطيب تخوفه من فقدان
الأعمال الأدبية في حال تمسك النقاد بالمعيار الفني الجمالي ، ويعد نفسه مناصرا
لنوع من التوازن بين المعايير المضمونية والمعايير الفنية الجمالية ..
ويرى أن الناقد لم يعد وسيطا سلبيا يحاول
أن يشرح بأمانة مضامين وإيحاءات الأثر الأدبي من زاوية مقاصد مؤلفه ، بل أصبح
الناقد " يعيد خلق " الأثر الفني ، ويعطيه من ثقافته ومن رؤياه الشخصية
ومن ذوقه ، الشيء الكثير ، وربما قدّمه كشيء جديد نسبيا ..
وفي رأيه ، أن المذاهب النقدية قد
ساهمت في تسليط أضواء عميقة أدت إلى إغناء فهمنا للتراث الأدبي الإنساني ..
فالمنهج الأخلاقي كما يقول : أعطى
الكثير في مجال ربط التجربة الأدبية بالمصير الميتافيزيقي للإنسان ، أو بكفاحه من
خلال الظروف الاجتماعية ، لكنه أسرف في التركيز على المضمون دون الشكل ..
والمنهج النفسي : أتاح لنا فرصا للتعمق
في فهم كل من عملية الخلق الفني ، وأسلوب الشعراء في تطوير رموزهم ..
والمنهج الاجتماعي : أضاف بعدا جديا
ومهما ، حين ربط الإنتاج الأدبي بالظروف الاجتماعية ، وأوضح العلاقة الديالكتيكية
بين الأدب وبيئته الفكرية والسياسية والاجتماعية ..
ويأخذ الخطيب على هذا المذهب ، تجاهله
الفروق بين الأفراد الموهوبين ، والأفراد العاديين ..
أما المنهج الأسطوري : فقد استطاع أن
يبرز الأنماط الأسطورية المتكررة دائما في الإنتاج الأدبي للإنسان ..
ومن ثم ينطلق الدكتور الخطيب متنبئا
للمناهج النقدية بالزيادة والتشعب تبعا لتطور المعارف الإنسانية ، ويدعو إلى الأخذ
بشمائل هذه المناهج قائلا : والناقد المتزن هو الذي يستفيد من معطيات هذه المناهج جميعا
، ويتمثلها ويستخدمها لإغناء العمليات النقدية الأساسية الثلاث : الشرح ،
والتحليل والتقويم ، متوافقا بذلك مع
الناقد خلدون الشمعة ، ويتوافق مع محي الدين صبحي ، حينما يسير بالنقد حسبما تقتضي
طبيعة النص المدروس ..
ويردد حسام الخطيب الصدى نفسه في مقدمة
كتابه : أبحاث نقدية ومقارنة ، حينما يتحدث عن تقديم المبادئ الأساسية لنظرية
النقد من خلال نظرة أدبية تكاملية تحاول إقامة شيء من التوازن بين طبيعة الأدب
ووظيفته ، فيقول :
نظرية الأدب ، تنقسم إلى : نظرية
أخلاقية ، ونظرية شكلية .. الأولى تعني : وظيفة الأدب . والثانية تعني : طبيعة
الأدب .
كما أن الدكتور جمال شحيد ، يضع المنهج التكاملي
أساسا للنقد ، فيقول : الناقد يجب أن يستفيد من كافة المعطيات الحديثة ، نفسية
كانت أو نقدية أو سياسية أو اجتماعية .. ولا أفضل أن يكون هناك نقد نفسي منفصل
بذاته .. كل هذه العلوم يمكن أن تكون موجودة ضمن نقد يكون أغنى ..
وعلى المنهج نفسه ، يسير نقاد آخرون ،
تملأ مواضيعهم صفحات الجرائد والمجلات ..
ولعل المنهج التكاملي الذي اتفق عليه
حسام الخطيب وجمال شحيد ، فيه من الشمولية ما يؤهله لاستيعاب أنواع العلوم الأخرى
، ليفيد منها الناقد في عملية خلقه للنص من جديد ، متجاوزين الوتر الواحد الذي
يُؤثر كثير من النقاد العزف عليه ، إذ لا يسمِعوننا سوى نغم واحد ، وصوت واحد ،
وهذه عملية نسخ لكثير من جهود العلماء في استنباطهم للعلوم الأخرى ..
وكان يمكن الاكتفاء بكشفٍ واحدٍ لنوع
واحدٍ من أنواع العلوم الإنسانية جميعا ..
خلدون الشمعة وهرطقة الأفكار المسبقة :
المنهج لديه ، هو " طريقة الرؤية
" أو " طريقة النظر إلى العمل الفني " .. ويرى أن العمل الفني هو
" الأصل " ، لذلك لا بد أن تكون هناك مناهج ..
ويعتقد أن النقد الحديث ـ في معظمه ـ
يؤكد على النقد الوصفي ، أي : يتناول العمل لكي يصفه ويسبر مطاويه ..
ويناقض خلدون الشمعة أدونيس في نقد
البنية ، فيقول :
هذا النقد لا يتضمن أي شيء مسبق ، لأنك
لا ترى في البنية إلا ما فيها ، لا ما ليس
فيها ..
ثم ينتهي إلى القول بـ " تعدد
مناهج النقد ، وأنه ليس هناك منهج واحد مادام العمل الفني هو الأصل ، وهذا يفسر
تعدد النقاد ، وتعدد الآراء " ..
ويؤكد رأيه السابق في مكان آخر ، فيقول
: من المتعذر اكتشاف حياة الكاتب في العمل الفني ، والأنا الروائية تختلف عن أنا
الكاتب ، إذ ينبغي رؤية العمل الفني حسب شروطه ..
وههنا يقترب خلدون الشمعة من حسام
الخطيب في قول الأول : بالطبع ، لا نستطيع إهمال العوامل الخارجية كالمجتمع ،
والبيئة ، وأثرهما في العمل الأدبي ..
لكنه " خلدون الشمعة " ينأى
ثانية ، ويرجع إلى النص معتبرا إياه الأساس في العملية النقدية . ويعترف بفرادة
العمل الأدبي وتماسكه كعمل أدبي .. وبعد ذلك فقط ، يمكن أن يعير اهتمامه إلى
العوامل الاجتماعية والبيئة التي قامت بدور الحاضنة لذاك النص ..
ثم يعيب الناقد على بعض النقاد
اعتناقهم الأفكار المسبقة في تحليلهم للنصوص ، فيقول : هناك نقاد ماركسيون جيدون ،
لكن اعتراضي على بعضهم ينطلق من أنهم يتعاملون مع العمل الأدبي بفكرة مسبقة ، سواء
بما يتصل ببنية العمل الأدبي ، أو المغزى الشامل له .. والضعف نفسه يبدو ماثلا في
النقد الفرويدي والنفسي والتاريخي ..
ويهاجم خلدون الشمعة تلك النظرة
التعميمية الجارفة التي لا تفي كلا من المراحل التالية حقها ، والمراحل هي :
1ـ التمييز بين الأنواع الأدبية .
2 ـ التقويم : وهو التوصل إلى تحديد
قيمة العمل الأدبي .
3 ـ التاريخ : وهو وضع العمل في موضعه
من سياق قائم أو مفترض ، كالسياق البلاغي أو الأدبي ، أو الثقافي أو الحضاري ..
وهكذا يمضي خلدون الشمعة ، لينعى على
النقاد هرطقتهم ، التي هي برأيه : خروجهم على النظرية السائدة . لكنه لا يلبث أن
يستنكر هذا المفهوم على هؤلاء المهرطقين ، لأن الخروج على النظرية ينطوي على معرفة
لتلك النظرية .. ويضيف : إن النقد العربي المعاصر ، ما يزال في جزء غير يسير منه
أسيرا لجملة من الهرطقات التي تفصح عن تصور فاضح في إدراك العلاقة بين النقد
والإبداع ، وبين النقد والكاتب ، وبين النقد والقارئ ، وبين النقد والعصر الذي
ينتمي إليه النص المنقود ، يستوي في ذلك عنده : النقد الصحفي والمدرسي أو
الأكاديمي الذي " يكرس واقعا نقديا لا يتسم بالتواصل بين مراحله المتخلفة
" لكن " من واجب الناقد أن يبني حكمه على التفاصيل ، وأن يبني الكل على
التفاصيل " ..
وفي النهاية ، يؤطر خلدون الشمعة جميع
المناهج النقدية تحت اتجاهين رئيسيين :
ـ منهج خارجي ، يلجأ إلى تطبيق مناهج
العلوم الاجتماعية على الأدب .
ـ ومنهج داخلي ، ينطلق من الوجود
الموضوعي للعمل الأدبي ، ومن قيمه الداخلية المتولدة من الأعمال الأدبية العظيمة .
ويبدي الشمعة اشمئزازه من الناقد الذي
يريد أن يطبّق نظرة مسبقة على عمل أدبي ما ، ويشبهه بمن جاء لحضور مسرحية ما ،
ولكن ليس لمشاهدة العرض ، وإنما لكي يغمض عينيه بشدة ، ويرهف أذنيه لسماع الموسيقى
التصويرية الملازمة للعرض ، ثم يزعم أنه قد شاهد المسرحية أفضل من أي متفرج آخر ..
هذا هو برأيه أحد محاور الوضع الأقصى
لتطبيق المنهج الخارجي الذي يستمد نفسه من العلوم الاجتماعية والتي يريدها أن تكون
بمثابة تكتيك في الإستراتيجية العامة ، إضافة إلى أن مناهج العلوم الاجتماعية لا
تصدر لإصدار أحكام القيمة على العمل الفني باعتبار أنها وصفية وليست معيارية ..
ولا ينسى الناقد أن يردد ثانية : أن المنهج النقدي لديه هو علم أو نظام أو فن أو
أسلوب التناول النقدي للعمل الفني على ضوء طبيعة الأدب وطبيعة النقد ..
والمتمعن في أسلوب خلدون الشمعة من
خلال كتاباته ، يرى كيف تسير لديه عملية " برجزة " النقد "
وانحرافه في متاهات يلهث فيها القارئ طويلا ، فلا يصل إلا إلى متاهات أخرى .. ((
على حد تعبير الأستاذ نبيل سليمان في محاضرة له في المركز الثقافي العربي بحلب ))
..
لعل ذلك يرجع إلى غموض في أفكاره ، أو
لعدم استطاعته اتباع الطريق المباشرة في التعبير عنها ، فتراه يوجز إلى حد الإبهام
حينا ، ويسترسل في استطرادات لا محل لها في حين آخر ، ويستعمل الترميز كمن يكتب
قصة أو شعرا حديثا ، في حين ثالث .. وكل ذلك ، دون الوصول إلى نتيجة مقنعة ..
لذلك ، تجيء كتاباته نوعا من
الاستعصاءات الفكرية التي لا تناسب الموضوع الذي يتحدث عنه ..
ولكنه بدا ـ من خلال استعراضنا لمنهجه
النقدي ـ أنه ظل محافظا على منهجيته في التناول الفني للنص معتبرا إياه المرجع
الأول والأساسي لكل حكم يصدره ، دونما إيلاء أية أهمية لشيء من النظرة المسبقة
للكاتب صاحب النص ، ودونما أية اعتبارات أخرى ، سياسية أو شخصية أو مصلحية ..
في نفس الوقت ، فإن هذا المنهج ، لا
يخلو من مزلق رئيسي ، يتجلى في أن الكاتب قد يكتب الآن نصا يطرح فيه فكرا معينا ،
أو يتبع فيه أسلوبا خاصا ، ثم يكتب بعد فترة نصا آخر ، فيه فكر يخالف ما جاء في
الأول ، وأسلوب يغايره أيضا ... أو يطرح فيه أشياء قد تناقض ما قاله هناك .. فهل ما جاء في النص الثاني يعد ناسخا لما جاء
في النص الأول بغض النظر عن ماهية النص ، شعرا كان أم قصة أم دراسة أدبية ؟؟!!
بهذا ، أعتقد أن الناقد يمكن له أن
يحكم على نص بعينه ، لكنه لا يمكن له أن يحكم على الناقد من خلال نص واحد له ، إلا
إذا جمع عددا من النصوص ، ونسقها تحت عناوين عريضة .. وقتها ، يمكن للناقد أن يطلق
حكما على اتجاه الكاتب ومحور فكره .. وهذا مناقض لما طرحه خلدون الشمعة ..
وثمة مزلق آخر ، مفاده : أن هذا المنهج
يفترض الفصل بين الكاتب ومادة كتابته .. وهنا تقع مصادرة حقيقية لذات الكاتب ..
فمن ذا الذي يكتب بغير إيمان منه بما يكتب ؟؟!!
أو من ذلك الذي ينتج أدبا خارجا عن
ذاته ، ومنفصلا عنها ؟؟!!
ذلك لا يعني بالطبع أن يكون كل ما في
الرواية مثلا ، مطابقا لشخصية كاتبها .. إلا أن شيئا من ذلك ، لا بد أن يدور في
خلده من خلال معالجته لشخصيات روايته ، وتحريكه لهم في الاتجاه الذي يريده .. ولا
بد أن يكون الكاتب على وعي تام ، وإدراك كامل لكل ما يصدر عنه ، سواء في حالة
الكتابة الشعورية أو اللاشعورية ..
ولا بأس من أن يبني الناقد حكمه على
التفاصيل ، ثم يبني الكل من التفاصيل ليخرج بصورة تامة الأركان، لا تشوبها شوائب
الرؤيا والفكر ..
محي الدين صبحي ومنهج العرض والطلب :
الأزمة النقدية عند محي الدين صبحي
تتمثل في خلو الأدب من قيم تشكل الأمة ، فتجعله بذلك أدبا متهافتا .. وبُعْدُ
النقد عن هذه الرؤيا ، يجعل المعايير المستوردة تطغى ، رغم أنها غير ملائمة
بالتالي لأية ممارسة ..
والبحث عن حل لأزمة المنهج هذه ، هو
البحث عن النظرية الأدبية التي تعالج الشرط الإنساني ، والنظرية النقدية التي
تعالج إيقاع الحياة في وجدان الأدب المعبر ..
ويرفض الناقد المفهوم النقدي
الميكانيكي الصحفي الذي سقط بالممارسة : وهو أن المجتمع يتحرك ، والأديب يسجل هذه
الحركة ، والنقد يلحق بالأديب .. مسوغا ذلك بقوله : وهذا لا يعني وضع الحركة
العفوية للمجتمع فوق وعي الأديب وشعوره ، ووضع شعور الأديب فوق وعي الناقد ، لأن
وظيفة الأدب فهم المجتمع ، ووظيفة الناقد هي فهم الأديب ..
والنقد لدى محي الدين صبحي : فعالية
عقل مدقق ، في مواجهة عقل خلاق .. والمقياس الذي يعتمد عليه ، هو الفعاليات
الخلاقة السابقة " التراث " مستنتجا منها معاييره ..
ويتخذ من " استبصارات العلوم
الإنسانية ومجريات تطور العلوم " روافد تقوّم مجراه وتغنيه ، وبذلك يكون
للنقد ثوابته التي تعتمد على نظرية الأنواع الأدبية ، كما أنه يعتمد ـ أولا وأخيرا
ـ على الإدراك العام ، والذوق الفردي المثقف ..
وهذا موقف ، لا يختلف ـ من قريب أو من
بعيد ـ عما طرحه ابن سلام منذ مئات السنين ، وبذلك يبدو الناقد وكأنه عاد إلى
الوراء يستلهم حقيقة التراث ، متفقا مع أدونيس حين يقول : أتمنى لو أن نقدنا
المعاصر مقارب للمستوى النقدي القديم لدى الجرجاني ..
ويبين محي الدين صبحي " مهمة
الناقد " ويشرحها ، ويكلفه : بأن يقلب الترتيب الذي يفرضه الفن رأسا على عقب
، فيكشف المعاني ويفسر الرموز ، عبر تمزيق النسيج الفني الذي يكنه في شرنقته ..
وقد اعتمد محي الدين صبحي هذا المنهج
في تحليله لقصيدتين من " أصعب قصائد نزار قباني " ـ برأيه ـ و "
أكثرها إمعانا في الذاتية " ، لـ " يتبين صورة الإنسان القائمة
والمقترحة فيهما " ..
ومن ثم يحكم الناقد بسلطة القاضي المتمكن
فيقول : إن قيمة هذا الشعر لا تكمن في جماله الفني ، بل ، إن جماله الفني مستمَدٌ
من قيمته الأخلاقية المتطورة ..
ونتساءل : هل حقا تستمَدّ القيمة
الأخلاقية من الجمال الفني ؟!
لا شأن لنا بذلك ، فهكذا يود الناقد أن
يسير بمنهجه ..
وفي كتابه : دراسات تحليلية في الشعر
العربي المعاصر ، يقول : " إن لكل نتاج منطقا داخليا يفرض المنهج النقدي الذي
يلائمه ويكشفه " ..
ومن ذلك المنهج ، انطلق في نقد قصيدة
الشاعر عبد الوهاب البياتي " بكائية إلى شمس حزيران " مستعينا عليها
بالمنهج الفكري والتحليل السياسي ..
ثم في دراسته لديوان " الكتابة
على الطين " للبياتي أيضا ، اتبع " العُرْفَ الأدبي العظيم للنقاد العرب
حين استعملوا مصطلح الشرح " " رغبة من الناقد في الارتباط بهذا التراث
النقدي العظيم الذي يجعل الحكم محصلة لجهود الناقد في تناول النص من جوانبه
المختلفة ..
وفي دراسته لشعر نازك الملائكة "
المغرق في الرمز والهمس والتدقيق " استخدم الناقد المنهج النفسي "
لإبراز ما ينطوي عليه هذا الشعر من إحباطات ونكوصات " ..
ويقول الناقد عن نفسه في دراسته لشعر
فدوى طوقان : إني أبدأ باستخلاص القضايا التي يعالجها الشاعر ، وبتحديد موقفه منها
، ثم بالكشف عن تطور موقفه ، وبذلك تتحدّد لنا مضامين حياته التي اتخذها ، ومناحي
تطوره من حيث الانسحاب والإقدام ، والعمق أو الاضمحلال ..
وبعد حديثه عن التحديات التي يلاقيها
الفرد من المجتمع ، بحيث يناضل هذا الفرد ليحصل على ما يشتهي ، وقد يجاهد نفسه
لتحدَّ من نزواتها ، يقول :
وهنا يتوجب على الناقد أن يحلل الموقف
إلى عناصره الرئيسية ، ويفصل بين العامل النفسي والعامل الاجتماعي ..
ثم يبين تأثير كل منهما بالآخر ، فتأتي
الدراسة قريبة من الحياة والواقع ، مما يضفي على النقد حيوية ، ويربطه بالمرحلة
التي يمر بها المجتمع ، ويبعده عن تحنيط المنهج الأكاديمي الذي يجنح إلى تجميد
الدراسة في حدود الأطر الفنية بدعوى أن : مقدرة الفنان تظهر جلية في طريقة العرض
..
إن محي الين صبحي ، يحاول أن يجعل من
منهجه النقدي " حرباء " تتلون بلون الأرض التي تزحف فوقها ، دون أن
يتوانى عن محاولة إقناعنا بأن اللون الذي نراه ، إنما هو اللون الحقيقي ..
إنه ناقد " حسب الطلب " ينتقد
كما يُراد له ذلك من خلال النص الذي بين يديه .. ففي كتابه الواحد رأينا تعدد
مناهجه النقدية بتعدد النماذج الأدبية التي تناولها ..
إن البون شاسع بين أن تستعين بجميع
المناهج لتحليل نص أدبي ما ، وبين أن تقصر المنهج الواحد على النص الواحد ، وتنهض
متخما من دسم الوجبة ..
يوسف اليوسف والمذهبية العمياء :
في دراسته لرواية الطيب صالح "
موسم الهجرة إلى الشمال " ، يتعرض الناقد يوسف اليوسف إلى الخوض في المستوى
النفسي الذي تتجلى فيه عقد نفسية تسترعي الانتباه ، محاولا أن يبين العلاقة
المتجادلة بين رمزية الجنس ، ومدلولاتها الحضارية ..
إذ يرى أن الطيب صالح قد " تعمّدَ
الجنس " ، وربما " عقـَّدَه أيضا " واتخذه أرضية يبني عليها بنيانا
ذا صلة بالإيديولوجية الاجتماعية والتاريخية ..
إضافة إلى ذلك ، فإن الناقد قد حمّلَ
بطلَ القصة " مصطفى سعيد " عقدة أوديب بين محتوياته النفسية ، وعقب
عليها بشرح لوجهة نظر " فرويد " قائلا : أكد فرويد : أنه على تصفية عقدة
أوديب يتوقف نجاح العلاقات الجنسية خارج الأسرة ، وبالتالي : نجاح الحياة الزوجية
" ..
ويسترسل : " وتقتضي طبيعة العقل
الجدلي أن نؤكد ما فحواه : أن إخفاق العلاقات الجنسية خارج الأسرة قد يضفي ارتداد
المرء إلى عقدة أوديب ، هذا إذا كان قد قام بتصفيتها وإلى تعميق تثبتاتها إن كان
ما ينفك مركوسا فيها " .. ويضيف : " والعكس صحيح " ..
إي : إن نجاح العلاقات الجنسية خارج
الأسرة يفضي إلى الشفاء من تلك العقدة ..
إذن ، ما عليك أيها المعقد "
أوديبيا " إلا أن تكون ناجحا في علاقتك الجنسية خارج حدود الأسرة ، حتى تزول
هذه العقدة وتتفكك وتشفى منها إلى الأبد ..
لن أعلق أكثر من ذلك على هذه الدعوة ،
لكني سأمضي مع الناقد في استكناهٍ أعمق للنفس ، فيقول : إن ثنائية الميول بادية
للعيان في برهة القتل ، فهو يريد أن يقتلها وأن يضاجعها في آن واحد ، بل هو يدغم
القتل في الجماع لأنه لا يستطيع في الحقيقة أن يتصرف تجاهها إلا تصرفا جنسيا ،
وحتى القتل نفسه ، يغدو عملية جنسية من حيث كونه يروي السادية ..
لقد آمنا وصدقنا أن المضاجعة عملية
جنسية ، أما القتل ؟! ..
إنها آخر صيحة في عالم الفهم الجنسي
والتفسير الجنسي للظواهر الحياتية الإنسانية ..
وأن يشطب المرءُ المفاهيمَ كلها
باستثناء مفهوم واحد ، تلك عملية إحباط ومسخ لكل المعارف والقيم التي جهد العقل
البشري في الحصول عليها ..
سنترك الطيب صالح وروايته "
الجنسية " وعقد أبطاله ، لنتابع الرحلة مع ناقدنا عبر كتابه " مقدمه
للشعر الجاهلي " ..
إن يوسف اليوسف ينطلق في الكشف عن ردود
فعل النفس البدائية إزاء ظواهر بيئة معينة ، وعن الصيغة التي استطاعت بها هذه
البيئة أن تصوغ النفس وتصنعها ..
لقد محا الناقد كل عبقرية ، وكل إبداع
لدى الشعراء الجاهليين ، حينما جعل أدبهم " ردة فعل لظواهر البيئة المعينة
" ، وحينما عزا " للطبيعة وحدها " أو " للبيئة وحدها "
أمر صياغة وصنع النفس العربية ..
إن الأدب العربي الجاهلي ـ حسبما تقدم
ـ هو ردة فعل ، قد تكون غريزية أو فجائية أو عاطفية أو انفعالية تجاه الظواهر التي
وجدت في طبيعة الحياة الجاهلية ..
فهل حقا ، بهذا الشكل ، كان الشعر
الجاهلي ؟!
ويذهب الناقد إلى القول : إن السحق فزع
اجتماعي ، يتجلى على أشده في البرهة الطللية ..
وفسّر العنصر " الطللي" بأنه
: توليف اندماغي للحظات ثلاث : التهدم الحضاري ، والقمع الجنسي ، وقحل الطبيعة ..
وفي تفسيره لمطلع معلقة امرئ القيس :
قفا نبك ، يقول : من اللازم أن ندغم في فهمنا للبرهة الطللية بين الجنس والنواح ،
وأن نرى العنصر النواحي هو الأشد بروزا في هذه اللحظة ، وإن كان يخفي الدافع
الجنسي تحت حُجُبه .. ويضيف : إنه بالدرجة الأولى نواح من أجل الجنس المحظور .. من
أجل المرأة المحبوبة ..
لقد أصاب الناقد في إبراز النواح في
هذه اللحظة الطللية ، لكن تفسيره باختفاء الدافع الجنسي تحت حُجُب النواح أمر فيه
شيء من القبول أو عدمه ..
وذلك يدعونا لنتساءل : هل كان امرؤ
القيس من المكبوتين جنسيا وهو الذي يروي لنا قصصه وحكاياته الغرامية على نهج
قصيدته :
سمَوْتُ إليها بعدما نام أهلها
سُمُوَّ حباب الماء حالا على حال ؟؟!!
هذا إذا كان النواح من أجل "
الجنس المحظور " ..
أما إذا كان من أجل المرأة المحبوبة ،
فذلك يمكن قبوله ، لأن تتمة البيت في مطلع المعلقة توحي بالبكاء على ذكرى الحبيب
ودياره الدارسة ..
وهذا أيضا ، يدعونا إلى التساؤل فيما
إذا كانت هذه اللحظة خاصة بمعلقة امرئ القيس ، أم عامة في سائر المعلقات ؟؟
فإذا كانت هذه اللحظة عامة بالوقوف على
الأطلال ، فكيف نفسر قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
صُمًّا خوالدَ ما يبين كلامها ؟؟!!
أو قول عنترة العبسي في معلقته أيضا :
فوقفت فيها ناقتي فكأنها
فدَنٌ لأقضي حاجة المتلوِّم
والمعروف ، أن حب عنترة لعبلة لم يكن
حبا جنسيا ، بقدر ما كان سموا وهياما عاطفيين نحوها ..
حسنا ، لنمض مع الناقد يوسف اليوسف :
فلقد عزا الناقد عدم ظهر الشعر الملحمي
في التراث الجاهلي إلى الممارسة الفعلية للفروسية التي يعيشها الشاعر ، إذ أن
شعراء الجاهلية طرًّا لهم هذه الدرجة أو تلك من الفروسية .. ولما كانت الملحمة ،
بل الأدب والفن جملةً ، إرواء لحالات مكبوتة في النواة المركزية للنفس ـ على حد
قول فرويد ـ ، وتحقيقا لهذه المكبوتات التي لم يشبعْها الواقع في مطلق الخيال ،
ومادام الإبداع الفني تعويضا يتم من خلال تفريغ الانفعالات فإن الشاعر الجاهلي لن
ينتج الملحمة ، لأنه لا يتمتع بالشحنة النفسية الصِّدَامية التي تلح وتلحف في
طلبها للتفريغ ، أي : إنه لا حاجة به للتعبير عن منازعه القتالية ، لأنه يعبر عنها
ممارسة ومعاشا .
وبناء على ما تقدم :
1 ـ إن فكر وخيال الشعر ينموان
ويزدادان اتساعا بازدياد التجارب والخبرات المعاشة والمكتسبة .. والحرب إحدى تلك
الخبرات الهامة والتجارب العملية ، فلماذا لا تزيد هذه الخبرة في مقدرة الشاعر
الشعرية لتجعل منه شاعرا ملحميا ؟؟!! ( هذا إذا كان تعليل يوسف اليوسف صحيحا ) ..
2 ـ أما الغزل في رأيه ، فهو "
جنس مصعَّدٌ " ، وهو " حالة وجدانية أكثر منه فيزيزلوجية " ، في
حين يجمع الجنس بين الوجداني والفيزيولوجي ..
3 ـ وبذا ، يبدو أكثر واقعية من الأدب
، فلم يأت الناقد بجديد ، بل أرجع إلى الجنس شدة الالتصاق بالواقع أكثر من الأدب ،
لأن الجنس يجمع بين الوجدان والفيزيزلوجيا ، أما الأدب ، فهو وجداني خالص ..
4 ـ ويُرجِع الناقد عملية إنتاج
المعلقة إلى القمع الجنسي ، ويعتبره العامل الأول في إنتاجها ، واعتبارها وحدة
كلية رغما من ظهورها كوحدات منفصلة ومتباعدة ..
ثم ، ما الذي يجعلنا أن نعتبر المعلقة
" كلا لا يتجزأ " بينها وبين زميلاتها الأخر ؟؟!! على حد تعبير الناقد
نفسه في بحث له بعنوان : المحتويات التحتانية للمعلقات ، ويضيف : إن غريزة البقاء
غير المعوق بالمهددات هي البؤرة الحاشدة لمجمل معاني المعلقات ..
مما تقدم ، يظهر جليا كيف أن الناقد
مصاب بالمذهبية العمياء ـ حسب التعبيرات السياسية ـ تجاه ما يعتقد وما يحمل من
أفكار جنسية ، فتراه يحملها على كتفيه جاعلا منها بساطا يفرشه ليجلس فوقه دون أن
يبالي أكان تحته تراب يابس أم سطح ماء جار !!
ويبدو أن الناقد نفسه قد أدرك سوء
العاقبة فيما إذا استمر بهذا النهج ، فكتب مؤخرا مقالا في مجلة " جيل الثورة
" العدد 115 يدعو فيه إلى الإفادة من جميع المناهج النقدية ، وعدم الاقتصار
على منهج واحد ، وهذا مناقض لما اتبعه في دراساته النقدية السابقة ، ووفيه دعوة
صريحة لاعتناق المنهج المتكامل ..
1977
ملاحظة :
هذه الدراسة هي حلقة بحث جامعية ، ونشرت في
جريدة الدستور الأردنية على قسمين :
الأول : في العدد 3558 تاريخ
24/06/1977
الثاني : في العدد 3705 تاريخ
25/11/1977