الجمعة، 10 ديسمبر 2010

علاقتي بها مشروعة ـ دفاع عن النفس

لا أعرف لماذا استكثر بعضُ الإخوة القراء الكرام ،عليّ وعلى أركيلتي العزيزة ، أن أناجيها في مقالي أمس ، وأن أوجه إليها ما أسمَوْه " ذاك الكلام الحلو " ..

وبعضهم رأى فيها شيئا جامدا ليس إلا .. وكان الأفضل لي ـ حسب قوله ـ أن أوجه هذا الكلام لزوجتي ..

كما نعتوها بأنها ضارة ..

نعم .. هي ضارة وألف ضارة ..

لكن .. أليس في الدنيا ضرر آخر نعرفه يقينا أنه كذلك ، ولا نتجنبه ؟؟!!

أنا أعتقد أن كل ما في الدنيا له وجهان : ضار ، ومفيد ..

وبدون أن أدخل في النظريات ، نعرف أن السموم قاتلة .. لكنها ضرورية أحيانا لتصنيع الدواء النافع .. وكذلك الهواء الذي نتنفسه من حولنا .. فهو شرط لازم وضروري للحياة الموهوبة لنا من خالقها العظيم ، لكنه لا يخلو من كثير جدا من الجراثيم والأمراض ..

وقس عل ذلك ..

لا بأس .. أيا يكن .. فلقد وضعتموني في حالة دفاع عن النفس ، وأرى من الواجب علي أن أدافع عن نفسي أولا ..

وثانيا ، عن أركيلتي وعلاقتي العاطفية الحميمية جدا بيني وبينها ، حتى من قبل أن أتزوج ..

وسأحكي لكم قصة علاقتنا الوطيدة هذه ، من طأ طأ " باللهجة الحلبية " للسلام عليكم ..

(( أي : من لحظة دق الباب " طق طق " ، حتى لحظة الوداع بالسلام عليكم )) .. " وعذرا لهذا التوضيح " ..

بدأت علاقتنا تنمو وتتاصل ، قبل أن أبلغ الحلم ـ كما يقولون ـ ..

كنت وقتها في الخامسة عشرة ، عندما سافرت من حلب إلى دمشق لإنجاز إجراءات معاملة رسمية ، في إحدى الدوائر المركزية في العاصمة .. فوصلتها باكرا ، وكنت أول المراجعين للموظف المختص ، فطلب مني أن أعود إليه قبيل نهاية الدوام ، كي ينجز لي معاملتي ..

يعني أن لديَّ متسعا من الوقت الضائع ..

ولم تكن العاصمة في الستينيات مزدحمة صاخبة ، كما هي عليه اليوم .. فسعيت إلى أقرب مكان ألوذ به تمضية للوقت ..

تسكعت قليلا في شارع الصالحية ، الذي لم تفتح أبواب محلاته بعد ، حتى وجدت محلا بالكاد يرتب مواده ، فأكلت " شطيرة " على قول جهبذ اللغة العربية ، المرحوم يوسف الصيداوي ، وشربت الكوكتيل ، وسعسعت قاصدا مقهى الحجاز الشهير ..

كان الرواد فيه رجالا مسنين ، يلعبون بطاولة الزهر " النرد " ، ويؤركلون التنباك العجمي ذي الرؤوس الملفوفة كالقدِّ الجميل ..

ولم أكن أعرف اسمه لولا سمعت النادل يطلب تحضير " واحد عجمي " لزبون جاء بعدي .. وحين وصل إليّ النادل يسألني عما أطلب ، قلت له : واحد عجمي وواحد شاي ..

فنادى بصوت عال ، طالبا من عمال المطبخ ، تحضير ما طلبت ..

ثم جلب لي هو كأس الشاي ، وجاءني آخر بأركيلة ذات دناديش ، كدناديش راقصات المرابع الليلية " ولا أعرف لِمَ أطلقتْ هذه التسمية على الملاهي " .. وضع ثلاث قطع من الفحم ، ورتبها هرَمِيًّا ، فوق رأس التنباك العجمي الملفوف بعناية ، وسلمني مبسمها ، ومضى لغيري ..

قبل الآن ، لم يكن لي سابق تجربة معها .. لكن ، كنت أتعاطى بعض السجائر تنفيخا فقط ، بدون إدمان ..

بدأت أسحب أنفاسا سريعة منها كي يشتعل التنباك ، ليتصاعد الدخان إلى فمي ، ثم ازفره بحركة مسرحية كما يفعل المؤركلون الآخرون من حولي ، الذين راقبت حركاتهم جيدا ، وأخذت بتقليدها ..

كنت أراقب حركة الماء في الزجاجة الملونة ، وأستمع باهتمام وشغف لقرقرتها المتصاعدة ، كلما سحبت نفسًا من مبسمها الخشبي الداكن ..

وما أن اشتعل التنباك ، وبدأت أزفر الدخان ، حتى بدأت عيناي تزوغان ، وصارت الأبخرة تفعل فعلها في رأسي ، فصار المكان يدور بي .. وتشقلبت صورة الأشياء في عيني ..

فأتوقف عن سحب الأنفاس ، وأرتشف الشاي ، حتى تهدأ لواعج نفسي الثائرة ، ثم أعاود ، ثم تتأزم أوضاعي ، فأتوقف حتى تهدأ ، فأرتشف ، وأعاود الكرَّة .. حتى توقفت عنها نهائيا ، قبيل أن تحترق الطبقة الخارجية من التبغ العجمي الأصفر الشمعي ..

لا أخفيكم سرا ، أنني عانيت منها في البداية معاناة قاسية ، لكني قلت في نفسي : كل البدايات صعبة .. ولا بد من الاستمرار حتى التغلب على مصاعبها مهما كانت ..

وبعد شهر عدت ثانية إلى دمشق .. فكررت ما نفذته في المرة السابقة بحذافيره ، لكني سمعتهم يطلبون " واحد بذرة " فطلبت مثلهم ، مع شراب بارد بدل الشاي ، الذي سبّبَ لي تعرقا شديدا في المرة الأولى ..

وكانت النتائج هذه المرة أفضل .. حيث تبدى لي أن تنباك البذرة يناسب الهواة المبتدئين مثلي ..

وفيما بعد ، عرفت أن تنباك البذرة هو منتج محلي ، تسوّقه مؤسسة التبغ ، وهو أخفُّ في التعاطي من التنباك العجمي المستورد من بلاد العجم .. وهذا يتعاطاه المؤركلون المخضرمون المدمنون ..

وحين عدت إلى حلب ، صرت أتردد على مقاهي باب الفرج بين الحين والآخر ، فأطلب " نفـَسَ بذرة " مع شاي أولا ، ثم القهوة ..

وقد تراجع تأثيرها الشديد على مراحل التعاطي رويدا رويدا .. فأثبت صحة نظريتي السابقة ، أن الأمر يحتاج بعض الوقت للتأقلم معها ..

إلى أن جاءتني أول هدية " بمعنى الهدية " لي ، من والدي ، حين جلب لي زجاجة أركيلة ، في أول سفر له خارج البلاد أوائل السبعينيات ، بعدما عرف إصراري على تعاطيها ..

حملت الزجاجة إلى السوق المتخصص ببيع لوازمها ، وجهزتها تماما .. وعدت فرحا بها أشد الفرح ..

فقد صار بإمكاني تعاطيها في البيت ، في طقس نموذجي أعددته خصيصا لوقت الأركلة ..

على غرار ما يسمى في بريطانيا التي كانت " عظمى " : Tea Time ..

ألا ترون ـ أيها السادة القراء ـ المراحل الصعبة التي مررت بها ، مع حبيبتي هذه ؟؟

فكيف يُطلب مني أن أقلب لها " ظهر المِجَنِّ " ، أو أتخلى عن طول عشرتها بعد هذه الصحبة الطويلة ، والرفقة التي تحدثت عنها في مقالي السابق ؟؟!!

أليس من الوفاء أن أواظب على عشرتها ، وأن أظل على وفائي لها ، مادامت تبادلني نفس المشاعر ؟؟!!

إنها لم تنفك يوما عن مرافقتي ولم تتأخر لحظة ، في الاستجابة إلي في كل الأحوال ..

في فرحي وفي حزني .. في ضيقي وفي متسعي .. في حلي وفي ترحالي .. في بيتي وفي أي مكان آخر من العالم الذي ساقتني الأقدار إليه ..

وفي كل الأوقات السهلة والصعبة .. في الليل وفي النهار .. في الشتاء وفي الصيف وفي الخريف وفي الربيع ..

وحدي كنت ، أو مع صحبتي وأحبابي ..

فإذا كنت وحدي كانت رفيقتي التي لا تفارقني .. وإذا كنا اثنين ، كانت ثالثنا .. وإذا كنا أكثر ، يتعزز وجودها بزميلاتها الأخريات اللواتي يُسامرْنها ، ويناغجْنها بدلال المُحِبِّ وهيامه ..

وإذا صُودِفتُ وحيدًا ، سرعان ما يسألني الصَّحبُ مندهشين ، مستغربين ومستهجنين غيابَها عني .. حتى إذا تأكد لهم غيابُها القسري ، جاؤوني بأخت لها ، تخفف عني فراقها .. وتعوضني همساتها وأنسَها ..

وهنا يحضرني قول صديق عزيز ، تعليقا على من يغش في تسلية لعب الورق ، فيقول :

إن من يغش في لعبة الورق يغش في كل شيء آخر ..

ورغم أني لا ألعب بالورق ، إنما تأسيسا على ذلك :

فإن منْ يتنكرْ لوفاء حبيبته ، يتنكرْ لكل أنواع الوفاء الأخرى ..

وأنا لست من المتنكرين لصحبتها ورفقتها ووصالها ..

شاء من شاء ، وأبى من أبى .. فليشربوا من بحر غزة الطهور ..

والسلالالالالالام

الجمعة ـ 10/12/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق