1
كثيرة هي الشعوب التي نزحتْ منها أعدادٌ وفيرة من أبنائها إلى بلدان أخرى ، لأسباب شتى ، لعل من أهمها :
تحسين المستوى المعيشي ، والدخل الفردي ، والبحث عن فرص عمل تؤمِّنُ دخلا يتناسب مع طموح هؤلاء .
وهناك أسباب أخرى ، ربما لا يمثـِّل المشمولون بها إلا نسبة ضئيلة جدا ، مقارنة بمن ينطبق عليهم السبب الأهم المذكور آنفا .
فهناك من يغترب للدراسة والتحصيل العلمي ، أو لمتابعة أعماله التجارية ، أو لأن طبيعة عمله تقتضي منه سفرا وتنقلا دائميْن ، وثمة منْ توفدهم حكوماتهم ليؤدوا لها عملا معينا ، في السفارات والقنصليات ومكاتب التمثيل الدبلوماسي والملحقيات على اختلاف أنواعها ومهماتها ..
كما أن المؤسسات والشركات الكبرى العابرة للقارات ، والتي يكون لها مكاتب أو فروع أو منشآت أخرى بعيدا عن مراكزها الرئيسية ، تنتدب أشخاصا يوفدون إلى تلك المكاتب والفروع لإدارة أعمالها ، والعمل على تحقيق سياسة تلك المؤسسات والشركات الكبرى ، سواء في التصنيع أو التسويق أو الترويج لمنتجاتها ، وغير ذلك ..
لكن يبقى المغتربون الذين يبحثون عن فرص جيدة للعمل الفردي خارج بلدانهم ـ بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية ـ يشكلون النسبة الأعظم من كل هؤلاء ..
وعن أحلام وأمنيات وطموحات أولئك سيتركز حديثنا .
2
فقد عَرفتْ معظمُ الدول والشعوبِ هجراتٍ ، تنوَّعَتْ أحجامُها ، وتلوَّنتْ مراميها ، لكن ، ظلَّ محورُها الرئيسي يدور في فلك الحياة والمعيشة ، بجوانبها الاقتصادية العديدة والمتنوعة والمتشعبة .
ولعلَّ الهجرة الكبرى التي ما تزال ماثلة للعيان ، هي تلك التي انطلقتْ من معظم بقاع الأرض ، نحو ما يسمى حاليا : الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث ينتمي معظمُ مواطنيها إلى أصول مهاجرة ، من كل القارات ..
فإذا انتقلنا إلى وطننا العربي ، نجد أن أعدادًا وفيرة هاجرتْ منه ـ غربا على وجه التحديد ـ لأوربا والأمريكيتين منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وهناك جاليات كبرى من مواطني بلاد الشام ( آنذاك ) , ومصر والسودان وبلدان المغرب العربي ، ما تزال موجودة في أصقاع اغترابها ، لا تعرف طريق العودة أبدًا ولا تستطيع التفكير فيه ، لأن مَنْ حَملَ حلمَه معه وغادَرَ ليُحوِّلَ حلمَه إلى حقيقة ، وَجَدَ نفسَه هناك بلا حلم ، حتى ولا خيال حلم ..
فالمغتربُ ، كالمُنْبَتِّ الذي لا ظهْرًا أبْقى ، ولا أرضًا قطعَ ..
أمّا الشاعر المهجري ( أظنه إلياس فرحات ) الذي اكتوى بما فرضته الغربة عليهم من ظروفٍ قاسية ، ونكدٍ وضيق وحسرةٍ وألم فراقٍ ، فيخاطب أمَّهُ :
أنفقـْتِ عمْرَكِ ترقـُبينَ رُجُوعَنا * وتجُوسُ كلَّ سفينةٍ عيْناكِ
ما مرَّتِ النسماتُ بي عند الضحى * إلا عَرَفتُ بطِيبها رَيّاكِ
أما كيف هاجر هؤلاء ؟ ولماذا ؟ وإلى أين ؟ وما نصيبهم من النجاح والإخفاق ؟ وأسئلة وعلامات استفهام كثيرة أخرى ، فذلك ليس مجال حديثنا ههنا ..
3
ولو أمعنا النظر في أحوال المتغرّبين ، لوجدْنا نسبة كبيرة منهم يعيشون ظروفا غاية في الصعوبة ، نفسيًا ومعنويًا ، وماديًا أيضا ..
فهم لم يطالوا لا عنبَ الشام ولا بلحَ اليمن ، كما يقال ..
ولو توفرتْ إحصائياتٌ دقيقة عن عدد المغتربين ، ونسب نجاحِهم وإخفاقهم في بلدان الاغتراب ، لوجدنا الفارقَ كبيرًا جدًا بين قلةٍ من الناجحين في أعمالهم ، وكثرةٍ كثيرةٍ ممن شرَدوا من بلدانهم ، ثم عادُوا وتشرَّدوا من جديدٍ في غربتهم ، وبشكل أصعب وأقسى ، مكتوين بنار الغربةِ والحاجةِ ومرارةِ العيش من جهة ، وبعار العودة والذلة المُهينة من جهة أخرى ..
وقد تغيرت ظروفُ البلدان الجاذبة للعمالة الخارجية نحو الأسوأ ، وانعكسَ ذلك أيضًا على العمالة الوافدة ، بسبب التحوّلات الاقتصادية وأزماتها الكبرى التي عَصَفتْ وتعصفُ بالعالم اليوم ، كما أنها لم تكن أفضلَ حالا بكثير ، منذ عشرين عاما على الأقل ، إذا لم نقل منذ بدء حرب الخليج الأولى ..
فقد كانت تلك الحربُ حربَ أمريكا وإسرائيل على إيران ، وجاءت نتيجتها وَبالا على جميع الأطراف ماعدا منْ حَرّضَ عليها ونفخَ أوَارَها ، بهدفِ أن يقضيَ كل ٌّ على الآخر ..
ثم كانت كارثة غزو الكويت ، والحادي عشر من أيلول لتتذرع أمريكا بما حدث ، ولتنتقل من حصار العراق ونهب خيراته وتجويعه ، إلى غزوه وتدميره واحتلاله بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل ، تحت مسمَّياتٍ أمميةٍ متنوعةٍ ..
في ظل حالة الطوارئ هذه ، التي عاشتها المنطقة العربية على مر العقود الثلاثة الماضية ، كان لا بد أن يتأثرَ كلُّ شيءٍ بما يجري ، وربما كانت منطقة الخليج العربية الأكثر تأثرا ، نظرًا لدورها فيما جرى ، ولموقعها الملامس لخطوط النار الملتهبة ، الأمر الذي رتبَ عليها كثيرًا من الإجراءات ، لتجنب الآثار السلبية الناتجة عن الحالة الراهنة ..
فقد قلصَت الحكوماتُ ميزانياتِ الدعم الذي كان موجَّها لقطاعاتِ الصحةِ والتعليم والطاقة ، فحجبتْ بعضَها ، وفرضتْ رسومًا كبيرة على بعضها الآخر ، ولم يعدْ ممكنا قبولُ أبناء الوافدين في المدارس الحكومية إلا وفق شروط ورسوم لا يحتملها راتبٌ متوسط ، ولا أجرٌ ..
كما رَفعَتْ بعض الدول ثمنَ المحروقات والكهرباء والماء ..
ومع ارتفاع سعر البترول عالميًا ، ارتفعتْ أجورُ الشحن وقيمة تذاكر الطيران ، وعمّ الغلاء الفاحش كلَّ المواد الغذائية ، الزراعية والصناعية التي لا يمكن إلا أن تتأثر بارتفاع أسعار المشتقات النفطية ومصادر الطاقة الأخرى ..
وباتَ تجديد الترخيص السنوي للمنشآت وسيلة جباية جديدة ، وشكلا من أشكال الضرائب التي تستوفى تحت مسمياتٍ ملطفة ، وصارتْ قائمة الرسوم التي يدفعها الوافدون طويلة جدا ، بدءًا من البطاقة الصحية ونفقات العلاج الباهظة ، ورسوم تصديق عقود الإيجار ، والدرهم الإلكتروني ، والمخالفات المرورية الجائرة وانتهاء برسوم تجديد الإقامة والزيارة وملحقاتها ..
ولأضرب مثلا هنا : كانت رسوم الإقامة 60 درهما لخمس سنوات ، صارت 300 درهم لثلاث سنوات ، وللحصول على الإقامة لا بد من نفقات أخرى إلزامية تصل إلى 700 درهم ..
أما الأدهى ، فهو ارتفاع إيجار الشقق السكنية بشكل جنوني ، عزّزه جشع التجار والمُلاّك ، مما أجبَرَ كثيرين على تسفير عائلاتهم ، تخلصا من أعباء الرسوم المدرسية والصحية الباهظة ، وارتفاع الإيجارات الذي لا يمكن أن يطيقه إلا ذو دخل شهري يزيد على 10000 درهم ..
وهيهات أن يتوفر هذا المبلغ لدى شريحة كبرى من الوافدين ، المغتربين أساسا بهدف تحسين أوضاعهم ، التي ما عادت تتناسب مع مستوى دخلهم المتواضع قياسا بمصادر الدخل المتيسرة لدى غير العمالة الوافدة ..
فرواتب موظفي الدولة من الوافدين ، لم يطرأ عليها أي زيادة تذكر طيلة أكثر من عشرين عاما ، ثم جاءت موجات الغلاء المتتالية ، لتحدّ من القدرة الشرائية إلى حد كبير ، وتلتهم الزيادة الأخيرة في الرواتب ، والتي تكاد تغطي الغلاء الحاصل في أسعار إيجارات المنازل ، وأقساط المدارس وغيرها ..
هذا على مستوى موظفي الحكومة الذين يُعَدّون من ذوي الدخل الجيد ، قياسا بالفئات الأخرى من العاملين في القطاع الخاص على اختلافها وتنوعها ..
لذا ، لجأ كثيرون إلى حل يزيح عن كاهلهم أعباء الإيجارات وفواتير الماء والكهرباء والاتصالات ..
وكان الحل في السكن الجماعي ، بظروفه اللا إنسانية في أحسن حالاتها ، لأنها موبوءة بألف وباء ووباء ..
فوجدوا أنفسهم كالمُستجير من الرَّمْضاءِ بالنار ..
فأنشئت مجمعات سكنية خاصة بالعمال ، وهم فئات مختلفة الأعراق والأديان والمذاهب والبيئات ، متنوعة الجنسيات والانتماءات ، فكثرت في هذه المجمّعات الجرائمُ والأوبئة والآفات الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية التي أصابت بنية المجتمع المحلي ، ولم يعدْ في منأى عن مخاطرها ..
إن وجود مجمعات ذكورية مكبوتة جائعة ، لها ظروفها وضرورات وجودها ، لا بد أن تنتج ظروفا أخرى لها علاقة بسلامة المجتمع أمنيا وأخلاقيا وسلوكيا ، انعكست بشكل أو بآخر على صيغة الأمان المجتمعي ، فوقعت حوادث متنوعة هزت المجتمع هزا عنيفا ، وتعددت حالات الانتحار والهروب من العمل أو من الكفيل ..
وثمة عمال كثيرون ومهنيون يبيتون في الورش والكراجات التي يعملون فيها في المناطق الصناعية (وما أدراك ما المناطق الصناعية ) في ظروف ليست أفضل من سابقاتها..
أما العمالة الآسيوية الوافدة ، فهي ذات عديد كبير ذكورًا وإناثا ، وتشكل نسبة هامة من التركيبة السكانية في منطقة الخليج عموما ..
ولتلك الطبقة ألحانٌ حزينة كئيبة معذبة ، تعبّر عن نفسها خير تعبير ، في الحافلات التي تنقلهم من أماكن تجمعهم إلى أماكن عملهم ، وفي مشاريع البناء التي والمزارع والمنشآت المختلفة ، في ظروفٍ لا يطيقها إلا من عَناهم الشاعرُ في قوله :
لا يعرفُ الشوقَ إلا مَنْ يُكابدُهُ * ولا الصبابةَ إلا مَنْ يُعانيهـا
لأن أيَّ حديثٍ من الخارج ، لا يعدو أن يكون إلا كمساحيق التجميل ، التي إنْ سَتَرَتْ بعضَ العيوبِ ، إلا أنها لا يمكنُ أن تخفيَ الأخاديدَ والتجاعيدَ ..
أما الوافدون الأوربيون والأمريكيون ، وغيرُهم من الجنسيات ( السوبر ) فلهم شأن خاص ، ومكانة خاصة ونمط حياة متميز لا يحلمون به ـ مُجرّد حلم ـ في بلدانهم ..
وكما لم نخضْ في غِمار الوافدين الآسيويين للأسباب التي ذكرت ، فإنني لن أخوضَ هنا لذات الأسباب ..
ويكفي أن نعلم :
أن حلم الشاب الأوربي أن يعيش في أمريكا ، وحلم الشاب الأمريكي ، أن يعيش في دبي ..
لماذا ، وكيف ؟؟
الإثنين ـ 08/11/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق