إنها حلب .. حلبي
" أكتب إليكِ من " وَجَعِي " حكاية عاشق تعِبِ " ..
وأرجوكِ .. أن تغفري لي تقصيري وحمقي وغيابي ..
أرجو ترابَك ونهرَك وقلعتك وبيتَ المتنبي ، أن يغفروا لي جحودي وهَجْري ..
أعتذر من موتاك قبل أحيائك .. من كبيرهم وصغيرهم ..
اعتذر من أقواس زينة الحجاج المكللة بأغصان الصنوبر والغار الحلبي ..
أعتذر من أشجار الميلاد وشموعها ..
أعتذر من الفل والياسمين والفرنفل والجوري والعسلية وزيزفونات بيتنا القديم ..
أعتذر من نباتات الزينة على الشرفات ، ومن وباقات الورود على سيارات العرائس ..
أعتذر من حلبي .. من عطورها وبخورها وحنتها وصابونها وتوابلها وحريرها والمقصب والمطرز من خيوط شالها ..
أعتذر من السهل والجبل وغبار الصيف وطين الشتاء في باب اجنين والسوق المسقوف ..
أعتذر من المآذن ومن قباب الجوامع والكنائس ..
أعتذر من " كلة معروف " وسيفه والمسامير في باب أنطاكية ..
أعتذر من السويقة وأنتيكاتها وأراكيلها ، ومن السقطية ومقالي الكبة والعجة ، ومن سوق الزرب وسوق العتمة وسوق تفضلي يا ست .. ومن أسواق الحبال والخيش والخيطان والحدادين والنحاسين والذهب والصرمايات ، وأسواق الحرامية والخميس والجمعة ..
أعتذر من خان الحرير وخان الوزير وخان الجمرك وخان الشونة وخان الصابون .. ومن قسطل حرامي وشارع السجن القديم ومكتبة عجان الحديد ، ونظارات مدير دائرة النفوس ..
أعتذر من العواميد وخان حنيف وحمام قيلش وفندق مصر والسودان .. والأزقة الضيقة القديمة والأقواس في العقبة ..
أعتذر من محطة بغداد وجرس إقلاع القطار وصفارته ..
أعتذر من سيف الدولة وسوقها وبيوتها ، ومن حي الإذاعة والحافلة التي لن أنساها ..
أعتذر من الكرة الأرضية ودوارها وحديقتها ، ومن ميادة م ، وبيت أحمد سخيطة وعمر جلب ..
أعتذر من ثانوية الكواكبي والميريديان والفيض وجسور القطار والملعب البلدي والمسبح ومحطة الجار المرحوم " أبو عبدو الشياح " ومقبرة هنانو ونصبه التذكاري ..
أعتذر من جب الجلبي والمعهد العربي الإسلامي ، ومشهد الحسين وقبر الشيخ إبراهيم الضرير ، وضريح " الشيخ محسن " و الزبدية والأنصاري والراموسة وغبار معامل الإسمنت في الشيخ سعيد ، ومن أصدقائي من آل عزوز ..
أعتذر من الكلاسة وطاحونة قشقش ومدرسة اليرموك وجسر الحج .. من حي الفردوس والمرجة والمغاير والعقبة والفيحاء والسكري ومدرسة الثورة والصديقة فرات .. ومن تل الزرازير وأخي " أبو اصطيف "
أعتذر من الحديقة العامة وأبي فراس الحمداني والمعري ..
أعتذر من الميدان ومكتبة " أبو الريم " ..
من الأشرفية وبيت صديقي المرحوم " مهدي " ..
من السريان وبيت المرحومة أم سمر ونصب السلام ..
من الشيخ مقصود وورشاتها ..
من حلب الجديدة وباب السلام ..
من حي السبيل وتمثال المتنبي وبيت أستاذي " الطباخ " ..
من المحافظة وسوق الإنتاج ..
أعتذر من باب النيرب وآل الهزاع ..
من الصفا .. من أرض البرغل .. من عين التل ومشفى الكندي الأثري والشقيف ومعسكرات التدريب الجامعي والمسلمية ..
أعتذر من الجااااااااامعة .. من المدينة الجامعية بكوكتيلها .. من المحلق وجسوره وأنفاقه .. من نصب " الخصب " المسروق ، من الغابة وحراسها وصيادي المتنزهين فيها .. من القصر البلدي " الأثري " من ساحة الرئيس جمال عبد الناصر ، من جسر المشاة الذي أزيل ولم تلمسْه أقدام المشاة ..
أعتذر من الماء المتفجر من أقبية المتحف الوطني .. ومن ساحة الجابري ونصب الشهداء ..
أعتذر من باب الفرج وساعته ورائحة حماماته قبل إغلاقها .. من سينما القاهرة والعباسية والفردوس وغرناطة وحلويات المستت وكشك المرحوم أبو عيدو لبيع الصحف والمجلات ...............
أعتذر من مقاهي التكية والنجمة والموعد والقصر ..
ومن ملاهي شارع القوتلي وبائعي الدخان المهرب فيه ..
من الجديدة وبوابة القصب وسوق الدجاج والصوف ، والبيوت التي صارت مطاعمَ ونزلا ..
أعتذر من شارع التلل والمصور آرشو والطرقجي والتوليدو .. وساحة كنيسة فرحات والعبارة الجديدة ..
أعتذر ممن ذكرت وممن لم أذكر .. ممن عَرَفت وممن لم أعرف .. ممن يعرفونني وممن لا يعرفونني .. ممن عملت معهم أو عملوا معي ..
من أساتذتي وزملائي وصديقاتي وأصدقائي ..
أعتذر ممن سمعوني يوما ، أو قرأوا كلمة من كلماتي ..
أعتذر من أبواب حلب القديمة التي قبّلتها والتي أحلم بأن أتمسّح بجدرانها من جديد ..
أعتذر من أدراج القلعة ومسرحها وخندقها وأبراجها ..
أعتذر من باب الحيّات وباب الأسديْن ..
أعتذر من كل من أحببت ومن أحبوني ، وفي كل الظروف والمناسبات التي جمعتنا ثم فرقتنا ..
أعتذر ممن اتفقت أو اختلفت معهم ..
أعتذر من لحد أمي ، ومن ارتعاشة وقبلة وداعها الأخير على ظاهر كفي ..
أعتذر من حلب .. حلبي .. حلبكم .. حلبنا ..
أعتذر لكِ وأطلب غفرانك والسماح ، لأنني لم أتقن الكتابة بعد ، كي أقول فيكِ ما تستحقين ..
ولم أتقن القراءة كي أقرأ سطرا من مجدك وعزك على جدران قاعة العرش ..
ولم تواتِني المهارة بفكفكة حرف من نقوش مئذنة جامعك الأموي الكبير ، ولا من لوحة الأئمة في مشهد النقطة ، ولا من جدران كنيسة اللاتين ..
ما زلت الطفل الذي جيء به إليك يوما ليتعمد في شارع المحبة داخل أسوارك وأحيائك وأبوابك العتيقة ..
وقبلك لا أذكر بلادا ولا أرضا ..
قبلكِ لا أذكر أيَّ شيء ، حتى تفتحتْ في أحضانك عيناي .. وتبلسمتْ أيامي من شهدك ..
قبل لقائنا مرّتْ أربع سنوات ، وحين وضعتُ رأسي في حجركِ ، أحسستُ بأن الأرض أم ، وأنك أمي ..
صحيح ، أنني أحببت بعدك ، لكني لم أحب فوقك ..
ولم أعشق غيرك ..
فكنتِ أنت الأولى .. وأنت الأثيرة .. وأنت الوحيدة ..
فقط ، أحببتُ بعدكِ ترابَ مَهدي وما سيكون لحدي ، وهو جزء من طهركِ وغنجكِ الذي أهوى ..
فأنت أمنا وأختنا وحبيبتنا وملاذنا وحضن إغفاءاتنا ..
في شوارعك المرصوفة حجَرا يُشتهى ، تاهت طفولتي ..
وفي صفوف مدارسك تعلمت شيئا من أبجديتك الخالدة ..
ومن شبانك فهمت معنى أول بلاغ عسكريٍّ رقم واحد ..
وفيك عشقت جمال عبد الناصر .. وسمعت خطاب التنحي ، وخطاب العودة ..
وكنت ممَن تأثرَ بالهزيمة وذاق مرارة فقدان الأخ الحبيب .. وقتها لازمتني الكآبة ، وأمضّنا الحزن .. وفقدنا السكينة ..
لكن ، لم أضعف .. كنت أعرف أن ثمة ثمنا من الدماء يجب أن يدفع .. فكتبت رسائل كثيرة لمن لا أعرفها ، لكنه قيل لي : إنها " فاديا " صديقة أخيك .. كنت أريد أن أعرف إن كانت تعرف شيئا عن أخي المفقود .. لكنها ـ حتى الآن ـ لم ترد مع الأسف ..
وفي جامعتكِ ، عادت إلينا ثقتنا بعد الحرب ، فتدربنا وحملنا السلاح ، ونمنا في الخيام وأكلنا في القصعة وشربنا الشاي منها ، وكان سلاحنا الفردي : ملعقة في الخصر ، وبارودة على الكتف ، تأهبا للطوارئ ..
وفي الجامعة ، بدأت أتلذذ بعذوبة الثغر ووضاءة المحيا ، وشفافية الملمس ، ورقة الحرف ومتعة الكلمة ، ونغمة القصيد ، ورونق ودلع إلقاء الشعر من رغدة ..
وفي ظلال حدائقك ، وبين صبايا ساحاتك ، تمرمغت في أفياء الحنين فوق بساطك الأخضر ..
لطالما أحببتكِ وتعاشقنا ، لكن ، ظللتُ والها بالتراب الأحمر ، ولم يفصلني عنه قدٌّ ميّاسٌ ، ولا هدبٌ أكحل ، ولا حاجبان مزجّجان ..
آآآآآآآآآآه .. ماذا أقول فيكِ وعنكِ وأنتِ المهجة والننُّ ؟؟!!
كنت أعتقد أنني أراك حين أمر عبر شرايينك وأوردتك ..
والآن اكتشفت خطئي .. بل جدبنتي ..
هل رأى أحد روحه قبلي حتى أراها أنا ؟؟!!
يا لسذاجتي !! كيف أراكِ وأنتِ الروح التي لا تـُرى ؟!
أتراني إذن ، أحسك .. وأتنفسك ؟؟!! ..
أم أعشقك بكل ما فيك ، حتى بعَجَرك وبَجَرك ؟؟!!
أيجب أن أعترف أنني عشقت فيك كل شيء .. من رأسك لأخمصك .. من حاوياتك ونوافيرك حتى أسيجة الياسمين ..
نعم .. أعترف .. لكن ليس كاعتراف نزار بحبه بيروت ..
أنا أعشق " حلبي " حتى آخر قطرة عشق في الكون .. أرجوكم لا تلوموني ..
الخميس ـ 02/06/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق