حلب اسطنبول صوفيا ـ 3 ـ
أدرك كلانا أننا ماضيان في عدّ تنازلي شديد الانحدار ، سيوصلنا إلى عمق القاع الذي سندفن فيه كل عواطفنا وأشواقنا ، لأنها محكومة بالوأد ، قرارا وجاهيا قطعيا ، غير قابل للطعن بأي طريق من طرقه ..
وبناء على تلك النتيجة ، تصرفنا طيلة الأيام الثلاثة التي تبقت لي في فارنا ..
كنا نمشي إلى الأمام ، ونحن نعي أن نهاية الطريق بنا قريبة جدا ..
رافقتني غالا إلى أماكن كثيرة في المدينة ..
كنت حريصا أن أتعرف أجمل الأماكن والحدائق والشواطئ ، وأن نجلس معا في أرقاها ..
وكانت ـ خلال ذلك ـ حريصة أن :
" أترك لها ذكرى في كل تلك الأماكن ، لتلجأ إليها بعد سفري ، ولتبثني حبها وأشواقها وهمومها ومتاعبها ، وهي متأكدة أنني سأستشعرها وأتحسسها رغم بعد المسافة " ..
هكذا قالت منذ أن استيقظنا صباح اليوم التالي لتلك الليلة العاصفة ..
وبعد أن تناولنا قهوة الصباح ، وإفطارنا .. خرجنا من البيت ، قالت : طلبت من أمي أن تعتني بحفيدها ..
ثم نظرت إلي وأضافت : وأنا سأعتني بك على طريقتي .. فهل توافق ؟؟
قلت : ما دمنا معا فأنا موافق ..
وصلنا إلى مبنى ضخم ، ذي واجهة جميلة ، وشرفة واسعة تظللها مظلات بألوان بحرية زاهية ، قالت : هذا أكبر وأشهر فندق في فارنا .. أتحب أن نجلس في شرفته ؟؟
قالت : وُلدت هنا قبل ثلاثة وعشرين عاما ، لكني أراها الآن ساحرة وأجمل من أي وقت مضى ..
" ورغم أنني تزوجت الرجل الذي اخترته وأحببته ، ثم أنجبت منه ، إلا أنني الآن نادمة على كل ذلك ندما شديدا ..
" فقد اكتشفتُ كم كنت ساذجة وحمقاء ، حين رميتُ بنفسي في أول حضن دافئ صادفته ، وتبين لي هولُ الكارثة التي أوقعتُ نفسي فيها ، وأنا لا أملك تجربة ولا خبرة ، ولا قوة على مواجهة ما حدث فيما بعد ..
" ربما لأنني تربيتُ في كنف والدتي الطيبة الوديعة ، بعد أن توفي والدي وأنا في الخامسة ..
" كنت أتمنى لو امتلكت القوة التي أتحصَّن بها الآن .. فأنا أشعر أني الآن قوية ، وأعرف ما أريد ..
" لقد قررتُ الانفصال عن زوجي ، وأبلغته بذلك في آخر زيارة له في السجن .. وطلبت منه أن يتركني أنا وابني ، نعيش حياتنا بعيدا عنه ، لأنه جلب لنا وصمة مخزية بارتكابه جريمة السرقة ، ولا أريد أن تلتصق هذه الوصمة بابني .. فسيكون ذلك أكبر من أن يتحملها ..
" أرأيت كيف تعلق بكَ داني ؟؟ إننا في البيت نعيش بلا رجل كما تعلم ، وأنت أول من دخل بيتنا هذا الصيف ..
" أهو قدري أن أتعلق بالمستحيل ؟؟!! لماذا ؟؟
" لماذا ساقتك الأقدار أنت بالذات كأول من يدخل بيتنا ؟؟
" لماذا لم تأتنا من قبل ؟؟ أين كنت ؟؟
" رباه .. أتساءل وكأنني جاهلة بكل الظروف العامة التي لولا أن تغيرت أو انهارت ، لما انفتحت بلادنا على العالم ..
" ثم أتساءل وكأنني لا أعرف أن الفرق بيننا خمسة عشر عاما .. وأن هذا الفرق كان كبيرا جدا بيننا في مراحله الأولى ..
نهضنا ، اتجهنا إلى شرفة الفندق .. المدى مفتوح ، والناس رائعون في ألوانهم وحركتهم وطقوسهم العفوية ، كأن عينيّ أصيبتا بالعدوى من عينيها ، فتساءلت في سري :
" لماذا ترى عيوننا الأشياء أكثر جمالا في لحظات كهذه ؟؟ أهي التي تخدعنا كالمرايا المحدبة ، أم نحن الذين نتشهّى الخديعة ونعشقها ونتمسك بأهدابها ؟؟!!
" لماذا ينجرح القلب مرات ومرات ، وقد تتقيح جراحه ، فلا يستكين ، ولا يرتوي ، ولا يرتدع ؟؟
" أ لأنه يحسّ بنفسه وحيدًا أعزلَ بلا عقل ؟؟
" هل يستغني القلب عن العقل ؟؟ متى ؟؟ ولماذا ؟؟
" ثم ، أليس للعقل قلب ؟؟
كنت أتأمل وجهها وهي تدخن بشراهة ، حين ضبطتني متلبسا بذلك ، فابتسمتْ ، وأخذتني من ذراعي قائلة : هل ستقول لي بمَ كنت تفكر ، لأقول لك أنا أيضا ؟؟
قلت : الأفضل أن يحتفظ كل منا بأفكاره .. لأنني أعتقد أنها من النوع المستحيل .. ومن الغرابة بمكان .. ولن يكون لها ملاذ آمنٌ إلا في أعماقنا ..
مشينا على أرصفة فارنا ، وجلسنا عليها وفي مقاهيها ومطاعمها .. لكننا لم نذهب إلى الشاطئ .. فهي مثلي لا تحب السباحة ..
وكانت حين تصادف أحدا من معارفها ، تقدمني لهم على أني " ضيف وصديق " .. وكنت ألمح في عيون هؤلاء نظرات فيها مزيج من اللامبالاة والاستغراب ، والدهشة أحيانا .. هي لم تكن تكترث ، وأنا لا يعنيني ذلك بالأصل ، فلم يحدث أن علق أحدنا على موقف من تلك .. كانت تحدُث وتمرّ وتغيب دون أن تترك أثرا ..
لكنها علقت على نظرة استهجان من إحداهن : لن أسمح لأحد بأن يدنس لحظات سعادتي ..
قادتني إلى الحي الذي يوجد فيه جامع فارنا .. كان بناء أبيض صغيرا ، تعلوه قبة ، تطل عليها مئذنة متوسطة الارتفاع ..
قالت : أرغب أن أراه من الداخل ..
اقتربنا من الباب المفتوح ، لم يكن ثمة أحد بداخله ، مدت رأسها قليلا ، وعادت ..
بعد لحظات صمت ، رأيتها تتمتم قبل أن تسألني : لماذا لا تتعاطى المشروبات الكحولية ؟؟ لأنها ممنوعة عليكم ؟
قلت : نعم .. هي ممنوعة ، لكن كثيرين منا يتعاطونها .. أما أنا فلا أحبها ولا أشتهيها ، بل تعافها نفسي ..
كما زرنا معا صديقتها " أنّا ماريا " التي انشرحت أساريرها ، واستقبلتنا بما يوحي أنها تعرفني ، أو تعرف شيئا عني ..
ضحكت غالا حين أحضرت " أنّا " عددا من زجاجات المشروبات الكحولية احتفاءً بنا ، وأخبرتها بأني لا أتعاطاها ، فتهالكتْ على الكنبة مُحبَطة من ضياع جهدها سُدى ..
وركبنا الحافلة عبر السهول ، لزيارة الأختين التوأمين في قرية قريبة ..
كان مشوارا رائعا ، غمرَنا أبواهما بكثير من الود والاحترام ، إضافة إلى كثير من كرم الضيافة ..
ثم خرجتا معنا عصرا ، فمشينا قريبا من حقول واسعة جدا ، مملوءة بأقراص دوار الشمس ، التي اكتست من الخيوط الذهبية للشمس لونا أصفر بديعا ، وهي تتمايل مع نسمات المساء الرقيقة ..
وواصلنا نقاشنا حول الأدب ، والتاريخ البلغاري والاستقلال ، وبعض جوانب الحياة قبيل انهيار النظام الشيوعي في بلادهم ..
في حافلة العودة ، أسندت غالا رأسها إلى كتفي وأغمضت عينيها مجيبة على نظراتي : لا .. لا .. لن أنام .. إنني أريد أن أخبئ شريط أحداث اليوم في خيالي .. دعني ـ من فضلك ـ أركز جيدا ، كي لا تهتز الصورة ..
لكنها ما لبثت أن غفت ، ليندفع رأسها إلى الأمام متجاوبا مع فرملة مفاجئة ، فألقته على صدري ، وهمستْ : دعني هنا ..
في اليوم الذي سبق موعد رحلة العودة ، اتصلتُ بكيريل في الشركة ، فقيل لي : ما يزال في صوفيا ، وأكملت غالا المحادثة لتقول لي بعدها : إنه كلف موظفا خاصا اسمه " دوبريه " ليقوم بمساعدتي في كل الترتيبات اللازمة ، وأنه سيتصل بي فور عودته من عمل خارج المكتب ، لنتفق على تلك الترتيبات .. في هذه اللحظة ، قيل لها : لقد جاء دوبريه ..
وعلى مائدة الغداء العامرة بوليمة خاصة ، أكملت غالا :
اتفقتْ معه أن يوافينا نهار غدٍ ، عند الثانية ، لينقلك بسيارته إلى مدينة بورغاس ، مكان انطلاق الحافلة من هناك إلى استانبول في الخامسة مساء ..
وجمت غالا ساهمة ، وخرجت الأم ومايا من المطبخ ، تعلو وجهيهما آثار عناء تجهيز الطعام .. وتلاقت عينا مايا بعيني غالا ، وانتهتا عندي .. هززت رأسي مستفهما ، فقالت غالا : تستأذنك مايا بتناول مشروبها المفضل مع الغداء .. شعرتُ بالحرج من هكذا استئذان ، وقلت : بالتأكيد ، لا مانع لدي ، ذلك من حقكنَّ جميعا ..
مُلئت الطاولة الكبيرة بالمقبلات ، وبأنواع من السمك ، واللحم المسلوق مع الخضار .. ساعدتني غالا في توضيب صحني ، وجاملتْ مايا بكأس لم تذقه ، وشاركتنا الأم بالكولا .. ثم همست لي غالا : من فضلك ، لا تتعجل كعادتك .. ترجوك مايا أن نبقى أطول مدة ممكنة معها على المائدة ..
عصرا ، خرجت أنا وغالا إلى السوق ، اشتريت بعض الهدايا ، وخيّرتها في انتقاء هديتها .. فتمنعتْ ، لكنها رضخت لإصراري ، واختارت لعبة لابنها ، ثم منعتني من شراء المزيد ، وأبت أن تقبل هدية أخرى لها ..
تأخرنا خارج البيت ، ونحن نودع الأمكنة والأزقة والشوارع ومقاهي الرصيف ووجوه المارة ..
كنا كمن يريد أن يعبَّ جرة الماء كلها دفعة واحدة .. وكانت قلقة رغم كل محاولاتها في إخفاء ذلك ، تنظر كثيرا في ساعتها حينا ، وفي ساعتي إن كانت أقرب إليها ، كمن باغته الوقت في طريقه إلى المطار ..
تجاهلتُ كل ذلك ، لأن أي استفسار مني سيفجر كوامنها المكبوتة ، وسينفر الدمع المتحفز المحبوس في عينيها ، في لحظات لا نحتاج فيها لتأجيج عواطفنا ..
ولم أكن أقل منها درجة في احتقان مشاعري وأحاسيسي .. لكني نظمتها بحيث لا تفضحني هنا ، ولا تزيد طينها بلَّة ..
في البيت ، فوجئت بإعدادات خاصة لسهرة طويلة على الشرفة ، أعدتها مايا بترتيب مسبق مع غالا ..
ونام الحفيد في حضن جدته ..
الصباح الأخير كان ثقيل الوطأة ، تتسارع ساعاته كالثواني .. تركتُ لغالا مهمة حزم الحقائب ، وذهبتُ إلى الحمام ..
لا أعرف كم مرّ من الوقت ، قبل أن أتنبه لصوتِ قرع على الباب ونداءٍ باسمي ..
قالت غالا : أقلقني تأخرك الزائد وكذلك أمي ومايا .. وزادتنا رتابة صوت انهمار الماء اضطرابا .. شكرا لله .. إنك بخير .. لكن ، قل لي : ماذا كنت تفعل ؟؟
قلت : بالتأكيد لم أكن أفعل شيئا ، ولذلك كان صوت الماء رتيبا .. كنت بحاجة للاغتسال من الداخل .. فاستسلمت ، ووقفت قليلا ، ثم جلست مستندا على الجدار .. هل غفوتُ ؟؟ ربما ..
قالت : لكنكَ بقيتَ أكثر من أربعين دقيقة .. وهذا ما أثار القلق والحيرة فينا ..
ارتديت ثيابي متجهزا بانتظار دوبريه .. لم تستطع غالا أن تحبس دموعها ، غطت وجهها بكفيها ، وهي تتمتم بالبلغارية .. حاولت تهدئتها ، فانتقلت العدوى إلي ..
وبذلنا جهودا في إزالة آثارها عند وصول دوبريه ..
ارتبك وهو ينظر في وجهينا ، فأراد أن نخرج فورا .. لكن حديثا موجزا بالبلغارية مع غالا ، كأنه دعوة له بالجلوس معنا ، إذا كان في الوقت متسع .. فوافق ..
كانت غرفتها آخر مكان أرادت غالا أن نقضي فيه ساعاتنا الأخيرة ..
جلسنا وسط الكآبة والدموع المحتقنة .. جاءت مايا بالقهوة والكولا .. وأشعلت غالا سيكارتين ، ناولتني واحدة ، وضغطتْ على ركبتي بيدها تمنعني من الخروج للتدخين على الشرفة ..
قالت مبتسمة من خلال وجه ممتقع : كل شيء اليوم مباح .. ويجب أن تدخن هنا .. وسأحتفظ بعلبة سجائرك تحت وسادتي ..
كان دوبريه يعرف الإنجليزية ، ويسمع حديثها .. فقال لها بالبلغارية ما لم أفهمه ، لكني خمنت لهْوَ كلامه " أنه يمكن له أن يخرج ويعود بعد وقت ، فاسحا لنا المجال ، لنودع بعضنا كما نحب " ..
كان ردها بالإنجليزية هو الذي سهّل علي فهم كلامه ، قالت له بوجه محتقن وثغر باسم : لا عليك .. قضي الأمر وانتهى ..
أخذتها مايا بحضنها .. تعانقتا ، وهما ترتعشان ..
أحس دوبريه بالحرج مرة أخرى .. نهض خارجا إلى الشرفة مع قهوته ، وكبتُّ مشاعري مبتسما ..
كان لا بد من تهدئة الخواطر ..
عانقتني الأم على الباب ، ونزلت معنا مايا وغالا ..
عند باب السيارة تجلدّت غالا ، وهمست وهي تعانقتي : سأنتظرك .. قل لي إنك ستعود ، ولو لم تعد ..
الثلاثاء ـ 22/03/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق