حلب اسطنبول صوفيا ـ 2 ـ
بدأت أيام الأسبوع الثاني تتسارع ، وصارت الفسحة السماوية تضيّق خناقها علينا .. وبدا السفر كابوسا يقض انسجامنا وهدوءنا ..
ومع تكرر سهراتنا أنا وغالا ومايا ، وتواصلها لوقت متأخر من الليل ، ساد بيننا جوٌّ من التفاهم والود ، ملأ فراغا كبيرا تركه سفر أبي حسين والأصدقاء الآخرين ..
ومع هذا ، لم تكن أحاديثنا تخلو من خلافات وتجاذبات ، يخلقها ـ أحيانا ـ سوء التواصل اللغوي بيننا ، وأحيانا ، سوء التفسير والتقدير كنتيجة لذلك ..
وكان حوارنا حول المرأة ودورها في حياة الرجل ، والحياة الزوجية ، مثار جدل وخلاف ، حتى تأججت عصبيتها مني وأنا أتقصد أسلوبا خاصا في التعاطي معها ، يشبه ما حصل بيني وبين فانيا في حلب ..
كنا على المائدة .. طلبت ملحا ، ثم ماء ، ثم مزيدا من الأرز .. نفذت غالا كل ذلك بصمت ، لكن ، بدا عليها الغضب وهي تضع الأرز في صحني حتى تناثر فوق الطاولة ..
تفهمت سبب غضبها ، لأني أريد أن أوضح لها التمايز بين أسلوبَي الحياة اليومية عندنا وعندهم .. وقد تعذر عليّ توضيحه بالحوار ، فعزمت على تطبيقه ، مقدرا نتائجه سلفا ، ومحاذرا نتائجه وعواقبه ، وكيفية احتوائه ..
بعد الطعام ، لاذت غالا بغرفتها ، وأقفلت الباب ، وفاحت في المكان رائحة سجائرها ، في سابقة ذات دلالة ، تنم عن أعلى درجات التوتر .. فقد كسرت المُحَرَّمات ، واختفت ، ورفضت أن تفتح الباب لمايا ، وأشارت لي : إنها ستنام ..
وأبرز ما ميز ملامح الأم ومايا حيرة قلقة ، واستغراب ..
إنهما تبحثان عن جواب مني يفسر لهما تصرفات غالا ، لكن .. اللغة .. فكل ما دار بيننا ونحن نشرب الشاي على شرفة الصالون ، إشارة استفهام من يديهما مترافقة مع كلمات لا أفهمها ، فأرد عليها بإشارة أخرى : لا أعرف ..
" لم يبدُ عليهما أنهما تصدقان تجاهلي .. إذ ليس في البيت غيرنا نحن الأربعة .. فمن سيكون المسبب إلاي ، مادامتا غير بعيدتين عما جرى بيننا "؟؟ ..
تلك خلاصة ما توصلتُ إليه من مشاهدتي لحركاتهما ، وكأنني كنت أشاهد نشرة أخبار خاصة بالصم " ..
رفضت غالا أن تخرج لإحضار ابنها ، أحضرته الأم ، واعتنت بطعامه وثيابه ، ثم نام في حضنها ..
خرجتُ من البيت في أول المساء .. مشيت بعيدا .. لم أكن متأكدا من أنني أستطيع العودة .. ولم أهتم بمعرفة الأمكنة التي تقودني إليها خطاي .. مطمئنا لوجود عنوان البيت مكتوبا على ورقة ، فأينما كنت ، ستعيدني سيارة أجرة ..
شاهدت جموعا أمام صالة سينما .. حجزت تذكرة ، ودخلت .. كان العرض شغالا .. أرشدتني الدليلة إلى مقعدي ، لكنني سرعان ما ضقت ذرعا بما يجري من حولي .. فخرجت هائما بلا هدف .. ثم أفلحت في تحديد سمتٍ أوصلني إلى مكتب شركة كوندور ..
قالت زويا : فانيا رافقت زوجها إلى صوفيا ..
وأنا شارد أتناول القهوة وأدخن ، وقف أمامي " بافل " و " ديانا " .. جلسا عن يميني ويساري ، قال بافل " وهو ابن د . ترايكوف " : سأل عنك أبي في البيت ، فقيل له : خرجت ، وتوقع أن أجدك هنا .. فإذا كنت غير ملتزم بأي موعد ، فإننا ندعوك لسهرة مميزة ..
لم أبدِ له اندفاعي ورغبتي الشديدة ، قبل أن أستفسر عن ترتيبات السهرة ومكانها ، ثم قلت له : أنا جاهز ..
استأذن ليجري اتصالا ، ثم عاد ، وقال : بدأت السهرة .. هيا بنا ..
قاد بنا سيارته الرياضية بجرأة محسوبة ، وتوقف أمام نادٍ ليلي .. كـأن الجميع يعرفونه .. احتـُفِيَ بنا ، وقادنا أحدهم إلى الطاولة المحجوزة ..
لا أعرف لماذا شعرت بالراحة للصخب والضجيج الموسيقي ، ربما لأنه أعفاني من عناء الحديث ، مع تعذر أن يسمع أحدنا الآخر .. لكن بافل كان يترجم لي بالإنجليزية ، أسماء الفقرات والفرق الفنية التي يُعلن عن تقديم عروضها تباعا ..
حولنا ، كانت تجلس مجموعة من الفتيات اليافعات ، عرفت من أكبرهن سنا ، القريبة مني ، أنها مشرفة الرحلة القادمة من مدينة بورغاس ، وأن المشاركات طالبات في مدرسةٍ ثانويةٍ هناك ..
قال لي بافل : سترى الآن مفاجأة الليلة .. ثم ضاع صوته وسط هياج المندفعين إلى حلبة الرقص على أنغام فرقة موسيقية إسبانية ، حتى ضاقت الحلبة بهم ، فصعدت إحداهن على طاولة ـ وكانت ترتدي ذات الثياب المزركشة المكشكشة والتنورة الفضفاضة التي ترتديها الفتيات الإسبانيات أثناء رقصهن الفولكلوري ـ ورقصت فوقها رقصا احترافيا بديعا ، جذب الحاضرين إليها ، فانسحب بعضهم من الحلبة ، وتحلق الآخرون حولها مفسحين لها الميدان كله بعد أن ساعدوها بالنزول ، وتناغمت الموسيقا في امتزاج هارموني متناسق أخاذ ، جَمَع جَمَال النغمة ، وسحر الرقص ، وليونة الراقصة ، فانثنت إلى الوراء على الأرض وصار جسدها طبقتين ، ثم اعتدلت مرتفعة على وقع دقات رتيبة ، ناثرة شَعرها الأسودَ الكثيف الأجعد ، فأكمل اللوحة الفنية التي صنعتها بمهارة واقتدار متميزين ..
صفقنا لها بحرارة ، ووقف الجميع يردون لها تحية اختتام رقصتها ، وهي تلهث وتضحك بفرح غامر ..
" حقا ، كانت مفاجأة رائعة " ، رفعت إبهامي لبافل وأضفت : هذه لا تنسى أبدا .. وسألته أهي إسبانية أيضا ؟ فقالت ديانا : لا .. إنني أعرفها ، هي تانيا من فارنا ، لكنها تهوى الرقص الإسباني ، درسَته وتدرّبت عليه في معهد خاص ، كما زارت إسبانيا أكثر من مرة ، وشاركت في كثير من الحفلات ..
وهي هاوية فقط .. ولا تريد أن تحترف ..
هدأ صخب القاعة مع انسياب الموسيقا الناعمة الهادئة .. ذهبت ديانا قليلا ، وعادت بالمفاجأة ..
إنها الفتاة الراقصة بحالها ..
قدمني لها بافل ، فمدت يدها ، واقتربت بلطف تعانقني .. شكرتها ، وأبديت اندهاشي بروعة ما شاهدتُ من فنها الراقي البديع ..
جلستْ .. كانت جميلة أكثر عن قرب .. أو ربما هكذا بدت لي ، ولم يزل وجهها متوردا عبقا ..
ثم ترجم بافل حوار ديانا معها :
" لا أعرف شيئا أبدا عما كان حولي .. أعرف أني كنت أذوب رقصا .. كنت أسمع الموسيقا فقط ، خالية من أي صخب مرافق ، فأتحرك معها تلقائيا .. لم أكن أنا من يرقص .. كان جسدي يتفاعل ويتحرك رغما عني .. وهذا هو سبب نشوتي التي تراها عليّ ، فهو يساعدني على بلوغ سعادتي العظمى ، خصوصا عندما أرى الحب والإعجاب في عيون الحاضرين " ..
نمَّتْ كلماتها عن تجربة فنية ناضجة وواعية ، فاستحوذت مني مزيدا من التقدير ، جعلني أتصورها تؤدي مع " زوربا " رقصته الشهيرة ، في رواية كازنتزاكي ..
ولم تكد تنتهي الموسيقا الهادئة ، حتى تحلق كثير من الحضور حولنا ، يطالبونها برقصة ثانية ، وكأن الفرقة على موعد بذلك ، فبدأت العزف فورا .. ولم ينفعها الاعتذار والتمنع ، فحملوها إلى الحلبة ، وشاركوها الرقص قليلا ، حتى انسجمت فيه ، ثم انسحبوا ، وبقيت سيدة الحلبة وشيطانتها ..
أبدعت وأبدعت ، وأظهرت حركات جديدة لم تؤدها في الرقصة الأولى ، فوقف الجميع مصفقين ، ووقفنا وسط جو كرنفالي ملأ المكانَ حولنا بالدخان والألعاب والشرائط والبالونات والفقاقيع ..
ومع انتهاء الفقرة ، عُزفت موسيقا أغنية صاخبة ، رددتها حناجر الحاضرين ، وأعلن بعدها ختام السهرة .. فكانت تانيا مسكها الحقيقي ..
خرجنا .. كنت قلقا بمقدار كل مشاعر السعادة التي بقيت ذكرى من الحفلة .. فالساعة تجاوزت الواحدة صباحا ، وليس معي مفتاح البيت ..
شكرت بافل وديانا ، وودعتهما ، أمام مدخل البناية ، وغابت السيارة في الظلام ، وليس في الزحام .. " كما قال نزار قباني وماجدة الرومي في أغنية " مع جريدة " ..
تفقدت كل نوافذ البيت .. ليس ثمة ضوء من أي منها ، ولا من غرفة مايا .. ولا أعرف إن عادت ونامت ، أم لم تعد ..
يخيم الهدوء على المكان وما حوله ، تقطعه أصوات سيارات بين وقت وآخر ..
كرّرت جولتي أكثر من مرة حول جهات البيت الثلاث ، فلم ألحظ جديدا .. خشيت أن يُشك بي ، ولست أحمل جواز السفر ..
لجأت إلى ممر البناية ، وقدّرتُ أن يكون وجودي هنا مفاجأة مزعجة لمايا ، لو لم تكن عادت بعد ..
ثم ، ماذا سأقول لمن قد يراني من السكان ؟ وكيف سأتفاهم معه ؟؟
تجمدت عقارب الساعة في تواطئها ضدي ، فلا تكاد تتحرك .. لكأنها " شُدَّتْ بيذبل " كما قال امرؤ القيس ..
مضى بعض الوقت ، تمنيت أن تأتي مايا ، ولو أجفلها وجودي ..
لكن .. لماذا لا أقوم بجولة أخرى حول المبنى ؟؟
سرْت في عكس الاتجاه كي يطول طريق عودتي ..
ومن بعيد لاح لي خيال في الشرفة المشتركة مع غرفة غالا .. قلت في نفسي يائسا : أضغاث أحلام ..
ولما شاهدتُ الضوءَ ينبعث من غرفتي ، تيقنت ..
" إنها تتفقدني " .. وقفتُ تحت الشرفة ، ناديتها بحذر ، فأطلت كالمذعورة ، وغابت سريعا حتى التقينا على الدرج ، خبأت رأسها ودموعها فوق كتفي ، ولم تنبس ..
كدت أحملها ونحن نتهالك على الدرج صاعدين ، دخلنا غرفتي ، بدا وجهها ممتقعا متعبا ، وعيناها حمراوان منتفختان مليئتان بدمع سخي ..
أجلستها على الكنبة ، ومضيت إلى الشرفة .. جلست على الأرض أدخن ، انطفأ ضوء الغرفة ، وجاءت متسللة إلى جانبي ، أخذت سيكارتي ، سحبتْ منها نفسًا عميقا ، فيما يتهدج صدرها بشهقات ناعمة ..
أشعلتُ سيكارة أخرى ، ولفـَّنا الصمتُ وهدوءُ ساعات الفجر وبرودتها ، وكلما حاولتْ أن تتكلم ، تخنقها العبرة ، فتصمت وتضغط برأسها على كتفي ..
أدركتْ أنها هي من تسبَّبَ بهذا الأرق الموجع لكلينا ، واعتذرت لأنها عدّت نفسها سببا للضيق الذي حملني على التأخر ، وليس معي مفتاح البيت ..
وقالت : " أعرف أن الأيام الباقية أقصر من أن نلوِّنها بالغضب والعصبية والتنافر ..
فكما أن من حقي أن أغفو داخل مشاعرك ، فإن ذلك من حقك أيضا ..
ولئن حاولتُ أن أقبر مشاعري في جوفي ، فلأني متيقنة ..... "
سكتت ، اختنق صوتها بالنشيج ، وتنافر سيل من الدمع .. أخذتها إلى صدري .. حاولت تهدئتها ، حتى تماسكت ، فأكملتْ :
" أنا متيقنة أنني لن أراك هنا ثانية .. ولن أستطيع الذهاب معك .. فلا أستطيع أن أترك ولدي ، ولا يمكن أن آخذه ، وبالتأكيد ، لن تترك أسرتك وأولادك من أجلي ، وأنا لا أريد منك ذلك .. ولا أتوقعه .. فالذي يترك زوجته وأولاده من أجلي ، يمكن له في المستقبل أن يتركني من أجل غيري " ..
" إننا في نفق مظلم ليس له نهاية أبدا ..
لقد غضبتُ اليوم من أوامركَ ، وحاولت أن أجعل من ذلك سببا لأكرهكَ .. لكني فشلت ، وفشلت ..
أنا الآن أحبكَ أكثر بكثير من الكثير .. بل ، أنا أطلب منك أن تأمرني ، وأعدك بأني سأتلذذ بتنفيذ أوامرك ..
لقد فهمتُ الآن معنى أن يكون الرجل شرقيا .. صدقني ، إنه لأمر رائع .. أحببته .. لكني لست واثقة من أن يكون حبي له دائما ..
وهذه غصة لا أستطيع اقتلاعها من حلقي ، ولا أريد المخادعة .. أتفهمني ؟؟
إن السماء ضدنا .. ولا تريد لنا حياة مشتركة .. فلو كانت تريد ، لخلقتنا في ظروف مغايرة ، وبدون كل هذه الموانع .. أنا لست حزينة من أجل هذا .. وأتمنى أن تعيش حياتك كما كانت قبل أن نلتقي .. ويجب أن نعتاد على المؤقت من الأيام .. وهذا قدر كاف ، يمنحنا طمأنينة وأنسا ، ويلزمنا ألا نتجافى أو نهدر لحظات السعادة مجانا " ..
" لقد تأثرتْ اليوم أمي كثيرا ، ولامتني بعد أن أجبتها على تساؤلاتها .. وكان أن ساعدتني على تفهم سلوكك معي ، وأيدتك ضدي ..
تصور .. أمي تؤيدك ضدي ، وهي لم تفهم من لسانك كلمة واحدة ، ولا تعرف عنك أكثر مما قلته لها .. وهي تقدرك وتحترم فيك ظهورك أمامنا بالوجه الحقيقي لك " ..
" إنه من المستحيل أن نعود أنا وأنت إلى الوراء ، كما صار من مستحيل المستحيل ، أن تمنحنا السماء ـ من جديد ـ فرصة أخرى تسهّل لقاءنا في ظروف غير التي تجمعنا الآن " ..
" إنها الأسطورة الأزلية .. كانت .. وستبقى ..
شهرزاد وشهريار " ..
" لقد تفلسفتُ عليكَ بما فيه الكفاية .. وها قد طلع الصباح ...
فلنتفاءل بيوم آخر أكثر هناء .. هيا إلى النوم " ..
الخميس ـ 17/03/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق