الأربعاء، 23 مارس 2011

حلب اسطنبول صوفيا ـ 3 ـ

حلب اسطنبول صوفيا ـ 3 ـ

أدرك كلانا أننا ماضيان في عدّ تنازلي شديد الانحدار ، سيوصلنا إلى عمق القاع الذي سندفن فيه كل عواطفنا وأشواقنا ، لأنها محكومة بالوأد ، قرارا وجاهيا قطعيا ، غير قابل للطعن بأي طريق من طرقه ..

وبناء على تلك النتيجة ، تصرفنا طيلة الأيام الثلاثة التي تبقت لي في فارنا ..

كنا نمشي إلى الأمام ، ونحن نعي أن نهاية الطريق بنا قريبة جدا ..

رافقتني غالا إلى أماكن كثيرة في المدينة ..

كنت حريصا أن أتعرف أجمل الأماكن والحدائق والشواطئ ، وأن نجلس معا في أرقاها ..

وكانت ـ خلال ذلك ـ حريصة أن :

" أترك لها ذكرى في كل تلك الأماكن ، لتلجأ إليها بعد سفري ، ولتبثني حبها وأشواقها وهمومها ومتاعبها ، وهي متأكدة أنني سأستشعرها وأتحسسها رغم بعد المسافة " ..

هكذا قالت منذ أن استيقظنا صباح اليوم التالي لتلك الليلة العاصفة ..

وبعد أن تناولنا قهوة الصباح ، وإفطارنا .. خرجنا من البيت ، قالت : طلبت من أمي أن تعتني بحفيدها ..

ثم نظرت إلي وأضافت : وأنا سأعتني بك على طريقتي .. فهل توافق ؟؟

قلت : ما دمنا معا فأنا موافق ..

وصلنا إلى مبنى ضخم ، ذي واجهة جميلة ، وشرفة واسعة تظللها مظلات بألوان بحرية زاهية ، قالت : هذا أكبر وأشهر فندق في فارنا .. أتحب أن نجلس في شرفته ؟؟

قالت : وُلدت هنا قبل ثلاثة وعشرين عاما ، لكني أراها الآن ساحرة وأجمل من أي وقت مضى ..

" ورغم أنني تزوجت الرجل الذي اخترته وأحببته ، ثم أنجبت منه ، إلا أنني الآن نادمة على كل ذلك ندما شديدا ..

" فقد اكتشفتُ كم كنت ساذجة وحمقاء ، حين رميتُ بنفسي في أول حضن دافئ صادفته ، وتبين لي هولُ الكارثة التي أوقعتُ نفسي فيها ، وأنا لا أملك تجربة ولا خبرة ، ولا قوة على مواجهة ما حدث فيما بعد ..

" ربما لأنني تربيتُ في كنف والدتي الطيبة الوديعة ، بعد أن توفي والدي وأنا في الخامسة ..

" كنت أتمنى لو امتلكت القوة التي أتحصَّن بها الآن .. فأنا أشعر أني الآن قوية ، وأعرف ما أريد ..

" لقد قررتُ الانفصال عن زوجي ، وأبلغته بذلك في آخر زيارة له في السجن .. وطلبت منه أن يتركني أنا وابني ، نعيش حياتنا بعيدا عنه ، لأنه جلب لنا وصمة مخزية بارتكابه جريمة السرقة ، ولا أريد أن تلتصق هذه الوصمة بابني .. فسيكون ذلك أكبر من أن يتحملها ..

" أرأيت كيف تعلق بكَ داني ؟؟ إننا في البيت نعيش بلا رجل كما تعلم ، وأنت أول من دخل بيتنا هذا الصيف ..

" أهو قدري أن أتعلق بالمستحيل ؟؟!! لماذا ؟؟

" لماذا ساقتك الأقدار أنت بالذات كأول من يدخل بيتنا ؟؟

" لماذا لم تأتنا من قبل ؟؟ أين كنت ؟؟

" رباه .. أتساءل وكأنني جاهلة بكل الظروف العامة التي لولا أن تغيرت أو انهارت ، لما انفتحت بلادنا على العالم ..

" ثم أتساءل وكأنني لا أعرف أن الفرق بيننا خمسة عشر عاما .. وأن هذا الفرق كان كبيرا جدا بيننا في مراحله الأولى ..

نهضنا ، اتجهنا إلى شرفة الفندق .. المدى مفتوح ، والناس رائعون في ألوانهم وحركتهم وطقوسهم العفوية ، كأن عينيّ أصيبتا بالعدوى من عينيها ، فتساءلت في سري :

" لماذا ترى عيوننا الأشياء أكثر جمالا في لحظات كهذه ؟؟ أهي التي تخدعنا كالمرايا المحدبة ، أم نحن الذين نتشهّى الخديعة ونعشقها ونتمسك بأهدابها ؟؟!!

" لماذا ينجرح القلب مرات ومرات ، وقد تتقيح جراحه ، فلا يستكين ، ولا يرتوي ، ولا يرتدع ؟؟

" أ لأنه يحسّ بنفسه وحيدًا أعزلَ بلا عقل ؟؟

" هل يستغني القلب عن العقل ؟؟ متى ؟؟ ولماذا ؟؟

" ثم ، أليس للعقل قلب ؟؟

كنت أتأمل وجهها وهي تدخن بشراهة ، حين ضبطتني متلبسا بذلك ، فابتسمتْ ، وأخذتني من ذراعي قائلة : هل ستقول لي بمَ كنت تفكر ، لأقول لك أنا أيضا ؟؟

قلت : الأفضل أن يحتفظ كل منا بأفكاره .. لأنني أعتقد أنها من النوع المستحيل .. ومن الغرابة بمكان .. ولن يكون لها ملاذ آمنٌ إلا في أعماقنا ..

مشينا على أرصفة فارنا ، وجلسنا عليها وفي مقاهيها ومطاعمها .. لكننا لم نذهب إلى الشاطئ .. فهي مثلي لا تحب السباحة ..

وكانت حين تصادف أحدا من معارفها ، تقدمني لهم على أني " ضيف وصديق " .. وكنت ألمح في عيون هؤلاء نظرات فيها مزيج من اللامبالاة والاستغراب ، والدهشة أحيانا .. هي لم تكن تكترث ، وأنا لا يعنيني ذلك بالأصل ، فلم يحدث أن علق أحدنا على موقف من تلك .. كانت تحدُث وتمرّ وتغيب دون أن تترك أثرا ..

لكنها علقت على نظرة استهجان من إحداهن : لن أسمح لأحد بأن يدنس لحظات سعادتي ..

قادتني إلى الحي الذي يوجد فيه جامع فارنا .. كان بناء أبيض صغيرا ، تعلوه قبة ، تطل عليها مئذنة متوسطة الارتفاع ..

قالت : أرغب أن أراه من الداخل ..

اقتربنا من الباب المفتوح ، لم يكن ثمة أحد بداخله ، مدت رأسها قليلا ، وعادت ..

بعد لحظات صمت ، رأيتها تتمتم قبل أن تسألني : لماذا لا تتعاطى المشروبات الكحولية ؟؟ لأنها ممنوعة عليكم ؟

قلت : نعم .. هي ممنوعة ، لكن كثيرين منا يتعاطونها .. أما أنا فلا أحبها ولا أشتهيها ، بل تعافها نفسي ..

كما زرنا معا صديقتها " أنّا ماريا " التي انشرحت أساريرها ، واستقبلتنا بما يوحي أنها تعرفني ، أو تعرف شيئا عني ..

ضحكت غالا حين أحضرت " أنّا " عددا من زجاجات المشروبات الكحولية احتفاءً بنا ، وأخبرتها بأني لا أتعاطاها ، فتهالكتْ على الكنبة مُحبَطة من ضياع جهدها سُدى ..

وركبنا الحافلة عبر السهول ، لزيارة الأختين التوأمين في قرية قريبة ..

كان مشوارا رائعا ، غمرَنا أبواهما بكثير من الود والاحترام ، إضافة إلى كثير من كرم الضيافة ..

ثم خرجتا معنا عصرا ، فمشينا قريبا من حقول واسعة جدا ، مملوءة بأقراص دوار الشمس ، التي اكتست من الخيوط الذهبية للشمس لونا أصفر بديعا ، وهي تتمايل مع نسمات المساء الرقيقة ..

وواصلنا نقاشنا حول الأدب ، والتاريخ البلغاري والاستقلال ، وبعض جوانب الحياة قبيل انهيار النظام الشيوعي في بلادهم ..

في حافلة العودة ، أسندت غالا رأسها إلى كتفي وأغمضت عينيها مجيبة على نظراتي : لا .. لا .. لن أنام .. إنني أريد أن أخبئ شريط أحداث اليوم في خيالي .. دعني ـ من فضلك ـ أركز جيدا ، كي لا تهتز الصورة ..

لكنها ما لبثت أن غفت ، ليندفع رأسها إلى الأمام متجاوبا مع فرملة مفاجئة ، فألقته على صدري ، وهمستْ : دعني هنا ..

في اليوم الذي سبق موعد رحلة العودة ، اتصلتُ بكيريل في الشركة ، فقيل لي : ما يزال في صوفيا ، وأكملت غالا المحادثة لتقول لي بعدها : إنه كلف موظفا خاصا اسمه " دوبريه " ليقوم بمساعدتي في كل الترتيبات اللازمة ، وأنه سيتصل بي فور عودته من عمل خارج المكتب ، لنتفق على تلك الترتيبات .. في هذه اللحظة ، قيل لها : لقد جاء دوبريه ..

وعلى مائدة الغداء العامرة بوليمة خاصة ، أكملت غالا :

اتفقتْ معه أن يوافينا نهار غدٍ ، عند الثانية ، لينقلك بسيارته إلى مدينة بورغاس ، مكان انطلاق الحافلة من هناك إلى استانبول في الخامسة مساء ..

وجمت غالا ساهمة ، وخرجت الأم ومايا من المطبخ ، تعلو وجهيهما آثار عناء تجهيز الطعام .. وتلاقت عينا مايا بعيني غالا ، وانتهتا عندي .. هززت رأسي مستفهما ، فقالت غالا : تستأذنك مايا بتناول مشروبها المفضل مع الغداء .. شعرتُ بالحرج من هكذا استئذان ، وقلت : بالتأكيد ، لا مانع لدي ، ذلك من حقكنَّ جميعا ..

مُلئت الطاولة الكبيرة بالمقبلات ، وبأنواع من السمك ، واللحم المسلوق مع الخضار .. ساعدتني غالا في توضيب صحني ، وجاملتْ مايا بكأس لم تذقه ، وشاركتنا الأم بالكولا .. ثم همست لي غالا : من فضلك ، لا تتعجل كعادتك .. ترجوك مايا أن نبقى أطول مدة ممكنة معها على المائدة ..

عصرا ، خرجت أنا وغالا إلى السوق ، اشتريت بعض الهدايا ، وخيّرتها في انتقاء هديتها .. فتمنعتْ ، لكنها رضخت لإصراري ، واختارت لعبة لابنها ، ثم منعتني من شراء المزيد ، وأبت أن تقبل هدية أخرى لها ..

تأخرنا خارج البيت ، ونحن نودع الأمكنة والأزقة والشوارع ومقاهي الرصيف ووجوه المارة ..

كنا كمن يريد أن يعبَّ جرة الماء كلها دفعة واحدة .. وكانت قلقة رغم كل محاولاتها في إخفاء ذلك ، تنظر كثيرا في ساعتها حينا ، وفي ساعتي إن كانت أقرب إليها ، كمن باغته الوقت في طريقه إلى المطار ..

تجاهلتُ كل ذلك ، لأن أي استفسار مني سيفجر كوامنها المكبوتة ، وسينفر الدمع المتحفز المحبوس في عينيها ، في لحظات لا نحتاج فيها لتأجيج عواطفنا ..

ولم أكن أقل منها درجة في احتقان مشاعري وأحاسيسي .. لكني نظمتها بحيث لا تفضحني هنا ، ولا تزيد طينها بلَّة ..

في البيت ، فوجئت بإعدادات خاصة لسهرة طويلة على الشرفة ، أعدتها مايا بترتيب مسبق مع غالا ..

ونام الحفيد في حضن جدته ..

الصباح الأخير كان ثقيل الوطأة ، تتسارع ساعاته كالثواني .. تركتُ لغالا مهمة حزم الحقائب ، وذهبتُ إلى الحمام ..

لا أعرف كم مرّ من الوقت ، قبل أن أتنبه لصوتِ قرع على الباب ونداءٍ باسمي ..

قالت غالا : أقلقني تأخرك الزائد وكذلك أمي ومايا .. وزادتنا رتابة صوت انهمار الماء اضطرابا .. شكرا لله .. إنك بخير .. لكن ، قل لي : ماذا كنت تفعل ؟؟

قلت : بالتأكيد لم أكن أفعل شيئا ، ولذلك كان صوت الماء رتيبا .. كنت بحاجة للاغتسال من الداخل .. فاستسلمت ، ووقفت قليلا ، ثم جلست مستندا على الجدار .. هل غفوتُ ؟؟ ربما ..

قالت : لكنكَ بقيتَ أكثر من أربعين دقيقة .. وهذا ما أثار القلق والحيرة فينا ..

ارتديت ثيابي متجهزا بانتظار دوبريه .. لم تستطع غالا أن تحبس دموعها ، غطت وجهها بكفيها ، وهي تتمتم بالبلغارية .. حاولت تهدئتها ، فانتقلت العدوى إلي ..

وبذلنا جهودا في إزالة آثارها عند وصول دوبريه ..

ارتبك وهو ينظر في وجهينا ، فأراد أن نخرج فورا .. لكن حديثا موجزا بالبلغارية مع غالا ، كأنه دعوة له بالجلوس معنا ، إذا كان في الوقت متسع .. فوافق ..

كانت غرفتها آخر مكان أرادت غالا أن نقضي فيه ساعاتنا الأخيرة ..

جلسنا وسط الكآبة والدموع المحتقنة .. جاءت مايا بالقهوة والكولا .. وأشعلت غالا سيكارتين ، ناولتني واحدة ، وضغطتْ على ركبتي بيدها تمنعني من الخروج للتدخين على الشرفة ..

قالت مبتسمة من خلال وجه ممتقع : كل شيء اليوم مباح .. ويجب أن تدخن هنا .. وسأحتفظ بعلبة سجائرك تحت وسادتي ..

كان دوبريه يعرف الإنجليزية ، ويسمع حديثها .. فقال لها بالبلغارية ما لم أفهمه ، لكني خمنت لهْوَ كلامه " أنه يمكن له أن يخرج ويعود بعد وقت ، فاسحا لنا المجال ، لنودع بعضنا كما نحب " ..

كان ردها بالإنجليزية هو الذي سهّل علي فهم كلامه ، قالت له بوجه محتقن وثغر باسم : لا عليك .. قضي الأمر وانتهى ..

أخذتها مايا بحضنها .. تعانقتا ، وهما ترتعشان ..

أحس دوبريه بالحرج مرة أخرى .. نهض خارجا إلى الشرفة مع قهوته ، وكبتُّ مشاعري مبتسما ..

كان لا بد من تهدئة الخواطر ..

عانقتني الأم على الباب ، ونزلت معنا مايا وغالا ..

عند باب السيارة تجلدّت غالا ، وهمست وهي تعانقتي : سأنتظرك .. قل لي إنك ستعود ، ولو لم تعد ..

الثلاثاء ـ 22/03/2011

الثلاثاء، 22 مارس 2011

العلوج وعيد الأم

العلوج وعيد الأم

ونحن نتابع القنوات الفضائية ذهابا وإيابا على التلفاز المسكين ، ضجرت زوجتي وهي تستنكر كثيرا مما يُعرَض ، ثم قالت : منذ أن حشدت أمريكا وحلفاؤها ، الأساطيل والقوات الحربية في مياه الخليج العربي وما حوله تمهيدا لتدمير العراق ، لم أكن أصدق أنه سيجري ما جرى ..

كنت أظن أنه مجرد مسرحية استعراضية تجري فصولها على مسرح المنطقة .. وأنه لا بد من وجود حل لهذه الأزمة ..

لكن الوقائع التالية خيبت ظني ، وجعلتني أشعر بالحزن واللوعة على تلك الأمهات اللواتي لم يكفهن ما جرى لهن قبل الغزو ، فجاء الغزو الأمريكي ، ليقتل أبناءهن وأزواجهن في حرب مجنونة ..

ولما بدأ " الصحاف " يتحدث عن " العلوج " قلت في نفسي : يا رب يكون كلامه صحيحا ..

لكن .. حسبي الله ونعم الوكيل ..

ثم جاءت الحرب الصهيونية على لبنان ، فنسينا مأساة الشعب العراقي رغم فظاعتها ، وبدأنا نندب حظنا ونحن نشاهد الطيران الصهيوني يدمر كل شيء في لبنان .. البشر والحجر والشجر والطيور والحيوانات .. ولم يوفروا أي شيء متحرك فوق الأرض ..

ولم نكد نكفكف دمعنا ونحن نشاهد الثكالى والأيامى والأرامل ، فصرنا محاطين من الشرق والغرب بجرحين ينزفان ليل نهار ..

ومن جديد .. لم تهدأ مشاعرنا وأحزاننا حتى تكررت المأساة مرة أخرى في العدوان الصهيوني على غزة .. وربما كانت المأساة هنا أشد على هول ما سبقها ، كون غزة محاصرة من الجميع ، ومنبوذة من محيطها وأهلها ، الذين كانوا ينتظرون استسلامها وسقوطها .. فأضيفت أعداد جديدة إلى الأمهات الثكلى والمفجوعة التي ينفطر لها القلب حزنا وألما ..

وكان عزاؤنا في كل ذلك ، أن هؤلاء الذين سقطوا بنيران الأعداء ، إنما هم شهداء عند ربهم يرزقون ..

صمتت زوجتي وهي تشْرق بدمعاتٍ خنقت صوتها ، ثم أضافت : ما الذي جرى ويجري الآن هنا وهناك في الوطن العربي كله .. مع من سنتضامن ، وضد من ؟؟

صحيح ، أنا لا أفهم بالسياسة ، لكن ، لماذا أحرق ذاك الشاب التونسي نفسه ؟؟ ولماذا قلده آخرون في مصر والمغرب والجزائر ؟؟

أنا لا أحب القتل ولا التخريب ولا التدمير ..

ولا أحب العدوان واستخدام العنف وقتل الأبرياء ..

ما ذنب تلك الأمهات اللواتي يفقدن فلذات أكبادهن ؟؟

لو وضع هؤلاء القتلة أنفسهم موضع تلك الأمهات المسكينات ، فهل يستطيعون الضغط على الزناد التي قتلوا بها أبناءهن وإخوتهن وأهليهن ؟؟!!

أنا أحب السلام والأمن والطمأنينة ..

أحب أن نعيش جميعا في ظل الإخاء والمحبة والعدالة والمساواة ..

أحب أن نعيش جميعا في مأمن من الظلم والفساد ..

في تلك اللحظة ، كان التلفاز يعرض صور الطائرات التي تتدحرج على مدرجاتها ، وفوق الحاملات ، استعدادا للقصف الجوي على ليبيا ..

فقالت : وكأن ما فيها لا يكفيها ..

وحين ظهرت صور اللهيب والخراب والدمار الذي خلفه القصف ، استهولت المنظر البشع المرعب ، واستدارت عن الشاشة ، تماما كما استدارت عن مشاهد زلزال اليابان وأعاصير تسونامي المدمرة ..

ثم قالت : كيف تقوم القيامة إذن إن لم تكن هذه هي القيامة ؟؟ ..

ويلاه على الأمهات ..

إنه من الأهون على الأم أن تموت قبل أن ترى أولادها يُصرعون في الشوارع والساحات وبدم بااااااااارد ..

وا حزني على كل تلك الأمهات ..

في اليمن والبحرين والأردن وعُمان وسوريا ومصر والسودان والعراق والكويت وفلسطين وتونس وليبيا والجزائر والصومال وموريتانيا والمغرب والسعودية والإمارات وقطر ولبنان وجزر القمر وجيبوتي ..

قلت لها : هيئتك قرد ملفلف مثلما قالت فيروز ..

كيف قلتِ إنك لا تفهمين في السياسة وتقولين كل هذا الكلام ؟!

إن أكبر السياسيين دراية ومعرفة جغرافية ، لا يحفظون أسماء الدول العربية كلها مثلك !! ..

طنَّشَتْ وسألتني : إذا لم يكن هدف القصف الأمريكي الأوربي إسقاط القذافي أو إجباره على ترك السلطة ، فلماذا تكلّفوا وحشدوا واحتشدوا وجاؤوا يضربون ويقتلون ويدمرون ؟؟

لقد سمعتهم اليوم يقولون : إن كلفة الحصار على ليبيا يوميا تقدر بمئة مليون دولار .. هل يُعقل ؟؟ ومن سيدفعها ؟؟ وإذا لم يكن لهم مصلحة ، فلماذا يخسرون كل هذه الملايين ، ماعدا كلفة الحرب ؟؟

هل يريدون تقسيم ليبيا ؟؟ أم يريدون احتلالها ؟؟ أم نهب بترولها ؟؟

ومتى سيرحل الرئيس اليمني ؟؟ وهل يمكن أن يفعلوا باليمن مثل ليبيا إذا لم يرحل الرئيس ؟؟

وحين لم تسمع مني ردا ، قالت : حسبي الله ونعم الوكيل ..

الثلاثاء ـ 22/03/2011

يا قوم ...

يا قوم ...

قيل : العاقل يتعظ من غيره .. فاتعظووووووووووووووووووووووووووووووووووا يرحمكم الله ..



الثلاثاء ـ 22/03/2011

الخميس، 17 مارس 2011

حلب اسطنبول صوفيا ـ 2 ـ

حلب اسطنبول صوفيا ـ 2 ـ

بدأت أيام الأسبوع الثاني تتسارع ، وصارت الفسحة السماوية تضيّق خناقها علينا .. وبدا السفر كابوسا يقض انسجامنا وهدوءنا ..

ومع تكرر سهراتنا أنا وغالا ومايا ، وتواصلها لوقت متأخر من الليل ، ساد بيننا جوٌّ من التفاهم والود ، ملأ فراغا كبيرا تركه سفر أبي حسين والأصدقاء الآخرين ..

ومع هذا ، لم تكن أحاديثنا تخلو من خلافات وتجاذبات ، يخلقها ـ أحيانا ـ سوء التواصل اللغوي بيننا ، وأحيانا ، سوء التفسير والتقدير كنتيجة لذلك ..

وكان حوارنا حول المرأة ودورها في حياة الرجل ، والحياة الزوجية ، مثار جدل وخلاف ، حتى تأججت عصبيتها مني وأنا أتقصد أسلوبا خاصا في التعاطي معها ، يشبه ما حصل بيني وبين فانيا في حلب ..

كنا على المائدة .. طلبت ملحا ، ثم ماء ، ثم مزيدا من الأرز .. نفذت غالا كل ذلك بصمت ، لكن ، بدا عليها الغضب وهي تضع الأرز في صحني حتى تناثر فوق الطاولة ..

تفهمت سبب غضبها ، لأني أريد أن أوضح لها التمايز بين أسلوبَي الحياة اليومية عندنا وعندهم .. وقد تعذر عليّ توضيحه بالحوار ، فعزمت على تطبيقه ، مقدرا نتائجه سلفا ، ومحاذرا نتائجه وعواقبه ، وكيفية احتوائه ..

بعد الطعام ، لاذت غالا بغرفتها ، وأقفلت الباب ، وفاحت في المكان رائحة سجائرها ، في سابقة ذات دلالة ، تنم عن أعلى درجات التوتر .. فقد كسرت المُحَرَّمات ، واختفت ، ورفضت أن تفتح الباب لمايا ، وأشارت لي : إنها ستنام ..

وأبرز ما ميز ملامح الأم ومايا حيرة قلقة ، واستغراب ..

إنهما تبحثان عن جواب مني يفسر لهما تصرفات غالا ، لكن .. اللغة .. فكل ما دار بيننا ونحن نشرب الشاي على شرفة الصالون ، إشارة استفهام من يديهما مترافقة مع كلمات لا أفهمها ، فأرد عليها بإشارة أخرى : لا أعرف ..

" لم يبدُ عليهما أنهما تصدقان تجاهلي .. إذ ليس في البيت غيرنا نحن الأربعة .. فمن سيكون المسبب إلاي ، مادامتا غير بعيدتين عما جرى بيننا "؟؟ ..

تلك خلاصة ما توصلتُ إليه من مشاهدتي لحركاتهما ، وكأنني كنت أشاهد نشرة أخبار خاصة بالصم " ..

رفضت غالا أن تخرج لإحضار ابنها ، أحضرته الأم ، واعتنت بطعامه وثيابه ، ثم نام في حضنها ..

خرجتُ من البيت في أول المساء .. مشيت بعيدا .. لم أكن متأكدا من أنني أستطيع العودة .. ولم أهتم بمعرفة الأمكنة التي تقودني إليها خطاي .. مطمئنا لوجود عنوان البيت مكتوبا على ورقة ، فأينما كنت ، ستعيدني سيارة أجرة ..

شاهدت جموعا أمام صالة سينما .. حجزت تذكرة ، ودخلت .. كان العرض شغالا .. أرشدتني الدليلة إلى مقعدي ، لكنني سرعان ما ضقت ذرعا بما يجري من حولي .. فخرجت هائما بلا هدف .. ثم أفلحت في تحديد سمتٍ أوصلني إلى مكتب شركة كوندور ..

قالت زويا : فانيا رافقت زوجها إلى صوفيا ..

وأنا شارد أتناول القهوة وأدخن ، وقف أمامي " بافل " و " ديانا " .. جلسا عن يميني ويساري ، قال بافل " وهو ابن د . ترايكوف " : سأل عنك أبي في البيت ، فقيل له : خرجت ، وتوقع أن أجدك هنا .. فإذا كنت غير ملتزم بأي موعد ، فإننا ندعوك لسهرة مميزة ..

لم أبدِ له اندفاعي ورغبتي الشديدة ، قبل أن أستفسر عن ترتيبات السهرة ومكانها ، ثم قلت له : أنا جاهز ..

استأذن ليجري اتصالا ، ثم عاد ، وقال : بدأت السهرة .. هيا بنا ..

قاد بنا سيارته الرياضية بجرأة محسوبة ، وتوقف أمام نادٍ ليلي .. كـأن الجميع يعرفونه .. احتـُفِيَ بنا ، وقادنا أحدهم إلى الطاولة المحجوزة ..

لا أعرف لماذا شعرت بالراحة للصخب والضجيج الموسيقي ، ربما لأنه أعفاني من عناء الحديث ، مع تعذر أن يسمع أحدنا الآخر .. لكن بافل كان يترجم لي بالإنجليزية ، أسماء الفقرات والفرق الفنية التي يُعلن عن تقديم عروضها تباعا ..

حولنا ، كانت تجلس مجموعة من الفتيات اليافعات ، عرفت من أكبرهن سنا ، القريبة مني ، أنها مشرفة الرحلة القادمة من مدينة بورغاس ، وأن المشاركات طالبات في مدرسةٍ ثانويةٍ هناك ..

قال لي بافل : سترى الآن مفاجأة الليلة .. ثم ضاع صوته وسط هياج المندفعين إلى حلبة الرقص على أنغام فرقة موسيقية إسبانية ، حتى ضاقت الحلبة بهم ، فصعدت إحداهن على طاولة ـ وكانت ترتدي ذات الثياب المزركشة المكشكشة والتنورة الفضفاضة التي ترتديها الفتيات الإسبانيات أثناء رقصهن الفولكلوري ـ ورقصت فوقها رقصا احترافيا بديعا ، جذب الحاضرين إليها ، فانسحب بعضهم من الحلبة ، وتحلق الآخرون حولها مفسحين لها الميدان كله بعد أن ساعدوها بالنزول ، وتناغمت الموسيقا في امتزاج هارموني متناسق أخاذ ، جَمَع جَمَال النغمة ، وسحر الرقص ، وليونة الراقصة ، فانثنت إلى الوراء على الأرض وصار جسدها طبقتين ، ثم اعتدلت مرتفعة على وقع دقات رتيبة ، ناثرة شَعرها الأسودَ الكثيف الأجعد ، فأكمل اللوحة الفنية التي صنعتها بمهارة واقتدار متميزين ..

صفقنا لها بحرارة ، ووقف الجميع يردون لها تحية اختتام رقصتها ، وهي تلهث وتضحك بفرح غامر ..

" حقا ، كانت مفاجأة رائعة " ، رفعت إبهامي لبافل وأضفت : هذه لا تنسى أبدا .. وسألته أهي إسبانية أيضا ؟ فقالت ديانا : لا .. إنني أعرفها ، هي تانيا من فارنا ، لكنها تهوى الرقص الإسباني ، درسَته وتدرّبت عليه في معهد خاص ، كما زارت إسبانيا أكثر من مرة ، وشاركت في كثير من الحفلات ..

وهي هاوية فقط .. ولا تريد أن تحترف ..

هدأ صخب القاعة مع انسياب الموسيقا الناعمة الهادئة .. ذهبت ديانا قليلا ، وعادت بالمفاجأة ..

إنها الفتاة الراقصة بحالها ..

قدمني لها بافل ، فمدت يدها ، واقتربت بلطف تعانقني .. شكرتها ، وأبديت اندهاشي بروعة ما شاهدتُ من فنها الراقي البديع ..

جلستْ .. كانت جميلة أكثر عن قرب .. أو ربما هكذا بدت لي ، ولم يزل وجهها متوردا عبقا ..

ثم ترجم بافل حوار ديانا معها :

" لا أعرف شيئا أبدا عما كان حولي .. أعرف أني كنت أذوب رقصا .. كنت أسمع الموسيقا فقط ، خالية من أي صخب مرافق ، فأتحرك معها تلقائيا .. لم أكن أنا من يرقص .. كان جسدي يتفاعل ويتحرك رغما عني .. وهذا هو سبب نشوتي التي تراها عليّ ، فهو يساعدني على بلوغ سعادتي العظمى ، خصوصا عندما أرى الحب والإعجاب في عيون الحاضرين " ..

نمَّتْ كلماتها عن تجربة فنية ناضجة وواعية ، فاستحوذت مني مزيدا من التقدير ، جعلني أتصورها تؤدي مع " زوربا " رقصته الشهيرة ، في رواية كازنتزاكي ..

ولم تكد تنتهي الموسيقا الهادئة ، حتى تحلق كثير من الحضور حولنا ، يطالبونها برقصة ثانية ، وكأن الفرقة على موعد بذلك ، فبدأت العزف فورا .. ولم ينفعها الاعتذار والتمنع ، فحملوها إلى الحلبة ، وشاركوها الرقص قليلا ، حتى انسجمت فيه ، ثم انسحبوا ، وبقيت سيدة الحلبة وشيطانتها ..

أبدعت وأبدعت ، وأظهرت حركات جديدة لم تؤدها في الرقصة الأولى ، فوقف الجميع مصفقين ، ووقفنا وسط جو كرنفالي ملأ المكانَ حولنا بالدخان والألعاب والشرائط والبالونات والفقاقيع ..

ومع انتهاء الفقرة ، عُزفت موسيقا أغنية صاخبة ، رددتها حناجر الحاضرين ، وأعلن بعدها ختام السهرة .. فكانت تانيا مسكها الحقيقي ..

خرجنا .. كنت قلقا بمقدار كل مشاعر السعادة التي بقيت ذكرى من الحفلة .. فالساعة تجاوزت الواحدة صباحا ، وليس معي مفتاح البيت ..

شكرت بافل وديانا ، وودعتهما ، أمام مدخل البناية ، وغابت السيارة في الظلام ، وليس في الزحام .. " كما قال نزار قباني وماجدة الرومي في أغنية " مع جريدة " ..

تفقدت كل نوافذ البيت .. ليس ثمة ضوء من أي منها ، ولا من غرفة مايا .. ولا أعرف إن عادت ونامت ، أم لم تعد ..

يخيم الهدوء على المكان وما حوله ، تقطعه أصوات سيارات بين وقت وآخر ..

كرّرت جولتي أكثر من مرة حول جهات البيت الثلاث ، فلم ألحظ جديدا .. خشيت أن يُشك بي ، ولست أحمل جواز السفر ..

لجأت إلى ممر البناية ، وقدّرتُ أن يكون وجودي هنا مفاجأة مزعجة لمايا ، لو لم تكن عادت بعد ..

ثم ، ماذا سأقول لمن قد يراني من السكان ؟ وكيف سأتفاهم معه ؟؟

تجمدت عقارب الساعة في تواطئها ضدي ، فلا تكاد تتحرك .. لكأنها " شُدَّتْ بيذبل " كما قال امرؤ القيس ..

مضى بعض الوقت ، تمنيت أن تأتي مايا ، ولو أجفلها وجودي ..

لكن .. لماذا لا أقوم بجولة أخرى حول المبنى ؟؟

سرْت في عكس الاتجاه كي يطول طريق عودتي ..

ومن بعيد لاح لي خيال في الشرفة المشتركة مع غرفة غالا .. قلت في نفسي يائسا : أضغاث أحلام ..

ولما شاهدتُ الضوءَ ينبعث من غرفتي ، تيقنت ..

" إنها تتفقدني " .. وقفتُ تحت الشرفة ، ناديتها بحذر ، فأطلت كالمذعورة ، وغابت سريعا حتى التقينا على الدرج ، خبأت رأسها ودموعها فوق كتفي ، ولم تنبس ..

كدت أحملها ونحن نتهالك على الدرج صاعدين ، دخلنا غرفتي ، بدا وجهها ممتقعا متعبا ، وعيناها حمراوان منتفختان مليئتان بدمع سخي ..

أجلستها على الكنبة ، ومضيت إلى الشرفة .. جلست على الأرض أدخن ، انطفأ ضوء الغرفة ، وجاءت متسللة إلى جانبي ، أخذت سيكارتي ، سحبتْ منها نفسًا عميقا ، فيما يتهدج صدرها بشهقات ناعمة ..

أشعلتُ سيكارة أخرى ، ولفـَّنا الصمتُ وهدوءُ ساعات الفجر وبرودتها ، وكلما حاولتْ أن تتكلم ، تخنقها العبرة ، فتصمت وتضغط برأسها على كتفي ..

أدركتْ أنها هي من تسبَّبَ بهذا الأرق الموجع لكلينا ، واعتذرت لأنها عدّت نفسها سببا للضيق الذي حملني على التأخر ، وليس معي مفتاح البيت ..

وقالت : " أعرف أن الأيام الباقية أقصر من أن نلوِّنها بالغضب والعصبية والتنافر ..

فكما أن من حقي أن أغفو داخل مشاعرك ، فإن ذلك من حقك أيضا ..

ولئن حاولتُ أن أقبر مشاعري في جوفي ، فلأني متيقنة ..... "

سكتت ، اختنق صوتها بالنشيج ، وتنافر سيل من الدمع .. أخذتها إلى صدري .. حاولت تهدئتها ، حتى تماسكت ، فأكملتْ :

" أنا متيقنة أنني لن أراك هنا ثانية .. ولن أستطيع الذهاب معك .. فلا أستطيع أن أترك ولدي ، ولا يمكن أن آخذه ، وبالتأكيد ، لن تترك أسرتك وأولادك من أجلي ، وأنا لا أريد منك ذلك .. ولا أتوقعه .. فالذي يترك زوجته وأولاده من أجلي ، يمكن له في المستقبل أن يتركني من أجل غيري " ..

" إننا في نفق مظلم ليس له نهاية أبدا ..

لقد غضبتُ اليوم من أوامركَ ، وحاولت أن أجعل من ذلك سببا لأكرهكَ .. لكني فشلت ، وفشلت ..

أنا الآن أحبكَ أكثر بكثير من الكثير .. بل ، أنا أطلب منك أن تأمرني ، وأعدك بأني سأتلذذ بتنفيذ أوامرك ..

لقد فهمتُ الآن معنى أن يكون الرجل شرقيا .. صدقني ، إنه لأمر رائع .. أحببته .. لكني لست واثقة من أن يكون حبي له دائما ..

وهذه غصة لا أستطيع اقتلاعها من حلقي ، ولا أريد المخادعة .. أتفهمني ؟؟

إن السماء ضدنا .. ولا تريد لنا حياة مشتركة .. فلو كانت تريد ، لخلقتنا في ظروف مغايرة ، وبدون كل هذه الموانع .. أنا لست حزينة من أجل هذا .. وأتمنى أن تعيش حياتك كما كانت قبل أن نلتقي .. ويجب أن نعتاد على المؤقت من الأيام .. وهذا قدر كاف ، يمنحنا طمأنينة وأنسا ، ويلزمنا ألا نتجافى أو نهدر لحظات السعادة مجانا " ..

" لقد تأثرتْ اليوم أمي كثيرا ، ولامتني بعد أن أجبتها على تساؤلاتها .. وكان أن ساعدتني على تفهم سلوكك معي ، وأيدتك ضدي ..

تصور .. أمي تؤيدك ضدي ، وهي لم تفهم من لسانك كلمة واحدة ، ولا تعرف عنك أكثر مما قلته لها .. وهي تقدرك وتحترم فيك ظهورك أمامنا بالوجه الحقيقي لك " ..

" إنه من المستحيل أن نعود أنا وأنت إلى الوراء ، كما صار من مستحيل المستحيل ، أن تمنحنا السماء ـ من جديد ـ فرصة أخرى تسهّل لقاءنا في ظروف غير التي تجمعنا الآن " ..

" إنها الأسطورة الأزلية .. كانت .. وستبقى ..

شهرزاد وشهريار " ..

" لقد تفلسفتُ عليكَ بما فيه الكفاية .. وها قد طلع الصباح ...

فلنتفاءل بيوم آخر أكثر هناء .. هيا إلى النوم " ..

الخميس ـ 17/03/2011

الثلاثاء، 15 مارس 2011

حلب اسطنبول صوفيا ـ 1 ـ

حلب اسطنبول صوفيا ـ 1 ـ

قبل تلك الرحلة ، لم أكن قد غادرت بلدي إلى أي وجهة في العالم .. وإن كنت قصدت بيروت ليوم واحد قبيل اندلاع حربها الأهلية بأشهر قليلة ..

لذلك ، فقد كان لهذه الرحلة إلى بلغاريا ، طعم خاص ، لاسيما أنني التقيت ـ عن قرب ـ عددا من مواطنيها ، ونشأت بيننا علاقة صداقة ومودة ، مما زاد في رغبتي بالسفر إليها ..

وتلاقت رغبتي مع إلحاح صديقي د . علي ، الموجود هناك لمناقشة رسالته لنيل الدكتوراه في الهندسة ..

وكان حين استضاف أستاذه المشرف د . ترايكوف ، في حلب ، توطدت علاقتنا ، وأعجب شديد العجب بمدينتنا الخالدة ، وطراز البناء القديم والجديد فيها ، وبالياسمين المستلقي على الأسوار المزخرفة بهندسة بديعة ..

وهو نفسه الذي أصر أن يبقى واقفا في بيتنا ، طيلة استماعه لنشيد مارسيل خليفة : " منتصب القامة أمشي " ، احتراما وتقديرا لمعانيه التي سمع ترجمتها الفورية من تلميذه ..

وكان من نتائج تطور العلاقات البلغارية السورية ، افتتاح قنصلية لها في المدينة ، مما سهّل تنفيذ إجراءات السفر ، ومهّد لقيام علاقات ثقافية وتجارية نشطة برعاية القنصلية ومشاركتها الفعلية ..

حصلنا على تأشيرة السفر إلى بلغاريا ، وبناء عليها حصلنا على تأشيرة عبور الأراضي التركية ، كوننا سنسافر برا من حلب إلى اسطنبول ، ثم بقطار الشرق السريع ، منها إلى صوفيا ..

بدأت الرحلة في الصباح الباكر من حلب ، قبيل أن تستفيق الحركة في الشوارع المحيطة بساحة انطلاق الحافلات ..

كنا فرحين بالصحبة والسفر ، وكان الصحب أربعة شبان رائعين : مصطفى وبسام وبدر وعلي .. وأنا الطارئ على شلتهم الظريفة المنسجمة ، حيث جمعتهم قواسم مشتركة متينة ، ووحدة حال ناضجة قوية ، فأضفوا جوا رائعا على رحلتنا ، سواء بانفتاحهم واتساع آفاقهم وتفاهمهم ، أو بخفة دمهم ومرحهم ، أو بقضاياهم الحياتية الناعمة الظريفة ..

كان الصباح صيفيا ، أنعشته الخضرة والأشجار والتفاؤل بالرحلة الأولى ..

تناولنا قهوة سريعة ، وبدأ المسافرون بالتجمع حول الحافلة .. فاقترب مني شاب أجنبي ، سألني بالانجليزية إن كنت مسافرا على متن الحافلة ، فأجبته بنعم ..

واكتفى بذلك ، وكأنه يريد أن يطمئن لوجود من يتكلم بلغته ، فالطريق إلى اسطنبول تأخذ حوالي أربعا وعشرين ساعة ، يتخللها توقف لبضع ساعات في أنطاكية ..

بعد أن عبرنا البوابة الحدودية السورية في باب الهوى ، كانت الإجراءات على الطرف التركي أكثر صرامة ، مما استوجب بعض التأخير ، فانتشر الركاب بين السوق الحرة والمطاعم والمقاهي ، وحين انتهى الجميع ، نودينا بالصعود إلى الحافلة ، فمضيت إليها يتبعني عن بُعد بسام شحود مصطحبا الشاب الأجنبي ..

استوقفني بسام مكررا نداءه لي بلهفة ، وبصوت عال ، وكأن أمرًا ما قد وقع ، التفت إليه ، فقال كمن عثر على كنز ثمين : لقد وجدت لكَ من يتكلم الإنجليزية ..

" يبدو أن صديقي هذا كان يريد أن يجد لي من يساعدني على مشقة طول الطريق ، اعتقادا منه أنني بلبل إنجليزي صدّاح ، بينما الواقع ، أنني لا أعرف سوى القليل من تلك اللغة " ..

قلت لبسام حين وصلا إلي : أتعتقد أنه لم ينقصني في هذه الرحلة إلا شخص أجنبي أسليه ؟!

في الحافلة ، استأذنني الشاب في الجلوس إلى جانبي .. كان ألمانيًا يعرف من الإنجليزية أكثر مني بقليل ، قال بعد أن قدّم نفسه " كوبلر " :

إنه أمضى ستة عشر يوما في سوريا ، عشرة منها في حلب " الرائعة " حسب وصفه ، والباقي بين دمشق والساحل وحمص ..

كان مفتونا بحلب ، فاصطحب معه كثيرا من صور البطاقات السياحية ، وبعض المصنوعات اليدوية ، وعبّر عن دهشته بقلعتها الضخمة الفريدة ، وأسواقها القديمة ، ولم ينس أن يتلمظ ـ متأتئا ـ بالتعبير عن متعته بتذوق الطعام الحلبي ..

وكان شغوفا بمعرفة كل ما يستطيع أن يعبّر عنه باللغة المشتركة التي نتفاهم بها ..

وتأثر كوبلر جدا وهو يودعنا في محطة القطار في اسطنبول ، ووعدني بالمراسلة بعد أن ينهي رحلته ، لكني حين عدت إلى حلب ، وجدت في بريدي بطاقة لطيفة منه ، من روما ، وتراسلنا خلال السنوات التالية ، لكني نسيت أن أصطحب عنوانه معي ، حين لبّيت دعوة كريمة من صديق عزيز لزيارة ألمانيا بعد ست سنوات ..

أمضينا ساعات في اسطنبول قبيل الرحلة إلى صوفيا ، كانت أوقاتا جميلة ، تجولنا فيها بالقرب من محطة القطار ، وعلى شاطئ البوسفور ، كما زرنا حديقة الحيوانات القريبة ..

تمنيت أن أقضي فيها أطول وقت ممكن ، فهي غنية بكل آثارها وتراثها وجَمالها وتقاليدها .. لكننا كنا مجرد عابرين ، وكان الوقت قصيرا جدا على تحقيق ذلك ..

في القطار التقينا بكثير من المسافرين من جنسيات مختلفة ، عائدين أو قاصدين بلدانا أوربية أخرى عبر قطار الشرق السريع هذا ..

ونسيت كيف أكملنا الرحلة على وقع إجراءات الحدود البلغارية وجماركها ، والبضائع الكثيرة المحملة في القطار ، وصعوبة التفاهم مع المسؤولين عن ذلك بغير لغتهم التي نجهلها جميعنا ..

في مدينة فارنا ، كان في استقبالنا صديقنا د . علي وكيريل وزوجته ، فانكسر مباشرة حاجز الإحساس بالغربة ، وكان للمودة التي أحِطتُ بها تأثير كبير على شعوري بالراحة واستمتاعي بكل لحظة قضيتها هناك ..

في تلك المرحلة ، كانت أوربا الشرقية قد خلعت عنها ثوب الشيوعية والاشتراكية ، بُعيد سقوط جدار برلين ، لكنها لم تتزيّا بعد ، بالزي الأوربي ، الذي طالما حلمَتْ به ، لكنه بدأ يفرض طقوسه عليها ، وإن كانت مرحلة التحول تحتاج جهودا وعملا ، ووقتا طويلا ، ونفقات كبرى ، وكل ذلك لا يتوفر سريعا ، ولا يمكن تحسس نتائجه على المدى القريب ، لذلك ، كانت خطوات التحول بطيئة إلى حد كبير بسبب الظروف المزرية التي آلت إليها دول شرق أوربا بعد سنين طويلة من وجودها داخل حرم الشيوعية ..

ومن هنا ، كان الانفتاح السياحي هاما ، ويشكل مصدر دخل كبيرا جدا في بلغاريا ، فقدمت الحكومة تسهيلات حقيقية للراغبين بزيارتها ، واشترطوا حجزا فندقيا مسبقا للحصول على التأشيرة ، أو حجزا في شقة أو غرفة ، وقد عرضها أصحابها على المكاتب السياحية المختصة لتأجيرها للوافدين ، وهي غرف ، غالبا ما تكون جزءا من بيت العائلة ، حيث تتقاضى الأسرة أجرها كدخل إضافي في ظروف تلك التحولات ..

لذلك ، عندما وصلنا إلى فارنا ، كان مع كل منا بطاقة الحجز المسبق ، وفيها عنوان المكان المحجوز ، بواسطة شركة كوندور ( النورس ) ، المختصة بتقديم خدماتها للسياح ..

اتصل كيريل ليتأكد من وجود صاحبة البيت المحجوز قبل أن يوصلني صديقي إليه .. كان البيت أنيقا صغيرا .. سيدته ستينية وحيدة ، تعمل مرشدة سياحية ، وهي شديدة التمسك بالإتيكيت والرسميات ، بحيث يجب ألا يزورني صديقي مثلا ، دون استئذانها .. فإن وافقتْ ، تحدد الوقت المسموح به أيضا ..

لم أستطع تحمل ذلك أكثر من تلك الليلة ..

قلت لصديقي باكرا : هذا لا يطاق أبدا .. سأنام اليوم على الشاطئ أرحم من هذا الاضطهاد .. قال : لا تقلق .. ستبيت ليلتك في بيت آخر اليوم .. لقد تداركنا الأمر .. جهز نفسك .. أنا قادم لاصطحابك ..

في بهو الشركة ، كانت فانيا " زوجة كيريل " تجلس مع سيدة أخرى على كنب جلدي ..

(( وكنت التقيتها في حلب حين زارتها برفقة زوجها ..

ولأنها تحتفظ ببعض الجمال والرشاقة ، فهي معجبة بنفسها وتحب أن تكون محط اهتمام الجميع ..

وحين كنا في ضيافة الصديق أبي حسام في حلب ، حصلت طرفة ظريفة :

استأذنتهم وهممت بالانصراف بعد الغداء ، فأصرّت فانيا أن أعود إليها من عند الباب لأودعها وحدها مصافحة ..

هو أمر عادي بالنسبة لي أن ألبي طلبا كهذا لسيدة أخرى ، لكن ليس لفانيا .. المعاندة ..

لذا .. تسمَّرْتُ ، وقلت لها : من ترغب بمصافحتي ، فلتأت إلي ولتودعني هنا .. وحين تلكأت وأبت ، قلت لها : سأعدّ للثلاثة ، قبل أن أغادر ..

فجاءت إلي تصافحني ـ وسط شماتة الحضور ـ وهي تتمتم بالبلغارية التي لم يستطع صديقي سماع أو فهم تمتمتها الخارجة من بين أسنانها المصطكة )) ..

استقبلتني معانقة ، وصافحت الأخرى " زويا " ، فدعتني للجلوس وتناول القهوة ، حيث كانت تستثمر كافتيريا صغيرة في البهو .. تجاذبنا الحديث بمقدار ما سمحت لنا به لغتنا الإنجليزية البسيطة ، حتى جاء أبو حسين يصطحبني إلى نزل آخر ..

كان البيت في الطابق الأول من مبنى ضمن مجمع سكني في مركز المدينة .. فتحت لنا البابَ سيدة ستينية أيضا ، هادئة وقورة ، تخبئ خلف نظارتيها الطبية عينين براقتين ، قادتنا إلى الغرفة الثانية عن يمين الباب ، مفروشاتها خشبية أنيقة ، وسريراها مغطيان بغطاء أبيض ناصع ، ولها باب على الشرفة الخارجية ..

كانت تتحدث مع صديقي بأناة .. لكني استطعت أن ألاحظ أن اللغة البلغارية لغة تفصيلية ثرثارة ..

وضعت حقيبتي ، وسرنا خلفها عبر الممر إلى الصالة ، وهي تشير إلى غرفتين على يمين غرفتي ويسارها ، فهمت أن في الأولى تسكن ابنة أختها ، والثانية مشغولة بابنتها مع طفلها الوحيد ..

تركنا أبو حسين بعد أن تفاهم معها بأنني سأكون ضيفهم لأسبوعين ، وأنني أرغب أن أشاركهم وجبات مائدتهم ، وليس لي شرط سوى أن يكون طعامي خاليا من الثوم والبصل واللحوم المحرمة .. وشرطها ألا أدخن داخل الغرف ..

ولم يكن لي من وسيلة للتفاهم معها سوى بلغة الإشارة ..

كنت ما أزال تحت تأثير تعب الأيام الماضية ، والليلة السابقة ، فاستلقيت على السرير ، ونمت ، لأصحو على نقرات خفيفة على الباب .. قلت : بالإنجليزية : yes ، فانفتح الباب عن شابة مبتسمةٍ بخجل كسا وجهَها حمرة شفافة ، تمتمتْ بما فهمته اعتذارا عن إيقاظي ، وهي تدعوني لتناول الغداء ..

كانت طاولة الطعام مربعة ، تجلس كل واحدة على ضلع منها ، فجلست على الضلع الرابع ، تقابلني الأم .. وعن يميني ابنة أختها " مايا " وعن يساري " غالا " ابنتها التي أيقظتني ..

كانت مايا قد استيقظت للتو ، وما زالت عيناها منتفختين حمراوين ، وهي لا تعرف أي حرف من حروف أبجديات العالم سوى لغتها .. أما غالا ، فقد كانت عائدة من معهد تتعلم فيه اللغة الإنجليزية ، " إدراكا منها بتنامي أهميتها في السنوات المقبلة " .. فصارت غالا ، أشد حرصا على التحدث إلي للتمكن من مفردات اللغة الجديدة ، وهي ـ في نفس الوقت ـ المترجمة الوحيدة في البيت ..

كان الطعام مطبوخا على نار الكهرباء ، لذيذا شديد النضج .. وهو عبارة عن خليط من الخضار باللحم ، إلى جانب الأرز ..

ولم تكن خيارات تنوع الطعام كثيرة ، فلطالما تشابَهَ الشكل أو الطعم ، أو كلاهما .. لكنه في كل الأحوال ، كان شهيا وأنيقا ومعدًّا في مطبخ نظيف ..

بعد الغداء ، انسحبت مايا لذهابها إلى العمل ، وسألتني غالا إن كنت من هواة شرب الشاي .. قلت لها : بكل تأكيد .. كلمتْ أمها ، فجاءتنا بكوبين ، ونحن ندخن على شرفة الصالة ..

كانت الشوارع قد بدأت تعج بالمشاة ، وبالسيارات الهرمة الصغيرة والدراجات ، وبين الحين والآخر تمرق سيارة حديثة ، فتشرئب أنظار المارة إليها ..

وكان ظاهرا أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد بدأت ، لكنها ما تزال في نقطة الصفر ، وهي مثقلة بأثقال وأثقال ، لا تسمح لها بإقلاع نشط أو سلس ..

سألتني غالا عن حياتي وأسرتي ودراستي وعملي .. وبدت فرحة وهي تبحث عن المفردات الإنجليزية التي تعلمتها حديثا ، فتسألني بمزيج من اللغتين أحيانا .. لكنها تستدرك أمام عدم فهمي لسؤالها ، فتصوبه قدر المستطاع ..

قالت : إنها تتعلم الإنجليزية ، كي تساعدها على تحصيل عمل ما في المرحلة القادمة ، بعد أن صارت هذه اللغة شرطا أساسيا للتوظف .. وهي تحمل شهادة الثانوية ، ومتزوجة ، وطفلها " داني " سيعود بعد ساعة من الحضانة ..

أسندت رأسها إلى الجدار ، بعد أن أطفأت سيكارتها الثانية ، وقالت وهي تحدق في الأفق : وزوجي الآن سجين ..

صمتتْ .. أشعلت سيكارة أخرى ، التمعت دمعتها عاكسة نار الولاعة .. ابتلعت الدخان كله بشراهة .. ولذت بالصمت وأنا أتشاغل بتقليب أوراق مجلة ..

كانت متأثرة إلى حد الرعشة التي سيّحت دمعا سخيا على وجهها : منذ سنتين سجن ، ولا أعرف متى سيخرج .. لقد سرق .. نعم .. سرق ويستحق العقاب .. لكن ، ما ذنب داني ؟؟

لم يكن داني قد وصل من الروضة ، لكن الموعد أزف .. غابت غالا أكثر من نصف ساعة .. ثم عادت وقد استحمت وغيرت ملابسها ..

سألتني إن كنت أحتاج شيئا من الخارج ، فهي ستنتظر عودة ابنها في أول الشارع .. وحين عادت ، كانت تجهش وتحتضنه بقوة .. لقد أصيب بجرح عميق في جبينه ، من أثر وقعة تعرض لها في الحضانة ..

خرجتُ من البيت قبيل موعدي مع الشلة في الساحة الرئيسية القريبة ..

تجولتُ غير بعيد كي لا أضل الطريق .. ليس الناس في عجلة من أمرهم كما هو حالنا .. وكثير منهم ، من الطبقة الوسطى أو الفقيرة ..

ليس ثمة جديد أو غريب يمكن أن أتلمسه .. فكل ما شاهدته ، متآلف مع ما يعرض على الشاشات الكبرى والصغرى ..

تناولت قهوة الإكسبريس مع الكولا على طاولة صغيرة في شارع يكتظ بالمقاهي ، وتحتل طاولاتها كل الأرصفة ..

لم نألف في بيئتنا تناول القهوة مع الكولا قبلا ، ولم أستسغهما معا في البداية .. لكني لاحظت أن الجميع هنا يفعلون ذلك ، يشربونهما معا ، ويدخنون .. ويتكلمون بهدوء ، ويضحكون عاليا ..

ثم ، ومع حلول المساء ، وصلت إلى الساحة الرئيسية ، تأملت كنيسة كانت مهجورة ومازالت قيد الترميم ..

كانت الطرق مكتظة بالسيارات والمارة ، وكأن كل أهل فارنا يخرجون مساء من بيوتهم ..

عشرات ، بل مئات المقاهي منتشرة في شوارع المدينة ، في ظاهرة جديدة ، هي شغل من لا شغل له ـ كما قيل لي ـ بحيث يصدق عليها ما يشاع عن مدينة دير الزور : " أن بين كل مقهى ومقهى ، مقهى .. " وفيها الآلاف من كل الأعمار ، وإن كان الشباب أغلبية قصوى ، يتحلقون حول طاولاتها ، ما عدا الواقفين بانتظار دورهم بالجلوس ..

كان في الجو شيء من رطوبة البحر الأسود .. وفي الأرجاء ، تستطيع أن ترى أنواعا وأشكالا من أزياء صرعات الشباب والبنات ، فقد أحسست أنهم يبالغون في غرائبيتها وهم في بداية مرحلة التحول ، وكأن ما يفعلونه إنما هو رد فعل غير مباشر ، وقطيعة مع ماضيهم ، مصرّين على استبداله وتغييره ، ولو لم يكن نحو الأنسب أو الأفضل ..

التقيت بالشلة .. كانوا قد خرجوا من إسار ملابس الطريق ، وقد بدت عليهم ملامح النعنشة بعد طول عناء .. تبادلنا أرقام هواتف مسكننا ، ثم مضينا معا إلى مكتب شركة كوندور ، حيث كنا جميعا على موعد مع أبي حسين ..

في الحادية عشرة ليلا ، رافقني أبو حسين إلى باب البيت ، وقال للسيدة بأني سأكون ضيفه غدا ..

وأنا أعبر الممر إلى غرفتي كان أمامي زجاج باب غرفة غالا معتما ، بينما ينبعث ضوء خفيف من خلف زجاج باب الصالون ..

دخلت غرفتي .. كانت مرتبة على غير ما تركتها .. غيرت ملابسي وخرجت إلى الشرفة التي لغرفة غالا باب عليها أيضا ..

كنت أرغب بالتدخين ، لكن مع فنجان قهوة تركية .. وقد تأخر الوقت ، وربما دخلت الأم غرفتها ، وليس مناسبا ذهابي إلى المطبخ عبر الصالون ..

أشعلت سيجارتي من عود ثقاب بدّد شيئا من الظلام حولي .. فسمعت نقرا خفيفا عن يساري .. لم أتكلم .. بل نقرت على الباب .. خرجت غالا .. حيتني بالبلغارية ، وأعقبتها بالإنجليزية .. وسألتني إن كنت أرغب بتناول العشاء .. شكرتها ، وقلت : أرغب بالقهوة فقط ..

أحرجها طلبي فاعتذرت عن عدم وجود "بنّ " لديهم ، كونهم لا يتعاطونها في البيت إلا نادرا ..

وكنت محتاطا لذلك .. أخذت كيس بنّ من غرفتي ، ومضينا إلى المطبخ معا .. حضرتُ القهوة كما أرغبها وسط متابعة حثيثة منها ، وعدنا إلى الشرفة مع زجاجتي كولا ..

كان حاجز اللغة عائقا بيننا ، مما جعل أحاديثنا محدودة بالمفردات والجمل التي يعرفها كلانا .. لكني استشعرت منها استئناسا بما عبرت عنه : " معرفة أشياء جديدة عن شعب آخر سمعت عنه عبر وسائل الإعلام " ..

تناولت غالا قهوتي المرة على مضض ، وهي تغسل فمها بالكولا بعد كل رشفة منها ، لكنها قد تكون أفضل بالسكر ـ حسب رأيها ـ ..

وكانت بين الفينة والأخرى تذهب إلى طفلها ، تغير له الكمادات الباردة على رأسه لتخفض له حرارته من أثر الجرح ، وتعود قلقة من عدم انخفاضها ..

سمعنا انفتاح الباب الخارجي قبيل الثالثة صباحا ، قالت : هذه مايا .. ذهبت إليها وعادتا معا .. تذوقت مايا القهوة باردة ، فاستحسنتها ، وسألت عن المزيد ، فذهبتا معا إلى المطبخ ، وجاءتا بفناجين أخرى ، لكن حاجز اللغة مع مايا أكبر ، كونها لا تعرف سوى عبارة واحدة شائعة من الإنجليزية : I love you ..

مر الأسبوع الأول سريعا ..

تعرفت ـ خلاله ـ على كثير من أحياء فارنا وشوارعها وساحاتها ، وزرنا د. ترايكوف أنا وأبو حسين ، كما دعانا كيريل إلى رحلة قادتنا إلى جزيرة نيسيبر جنوب فارنا ، واستمتعنا بغداء من المأكولات البحرية ..

وحين دعانا كيريل إلى بيته ، وصلناه وأنا أحمل باقتي زهر ، خلافا للتقاليد ولرأي أبي حسين .. استـُقبلنا بحفاوة .. قدمت الأولى لفانيا حسب الأصول ، وعينها المستغربة على الثانية .. عانقت كيريل ، وقدمت له الثانية مستعينا بترجمة صديقي ، قلت له : تلك الباقة هي من حق فانيا حسب تقاليدكم .. وهذه لك ، حسب تقاليدي .. مدت فانيا يدها تحاول خطف الباقة الثانية ، الأجمل برأيها ، ثم انتظرتْ لترى نهاية الموقف بعد أن طمأنتها بالإنجليزية ، أن الباقة الثانية لها أيضا ، لكن عليها أن تصبر قليلا ..

ضحك كيريل وقال : لا أستغرب مفاجآتك .. لكن أرجو أن تشرحها لي ..

قلت له : ليس في الأمر مفاجأة .. هذه الباقة لك ، لاعتبار جوهري في حياتك .. كان يتابع الترجمة ويرمقني مستعجلا الإفصاح .. قلت : لأنك زوج فانيا ..

صاحت فانيا بفرح : أووووووووووه ..

وفي غمرة اندهاشها ، شكرتني ، وحيتني بانحناءة مسرحية لطيفة .. بينما بدا على كيريل مزيج من الغبطة والحرج الشرقي الذي أشعل خديه ..

في هذا الأسبوع أيضا ، دعتني غالا لنزور معا بيت صديقتها الكائن في أطراف المدينة .. تجولنا في الساحة الرئيسية .. التقطنا صورا .. كانت تمشي أمامي إلى الوراء .. وتتقصد أن تتكلم كثيرا بالبلغارية .. ثم عقبت بالإنجليزية : أنا أعلم أنك لا تفهم البلغارية .. لكني متأكدة أنك تحس بما أقول .. فقد رأيت ذلك في وجهك وعينيك ..

لم أوافقها بداية ، لكنها كانت محقة بالتأكيد ..

اعترضنا رجل مادا يده بالسؤال ، مددت يدي إلى جيبي فمنعتني بقوة ، وغضبت وهي تقول : كذاب .. ليس فقيرا ..

ثم هدأت ، بعد أن اختارت كتابا فلسفيا بلغاريا ، قدمته لي ، ورفعت وجهها إلى جبيني ، قبّلته ، ثم نظرت عن قرب في عيني وقالت : أنا متأكدة كما أراك أمامي ..

أثنى أبو حسين على صنيع غالا ، وفسّره بأن هديتها تدل على عمق المودة والاحترام اللذين تكنهما لي .. لأن الكتاب يعني للبلغار قيمة كبرى ..

وزارت البيت أختان توأمان ، صديقتان لغالا ، قادمتان من محيط فارنا القريب ، تتحدثان بإنجليزية مقبولة ، وعبرت إحداهما عن سعادتها بالتعرف إلي ، كعربي ومسلم ، ولا تعرف الشيء الكثير عن هذين الوصفين .. كما أجبتهما عن أسئلة تتعلقان باختصاصهما الدراسي ، حول الأدب والأدباء والشعراء العرب ، وعن اهتماماتي وهواياتي وعملي .. وكانت إحداهما تصغي لي ، والأخرى تترجم لغالا وأمها ..

وفي ليلة الأحد ، اقترحت مايا أن نخرج غدا إلى شواطئ الرمال الذهبية ..

لم أكن من هواة البحر ولا السباحة ، بل ، لا أحبها .. لكن أبا حسين شجعني ، " لأن الشواطئ ومنتجعاتها ساحرة " ..

ذهبنا معا .. كان الجو رطبا كالعادة .. وأدركت حينها من أين جاءت تسميته " بالبحر الأسود " .. فهو يشفُّ عن لون النباتات المائية والطحالب التي تتراكم في أحشائه .. كان البحر هائجا إلى درجة الغضب ، والمكان يغصّ بالآلاف ، حتى بالكاد وجدنا مساحة ننحشر فيها شبه متلاصقين .. حملتنا المياه عاليا مع المئات حولنا ، في أمواج متتالية لا يفصل بينها فاصل .. كانت تلك التجربة المائية الأولى بالنسبة لي ، فلم أحتملها أكثر من دقائق ..

في بداية الأسبوع الثاني ، ذهبت أنا وغالا إلى كافتيريا فانيا .. لم تكونا تعرفان بعضهما .. استقبلتني فانيا بعناق بدا لي حميما أكثر من كل ما مضى .. وحين بدأنا نتناول القهوة ، جلست بجانبي .. سحبتْ سيجارة ، وضعتها بين شفتيها ، وانتظرت بدلع أن أشعلها ..

راقبتُ الحرجَ الذي نضح من وجه غالا ، وهي تتحسس تصرفات من فانيا عكس ما سمعته مني .. وعندما ضاقت ذرعا ببعض التمادي المقصود ، استأذنتْ للتجول في المكان قبل أن تنهي قهوتها .. خمّنت أنها تريد أن تراقب الجو من بعيد ..

وحين خرجنا ، أيدت تخميني ..

كانت مرتاحة وهادئة ، وكأنها غير التي كانتها قبل قليل ..

قالت بعد أن ابتعدنا عن المكان : أنا واثقة من دقة وصحة وصفك لها ، وتأكد لي بأنها امرأة لها طبع وسلوك خاصّان ، وأدركتُ أنها تمادت معك لتبقى هي محل اهتمامك ، ولتشعرني أني طارئة ، وهي الأصل .. إنه سلوك لا يخفى على أحد .. وهي حرة في ذلك ، ولا تعنيني ..

ما يعنيني أنك كنت مثلي ، مستغربا تصرفاتها ..

نظرت إليها ، وثنيت ذراعي بحركة تظهر رغبتي بأن تضع ذراعها فيه .. ففعلتْ قائلة : so ..

الثلاثاء ـ 15/03/201