الكاتب وليد إخلاصي .. لقاء خاص ـ 1
في مقهى القصر الشهير بحلب ، كان لقائي المباشر الأول بالأستاذ وليد إخلاصي ..
هو قامة أدبية وفكرية كبرى ، وأنا طالب جامعي على أبواب التخرج .. جمعتنا طاولة صغيرة ، بحضور الأستاذ محمد أبو معتوق ، والصديق محمد جمال باروت ، والصديق فيصل خرتش .. وكان الأستاذ وليد قد حضَرَ أمسية من مهرجان أدبي في الجامعة ، أنا وفيصل شاركنا فيها بالقصة القصيرة .. دار بيننا نقاش قصير حول تلك الأمسية ، ثم اعتذر الأستاذ وليد ، يريد مغادرة المقهى لارتباطٍ ما ، لكنه توقف كمن نسيَ شيئا ، وسألني في حركة لافتة : عندك هاتف ؟؟ أجبته بنعم ، تسبقها غبطة وانشراح .. وليد إخلاصي بحاله ولسانه يسألني عن رقم هاتفي !!
إذ إنها لكبيرة أن يطلب الأستاذ وليد رقم هاتفي ..
وانتظرت أن يطلبني .. وطال انتظاري ..
والتقينا مرات بعد ذلك ، في احتفاليات أدبية متنوعة .. آخرها قبل أكثر من أحد عشر عاما .. كان في الإمارات مدعوًّا لرواق أدبي ، وكان قد انتخب عضوا في مجلس الشعب ( البرلمان ) السوري ..
بعد ذلك بسنوات ، وحين بدأت أبحث عن موضوع لأطروحة أكاديمية ، يتعلق بالدراسات النقدية ، كان أستاذي وصديقي الدكتور فؤاد المرعي ، خيرَ موجّه ومعين .. فأشار إلى بحثٍ موضوعي وجديدٍ ، يتناول الفضاءَ الروائي ، أي المكان والظروف والبيئة التي تدور فيها أحداث الرواية ، على أن تكون روايات الأستاذ وليد إخلاصي العشر ـ آنذاك ـ نموذجًا تطبيقيًا للدراسة ، فهو خير من كتبَ لحلب ، وعن حلب ، وبيئة حلب ..
وبعد إنجاز الإجراءات اللازمة ، كانت البداية حتمية مع الأستاذ وليد إخلاصي .. الإنسان ، والقاص ، والروائي ، والمسرحي ....
فاتفقت معه ـ نظرا لظروف إقامتي ـ على أن نكثف لقاءاتنا ، ليسجل لي مسيرة حياته الشخصية والفكرية والأدبية ..
وقد قدّم لي ـ مشكورًا ـ كلَّ معونة احتجت إليها ، لتحقيق هدفي .. وفتحَ لي قلبه ، وبيته وأرشيفه ..
ولأني كنت مضغوطا بالوقت المتاح ، فقد منحني الوقت اللازم ، وتحمّل مني إلحاحًا ، فرضتْه عليّ ظروفٌ طارئة ..
فكانت لنا ثلاث جلساتٍ خاصةٍ بالتسجيل ، وكانت الحصيلة أربعَ ساعاتٍ مسجَّلة ، استعرَضَ فيها أديبُنا الكبير مراحلَ حياته ، وآراءَه ، وأفكارَه ، وتجربته الروائية ، بقليل من التدخل المباشر مني ، بين الحين والآخر .. وسرَدَ الأحداث والوقائع ، بطريقته الانسيابية ، وبأسلوبه المتناغم مع السرد الحكائي ، كأنه يسجلها لنفسه ، لا للتاريخ ..
فيها الكثير من : السيرة الذاتية ، والمنابع ، والمؤثرات ، والتوثيق ، والاعترافات ، والشهادات ، والتقييم ...
وقد نقلتها هنا بأمانةٍ اندَغمَتْ في الشفافية .. لولا اضطراري إضافة علامات الترقيم ، (لاستحالة ظهورها في شريط التسجيل ) ..
وبالتأكيد ، ما زلت محتفظا بالأشرطة الأربعة ، وبكثير من المقالات والأوراق التي قدمّها لي من أرشيفه الخاص ، مساهمة منه في تسهيل مهمتي ..
فشكرًا جزيلا له ..
الساعة الأولى :
حلب ـ 07/08/1993
قال :
ـ ذكر في شهادة الميلاد أنني ولدت في 27/05/1935 ..
ـ كنت الولد الثالث في أسرتي المكونة من أربعة أولاد ..
ـ والدي كان رئيسا لتحرير مجلة ( الاعتصام ) في شبابه الأول ..
ويبدو أن هذا الموضوع قد وقر في أعماقي ..
ومحبتي لوالدي الشديدة ، وإعجابي به ، دفعاني إلى تقليده ..
ـ ابتدأت بالكتابة وأنا في العاشرة .. حاولت أن أكتب ..
ـ أول شيء جِدّيّ كان مقالة كتبتها ، ونشرت في (جريدة الهدى ) التي كانت تصدر في ( حمص ) .. لا أذكر في أي عام بالضبط .. لكن في بداية الخمسينيات ..
س ـ هل تذكر شيئا من تلك الكتابة ؟
ـ لا أذكر تماما ، لكن كان لها علاقة بالوطنية ، بفلسطين ، بمناسبة قومية ..
قبل تلك الحادثة ، كنت في الحادية عشرة تقريبا ، اتخذت قرارا خطيرا في حياتي .. أن أصدر مجلة ..
وهذه المجلة على ما أذكر ـ تصحيحًا ، لم أكن في الحادية عشرة ـ ولكن كنت في الثالثة عشرة ، كان أمر تقسيم فلسطين قد أثر على وجداننا الشعبي ، فقررت أن أتخذ موقفا ما من هذه القضية .. حاولت أن أحرر مجلة .. قمت فعلا بتحرير كافة ( موضوعاتها ) ، كانت في حدود 16 صفحة .. كتبتها بخط اليد وأخرجتها ، واخترت لها عنوانا ، لا أذكره تماما ، وكتبت كل أبوابها .. ( ولا أملك أي وثيقة منها الآن ) ..
ـ ثم خطر ببالي أن أتصل بمسؤول كبير ، فذهبت إلى محافظ حلب .. استقبلني على ما أذكر ، مدير المطبوعات في السراي .. كانت الحكومة كلها موجودة في السراي ..
رفض البواب أن يدخلني إلى المحافظ ، لأنني كنت أرتدي ( الشورت ) وكنت صغيرا .. فسألني : ماذا تريد من المحافظ ؟ فقلت : إنه أمر شخصي لن أشرحه إلا له ..
لكن الذي حصل أن مدير المطبوعات انتبه إليّ واستدعاني إلى مكتبه ، وسقاني شرابا باردا ، واطلع على المشروع ، ووعدني بأن يهيئ لي مقابلة مع المحافظ .. استمرت تلك المحاولة حوالي الشهرين ، ثم فوجئت بأن مدير المطبوعات أخذني من يدي وأدخلني على المحافظ وقال له : هذا هو الشاب ـ لم أكن شابا ـ الذي حدثتك عنه ، فاستقبلني الرجل بترحاب ، وجلس إلى جانبي ، وأخذ المجلة المخطوطة بعناية ، وقال : أمر عظيم جدا .. ماذا تريد ؟؟ قلت : أريد أن أطبعها .. قال : هل تريد أن تستمر في طباعتها ؟؟ قلت : نعم .. قال : من هي هيئة التحرير ؟؟ قلت : أنا .. وأنا المخرج .. فأخذ مني المجلة ، ويبدو أنه أخذني على ( قدِّ عقلي ) ، وقال لي : اترك لي عنوانك ..
وعندما عرف والدي ـ ويبدو أنه كان صديقا له ـ قال : أنا سأتصل بوالدك وأخبرك .. وإن شاء الله ستكون الأخبار حسنة ..
مرت شهور ، وأنا أنتظر .. وأحسست بالملل ..
هذا الشيء ، يبدو أنه غريزي .. كنت أؤمن ـ وما زلت حتى هذه اللحظة ـ بأن فعل الكتابة له أثر ..
ـ كنت عاجزا عن الانخراط في جيش يحرر فلسطين .. كنت عاجزا عن فعل أي شيء .. فقلت في ذهني : الكتابة هي العمل الذي يمكن أن أساهم به ..
ومثل هذا الأمر حصل لي بعد نضجي ، عندما كتبت مجموعة خاصة عن المقاومة الفلسطينية بعد إحداث ( فتح ) ـ وكانت فتح هي المنظمة الثورية الفلسطينية الوحيدة ـ .
كنت أحس دوما أنني عاجز عن القيام بفعل معين .. فأنا لا أستطيع أن أكون فدائيا ، ولا أستطيع أن أقاتل .. فكتبت مجموعة القصص التي حملت اسم ( زمن الهجرات القصيرة ) .. واستقيت جميع أحداثها من حكاياتٍ كان الفلسطينيون المقاتلون يروونها لي .. طبعا .. أنا لم أعاصر أي عملية فدائية ، ولم أفعل أي شيء إيجابي أو فعلي ..
وأهديت الكتاب ، ولقي اهتماما كبيرا ، وقام برسومه فنان عزيز جدا ، هو : ( نذير نبعة ) .. وطبع من هذا الكتاب خمسون ألف نسخة .. وهذا أمر لم يحدث مسبقا .. ووُزع ..وأرسَلَ لي ( أبو عمار ) شيكا بقيمة الكتاب ، فأعدته بعد أن مزقته ، وقلت للرجل الذي حمل إلي شكرَ أبي عمار : لا أستطيع أن أقاتل .. فهذا نوع من القتال .. ولن أتناول أجرا على ذلك ، عن عمل ساهمت به .. وما زلت أذكر ضحكة الشاب الفلسطيني ـ وكان مسؤولا عن الرصد في سوريا ـ قال لي : الكتاب السوريون الآخرون لم يقدموا مخطوطاتهم لمطابع فتح ، إلا بعد أن يتناولوا ـ سلفا ـ الأجر ..
هذه الأحداث تشير إلى نوع من السذاجة ، ولكنها السذاجة التي أفخر بها .. أن تؤمن بأن الكتابة هي البديل لفعل ما ..
لو أني أستطيع أن أبني دارا للأطفال أو العجزة ، لكنت فضلت ذلك على الكتابة .. لكني عاجز عن فعل شيء .. وهكذا استمرت الحكاية ..
س ـ أنت من مواليد الإسكندرونة 27/05/1935 ، وأنت من أسرة حلبية قديمة .. ما العلاقة الوشيجة بين الإسكندرونة وحلب ؟؟
ـ الحقيقة ، هي نوع من المصادفة .. فالإسكندرونة هي جزء من سورية .. كان والدي مديرا للأوقاف .. وعندما استلم عمله في الإسكندرونة ، ولدتني أمي هناك ..
نحن أسرة حلبية قديمة ، ولا أعرف إن كنتُ ذكرتُ ذلك سابقا .. فأحد أجدادي ما زال قبرُه موجودًا في مقبرة الصالحين منذ خمسة قرون ..
هذا الشيء الميتافيزيقي لا يعنيني ، لا يعني كثيرا .. ولكن أنا يعنيني شخصيا ارتباطي في المكان .. أنا أحس بأني شجرة بلوط .. أنا غصن فتي في هذه الشجرة ، ولكن جذوري ممتدة في هذه الأرض ..
قد تكون مشاعري الوطنية قد تبلورت أكثر بارتباطي بالأرض .. تبلورت أكثر ، لإحساسي بأني ابن أسرة توالدت وعاشت واستمرت في هذه الأرض .. هذا الشيء ، أنا لا أعيش في حلم الوطنية الرومانسية .. ولكن أعيش بمعطياتها المادية .. أنا إنسان ابن أسرة تعيش في هذه المنطقة .. إذن ، أنا أحمل في مورثاتي جزءا من تراث أفراد وأشخاص وأمم وشعوب ، توالت على هذه المنطقة .. أحس بمسؤولية تجاه الأرض التي عشت فيها ..
س ـ هل ترى أن حياة الطفولة أثرت في مجرى حياتك الفكرية فيما بعد ؟؟ علاقتك بوالدك ، حبك له ، تتلمذك على يديه ـ إن صح التعبير ـ في البدايات ، هل كان له علاقة في اتجاهك الأدبي فيما بعد ؟؟ هل ترى ذلك ؟؟ هل ترى من علاقة ما ؟؟
ـ منذ طفولتي الأولى ، منذ يفاعتي الأولى ، والدي رجل دين أزهري ، وهو من سلالة عائلة لها طابع ديني ، ولكن الطابع الديني الممزوج بالمهنة .. مثلا : طبيب ومتدين ، محام ومتدين .. لكن والدي ، لعب دورا هاما جدا .. كان من القلائل الذين قابلتهم ـ والذين سأقابلهم بعد ذلك ـ من المتنورين .. كان متنورا .. هو الذي ربى في داخلي فكرة الحوار المتكافئ .. مثلا : ما زلت أّذكر صبره عليّ وأنا أريد أن أقنعه بأن : ( نظرية داروين هي الأسلم ، وأن الطبيعة تخلق ) .. وكان يقبل مني هذا الحوار ويناقشني .. لم يصادر على حريتي .. لم يمارس القسر .. ولم يجبرْني على القيام بأي واجب ديني .. كان يقول : العلاقة الدينية الأساسية هي علاقة شخصية ، يجب ألا تخضع لمؤسسة إرهابية .. يجب أن تنبع من الذات .. فالواجب الديني لم يكن له قيمة كبيرة بقدر ما يتمتع الإنسان بشفافية روحية .. ولذلك كان يهمس في أذني بأفكار غريبة .. مثلا : كان لا يؤمن بأخته عندما تصلي لأنها لا تتقن فن الوقوف أمام الخالق العظيم .. ويقول لي : إذا أردت أن تمتثل في حضورك أمام ملِك ، فيجب أن تكون بأهلية معينة .. فكيف بكَ إذا أردتَ أن تقف بين يدي الإله ؟؟!! ( نفس هذا الكلام ، يقوله لي والدي ) .. هذا الشعور جعلني أقف موقفا واضحا من قضايا الإرهاب الفكري .. أنا عانيت من إرهاب فكري في طفولتي .. مثلا : من قِبل أستاذ الديانة في الثالث الثانوي ـ كنت في السابعة عشرة من عمري ـ وهو دمشقي ، أثر في حياتي كثيرا، وهذه الحادثة لعبت دورا كبيرا في مساري الفكري .. مادة للدين في الثالث الثانوي ليس لها علاقة بمجموع علامات الطالب ، ولكن كنا مُجبَرين على دراستها .. طرحت عليه السؤال التالي : إذا كنا في طائرة ، فأين نصلي ؟؟ أين القبلة ؟؟ فاحتار الرجل ، وأنا أكتشف نقطة ضعف في منظومة تفكيره ، فطرحتُ عليه السؤال التالي : ما هو تصورك لعملية قبض الروح ؟؟ فقال : عزرائيل .. وأعطى الصورة ـ التي سأكتشف أنا ـ الصورة التوراتية ، أن عزرائيل يقبض الروح مثل " عشماوي " ، يأتي بحبل ، يقبض بها الروح .. فقلت له أمام الطلاب : هذه الصورة ساذجة لتصور الموت .. فقال : تفضل .. ما هي الصورة عندك ؟؟ فقلت له آنذاك ، ولا أعرف كيف خطرت لي الفكرة ( كان هناك نظام السنترال في التلفونات ، وهناك فيش ) : هناك كل شخص ، له فيشة .. فكل واحد مكتوب على فيشته تاريخ موته .. فعندما ينزعون فيشه ، يموت .. فقال لي : يعني " الله سبحانه وتعالى " مدير سنترال ، والملائكة هم عمال السنترال .. فقلت : لكني لا أستطيع أن أقبل فكرتك عن عزرائيل . فعزرائيل نشيط إلى درجة أن يقبض الروح في الهند وفي الصين وفي سورية ، وفي نفس الوقت ؟؟!! إذن ، له مساعدون .. فآنذاك ، اتهمني بالكفر ، وحاول أن يضربني .. وكنت قويا ، فتيا ، أمسكت به ودفعته عني ، فأحِلتُ إلى مجلس التأديب .. وفي مجلس التأديب اتخذ قرارٌ بطردي من المدرسة ، وأبلغ والدي سرًّا .. وأنا كنت أخرج من البيت ، على أني ذاهب إلى المدرسة ، وأجلس في الحديقة العامة ، لأني مطرود .. فالذي حصل : بعد أسبوع استدعاني والدي إلى مقر عمله ، وقال لي : كيف حال الدراسة ؟؟ فقلت : بخير والحمد لله .. عظيم .. قال : هل هناك شيء تخفيه عني ؟؟ فاكتشفت أن أبي يمتلك سرًّا .. فصارحته .. فقال لي : أنت قلت كذا كذا للأستاذ ؟؟ لماذا لم تخطر لرجال الدين مثل هذه الفكرة الجميلة ؟؟!! وذهب إلى أستاذ الدين ، ولقنه درسا .. وكان المفترض أن أُلقـَّّنَ أنا الدرس ، وطلب من مدير المدرسة أن يُعادَ النظر في قرار طردي ، ورفض أن أعامَلَ مثل هذه المعاملة السيئة ، لأنني أمتلك خيالا جميلا ، يجب أن أكافأ عليه ، لا أن أعاقـَبَ عليه .. وهو رجل دين ..
وساندني ـ آنذاك ـ أشخاص ما زلت أدين لهم حتى هذه اللحظة ، بنوع من الوفاء .. أساتذتي في المدرسة .. وهؤلاء أذكرهم لأنهم مهمون :
الأول : كان شخصا اسمه أدهم مصطفى، كان أستاذ الجغرافيا رحمه الله ..
والآخر : سليمان العيسى أستاذ العربي ..
والثالث : اسمه محمد خير فارس .. وهو الآن أستاذ في جامعة دمشق .. كان أستاذ التاريخ ..
والرابع : كان اسمه لطفي رهوان .. أستاذ الفلسفة وعلم النفس .. وأدين له كثيرا هذا الرجل ..
دافعوا عني دفاع الأبطال في مجلس المدرسة ، وأفرج عني .. ( ثانوية المأمون ، وكان مديرها رجل عظيم ، هو عبد الغني الجودة رحمه الله ..) ..
لم تنتهِ المشكلة هنا .. أعِدْتُ إلى المدرسة ، ولكن المدرسة كانت قسمين : بالمعنى الدقيق : قسم رجعي ، وقسم تقدمي ..
فالرجعيون ، كانوا الإخوان المسلمين .. فاتخذوا قرارا بمنعي بالقوة من الدخول إلى المدرسة ، بالرغم من سماح الإدارة لي بالدخول .. وانبرى للدفاع عني ، البعثيون والشيوعيون .. بالرغم من أني لم أكن أنتسب لأي حزب منهما .. دافعوا عن موقف .. والذي حصل ، أنه كاد يقع صدام دموي ، ثم حُسم الأمر وانتهى الموضوع ..
هذه الحادثة ، لعبت دورا ، وما زالت تلعب ، ليس في تكنيك الكتابة .. فأنا لا أفصل بين تكنيك الكتابة ، والمسار الفكري أبدا .. يجب أن يتمتع الإنسان بالحرية .. ليس بذاته ، وإنما في مجتمعه ..
وقد وقرَ في ذهني ، أنه حتى الحكومات الديكتاتورية ، ما عادت هي خصمي فقط .. التيارات الخفية في المجتمع ، أصبحت هي خصومي .. وبت أعتقد أن الشارع الجاهل سهل الانقياد من قبل التيارات الرجعية ، وأكثر خطورة حتى من أنظمة ديكتاتورية عسكرية ..
فهذا الشيء ، ساهم في تعميق الروح الديمقراطية عندي ، وعمّق هذا الشيء عندي ، أن الأديان على حق ، الفلسفات على حق ، الناس على حق ..
ليس هناك من شيء عظيم سوى الفن ..
لكن ما هو الفن ؟؟ هذا هو السؤال ..
الفن هو أن تجاوز المألوف .. ما هو متعارف عليه ..
وقر عندي في ذهني شيء مهم .. أنه كان هناك نظريتان سائدتان :
النظرية الماركسية التي تقول : الفن من أجل الحياة ..
والنظرية البورجوازية في علم الجمال تقول : إن الفن للفن ..
ثم تبيّن لي أن الطرف الثالث من النظرية ، أن الحياة هي من أجل الفن ، لأن الفن هو إعطاء الفرصة للحياة كي تستمر ..
الفن : هو خلقُ ما هو جديد .. خلقُ ما هو أفضل مما أنت عليه الآن .. فهذا الشيء ما زلت أعيش على مائدته ..
أنا الآن ابتدأت أقبل كل الأفكار الجديدة ، وابتدأت أقبل كل التيارات الجديدة .. وأصبحت روحي واسعة ، لا ترفض ، وإنما تناقش .. أنا لا أقبل كل شيء ، ولكني على استعداد لمناقشة كل شيء .. ولا أرفض أي شيء لمجرد أن السلف الصالح قال ذلك .. ولذلك أعدت النظر في أشياء كثيرة .. في المواقف الدينية ، والمواقف التاريخية .. وما عدت ....
طبعا ، هذا الشيء ، تيار خفي مساند لتيار الإبداع .. يعني أنا لا أستطيع أن أتصور .....
أنا معجب جدا بديستويفسكي .. لكن لا استطيع بحال من الأحوال أن أكتب مثل ديستويفسكي أو همنغواي .. هذا الشيء ، هو الذي حثني بصورة مستمرة ، على الشيء الأساسي الذي أصبح اكتشافا بالنسبة لي ، هو التجريب ..
أن أجرّب دائما .. وهذا لم ينطبق فقط على كتاباتي ، وإنما انطبق على سلوكي اليومي ، وعلى حياتي ..
س ـ قلت : إن لوالدكَ تأثيرا كبيرا على مسار حياتك الفكرية .. والحادثة الطريفة التي رويتها عن أستاذ التربية الدينية ، أيضا كان لها تأثير في المسار .. لكن بالتأكيد ، هناك تأثيرات أخرى ، أو مؤثرات أخرى ، لها علاقة في تنمية الحس الإبداعي ، والحس الفكري ، إذا صح التعبير .. وبالتالي ، توجيهك الوجهة الأدبية المرتبطة بالعلم ..
هل لك أن تحدثني عن المؤثرات الأخرى غير التي ذكرتها ؟؟
ـ حتما .. الشيء الأكثر أهمية ، هو استيقاظ حب المعرفة ، الذي لم أجد له وسيلة إلا بالقراءة ..
فأنا كنت من أكثر الناس المتردّدين على المكتبة الوطنية بحلب ، منذ كان عمري عشر سنوات .. كنت ولدا شقيا ألعب كرة القدم .. ولكن هذا لا يمنع من أن أقضي وقتي في المكتبة أستعير وأقرأ ..
مثلا : قرأت مبكرا : العقد الاجتماعي لجان جاك روسو .. لم أفهم منه كثيرا ، لكنه أيقظ فيّ تساؤلا ..
قرأت في الفلسفة مبكرا .. ولم أكن أفهم معظم ما قرأت ..
من المؤثرات الكبيرة لوالدي ، المشتركة مع المعرفة : كان يحلم ـ وصرّح بها مرة واحدة ـ كان يحلم ، لقد فشل هو أن يلعب دورًا تأثيريًا في الحياة الاجتماعية .. فعلق أمله عليَّ .. اكتشفَ أنني مؤهَّل ـ من دون أولاده الآخرين ـ أن ألعبَ هذا الدور ، فوجّهني وجهاتٍ دينية ..
س ـ أكملتَ الطريق التي رأيتَ أن والدكَ كان يريد أن تسير فيها ؟؟
لا .. هو كان يريد .. ولم يحدث .. ولم يحدث ..
أنا قرأت على والدي لمدة صيفيتين كاملتين ، مع فترات من الشتاء ، نهجَ البلاغة ، وشرحَ محمد عبدو عليها ، ويصحِّح لي ..
أصارحُك ؟؟ إنني لم أفهم نصفَ نهج البلاغة في ذلك الوقت .. وقد أقرأه الآن ، وأحس بالعجز أمام البلاغة العظيمة ..
وكان والدي يعتبر : أنه لكي تصل الأفكار إلى الآخرين ، يجب أن تكون بأسلوب ساحر .. فكان يريدني أن أكون كاتبا ، مفكرا سياسيا ، أو دينيا .. لم يكن يتصور الرواية والمسرح ..
كان يعتقد أن الكاتب لا يمتلك اللغة إلا بأحد مصدرين : القرآن الكريم ، ونهج البلاغة .. ولذلك التحقت بمدرسة حفظ القرآن الكريم ، بمدرسة المكفوفين ، وبقيت فيها سنتين ، أدرُس القرآن الكريم والتجويد ، وكنت المبصِرَ بين العميان ، وجاءني طالب آخر أعور ، ثم انفرط العقد ..
أما الآن ، فقد تحولت البلاغة من شكل إلى مضمون . أنا أؤمن بفصاحة المضمون أكثر من فصاحة الشكل .. وفصاحة المضمون لا تأتي إلا بالمعرفة الواسعة .. ولذلك ، من أحد المؤثرات الكبرى في حياتي الفكرية : الميكروسكوب ..
فأنا عندما درَستُ في كلية الزراعة ، وفي السنة الأولى ، في جامعة الإسكندرية بمصر .. ( درّسْتُ في كلية الزراعة بحلب ) .. عندما أطلتْ عيني على دقائق الحياة عبر الميكروسكوب ، تغيرتْ كلُّ نظرتي ، وتعمقتْ ، وأصبحتْ رؤيتي للكون أغنى بالكثير ..
لذلك ، قد أكون أنا مَدينا للجاحظ ، كما أعجبت بالمنفلوطي في بداياتي ، ثم انتقل إعجابي إلى جبران خليل جبران ، كحداثي معاكس لاتجاه المنفلوطي ..
ثم تمسكتُ بطه حسين ، الذي هو رمز للحداثة العقلية واللغوية في آن ..
ولكن كل ذلك لم يكن شيئا ، إذا لم أكن قد تعلمت من الميكروسكوب ..
الميكروسكوب : هو تفصيل هذه الجزئيات الهامة .. أن ترى الكون على حقيقته .. فحتى تعمقت نظرتي الفلسفية ..
الأجزاء الصغيرة هي التي تكون الشكل المادي الذي تراه وتستخدمه وتنتفع به .. فهذه النظرة التحليلية التي تعلمتها من الميكروسكوب ، لعبت دورا كبيرا في حياتي ، وأصبحت أرى الأشياء ..
وهذا هو السبب الأساسي في أنني لم أتبع ( دوغمة ) معينة ، أو نظرية معينة .. كنت أحاول أن أقرأ كل شيء ..
وهناك حادث مهم جدا في حياتي ..
كنت في العاشرة أو الحادية عشرة ، كان هناك سيطرة للإخوان المسلمين في ثانوية المأمون بحلب ـ طبعا ، هذه قبل حادثة أستاذ الدين بزمن ـ وكان لهم مقر في شارع إسكندرون ، وكان عندهم ناد رياضي ، ومكتبة ، وشاهدوا عندي ميلا للقراءة والرياضة ، فاستقطبوني ، ودعوني بعدئذ لاجتماعات الخلايا أو الوحدات التنظيمية .. ففي وحدة معينة كان هناك رجل تحدَّث لمدة خمسين دقيقة عن الإسلام كلاما جميلا ، وكان في ذهني استفسارات ، فرفعت يدي ، واستأذنت لأطرح سؤالا ، فقال لي وبالحرف الواحد ، وبشكل لن أنساه طوال عمري : أنت هنا لتسمع ، لا لتتكلم ..
وكان هذا آخر لقاء لي مع تجمع الإخوان المسلمين العلني ..
ومرت السنون القليلة ، كان لي صديق شيوعي ، وكنت أقرأ الماركسية ، والمادية الجدلية ، والداروينية ..
قريبا .. ستليها الساعة الثانية ..
في مقهى القصر الشهير بحلب ، كان لقائي المباشر الأول بالأستاذ وليد إخلاصي ..
هو قامة أدبية وفكرية كبرى ، وأنا طالب جامعي على أبواب التخرج .. جمعتنا طاولة صغيرة ، بحضور الأستاذ محمد أبو معتوق ، والصديق محمد جمال باروت ، والصديق فيصل خرتش .. وكان الأستاذ وليد قد حضَرَ أمسية من مهرجان أدبي في الجامعة ، أنا وفيصل شاركنا فيها بالقصة القصيرة .. دار بيننا نقاش قصير حول تلك الأمسية ، ثم اعتذر الأستاذ وليد ، يريد مغادرة المقهى لارتباطٍ ما ، لكنه توقف كمن نسيَ شيئا ، وسألني في حركة لافتة : عندك هاتف ؟؟ أجبته بنعم ، تسبقها غبطة وانشراح .. وليد إخلاصي بحاله ولسانه يسألني عن رقم هاتفي !!
إذ إنها لكبيرة أن يطلب الأستاذ وليد رقم هاتفي ..
وانتظرت أن يطلبني .. وطال انتظاري ..
والتقينا مرات بعد ذلك ، في احتفاليات أدبية متنوعة .. آخرها قبل أكثر من أحد عشر عاما .. كان في الإمارات مدعوًّا لرواق أدبي ، وكان قد انتخب عضوا في مجلس الشعب ( البرلمان ) السوري ..
بعد ذلك بسنوات ، وحين بدأت أبحث عن موضوع لأطروحة أكاديمية ، يتعلق بالدراسات النقدية ، كان أستاذي وصديقي الدكتور فؤاد المرعي ، خيرَ موجّه ومعين .. فأشار إلى بحثٍ موضوعي وجديدٍ ، يتناول الفضاءَ الروائي ، أي المكان والظروف والبيئة التي تدور فيها أحداث الرواية ، على أن تكون روايات الأستاذ وليد إخلاصي العشر ـ آنذاك ـ نموذجًا تطبيقيًا للدراسة ، فهو خير من كتبَ لحلب ، وعن حلب ، وبيئة حلب ..
وبعد إنجاز الإجراءات اللازمة ، كانت البداية حتمية مع الأستاذ وليد إخلاصي .. الإنسان ، والقاص ، والروائي ، والمسرحي ....
فاتفقت معه ـ نظرا لظروف إقامتي ـ على أن نكثف لقاءاتنا ، ليسجل لي مسيرة حياته الشخصية والفكرية والأدبية ..
وقد قدّم لي ـ مشكورًا ـ كلَّ معونة احتجت إليها ، لتحقيق هدفي .. وفتحَ لي قلبه ، وبيته وأرشيفه ..
ولأني كنت مضغوطا بالوقت المتاح ، فقد منحني الوقت اللازم ، وتحمّل مني إلحاحًا ، فرضتْه عليّ ظروفٌ طارئة ..
فكانت لنا ثلاث جلساتٍ خاصةٍ بالتسجيل ، وكانت الحصيلة أربعَ ساعاتٍ مسجَّلة ، استعرَضَ فيها أديبُنا الكبير مراحلَ حياته ، وآراءَه ، وأفكارَه ، وتجربته الروائية ، بقليل من التدخل المباشر مني ، بين الحين والآخر .. وسرَدَ الأحداث والوقائع ، بطريقته الانسيابية ، وبأسلوبه المتناغم مع السرد الحكائي ، كأنه يسجلها لنفسه ، لا للتاريخ ..
فيها الكثير من : السيرة الذاتية ، والمنابع ، والمؤثرات ، والتوثيق ، والاعترافات ، والشهادات ، والتقييم ...
وقد نقلتها هنا بأمانةٍ اندَغمَتْ في الشفافية .. لولا اضطراري إضافة علامات الترقيم ، (لاستحالة ظهورها في شريط التسجيل ) ..
وبالتأكيد ، ما زلت محتفظا بالأشرطة الأربعة ، وبكثير من المقالات والأوراق التي قدمّها لي من أرشيفه الخاص ، مساهمة منه في تسهيل مهمتي ..
فشكرًا جزيلا له ..
الساعة الأولى :
حلب ـ 07/08/1993
قال :
ـ ذكر في شهادة الميلاد أنني ولدت في 27/05/1935 ..
ـ كنت الولد الثالث في أسرتي المكونة من أربعة أولاد ..
ـ والدي كان رئيسا لتحرير مجلة ( الاعتصام ) في شبابه الأول ..
ويبدو أن هذا الموضوع قد وقر في أعماقي ..
ومحبتي لوالدي الشديدة ، وإعجابي به ، دفعاني إلى تقليده ..
ـ ابتدأت بالكتابة وأنا في العاشرة .. حاولت أن أكتب ..
ـ أول شيء جِدّيّ كان مقالة كتبتها ، ونشرت في (جريدة الهدى ) التي كانت تصدر في ( حمص ) .. لا أذكر في أي عام بالضبط .. لكن في بداية الخمسينيات ..
س ـ هل تذكر شيئا من تلك الكتابة ؟
ـ لا أذكر تماما ، لكن كان لها علاقة بالوطنية ، بفلسطين ، بمناسبة قومية ..
قبل تلك الحادثة ، كنت في الحادية عشرة تقريبا ، اتخذت قرارا خطيرا في حياتي .. أن أصدر مجلة ..
وهذه المجلة على ما أذكر ـ تصحيحًا ، لم أكن في الحادية عشرة ـ ولكن كنت في الثالثة عشرة ، كان أمر تقسيم فلسطين قد أثر على وجداننا الشعبي ، فقررت أن أتخذ موقفا ما من هذه القضية .. حاولت أن أحرر مجلة .. قمت فعلا بتحرير كافة ( موضوعاتها ) ، كانت في حدود 16 صفحة .. كتبتها بخط اليد وأخرجتها ، واخترت لها عنوانا ، لا أذكره تماما ، وكتبت كل أبوابها .. ( ولا أملك أي وثيقة منها الآن ) ..
ـ ثم خطر ببالي أن أتصل بمسؤول كبير ، فذهبت إلى محافظ حلب .. استقبلني على ما أذكر ، مدير المطبوعات في السراي .. كانت الحكومة كلها موجودة في السراي ..
رفض البواب أن يدخلني إلى المحافظ ، لأنني كنت أرتدي ( الشورت ) وكنت صغيرا .. فسألني : ماذا تريد من المحافظ ؟ فقلت : إنه أمر شخصي لن أشرحه إلا له ..
لكن الذي حصل أن مدير المطبوعات انتبه إليّ واستدعاني إلى مكتبه ، وسقاني شرابا باردا ، واطلع على المشروع ، ووعدني بأن يهيئ لي مقابلة مع المحافظ .. استمرت تلك المحاولة حوالي الشهرين ، ثم فوجئت بأن مدير المطبوعات أخذني من يدي وأدخلني على المحافظ وقال له : هذا هو الشاب ـ لم أكن شابا ـ الذي حدثتك عنه ، فاستقبلني الرجل بترحاب ، وجلس إلى جانبي ، وأخذ المجلة المخطوطة بعناية ، وقال : أمر عظيم جدا .. ماذا تريد ؟؟ قلت : أريد أن أطبعها .. قال : هل تريد أن تستمر في طباعتها ؟؟ قلت : نعم .. قال : من هي هيئة التحرير ؟؟ قلت : أنا .. وأنا المخرج .. فأخذ مني المجلة ، ويبدو أنه أخذني على ( قدِّ عقلي ) ، وقال لي : اترك لي عنوانك ..
وعندما عرف والدي ـ ويبدو أنه كان صديقا له ـ قال : أنا سأتصل بوالدك وأخبرك .. وإن شاء الله ستكون الأخبار حسنة ..
مرت شهور ، وأنا أنتظر .. وأحسست بالملل ..
هذا الشيء ، يبدو أنه غريزي .. كنت أؤمن ـ وما زلت حتى هذه اللحظة ـ بأن فعل الكتابة له أثر ..
ـ كنت عاجزا عن الانخراط في جيش يحرر فلسطين .. كنت عاجزا عن فعل أي شيء .. فقلت في ذهني : الكتابة هي العمل الذي يمكن أن أساهم به ..
ومثل هذا الأمر حصل لي بعد نضجي ، عندما كتبت مجموعة خاصة عن المقاومة الفلسطينية بعد إحداث ( فتح ) ـ وكانت فتح هي المنظمة الثورية الفلسطينية الوحيدة ـ .
كنت أحس دوما أنني عاجز عن القيام بفعل معين .. فأنا لا أستطيع أن أكون فدائيا ، ولا أستطيع أن أقاتل .. فكتبت مجموعة القصص التي حملت اسم ( زمن الهجرات القصيرة ) .. واستقيت جميع أحداثها من حكاياتٍ كان الفلسطينيون المقاتلون يروونها لي .. طبعا .. أنا لم أعاصر أي عملية فدائية ، ولم أفعل أي شيء إيجابي أو فعلي ..
وأهديت الكتاب ، ولقي اهتماما كبيرا ، وقام برسومه فنان عزيز جدا ، هو : ( نذير نبعة ) .. وطبع من هذا الكتاب خمسون ألف نسخة .. وهذا أمر لم يحدث مسبقا .. ووُزع ..وأرسَلَ لي ( أبو عمار ) شيكا بقيمة الكتاب ، فأعدته بعد أن مزقته ، وقلت للرجل الذي حمل إلي شكرَ أبي عمار : لا أستطيع أن أقاتل .. فهذا نوع من القتال .. ولن أتناول أجرا على ذلك ، عن عمل ساهمت به .. وما زلت أذكر ضحكة الشاب الفلسطيني ـ وكان مسؤولا عن الرصد في سوريا ـ قال لي : الكتاب السوريون الآخرون لم يقدموا مخطوطاتهم لمطابع فتح ، إلا بعد أن يتناولوا ـ سلفا ـ الأجر ..
هذه الأحداث تشير إلى نوع من السذاجة ، ولكنها السذاجة التي أفخر بها .. أن تؤمن بأن الكتابة هي البديل لفعل ما ..
لو أني أستطيع أن أبني دارا للأطفال أو العجزة ، لكنت فضلت ذلك على الكتابة .. لكني عاجز عن فعل شيء .. وهكذا استمرت الحكاية ..
س ـ أنت من مواليد الإسكندرونة 27/05/1935 ، وأنت من أسرة حلبية قديمة .. ما العلاقة الوشيجة بين الإسكندرونة وحلب ؟؟
ـ الحقيقة ، هي نوع من المصادفة .. فالإسكندرونة هي جزء من سورية .. كان والدي مديرا للأوقاف .. وعندما استلم عمله في الإسكندرونة ، ولدتني أمي هناك ..
نحن أسرة حلبية قديمة ، ولا أعرف إن كنتُ ذكرتُ ذلك سابقا .. فأحد أجدادي ما زال قبرُه موجودًا في مقبرة الصالحين منذ خمسة قرون ..
هذا الشيء الميتافيزيقي لا يعنيني ، لا يعني كثيرا .. ولكن أنا يعنيني شخصيا ارتباطي في المكان .. أنا أحس بأني شجرة بلوط .. أنا غصن فتي في هذه الشجرة ، ولكن جذوري ممتدة في هذه الأرض ..
قد تكون مشاعري الوطنية قد تبلورت أكثر بارتباطي بالأرض .. تبلورت أكثر ، لإحساسي بأني ابن أسرة توالدت وعاشت واستمرت في هذه الأرض .. هذا الشيء ، أنا لا أعيش في حلم الوطنية الرومانسية .. ولكن أعيش بمعطياتها المادية .. أنا إنسان ابن أسرة تعيش في هذه المنطقة .. إذن ، أنا أحمل في مورثاتي جزءا من تراث أفراد وأشخاص وأمم وشعوب ، توالت على هذه المنطقة .. أحس بمسؤولية تجاه الأرض التي عشت فيها ..
س ـ هل ترى أن حياة الطفولة أثرت في مجرى حياتك الفكرية فيما بعد ؟؟ علاقتك بوالدك ، حبك له ، تتلمذك على يديه ـ إن صح التعبير ـ في البدايات ، هل كان له علاقة في اتجاهك الأدبي فيما بعد ؟؟ هل ترى ذلك ؟؟ هل ترى من علاقة ما ؟؟
ـ منذ طفولتي الأولى ، منذ يفاعتي الأولى ، والدي رجل دين أزهري ، وهو من سلالة عائلة لها طابع ديني ، ولكن الطابع الديني الممزوج بالمهنة .. مثلا : طبيب ومتدين ، محام ومتدين .. لكن والدي ، لعب دورا هاما جدا .. كان من القلائل الذين قابلتهم ـ والذين سأقابلهم بعد ذلك ـ من المتنورين .. كان متنورا .. هو الذي ربى في داخلي فكرة الحوار المتكافئ .. مثلا : ما زلت أّذكر صبره عليّ وأنا أريد أن أقنعه بأن : ( نظرية داروين هي الأسلم ، وأن الطبيعة تخلق ) .. وكان يقبل مني هذا الحوار ويناقشني .. لم يصادر على حريتي .. لم يمارس القسر .. ولم يجبرْني على القيام بأي واجب ديني .. كان يقول : العلاقة الدينية الأساسية هي علاقة شخصية ، يجب ألا تخضع لمؤسسة إرهابية .. يجب أن تنبع من الذات .. فالواجب الديني لم يكن له قيمة كبيرة بقدر ما يتمتع الإنسان بشفافية روحية .. ولذلك كان يهمس في أذني بأفكار غريبة .. مثلا : كان لا يؤمن بأخته عندما تصلي لأنها لا تتقن فن الوقوف أمام الخالق العظيم .. ويقول لي : إذا أردت أن تمتثل في حضورك أمام ملِك ، فيجب أن تكون بأهلية معينة .. فكيف بكَ إذا أردتَ أن تقف بين يدي الإله ؟؟!! ( نفس هذا الكلام ، يقوله لي والدي ) .. هذا الشعور جعلني أقف موقفا واضحا من قضايا الإرهاب الفكري .. أنا عانيت من إرهاب فكري في طفولتي .. مثلا : من قِبل أستاذ الديانة في الثالث الثانوي ـ كنت في السابعة عشرة من عمري ـ وهو دمشقي ، أثر في حياتي كثيرا، وهذه الحادثة لعبت دورا كبيرا في مساري الفكري .. مادة للدين في الثالث الثانوي ليس لها علاقة بمجموع علامات الطالب ، ولكن كنا مُجبَرين على دراستها .. طرحت عليه السؤال التالي : إذا كنا في طائرة ، فأين نصلي ؟؟ أين القبلة ؟؟ فاحتار الرجل ، وأنا أكتشف نقطة ضعف في منظومة تفكيره ، فطرحتُ عليه السؤال التالي : ما هو تصورك لعملية قبض الروح ؟؟ فقال : عزرائيل .. وأعطى الصورة ـ التي سأكتشف أنا ـ الصورة التوراتية ، أن عزرائيل يقبض الروح مثل " عشماوي " ، يأتي بحبل ، يقبض بها الروح .. فقلت له أمام الطلاب : هذه الصورة ساذجة لتصور الموت .. فقال : تفضل .. ما هي الصورة عندك ؟؟ فقلت له آنذاك ، ولا أعرف كيف خطرت لي الفكرة ( كان هناك نظام السنترال في التلفونات ، وهناك فيش ) : هناك كل شخص ، له فيشة .. فكل واحد مكتوب على فيشته تاريخ موته .. فعندما ينزعون فيشه ، يموت .. فقال لي : يعني " الله سبحانه وتعالى " مدير سنترال ، والملائكة هم عمال السنترال .. فقلت : لكني لا أستطيع أن أقبل فكرتك عن عزرائيل . فعزرائيل نشيط إلى درجة أن يقبض الروح في الهند وفي الصين وفي سورية ، وفي نفس الوقت ؟؟!! إذن ، له مساعدون .. فآنذاك ، اتهمني بالكفر ، وحاول أن يضربني .. وكنت قويا ، فتيا ، أمسكت به ودفعته عني ، فأحِلتُ إلى مجلس التأديب .. وفي مجلس التأديب اتخذ قرارٌ بطردي من المدرسة ، وأبلغ والدي سرًّا .. وأنا كنت أخرج من البيت ، على أني ذاهب إلى المدرسة ، وأجلس في الحديقة العامة ، لأني مطرود .. فالذي حصل : بعد أسبوع استدعاني والدي إلى مقر عمله ، وقال لي : كيف حال الدراسة ؟؟ فقلت : بخير والحمد لله .. عظيم .. قال : هل هناك شيء تخفيه عني ؟؟ فاكتشفت أن أبي يمتلك سرًّا .. فصارحته .. فقال لي : أنت قلت كذا كذا للأستاذ ؟؟ لماذا لم تخطر لرجال الدين مثل هذه الفكرة الجميلة ؟؟!! وذهب إلى أستاذ الدين ، ولقنه درسا .. وكان المفترض أن أُلقـَّّنَ أنا الدرس ، وطلب من مدير المدرسة أن يُعادَ النظر في قرار طردي ، ورفض أن أعامَلَ مثل هذه المعاملة السيئة ، لأنني أمتلك خيالا جميلا ، يجب أن أكافأ عليه ، لا أن أعاقـَبَ عليه .. وهو رجل دين ..
وساندني ـ آنذاك ـ أشخاص ما زلت أدين لهم حتى هذه اللحظة ، بنوع من الوفاء .. أساتذتي في المدرسة .. وهؤلاء أذكرهم لأنهم مهمون :
الأول : كان شخصا اسمه أدهم مصطفى، كان أستاذ الجغرافيا رحمه الله ..
والآخر : سليمان العيسى أستاذ العربي ..
والثالث : اسمه محمد خير فارس .. وهو الآن أستاذ في جامعة دمشق .. كان أستاذ التاريخ ..
والرابع : كان اسمه لطفي رهوان .. أستاذ الفلسفة وعلم النفس .. وأدين له كثيرا هذا الرجل ..
دافعوا عني دفاع الأبطال في مجلس المدرسة ، وأفرج عني .. ( ثانوية المأمون ، وكان مديرها رجل عظيم ، هو عبد الغني الجودة رحمه الله ..) ..
لم تنتهِ المشكلة هنا .. أعِدْتُ إلى المدرسة ، ولكن المدرسة كانت قسمين : بالمعنى الدقيق : قسم رجعي ، وقسم تقدمي ..
فالرجعيون ، كانوا الإخوان المسلمين .. فاتخذوا قرارا بمنعي بالقوة من الدخول إلى المدرسة ، بالرغم من سماح الإدارة لي بالدخول .. وانبرى للدفاع عني ، البعثيون والشيوعيون .. بالرغم من أني لم أكن أنتسب لأي حزب منهما .. دافعوا عن موقف .. والذي حصل ، أنه كاد يقع صدام دموي ، ثم حُسم الأمر وانتهى الموضوع ..
هذه الحادثة ، لعبت دورا ، وما زالت تلعب ، ليس في تكنيك الكتابة .. فأنا لا أفصل بين تكنيك الكتابة ، والمسار الفكري أبدا .. يجب أن يتمتع الإنسان بالحرية .. ليس بذاته ، وإنما في مجتمعه ..
وقد وقرَ في ذهني ، أنه حتى الحكومات الديكتاتورية ، ما عادت هي خصمي فقط .. التيارات الخفية في المجتمع ، أصبحت هي خصومي .. وبت أعتقد أن الشارع الجاهل سهل الانقياد من قبل التيارات الرجعية ، وأكثر خطورة حتى من أنظمة ديكتاتورية عسكرية ..
فهذا الشيء ، ساهم في تعميق الروح الديمقراطية عندي ، وعمّق هذا الشيء عندي ، أن الأديان على حق ، الفلسفات على حق ، الناس على حق ..
ليس هناك من شيء عظيم سوى الفن ..
لكن ما هو الفن ؟؟ هذا هو السؤال ..
الفن هو أن تجاوز المألوف .. ما هو متعارف عليه ..
وقر عندي في ذهني شيء مهم .. أنه كان هناك نظريتان سائدتان :
النظرية الماركسية التي تقول : الفن من أجل الحياة ..
والنظرية البورجوازية في علم الجمال تقول : إن الفن للفن ..
ثم تبيّن لي أن الطرف الثالث من النظرية ، أن الحياة هي من أجل الفن ، لأن الفن هو إعطاء الفرصة للحياة كي تستمر ..
الفن : هو خلقُ ما هو جديد .. خلقُ ما هو أفضل مما أنت عليه الآن .. فهذا الشيء ما زلت أعيش على مائدته ..
أنا الآن ابتدأت أقبل كل الأفكار الجديدة ، وابتدأت أقبل كل التيارات الجديدة .. وأصبحت روحي واسعة ، لا ترفض ، وإنما تناقش .. أنا لا أقبل كل شيء ، ولكني على استعداد لمناقشة كل شيء .. ولا أرفض أي شيء لمجرد أن السلف الصالح قال ذلك .. ولذلك أعدت النظر في أشياء كثيرة .. في المواقف الدينية ، والمواقف التاريخية .. وما عدت ....
طبعا ، هذا الشيء ، تيار خفي مساند لتيار الإبداع .. يعني أنا لا أستطيع أن أتصور .....
أنا معجب جدا بديستويفسكي .. لكن لا استطيع بحال من الأحوال أن أكتب مثل ديستويفسكي أو همنغواي .. هذا الشيء ، هو الذي حثني بصورة مستمرة ، على الشيء الأساسي الذي أصبح اكتشافا بالنسبة لي ، هو التجريب ..
أن أجرّب دائما .. وهذا لم ينطبق فقط على كتاباتي ، وإنما انطبق على سلوكي اليومي ، وعلى حياتي ..
س ـ قلت : إن لوالدكَ تأثيرا كبيرا على مسار حياتك الفكرية .. والحادثة الطريفة التي رويتها عن أستاذ التربية الدينية ، أيضا كان لها تأثير في المسار .. لكن بالتأكيد ، هناك تأثيرات أخرى ، أو مؤثرات أخرى ، لها علاقة في تنمية الحس الإبداعي ، والحس الفكري ، إذا صح التعبير .. وبالتالي ، توجيهك الوجهة الأدبية المرتبطة بالعلم ..
هل لك أن تحدثني عن المؤثرات الأخرى غير التي ذكرتها ؟؟
ـ حتما .. الشيء الأكثر أهمية ، هو استيقاظ حب المعرفة ، الذي لم أجد له وسيلة إلا بالقراءة ..
فأنا كنت من أكثر الناس المتردّدين على المكتبة الوطنية بحلب ، منذ كان عمري عشر سنوات .. كنت ولدا شقيا ألعب كرة القدم .. ولكن هذا لا يمنع من أن أقضي وقتي في المكتبة أستعير وأقرأ ..
مثلا : قرأت مبكرا : العقد الاجتماعي لجان جاك روسو .. لم أفهم منه كثيرا ، لكنه أيقظ فيّ تساؤلا ..
قرأت في الفلسفة مبكرا .. ولم أكن أفهم معظم ما قرأت ..
من المؤثرات الكبيرة لوالدي ، المشتركة مع المعرفة : كان يحلم ـ وصرّح بها مرة واحدة ـ كان يحلم ، لقد فشل هو أن يلعب دورًا تأثيريًا في الحياة الاجتماعية .. فعلق أمله عليَّ .. اكتشفَ أنني مؤهَّل ـ من دون أولاده الآخرين ـ أن ألعبَ هذا الدور ، فوجّهني وجهاتٍ دينية ..
س ـ أكملتَ الطريق التي رأيتَ أن والدكَ كان يريد أن تسير فيها ؟؟
لا .. هو كان يريد .. ولم يحدث .. ولم يحدث ..
أنا قرأت على والدي لمدة صيفيتين كاملتين ، مع فترات من الشتاء ، نهجَ البلاغة ، وشرحَ محمد عبدو عليها ، ويصحِّح لي ..
أصارحُك ؟؟ إنني لم أفهم نصفَ نهج البلاغة في ذلك الوقت .. وقد أقرأه الآن ، وأحس بالعجز أمام البلاغة العظيمة ..
وكان والدي يعتبر : أنه لكي تصل الأفكار إلى الآخرين ، يجب أن تكون بأسلوب ساحر .. فكان يريدني أن أكون كاتبا ، مفكرا سياسيا ، أو دينيا .. لم يكن يتصور الرواية والمسرح ..
كان يعتقد أن الكاتب لا يمتلك اللغة إلا بأحد مصدرين : القرآن الكريم ، ونهج البلاغة .. ولذلك التحقت بمدرسة حفظ القرآن الكريم ، بمدرسة المكفوفين ، وبقيت فيها سنتين ، أدرُس القرآن الكريم والتجويد ، وكنت المبصِرَ بين العميان ، وجاءني طالب آخر أعور ، ثم انفرط العقد ..
أما الآن ، فقد تحولت البلاغة من شكل إلى مضمون . أنا أؤمن بفصاحة المضمون أكثر من فصاحة الشكل .. وفصاحة المضمون لا تأتي إلا بالمعرفة الواسعة .. ولذلك ، من أحد المؤثرات الكبرى في حياتي الفكرية : الميكروسكوب ..
فأنا عندما درَستُ في كلية الزراعة ، وفي السنة الأولى ، في جامعة الإسكندرية بمصر .. ( درّسْتُ في كلية الزراعة بحلب ) .. عندما أطلتْ عيني على دقائق الحياة عبر الميكروسكوب ، تغيرتْ كلُّ نظرتي ، وتعمقتْ ، وأصبحتْ رؤيتي للكون أغنى بالكثير ..
لذلك ، قد أكون أنا مَدينا للجاحظ ، كما أعجبت بالمنفلوطي في بداياتي ، ثم انتقل إعجابي إلى جبران خليل جبران ، كحداثي معاكس لاتجاه المنفلوطي ..
ثم تمسكتُ بطه حسين ، الذي هو رمز للحداثة العقلية واللغوية في آن ..
ولكن كل ذلك لم يكن شيئا ، إذا لم أكن قد تعلمت من الميكروسكوب ..
الميكروسكوب : هو تفصيل هذه الجزئيات الهامة .. أن ترى الكون على حقيقته .. فحتى تعمقت نظرتي الفلسفية ..
الأجزاء الصغيرة هي التي تكون الشكل المادي الذي تراه وتستخدمه وتنتفع به .. فهذه النظرة التحليلية التي تعلمتها من الميكروسكوب ، لعبت دورا كبيرا في حياتي ، وأصبحت أرى الأشياء ..
وهذا هو السبب الأساسي في أنني لم أتبع ( دوغمة ) معينة ، أو نظرية معينة .. كنت أحاول أن أقرأ كل شيء ..
وهناك حادث مهم جدا في حياتي ..
كنت في العاشرة أو الحادية عشرة ، كان هناك سيطرة للإخوان المسلمين في ثانوية المأمون بحلب ـ طبعا ، هذه قبل حادثة أستاذ الدين بزمن ـ وكان لهم مقر في شارع إسكندرون ، وكان عندهم ناد رياضي ، ومكتبة ، وشاهدوا عندي ميلا للقراءة والرياضة ، فاستقطبوني ، ودعوني بعدئذ لاجتماعات الخلايا أو الوحدات التنظيمية .. ففي وحدة معينة كان هناك رجل تحدَّث لمدة خمسين دقيقة عن الإسلام كلاما جميلا ، وكان في ذهني استفسارات ، فرفعت يدي ، واستأذنت لأطرح سؤالا ، فقال لي وبالحرف الواحد ، وبشكل لن أنساه طوال عمري : أنت هنا لتسمع ، لا لتتكلم ..
وكان هذا آخر لقاء لي مع تجمع الإخوان المسلمين العلني ..
ومرت السنون القليلة ، كان لي صديق شيوعي ، وكنت أقرأ الماركسية ، والمادية الجدلية ، والداروينية ..
قريبا .. ستليها الساعة الثانية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق