أولا ـ سيرة ذاتية :
1 ـ ولد الشهيد فتح الله في نبل /19/06/1944 ، وهو بكر والديه ، وهما حج محمد فتوح ، والحجة مريم زيدان بلوي ..
2 ـ أمضى سنواته الأولى في القرية ، ونال شهادة الدراسة الابتدائية فيها عام 1955 ، وكانت المرحلة تنتهي بنهاية الصف الخامس ..
3 ـ ولعدم وجود مدرسة إعدادية في نبل ، ترك الدراسة حتى انتقلت الأسرة إلى حلب في عام 1957 ، فانتسب إلى مدرسة خاصة يكمل فيها دراسته الإعدادية بدءًا بالصف السادس ، وهي " متوسطة جمال عبد الناصر " التي تأسست في ذلك العام كمدرسة خاصة ، وسميت فيما بعد : ثانوية الشهباء الخاصة ، الواقعة في حي الجميلية بحلب ..
وتشير جلاءاته " المحفوظة لدي " إلى ترتيبه الناجح الأول في الصف الثاني الإعدادي .. وصار اسم المدرسة : معهد جمال عبد الناصر ..
ثم نال الإعدادية العامة في دورة عام 1960/1961 بمجموع 222/290 ..
4 ـ وفي ثانوية عبد الرحمن الكواكبي بحلب ، أكمل دراسته الثانوية العامة ، فكان ترتيبه الثالث في الصف الأول الثانوي ، والناجح الأول في الصف الثاني الثانوي الأدبي ، ونال في عام 1963/1964 الشهادة الثانوية العامة ـ الفرع الأدبي بمجموع 203/240 وكان ترتيبه الثالث في مدينة حلب ..
5 ـ انتسب إلى جامعة دمشق ـ كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية ، لكنه لم يستمر في دراستها رغم أنه يحبها حبا جمّا ..
6 ـ انتسب للكلية الحربية ، تلبية لرغبة والده ، والتحق بها في 10/كانون الثاني/1965 ، وكانت سهرة الوداع تلك الليلة حدثا لا يُنسى ، سنأتي على تفاصيله لاحقا إن شاء الله ..
7 ـ تخرج في الكلية الحربية ـ دورة صاعقة ـ برتبة ملازم ، اختصاص : مشاة ، في الثالث من كانون الثاني عام 1967 ..
8 ـ التحق بالخدمة في القطعات العسكرية المتقدمة ، في الخط الأول على جبهة الجولان ..
9 ـ آخر إجازة له ، وآخر مرة رأيناه فيها ، كانت في أوائل شهر آذار من عام 1967 ..
10 ـ آخر رسالة وصلتنا منه ، أرسلها إلينا مع المجند عادل كلاسي ، بتاريخ 2/6/1967 مؤرخة في 1/6/1967 ، وتحتوي على مبلغ 1500 ل.س ، أوصلها لنا المجند المذكور ..
11 ـ يوم الثلاثاء الأول من آب 1967 " وبمناسبة عيد الجيش " وصلنا كتاب من رئيس هيئة أركان الجيش والقوات المسلحة ، يفيد بأن الملازم فتح الله ... مفقود حتى تاريخه ، نتيجة العمليات الحربية ..
12 ـ في 23/10/1967 ، أرسلتُ رسالة إلى رئيس هيئة أركان الجيش ، مستفسرا عن أي جديد حول فقدان الملازم فتح الله ..
13 ـ وصلنا كتاب بلا رقم وبلا تاريخ ، بتوقيع رئيس هيئة أركان الجيش ( ينعى فيه استشهاد الملازم فتح الله في ميدان التضحية والشرف ، يوم .../.../حزيران/1967 في منطقة العمليات الحربية ) " هكذا ورد تاريخ الاستشهاد مبهما " ..
14 ـ فيما بعد ، نشرت مجلة جيش الشعب صورة للشهيد فتح الله ، وذكرت أنه استشهد بتاريخ 9/حزيران/1967 ..
15 ـ وعلمْنا فيما بعد من أسرة المجند عادل كلاسي ، أنه غادر حلب إلى قطعته في نفس اليوم الذي وصل فيه ، أي في يوم 2/6/1967 ، بعد أن سلمَنا الرسالة ، وأنه استشهد مع جميع أفراد الفصيلة وقائدها الملازم فتح الله محمد رشيد ..
حتى هنا ، يكون الشهيد قد أتم الثالثة والعشرين من عمره ..
تغمده الله وجميع الشهداء بواسع رحمته ..
ثانيا ـ إضاءة :
هي موقف وشهادة :
· كان الموقف الذي سأرويه هنا ، شيئا يكاد لا يُصدق ..
ففي صيف عام 1984 ، كنت طالبا في كلية الحقوق بجامعة حلب ، وكنا نداوم في مبنى كلية الاقتصاد الحالي ، قبل أن تنتقل كلية الحقوق إلى مبناها الذي أخلته لها كلية الآداب فيما بعد ..
دخلتُ قاعة الامتحان قبيل بداية الوقت بدقائق قليلة ، وجلست في مكاني المحدد ، وكان قريبا مني رجل لا أعرفه ، يبدو أكبر مني سنا آنذاك ، يرتدي ثيابا عسكرية بلا رتب ، وكذلك كنت أنا ، لأني كنت أؤدي خدمة العلم ..
التفتَ إلي الرجل وقال بلا مقدمات : أنت أخو الشهيد الملازم فتح الله محمد كوركو ..
ارتعشتُ لسماعي هذا الكلام المفاجئ ، لكني حافظت على هدوئي وقلت له : مين ؟؟!!
كرر كلامه مؤكدا وضاغطا على الحروف : إذا كنتُ أنا من ظهر أبي ـ وأنا من ظهر أبي بكل تأكيد ـ فأنت أخو الشهيد الملازم فتح الله محمد كوركو ..
ابتسمت مناورًا ومغالبًا حالة اضطرابي ، ومددت له يدي ببطاقتي الجامعية ، وقلت : لا أعرفه أبدا ، وهذه بطاقتي تشهد ..
قال بإصرار : حين دخلتَ في باب القاعة ، كأن المرحوم دخل علي الآن .. إنك لا تشبهه في ملامحك ولا في لون عينيك ولا في قامتك .. لكن دمك دمه ، وحركتك حركته ، أنت أخوه ولا شيء في العالم يغير قناعتي هذه ..
وبثقة ، نحّى بطاقتي جانبا دون أن ينظر فيها ..
قلت وأنا أحاول أن أريَه بطاقتي : انظر لو سمحت .. انظر .. فاسم عائلتي مختلف جدا عن الاسم الذي ذكرته ..
قال بتصميم أكبر : أنا من ظهر أبي .. وأنت أخو فتح الله مهما اختلفت الأسماء .. تتنكر أو تعترف ، هذا لا يعنيني ..
قلت : ما دليلك ؟؟
قال : دمك دمه .. وحين دخلتَ الآن كأنني رأيته يدخل أمامي في باب المهجع في الكلية الحربية .. كنا في مهجع واحد .. ونعم الرجل هو ، بشهامته وعنفوانه ورجولته وعزيمته .. ولم يكن يعيبه شيء سوى أنه لا يجيد السباحة ، بل كان يخاف من الماء ، لكنه تغلب على خوفه بإرادة فولاذية ..
وهنا ، بدأ مراقبو الامتحان يطلبون منا الكف عن الكلام ليوزعوا أوراق الأسئلة .. فلم أجد مناصًا من الاعتراف له ، وسألته عن اسمه ، فقال : أنا العقيد يحيى يونس ( إذا لم تخني ذاكرتي ) من اللاذقية .. وبدأنا الامتحان ..
لكن الموقف جعلني في حيص بيص .. وقد أفقدني كثيرا من تأهبي واستعدادي ، إلا أني واصلت الكتابة بعد أن استهلكت وقتا ثمينا من زمن الامتحان ، حتى هدَأتْ فيه مشاعري وأعصابي المتوترة المضطربة ..
آنذاك ، كان قد مضى على استشهاد فتح الله سبعة عشر عاما .. فإذا افترضنا أنهما التقيا بعد تخرجهما ، فلن يكون ذلك أكثر من مرة أو مرتين على أبعد تقدير ، لأن فتح الله التحق بقطعته في الخط الأمامي مباشرة ، ولم يغادرها إلا في إجازة وحيدة في آذار من عام 1967 ، واستشهد بعد التخرج بستة شهور ..
فلو لم تكن لفتح الله تلك الشخصية الوقادة المتميزة ، المؤثرة فيمن حوله ، لما استطاع هذا الرجل أن يؤكد ـ بتصميم وبحرارة ـ أنني أخوه ، وأن دمي دمه ، رغم الفارق الكبير في شكلينا وقامتينا ، ورغم بُعد الزمن ، وأحواله وتقلباته ..
انتهى الموقف مع الأخ يحيى يونس .. شكرا لك أيها العزيز ..
· أما الشهادة ، فكانت في عام 1988 ، وصاحبها الأخ الأستاذ عبد الرحمن هوى ..
· في الوقائع :
ألغِيَتْ إعدادية آمنة بنت وهب التي كنتُ مديرَها ، وكلفت معاونا للمدير في إعدادية رضوان سويد ، التي كان أبو يعرب ( الأخ عبد الرحمن هوى ) مديرها العائد للتو من عمله في المملكة العربية السعودية ..
كنا كثيرا ما نتجاذب أطراف الحديث في الأدب والشعر ، وكان أبو يعرب شاعرا مرهف الإحساس ، شفافا ، رقيقا ، يقرأ لي قصائده ، ونتناقش ، ويحكي لي بإسهاب عن نشاطاته الأدبية ، وعمله في مسرح مدينة ينبع ، حيث كان يعمل .. وكان حين يريد أن يهرب من متاعب العمل اليومي ، يلجأ إلى مكتبي الذي يجد فيه أنيسا ومراحا ..
وكنت ألاحظ عليه تجنبه النظر إلي مباشرة ، حتى في الأوقات التي يشتد فيها النقاش بيننا حول بعض المسائل الإدارية ، فيما لم يكن يفعل ذلك مع الآخرين ..
دعاني مع بعض الإداريين إلى بيته ، فذهبت ، فلم يتغير شيء .. كان يتجنب النظر إلي مباشرة .. الأمر الذي أثار استغرابي ودهشتي ..
في اليوم التالي لم أطق صبرًا ، فقلت له بإصرار : انظر إلي .. يجب أن تنظر في عيني وأنا أكلمك .. فالعين مغرفة الكلام .. لقد لبيتُ دعوتك بدافع الفضول بحثا عن سبب يقنعني بتهربك من النظر إلي مباشرة .. لكن شيئا لم يتغير هناك .. وها أنت مازلت تتوارى بنظراتك وتتهرب من النظر في عيني رغم طلبي منك وإلحاحي .. ولم تفعل ذلك مع الآخرين .. أرجوك .. هل من سبب ؟؟!!
ابتسم ، وقد عَلتْ وجهَه حمرة داكنة ، حتى استدار عني نهائيا ، وطلب مني أن أجلس وأهدأ ، وأن أعطيَه لحظات قليلة كي يسكن روعه ..
جلست .. أحسست أن شيئا ما وراءه .. ماذا هناك ؟؟ ما السبب ؟؟!!
جلس إلى جانبي ، فنهضت وجلست قبالته ، فنهض وجلس إلى جانبي ثانية ، وهو يقول : أيمكن أن تدعني على راحتي ؟؟
استكنت ، وقلت : أنا أسمعك ..
قال بلا مقدمات أيضا : كنت أنا والمرحوم فتح الله طالبيْن في ثانوية الكواكبي بحلب في أوائل الستينيات ، وكنا صديقيْن متلازميْن ، تجمعنا غواية الشعر والكتب والأدب ، والمحبة والصدق .. والتراب الأحمر ..
وكان مجدّا ومتفوقا في دروسه ، متزنا في سلوكه ، محبوبا من زملائه وأساتذته .. مليئا بالحيوية ، نشيطا بيننا على كافة الصعد ..
لكننا كنا نتهرب منه حين ننصرف من المدرسة ، ونحن في الطريق إلى كراج البوسطة في باب اجنين .. لأننا إن لم نتركه ونمشي فإننا لن نصل الكراج قبل ساعتين على الأقل ، والطريق لا تبعد أكثر من عشرين دقيقة .. فإذا تأخرنا عن البوسطة ، وجب أن ننتظر حتى يحين موعد البوسطة التالية مساء .. وهذه قد لا تأتي ، أو قد تكون معطلة ، فنضطر للمبيت في حلب هنا أو هناك .. فيقلق علينا الأهل ، ويضطرب يومنا التالي ، ويضيع الوقت هدرا علينا وعلى الزملاء الذين نبيت عندهم ، بالسهر ولعب الورق ..
صمت ، أشعل سيكارته الثانية من الأولى ، بيدين مرتعشتين ، وتابع :
كنا نتهرب منه في الطريق ، لكثرة ما يستوقفنا أشخاص يعرفونه ويعرفهم ، منهم من يرغب بمساعدة ما ، أو واسطة في الدوائر أو المدارس ، ومنهم من ينتحي بهم جانبا عنا ، وينهمك معهم في حديث طويل ، نستشف منه رائحة السياسة ووجع الرأس .. فإذا طالت أحاديثهم ، لا يبقى لنا سوى أن نلحق بالبوسطة إلى حريتان قبل فوات الأوان ..
انفجرنا ضاحكيْن معا ، والتفت إلي يقبلني بحرارة ، ثم اعتدل وقال :
منذ اليوم الأول الذي دخلتَ فيه مكتبي ، أحسست أن فتح الله هو القادم .. فارتبكتُ وارتعشتُ ، ولم أستطع أن أقف لأستقبلك .. هل تذكر ؟؟
ومما زاد في ارتباكي وارتعاشي ، أن اسمك لا يوافق اسمه ، فما سر هذا التطابق إذن ؟؟!! لقد سألت عنك بعض معارفك ، حتى تأكد لي أنك أخوه ..
ولأن المرحوم فتح الله كان ذا شخصية محببة ومهيبة ، فلم نكن نديم النظر في عينيه ونحن نتحدث معه .. ولأنني أراه فيك ، فأنا لا أستطيع النظر في عينيك .. أرجوك أن تفهمني ، وأن تقدر حالتي .. لقد كان فتح الله نجما مشعا بالضوء والحرارة والنشاط والعنفوان والوطنية .. كان شخصية قيادية بحق ، التففنا حوله ، ووثقنا به ، وكان أهلا لهذه الثقة ..
كان مشروع قائد كبير ، فقدناه مبكرا ، وأنا أكنّ له أجمل المشاعر والأحاسيس التي أيقظها دخولك مكتبي ذلك اليوم ..
انتهت شهادة الأخ أبي يعرب العزيز ..
شكرا لك أبا يعرب ..
ثالثا ـ حياته : معَنا وفينا ..
( قريبا سيكتمل إن شاء الله ) ..
الجمعة ـ 24/إيلول/2010
1 ـ ولد الشهيد فتح الله في نبل /19/06/1944 ، وهو بكر والديه ، وهما حج محمد فتوح ، والحجة مريم زيدان بلوي ..
2 ـ أمضى سنواته الأولى في القرية ، ونال شهادة الدراسة الابتدائية فيها عام 1955 ، وكانت المرحلة تنتهي بنهاية الصف الخامس ..
3 ـ ولعدم وجود مدرسة إعدادية في نبل ، ترك الدراسة حتى انتقلت الأسرة إلى حلب في عام 1957 ، فانتسب إلى مدرسة خاصة يكمل فيها دراسته الإعدادية بدءًا بالصف السادس ، وهي " متوسطة جمال عبد الناصر " التي تأسست في ذلك العام كمدرسة خاصة ، وسميت فيما بعد : ثانوية الشهباء الخاصة ، الواقعة في حي الجميلية بحلب ..
وتشير جلاءاته " المحفوظة لدي " إلى ترتيبه الناجح الأول في الصف الثاني الإعدادي .. وصار اسم المدرسة : معهد جمال عبد الناصر ..
ثم نال الإعدادية العامة في دورة عام 1960/1961 بمجموع 222/290 ..
4 ـ وفي ثانوية عبد الرحمن الكواكبي بحلب ، أكمل دراسته الثانوية العامة ، فكان ترتيبه الثالث في الصف الأول الثانوي ، والناجح الأول في الصف الثاني الثانوي الأدبي ، ونال في عام 1963/1964 الشهادة الثانوية العامة ـ الفرع الأدبي بمجموع 203/240 وكان ترتيبه الثالث في مدينة حلب ..
5 ـ انتسب إلى جامعة دمشق ـ كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية ، لكنه لم يستمر في دراستها رغم أنه يحبها حبا جمّا ..
6 ـ انتسب للكلية الحربية ، تلبية لرغبة والده ، والتحق بها في 10/كانون الثاني/1965 ، وكانت سهرة الوداع تلك الليلة حدثا لا يُنسى ، سنأتي على تفاصيله لاحقا إن شاء الله ..
7 ـ تخرج في الكلية الحربية ـ دورة صاعقة ـ برتبة ملازم ، اختصاص : مشاة ، في الثالث من كانون الثاني عام 1967 ..
8 ـ التحق بالخدمة في القطعات العسكرية المتقدمة ، في الخط الأول على جبهة الجولان ..
9 ـ آخر إجازة له ، وآخر مرة رأيناه فيها ، كانت في أوائل شهر آذار من عام 1967 ..
10 ـ آخر رسالة وصلتنا منه ، أرسلها إلينا مع المجند عادل كلاسي ، بتاريخ 2/6/1967 مؤرخة في 1/6/1967 ، وتحتوي على مبلغ 1500 ل.س ، أوصلها لنا المجند المذكور ..
11 ـ يوم الثلاثاء الأول من آب 1967 " وبمناسبة عيد الجيش " وصلنا كتاب من رئيس هيئة أركان الجيش والقوات المسلحة ، يفيد بأن الملازم فتح الله ... مفقود حتى تاريخه ، نتيجة العمليات الحربية ..
12 ـ في 23/10/1967 ، أرسلتُ رسالة إلى رئيس هيئة أركان الجيش ، مستفسرا عن أي جديد حول فقدان الملازم فتح الله ..
13 ـ وصلنا كتاب بلا رقم وبلا تاريخ ، بتوقيع رئيس هيئة أركان الجيش ( ينعى فيه استشهاد الملازم فتح الله في ميدان التضحية والشرف ، يوم .../.../حزيران/1967 في منطقة العمليات الحربية ) " هكذا ورد تاريخ الاستشهاد مبهما " ..
14 ـ فيما بعد ، نشرت مجلة جيش الشعب صورة للشهيد فتح الله ، وذكرت أنه استشهد بتاريخ 9/حزيران/1967 ..
15 ـ وعلمْنا فيما بعد من أسرة المجند عادل كلاسي ، أنه غادر حلب إلى قطعته في نفس اليوم الذي وصل فيه ، أي في يوم 2/6/1967 ، بعد أن سلمَنا الرسالة ، وأنه استشهد مع جميع أفراد الفصيلة وقائدها الملازم فتح الله محمد رشيد ..
حتى هنا ، يكون الشهيد قد أتم الثالثة والعشرين من عمره ..
تغمده الله وجميع الشهداء بواسع رحمته ..
ثانيا ـ إضاءة :
هي موقف وشهادة :
· كان الموقف الذي سأرويه هنا ، شيئا يكاد لا يُصدق ..
ففي صيف عام 1984 ، كنت طالبا في كلية الحقوق بجامعة حلب ، وكنا نداوم في مبنى كلية الاقتصاد الحالي ، قبل أن تنتقل كلية الحقوق إلى مبناها الذي أخلته لها كلية الآداب فيما بعد ..
دخلتُ قاعة الامتحان قبيل بداية الوقت بدقائق قليلة ، وجلست في مكاني المحدد ، وكان قريبا مني رجل لا أعرفه ، يبدو أكبر مني سنا آنذاك ، يرتدي ثيابا عسكرية بلا رتب ، وكذلك كنت أنا ، لأني كنت أؤدي خدمة العلم ..
التفتَ إلي الرجل وقال بلا مقدمات : أنت أخو الشهيد الملازم فتح الله محمد كوركو ..
ارتعشتُ لسماعي هذا الكلام المفاجئ ، لكني حافظت على هدوئي وقلت له : مين ؟؟!!
كرر كلامه مؤكدا وضاغطا على الحروف : إذا كنتُ أنا من ظهر أبي ـ وأنا من ظهر أبي بكل تأكيد ـ فأنت أخو الشهيد الملازم فتح الله محمد كوركو ..
ابتسمت مناورًا ومغالبًا حالة اضطرابي ، ومددت له يدي ببطاقتي الجامعية ، وقلت : لا أعرفه أبدا ، وهذه بطاقتي تشهد ..
قال بإصرار : حين دخلتَ في باب القاعة ، كأن المرحوم دخل علي الآن .. إنك لا تشبهه في ملامحك ولا في لون عينيك ولا في قامتك .. لكن دمك دمه ، وحركتك حركته ، أنت أخوه ولا شيء في العالم يغير قناعتي هذه ..
وبثقة ، نحّى بطاقتي جانبا دون أن ينظر فيها ..
قلت وأنا أحاول أن أريَه بطاقتي : انظر لو سمحت .. انظر .. فاسم عائلتي مختلف جدا عن الاسم الذي ذكرته ..
قال بتصميم أكبر : أنا من ظهر أبي .. وأنت أخو فتح الله مهما اختلفت الأسماء .. تتنكر أو تعترف ، هذا لا يعنيني ..
قلت : ما دليلك ؟؟
قال : دمك دمه .. وحين دخلتَ الآن كأنني رأيته يدخل أمامي في باب المهجع في الكلية الحربية .. كنا في مهجع واحد .. ونعم الرجل هو ، بشهامته وعنفوانه ورجولته وعزيمته .. ولم يكن يعيبه شيء سوى أنه لا يجيد السباحة ، بل كان يخاف من الماء ، لكنه تغلب على خوفه بإرادة فولاذية ..
وهنا ، بدأ مراقبو الامتحان يطلبون منا الكف عن الكلام ليوزعوا أوراق الأسئلة .. فلم أجد مناصًا من الاعتراف له ، وسألته عن اسمه ، فقال : أنا العقيد يحيى يونس ( إذا لم تخني ذاكرتي ) من اللاذقية .. وبدأنا الامتحان ..
لكن الموقف جعلني في حيص بيص .. وقد أفقدني كثيرا من تأهبي واستعدادي ، إلا أني واصلت الكتابة بعد أن استهلكت وقتا ثمينا من زمن الامتحان ، حتى هدَأتْ فيه مشاعري وأعصابي المتوترة المضطربة ..
آنذاك ، كان قد مضى على استشهاد فتح الله سبعة عشر عاما .. فإذا افترضنا أنهما التقيا بعد تخرجهما ، فلن يكون ذلك أكثر من مرة أو مرتين على أبعد تقدير ، لأن فتح الله التحق بقطعته في الخط الأمامي مباشرة ، ولم يغادرها إلا في إجازة وحيدة في آذار من عام 1967 ، واستشهد بعد التخرج بستة شهور ..
فلو لم تكن لفتح الله تلك الشخصية الوقادة المتميزة ، المؤثرة فيمن حوله ، لما استطاع هذا الرجل أن يؤكد ـ بتصميم وبحرارة ـ أنني أخوه ، وأن دمي دمه ، رغم الفارق الكبير في شكلينا وقامتينا ، ورغم بُعد الزمن ، وأحواله وتقلباته ..
انتهى الموقف مع الأخ يحيى يونس .. شكرا لك أيها العزيز ..
· أما الشهادة ، فكانت في عام 1988 ، وصاحبها الأخ الأستاذ عبد الرحمن هوى ..
· في الوقائع :
ألغِيَتْ إعدادية آمنة بنت وهب التي كنتُ مديرَها ، وكلفت معاونا للمدير في إعدادية رضوان سويد ، التي كان أبو يعرب ( الأخ عبد الرحمن هوى ) مديرها العائد للتو من عمله في المملكة العربية السعودية ..
كنا كثيرا ما نتجاذب أطراف الحديث في الأدب والشعر ، وكان أبو يعرب شاعرا مرهف الإحساس ، شفافا ، رقيقا ، يقرأ لي قصائده ، ونتناقش ، ويحكي لي بإسهاب عن نشاطاته الأدبية ، وعمله في مسرح مدينة ينبع ، حيث كان يعمل .. وكان حين يريد أن يهرب من متاعب العمل اليومي ، يلجأ إلى مكتبي الذي يجد فيه أنيسا ومراحا ..
وكنت ألاحظ عليه تجنبه النظر إلي مباشرة ، حتى في الأوقات التي يشتد فيها النقاش بيننا حول بعض المسائل الإدارية ، فيما لم يكن يفعل ذلك مع الآخرين ..
دعاني مع بعض الإداريين إلى بيته ، فذهبت ، فلم يتغير شيء .. كان يتجنب النظر إلي مباشرة .. الأمر الذي أثار استغرابي ودهشتي ..
في اليوم التالي لم أطق صبرًا ، فقلت له بإصرار : انظر إلي .. يجب أن تنظر في عيني وأنا أكلمك .. فالعين مغرفة الكلام .. لقد لبيتُ دعوتك بدافع الفضول بحثا عن سبب يقنعني بتهربك من النظر إلي مباشرة .. لكن شيئا لم يتغير هناك .. وها أنت مازلت تتوارى بنظراتك وتتهرب من النظر في عيني رغم طلبي منك وإلحاحي .. ولم تفعل ذلك مع الآخرين .. أرجوك .. هل من سبب ؟؟!!
ابتسم ، وقد عَلتْ وجهَه حمرة داكنة ، حتى استدار عني نهائيا ، وطلب مني أن أجلس وأهدأ ، وأن أعطيَه لحظات قليلة كي يسكن روعه ..
جلست .. أحسست أن شيئا ما وراءه .. ماذا هناك ؟؟ ما السبب ؟؟!!
جلس إلى جانبي ، فنهضت وجلست قبالته ، فنهض وجلس إلى جانبي ثانية ، وهو يقول : أيمكن أن تدعني على راحتي ؟؟
استكنت ، وقلت : أنا أسمعك ..
قال بلا مقدمات أيضا : كنت أنا والمرحوم فتح الله طالبيْن في ثانوية الكواكبي بحلب في أوائل الستينيات ، وكنا صديقيْن متلازميْن ، تجمعنا غواية الشعر والكتب والأدب ، والمحبة والصدق .. والتراب الأحمر ..
وكان مجدّا ومتفوقا في دروسه ، متزنا في سلوكه ، محبوبا من زملائه وأساتذته .. مليئا بالحيوية ، نشيطا بيننا على كافة الصعد ..
لكننا كنا نتهرب منه حين ننصرف من المدرسة ، ونحن في الطريق إلى كراج البوسطة في باب اجنين .. لأننا إن لم نتركه ونمشي فإننا لن نصل الكراج قبل ساعتين على الأقل ، والطريق لا تبعد أكثر من عشرين دقيقة .. فإذا تأخرنا عن البوسطة ، وجب أن ننتظر حتى يحين موعد البوسطة التالية مساء .. وهذه قد لا تأتي ، أو قد تكون معطلة ، فنضطر للمبيت في حلب هنا أو هناك .. فيقلق علينا الأهل ، ويضطرب يومنا التالي ، ويضيع الوقت هدرا علينا وعلى الزملاء الذين نبيت عندهم ، بالسهر ولعب الورق ..
صمت ، أشعل سيكارته الثانية من الأولى ، بيدين مرتعشتين ، وتابع :
كنا نتهرب منه في الطريق ، لكثرة ما يستوقفنا أشخاص يعرفونه ويعرفهم ، منهم من يرغب بمساعدة ما ، أو واسطة في الدوائر أو المدارس ، ومنهم من ينتحي بهم جانبا عنا ، وينهمك معهم في حديث طويل ، نستشف منه رائحة السياسة ووجع الرأس .. فإذا طالت أحاديثهم ، لا يبقى لنا سوى أن نلحق بالبوسطة إلى حريتان قبل فوات الأوان ..
انفجرنا ضاحكيْن معا ، والتفت إلي يقبلني بحرارة ، ثم اعتدل وقال :
منذ اليوم الأول الذي دخلتَ فيه مكتبي ، أحسست أن فتح الله هو القادم .. فارتبكتُ وارتعشتُ ، ولم أستطع أن أقف لأستقبلك .. هل تذكر ؟؟
ومما زاد في ارتباكي وارتعاشي ، أن اسمك لا يوافق اسمه ، فما سر هذا التطابق إذن ؟؟!! لقد سألت عنك بعض معارفك ، حتى تأكد لي أنك أخوه ..
ولأن المرحوم فتح الله كان ذا شخصية محببة ومهيبة ، فلم نكن نديم النظر في عينيه ونحن نتحدث معه .. ولأنني أراه فيك ، فأنا لا أستطيع النظر في عينيك .. أرجوك أن تفهمني ، وأن تقدر حالتي .. لقد كان فتح الله نجما مشعا بالضوء والحرارة والنشاط والعنفوان والوطنية .. كان شخصية قيادية بحق ، التففنا حوله ، ووثقنا به ، وكان أهلا لهذه الثقة ..
كان مشروع قائد كبير ، فقدناه مبكرا ، وأنا أكنّ له أجمل المشاعر والأحاسيس التي أيقظها دخولك مكتبي ذلك اليوم ..
انتهت شهادة الأخ أبي يعرب العزيز ..
شكرا لك أبا يعرب ..
ثالثا ـ حياته : معَنا وفينا ..
( قريبا سيكتمل إن شاء الله ) ..
الجمعة ـ 24/إيلول/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق