الأربعاء، 21 أبريل 2010

صفحات مفقودة من مذكرات صديقتي ميادة . م

صفحات مفقودة من مذكرات صديقتي ميادة . م
1 ـ
لصديقتي أحلامها المتواضعة الرائعة .. يطيب لها أن تسهر لتجسِّدَ شيئًا منها حروفًا لينة .. تخطها ، تزينها برسوم تعبيرية صغيرة .. تقرأها عليّ ، وتناقشني بحماس واندفاع .. وحين تخلو في غرفتها ، تخفيها تحت الوسادة ، وفي عينيها بريق متفائل ..
قرأتْ عليّ ، أنها تودُّ لو نبتعد في طيّات صحراء مترامية ..
تؤنسنا أشواك الصبار ، تظللنا خيمة صغيرة ، نقضي فيها دامسَ الليل ، ونخرج حفاة تحت الشمس إلى الصيد .. نتراكض خلف طيور كاسرة حينا ، وخلف السراب أحيانا ، كطفلين يتيمين يبحثان عن حنان صدر مفقود ..
نختبئ في ظلِّ كثيبٍ لاهبٍ .. يغمرنا ببعض رماله ، وتسف علينا الرياح قيظا .. وحين نعود إلى الخيمة ، يكون كلٌّ منا صيدَ الآخر ، وينام في أجفاننا الليل ، وهو ذئب جائع يعوي ويئن كمطعون بحربة مسمومة ، فيلتصق الجسدان ، وننصهر خوفًا ، وحبّا ...و ...
أذكر ، كيف كان صوتها يوقِّع الكلماتِ برقة محببة ، وأذكر أني قرأتُه لنفسي أكثر من مرة ..وكان في الصفحة السابعة والسبعين ..
" هل طالتـْها يدُ غدر فمزّقتـْها ؟؟ "..
تساءلتُ عجِبًا ، فأجابتني : إنهم سرقوا منا الخيمة ونصبوها في نقطة الكيلو 101 ..

2 ـ
صديقتي سمراء .. ذات شعر فاحم ، طويل .. ناعمة الملامح ..
كان لباص النقل الداخلي فضلٌ علينا لن ننساه ..
التقينا ، انجذبْنا بابتسامتين متبادلتين .. ثم أخلدتْ إلى جواري ..
ولما نزلنا ، كنا صديقين حميمين ، وغدت لقاءاتنا شبه يومية , نحكي ساعاتٍ طوالا ..
" كم كان حديثها رقيقا وجذابا!! " ..
تسألني بسذاجة عن ثورة إيران ، وأدب ناظم حكمت ، وعمليات الفدائيين في الأراضي المحتلة ..
تشتبك أصابعنا ، ونتزوّد بنظرات خاصة ، نكاد نتعانق كأغصان هبّتْ عليها نسمة ربيعية لطيفة .. توقفني أمام طوابير الأفران والمؤسسات الاستهلاكية ، وناطحات السحاب ، والسيارات الحديثة الفارهة ، فنتأوه ، ونمضي ..
وحين تجمعنا خلوة ، تغمرنا فرحة المنتصرين .. أضمّها إلى صدري بقوة تقترب من القسوة ..
ـ " كانت تسرع إلى ذراعي بشوق فيّاض .. تخلد ..تشهق .. يزداد ضغط ساعديّ عليها .. فتتنهّد ، وتتخلص كسمكة " ..
استدارت عني وقد خبا البريق في عينيها .. تهدّل ساعداي كجناحين منكسرين ..
ـ " أيكون ثمة جديد لا علم لي به ؟؟ " ..
ـ " كدْتُ أدفنُ كلَّ ما بنيْتُ " .. لكني سمعت من بين أسنان راجفة :
ـ " يكفينا عناق القدس .. فقد كان في غاية الانسجام كما رأيناه ..

3 ـ
كانت صديقتي تتلبّس بالكآبة حين لا تنال العلامة التامة على موضوع التعبير الذي تقدّمه لمدرّستها .. فهي تحب كتابة الموضوعات وتجيدها باعتراف الجميع ..
وكانت مدرّستها تحاول أن تتقصّى لها هفوة ، كي تحسم لها شيئا من تمام العلامة .. وتضيف إلى ذلك جملة من الملاحظات التي يلمس فيها قارئها بعضَ الجوْر ..
ولما كنا نعيش في مدينة بعيدة عن البحر ، فإن صديقتي لم تعرفه إلا في أجزاء أحلامها ، وفي الصور والكتب .. ومع ذلك ، فقد حاولتْ أن تقدم لمدرّستها موضوعا عن البحر والشاطئ في أيام الصيف ..
فكتبتْ عن الماء الآسن الذي تجمّع حول " اليخت " الذي يعوم ، وعلى سطحه التقى " متناصفا جائزة نوبل للسلام " فحزن السمك ، وأعلن الحداد الوطني ، والإضراب عن الطعام ، والتنفس .. احتجاجا .. وامتلأ سطح الماء بالسمك المقلوب على قفاه ..
فرحت الحيتان بذلك ، والأسماك الكبيرة ، والكبيرة جدا ، والغواصات وحاملات الطائرات ..
ومن طمي أرض الكنانة ، انتصب سدّان عاليان على " الرشيد ودمياط " ففاضت مياه النيل جنوبا وشرقا وغربا .. وساحت حتى اختلط هدير الماء بهدير الملايين الغضبى ..
وهنا .. ارتعدت الأرض .. واهتزت تحت أقدام سكان أعماق النيل .. فاتحد شماله بجنوبه .. وتكاتفوا أمام السدّين ، تدعمهم الأهرامات والتماثيل والجثث المحنطة ، حتى المقابر الأثرية القديمة .. فهدموهما ..
وتدفقتْ مياه النيل العذبة إلى البحر المر .. فتغيّر لون الماء وطعمها ، وانتعشت الأسماك ، واستردّت حياتها ..
هاج البحر مصفّقا ، وامتلأ سطحه بالنوارس البيض والموشاة ..
ورَوَتْ مصادرُ موثوقة عن شهود عيان ، أن ملامح " خوفو " كانت تشي بكثير من المشاعر .. حتى إنه كان مبتسما طيلة مشوار العودة ..
وأغرق ذلك الطوفان ، كلَّ السفن التي لم تألفْها مياه النيل .. وعاش الناس بهناء منقطع النظير ..

على الهامش ، كتبت المدرّسة بعض الملاحظات :
1 – خروج سافر عن الموضوع ..
2 ـ على الطالبة أن تكتب الحوادث التي ترويها المصادر الرسمية الموثوقة دونما زيادة أو نقصان ..
3 ـ عليكِ أن تتقيدي ـ في المرات القادمة ـ بالنص المطلوب ..

4 ـ
ليس سهلا أن أتحدّث عن كل ما تتحلى به صديقتي ..
فهي متزنة ، هادئة ، تعي الأمورَ كما يجب .. تفكر في كل ما يعترضها ، تقرا كثيرا .. تحبني كثيرا .. تعشق الأرض ..لا يستهويها زِيٌّ .. ولا تبهرها بهرجاتُ قريناتها ..

نصحها الطبيب باستعمال نظارة طبية ، وأن تقللَ ما أمكنَ من القراءة حفاظا على سلامة عينيها .. فأذعنَتْ ، لكنها أكثرت من المطالعة , ولاسيّما في معجمات اللغة ..
استمهلتها رأفة ، فأجابتني :
إنها تبحث عن أفعال بديلة لمثل هذه الكلمات :
( الانفتاح ، الخيمة ، الثغرة ، جائزة نوبل ، البحر ، اليخت ، معسكر داوود ، الرئيس المؤمن ، 19/تشرين الثاني ، 18/أيلول .......... ........ .........الخ .....الخ ...)
وما يزال البحث مستمرااااااااا

1979

نشرت في جريدة "صدى الجامعة" بحلب 1980

يوسف رشيد


lovenubbol@yahoo.com
lovenubbol@hotmail.com

هوامش :
العناق هنا هو : بين السادات وغولدا مائير وإسحاق شامير حين زار القدس ..
الكيلو 101 : هي نقطة عند قناة السويس نصبت فيها خيمة التفاوض بين الوفدين المصري والإسرائيلي بعد حرب تشرين ..
الانفتاح : هو عنوان سياسة السادات بعد الحرب ..
الثغرة : هي مكان الاختراق العسكري الصهيوني للجبهة المصرية أثناء الحرب بقيادة شارون ، ودخلوا غرب قناة السويس ..
جائزة نوبل : أعطيت للسادات ورئيس الوزراء الصهيوني مناصفة بعد توقيع معاهدة "السلام " بينهما ..
اليخت : هو القارب البحري الذي يلتقي فيه السادات مع رئيس الوزراء الصهيوني ..
معسكر داوود هو منتجع كامب ديفيد في أمريكا ، وُقعت فيه الاتفاقيات المشؤومة ..
الرئيس المؤمن : هو لقب للسادات ..
19/تشرين الثاني/1977 : زيارة السادات للقدس ..
18/أيلول/ 1979 : تاريخ توقيع معاهدة " السلام" المصرية الصهيونية ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق