محمد حسنين هيكل
تجربة حياة ولا أغنى
هو أشهر من أنْ يُعَرِّفَه مثلي ..
لأنه شخصية عالمية بحق ، وأحد أهم إعلاميي العالم وصحافييه ومثقفيه .. وهو سِجلُّ التاريخ العربي الحديث بنهاراته المشرقة ولياليه السود ..
وهو أبرز الصحفيين المصريين والعرب ، قاطبة ، في القرن العشرين ..
وهو مؤسسة صحفية كاملة ومتكاملة ، وكبرى أيضًا ..
وهو في موقعه الحالي من قلوب الملايين التي تتابعه وتحبه ، وتثق في رؤياه وعقيدته ، أكبر وأهم من كل المناصب التي عمل بها .." وأظنه لا يخالفني هو أو أي أحد في ذلك " ..
***
هناك منْ يكبُر كرسيُّ المنصب بهم ، ويصبحون تاجًا له ، يُعرَفُ المنصبُ باسمهم ، ويستمد المنصبُ أهميته من الجالس فوقه ، فإذا زال الكرسيًّ من تحتهم ، ظلوا كبارًا كبارًا .. ومنهم ـ وعن جدارة واستحقاق ـ الأستاذ محمد حسنين هيكل ..
وهناك منْ هم بعيدون عنك ، وترغبً أن يكونوا لصيقين بكَ ، أو قريبين منك على الأقل .. ومنهم ـ وعن جدارة واستحقاق أيضًا ـ الأستاذ محمد حسنين هيكل ..
وهناك منْ يكبُرون بكرسي المنصب ، فيكونون عبئًا عليه ويكون المنصبُ تاجًا مؤقتا لهم ، ويُعرَفون هم بالمنصب ، فإذا زال المنصبُ عنهم ، عادوا إلى وضعهم الطبيعي " الصغير " ..
وهناك منْ هم قريبون منك ، أو لصيقون بك ، وترغب لو أن القدرَ يبعدهم عنك مسافة سنين ضوئية .. وهم كثر ..
***
كم أشعر أن لهذا الرجل ديْنًا حقيقيا في عنقي ، وإني لفي حيرة شديدة ، وأنا أبحث عن طريقة أسدّد بها هذا الديْن ، كي تبرأ ذمتي منه ..
وحكايتي معه قديمة ـ جديدة ..
قديمة : بدأتْ منذ أن عرفتُ ( أبوعيدو ) أواخر ستينيات القرن الماضي ..
وأبو عيدو هذا رجل خمسيني ، شديد النحافة ، مقوّس ، يكاد ظهره يلتصق ببطنه ، ورأسه كله عبارة عن صلعة تحتها عينان حمراوان جاحظتان متوهجتان براقتان دوما ، وتحتهما أنف دقيق ، وشفتان سوداوان ، وأسنان متآكلة ..
ترافقه في يومه الطويل كأسه البيضاء ، وحبات من فستق العبيد ، وكان يبيع الصحف والمجلات ، في محل صغير لا يتسع إلا لجسده النحيل الضئيل ، ولصحفه ومجلاته ، يقع في شارع القوتلي بحلب ، على الزاوية المقابلة لشارع المنشية وصيدلية الحكيم .. (قبل إزالة تلك الجزيرة في مشروع تطوير باب الفرج ، حيث حلّ الآن محلها ساحة تجميلية صغيرة ) ..
كان أبو عيدو يقبع على كرسي عال داخل زاويته ، لأنه يحب أن يرى أرجل الناس وهي تخطو مسرعة عابرة أمامه ، ( فوجوه الناس جامدة وخالية من التعبير) " حسب قوله " ويخبئ وجهه خلف الصحف المتدلية المعروضة على الواجهة ، وكان يخصني بمعاملة متميزة ( كوني زبونا شابًا ، ودفيعًا ، وأقبل النصيحة ) كما قال .. وكان يؤمِّن لي كل متطلباتي من الصحف أو المجلات .. حتى الأعداد التي تختفي من السوق فور نزولها كمجلة " العربي " ، أو الصفحات التي تخفيها الرقابة من بعض المجلات " كالطليعة ، المصرية ، أو الآداب ، أو الصياد ، اللبنانيتين" .. وبالمقابل ، كان ينال مني الثمن الذي يطلبه ، وبلا نقاش ، ولم أكن أتردد في أخذ النسخ التي يحفظها لي مهما تأخرْتُ عنه ..
وكنت من قراء جريدة الأخبار المصرية لأنها تصل حلب بعد صدورها بأقل من 48 ساعة ، فيما لم تكن جريدة الأهرام تصلنا إلا متأخرة عن الأخبار .. ولما تأخرتْ جريدة الأخبار أكثر من المعتاد ، عرض عليّ أبو عيدو أن أقرأ جريدة الأهرام ، ثم سألني : هل تأخذ جريدة الأهرام من مكتبة أخرى ؟؟
قلت له : لا .. فقال بشيء من الاندهاش والعتب : (يعني ما بتقرا مقالات محمد حسنين هيكل) ؟؟!!
أذكر ، وكأنه اعتراني الخجل من نفسي على تقصيري في قراءة مقالاته ، وكنت أشاهد ملخصاتٍ لها في أماكن أخرى ، مكتوبة بالألوان ، ومعروضة فوق الجريدة ، وذلك كنوع من التشويق والتسويق الذي يتفنن فيه باعة الصحف والمجلات .. لكن (أبو عيدو) ليس منهم بالتأكيد ، لأنها " زوزقة بلا طعمة " برأيه ..
كما كان باعة الصحف الجوالون في مركز المدينة ، يحملون صحفهم منادين : بصراحة .. محمد حسنين هيكل .. الأهرام .. الأهرام ..
وبالفعل كانت جريدة الأهرام ذات صدى خاص ، ولاسيما بوجود مقالته " بصراحة " ..
ومن هنا بدأتْ علاقتي بالأستاذ محمد حسنين هيكل ، من خلال الأهرام عموما ، ومقالته الأسبوعية ( بصراحة ) بشكل خاص .. وواظب أبو عيدو على تأمين المقالة لي حتى لو اضطر أن يطلبها ـ تهريبا ـ من لبنان ، بواسطة سائقي سيارات الركاب العامة ، العاملة بين لبنان وحلب ، فيما لو حُجبَ العدد رسميا .. وهذا كان يكلفني أعباء زائدة ، أدفعها برحابة صدر ، و( أنا أضحك بعبي ) ..
لكني لم ألتق الأستاذ محمد حسنين هيكل في حياتي ، ولا حتى يوم شاهدت الرئيس جمال عبد الناصر في حلب ، أيام الوحدة السورية المصرية ، وكنت طفلا ، ألححْتُ على أخي الأكبر المرحوم فتح الله بأن أرافقه ، لنرحب (بالرئيس البطل ) في ساحة " الكلاسة " بحلب ، مع الجموع الهادرة من كل حدب وصوب .. ولا أعرف إن كان الأستاذ هيكل موجودا آنذاك مع الرئيس عبد الناصر أم لا .. لكني لو رأيته يومها لما عرفته ، إذ بوجود الرئيس ، لا يمكنك أن تنظر إلا إليه وحده ، ولا يمكنك أن تميز منْ حوله غالبا ..
على أي حال ، أعتبر نفسي غير محظوظ في هذا الشأن ، وإن كنت أتمنى أن ألتقي الأستاذ هيكل وألقاه وألقاه وألقاه ، لأن له في ذاكرتي مكانة مرموقة جدا ، من خلال ما كنت أقرأ له ، ثم سَمَتْ مكانته كثيرًا ، حين قرأتُ عددًا من كتبه في الثمانينيات ، مثل : خريف الغضب ، سنوات الغليان ، الانفجار ، الطريق إلى رمضان ..
حتى هنا تكون حكايتي القديمة مع الأستاذ هيكل قد انتهت ..
وبالعودة إلى سنواته الماضية ، نرصد له بعض المحطات ، وأهمها :
* الأستاذ هيكل من مواليد 1923 " أطال الله في عمره " ..
عاصَرَ عهد الملكية في مصر ، ثم عهد الثورة بقيادة جمال عبد الناصر ، ثم عهد أنور السادات وخليفته ..
***
* صداقته مع الرئيس جمال عبد الناصر :
فلم يكن لغيره من الصحفيين ، ما كان له ، من دور مؤثر ومشاركٍ في عجلة السياسة المصرية والعربية ، طيلة حياة الرئيس جمال عبد الناصر ، لارتباطهما بعلاقة صداقة وطيدة وحميمة ونادرة في تاريخ علاقات الرؤساء بالصحافيين ، والتي جمعتْهما في تلك الأوقات من تاريخ ثورة 23/تموز/يوليو ، مما أفسح له المجال ليبني شبكة من العلاقات المتميزة مع كثير من الزعامات العربية والعالمية ، ومع الشخصيات والهيئات الديبلوماسية والصحفية والفكرية ومراكز الدراسات المؤثرة في القرارات والسياسة الدولية ..
وتزامنت تلك الصداقة مع مرحلة ، كانت مصر خلالها قلب العروبة النابض ، ورائدة المد التحرري والدعم العروبي في وجه التحالفات الأمريكية الصهيونية ، من ثورة الجزائر ، إلى اليمن والخليج ، إلى مواجهة حلف بغداد ، إلى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ، إلى الوحدة السورية المصرية ، إلى معركة تمويل السد العالي ، إلى كسر احتكار السلاح ، إلى القرارات الاشتراكية والتأميم والإصلاح الزراعي ، إلى مؤتمر دول عدم الانحياز .....الخ ..
***
* هيكل وجريدة الأهرام :
إن المرحلة الهامة من حياته بدأت عام 1957 بقبوله وتوليه رئاسة تحرير ومجلس إدارة جريدة الأهرام ، بعد اعتذار عن قبولها ، واستمرت 17 سنة ، ولم يتركها حتى حين عينه عبد الناصر وزيرا للإرشاد القومي عام 1970 ، لأنه اشترط أن يجمع بين الأهرام والوزارة ..
أنشأ هيكل في الأهرام مجموعة من المراكز المتخصصة التي ما تزال إلى اليوم :
· مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية .
· ومركز توثيق تاريخ مصر.
· ومركز الدراسات الصحفية.
وصارت جريدة الأهرام ، أهم الصحف العربية ، وإحدى أهم عشر صحف في العالم .. وغدت جريدة الأهرام لسان حال قيادة الثورة المصرية ، وصار الأستاذ هيكل لسان حال جمال عبد الناصر ، من خلال مقالته الأسبوعية :
* بصراحة :
يقول هيكل :
( إن مصارحة النفس أقسى درجات الصراحة ) ..
بنى الأستاذ هيكل في الأهرام ومن خلالها ، صرحا مجيدا له ، وكرسته مقالته الأسبوعية في الأهرام : ( بصراحة ) ، الناطق الرسمي باسم الشعب المصري وحكومته .. وكانت المقالة الأشهر والأهم والأغنى على مستوى الصحافة العربية كلها .. وكانت تنشر صباح الجمعة ، وتنتظرها جماهير القراء ، والمحللون السياسيون ورجال السياسة والصحافة والإعلام العرب والأجانب ، ووكالات الأنباء والإذاعات ومحطات التلفزة العربية والدولية ، ذلك ، لأنها تعكس بوضوح رؤية السياسة المصرية ذات الدور الهام والفعال في أهم مناطق النزاعات والصراعات العالمية ..
واستمرت المقالة بالظهور أسبوعيا وبلا انقطاع يذكر بين عامي : 1960 ـ 1974 ..
* هيكل والسادات :
وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، تولى أنور السادات الرئاسة ، فاشترط على هيكل عدم الجمع بين الوزارة ورئاسة تحرير ومجلس إدارة الأهرام ، فتخلى هيكل عن الوزارة فورا وبلا تردد ، ولم يكتفِ السادات بذلك ، حتى أبعده عن الأهرام بقرار رئاسي بعد اختلافهما إثر حرب تشرين التحريرية ، وعينه مستشارا له ، فاعتذر هيكل عن قبول المنصب ، وتفرغ للكتابة .. إلى أن اعتقله السادات عام 1981 ..
* اعتزال الصحافة والكتابة فيها :
وحين أتمَّ عامه الثمانين في أيلول/2003 ، اعتزل الأستاذ هيكل الكتابة الدورية ، والعمل الصحفي ..
وهنا أسرد لكم حكايتي الجديدة معه :
فقد بدأتْ وما تزال مستمرة ، من خلال شاشة الجزيرة ، مساء كل خميس ، أنصتُ له مشدودًا بالحب لشخصيته وحديثه ، ومأخوذا بالسياق الذي يقدمه ، وبالعرض الثري والموثق والشامل ، الذي يمنحنا إياه كوجبة فكرية شهية ومتنوعة ..
ومن خلال هذه الحلقات ، أراه قامة فكرية وصحفية وثقافية شامخة ، فهو موسوعي المعارف ، دقيق في تعبيراته ومصطلحاته ، متوقد الذهن ، ذاكرته متجلية دوما وحاضرة ، يحفظ الماضي ويستحضره خاتما في خنصره ، ليستفيد منه ويوظفه في رؤياه واستشرافاته ورؤيته للمستقبل ، يعبر عن أفكاره بكلماتٍ وجمل واضحة تدل على غزارة النبع المعرفي عنده ، وفي حديثه كمٌّ من الحكم والأقوال والأشعار التي تقوي حجته وبرهانه ..
وهو أمام محاوره ، سريع البديهة ، فطن ، لبق ، دمث ، متواضع ، ديبلوماسي بلا مجاملة على حساب الحقائق ، يقول ما يجب قوله بلا وجل ولا حساسيات ..
وطني ، عروبي ، يؤمن بالأمة العربية ومقدراتها ، يتألم لما آلت إليه أحوال مصر في تحالفاتها الجديدة المتنصلة من جلدها وعظمها ولحمها ودمها ..
له موقف هام من مسألة الأمن القومي المصري ، ويرى أن السياسيين المصريين فرطوا في أمنهم القومي مجانا ، وهم الآن مكشوفون وفي العراء ، وتحت رحمة السلاح النووي الإسرائيلي ..
وعن الدور التاريخي لمصر في محيطها العربي والإسلامي ، يستغرب ، ويستهجن السياسة المصرية الحالية تجاه إيران تحديدًا .. ويرى فيها تفريطًا مجانيا أيضا ، لصالح العدو الأساسي والأكبر للعرب والمسلمين " الدولة العنصرية الصهيونية " ولا يرى في إيران إلا دولة مسلمة مؤيدة لحقوقنا في أرضنا ومقدراتنا ، وهي تساعدنا على ذلك ..
ويرى أن من حق إيران امتلاك الطاقة النووية ، ولو كانت سلاحًا ، لأنها مستهدفة ، ومن حقها أن تحمي نفسها وتدافع عن وجودها ومصالحها ، وسط منطقة محشوة بالسلاح النووي : الإسرائيلي والهندي والصيني والروسي والباكستاني ، فلماذا لا يكون من حقها امتلاك ذلك ؟؟
بعد كل هذه المواقف ، أليس من حقي أن أعترف بأنني أحب هذا الرجل ؟؟!!
وإن كنت أخاف من رؤيته لمستقبل الأمة العربية غير المشرق بما فيه الكفاية ، على أحسن تقدير ، وحين يوغل في تشاؤمه ، يعتقد أننا بحاجة لكثير من المعجزات ..
أسألكم : بالله ، هل نحن كذلك ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
***
أرجو أن أكون قد أبرأت ذمتي تجاهك ، أستاذي العزيز ، والكبير محمد حسنين هيكل ، وهذه بطاقة عرفان ..وأشكرك ..
وأشكر الإخوة القراء على صبرهم علي ..
lovenubbol@yahoo.com
lovenubbol@hotmail.com
الأربعاء ـ 14/نيسان/2010
يوسف رشيد
تجربة حياة ولا أغنى
هو أشهر من أنْ يُعَرِّفَه مثلي ..
لأنه شخصية عالمية بحق ، وأحد أهم إعلاميي العالم وصحافييه ومثقفيه .. وهو سِجلُّ التاريخ العربي الحديث بنهاراته المشرقة ولياليه السود ..
وهو أبرز الصحفيين المصريين والعرب ، قاطبة ، في القرن العشرين ..
وهو مؤسسة صحفية كاملة ومتكاملة ، وكبرى أيضًا ..
وهو في موقعه الحالي من قلوب الملايين التي تتابعه وتحبه ، وتثق في رؤياه وعقيدته ، أكبر وأهم من كل المناصب التي عمل بها .." وأظنه لا يخالفني هو أو أي أحد في ذلك " ..
***
هناك منْ يكبُر كرسيُّ المنصب بهم ، ويصبحون تاجًا له ، يُعرَفُ المنصبُ باسمهم ، ويستمد المنصبُ أهميته من الجالس فوقه ، فإذا زال الكرسيًّ من تحتهم ، ظلوا كبارًا كبارًا .. ومنهم ـ وعن جدارة واستحقاق ـ الأستاذ محمد حسنين هيكل ..
وهناك منْ هم بعيدون عنك ، وترغبً أن يكونوا لصيقين بكَ ، أو قريبين منك على الأقل .. ومنهم ـ وعن جدارة واستحقاق أيضًا ـ الأستاذ محمد حسنين هيكل ..
وهناك منْ يكبُرون بكرسي المنصب ، فيكونون عبئًا عليه ويكون المنصبُ تاجًا مؤقتا لهم ، ويُعرَفون هم بالمنصب ، فإذا زال المنصبُ عنهم ، عادوا إلى وضعهم الطبيعي " الصغير " ..
وهناك منْ هم قريبون منك ، أو لصيقون بك ، وترغب لو أن القدرَ يبعدهم عنك مسافة سنين ضوئية .. وهم كثر ..
***
كم أشعر أن لهذا الرجل ديْنًا حقيقيا في عنقي ، وإني لفي حيرة شديدة ، وأنا أبحث عن طريقة أسدّد بها هذا الديْن ، كي تبرأ ذمتي منه ..
وحكايتي معه قديمة ـ جديدة ..
قديمة : بدأتْ منذ أن عرفتُ ( أبوعيدو ) أواخر ستينيات القرن الماضي ..
وأبو عيدو هذا رجل خمسيني ، شديد النحافة ، مقوّس ، يكاد ظهره يلتصق ببطنه ، ورأسه كله عبارة عن صلعة تحتها عينان حمراوان جاحظتان متوهجتان براقتان دوما ، وتحتهما أنف دقيق ، وشفتان سوداوان ، وأسنان متآكلة ..
ترافقه في يومه الطويل كأسه البيضاء ، وحبات من فستق العبيد ، وكان يبيع الصحف والمجلات ، في محل صغير لا يتسع إلا لجسده النحيل الضئيل ، ولصحفه ومجلاته ، يقع في شارع القوتلي بحلب ، على الزاوية المقابلة لشارع المنشية وصيدلية الحكيم .. (قبل إزالة تلك الجزيرة في مشروع تطوير باب الفرج ، حيث حلّ الآن محلها ساحة تجميلية صغيرة ) ..
كان أبو عيدو يقبع على كرسي عال داخل زاويته ، لأنه يحب أن يرى أرجل الناس وهي تخطو مسرعة عابرة أمامه ، ( فوجوه الناس جامدة وخالية من التعبير) " حسب قوله " ويخبئ وجهه خلف الصحف المتدلية المعروضة على الواجهة ، وكان يخصني بمعاملة متميزة ( كوني زبونا شابًا ، ودفيعًا ، وأقبل النصيحة ) كما قال .. وكان يؤمِّن لي كل متطلباتي من الصحف أو المجلات .. حتى الأعداد التي تختفي من السوق فور نزولها كمجلة " العربي " ، أو الصفحات التي تخفيها الرقابة من بعض المجلات " كالطليعة ، المصرية ، أو الآداب ، أو الصياد ، اللبنانيتين" .. وبالمقابل ، كان ينال مني الثمن الذي يطلبه ، وبلا نقاش ، ولم أكن أتردد في أخذ النسخ التي يحفظها لي مهما تأخرْتُ عنه ..
وكنت من قراء جريدة الأخبار المصرية لأنها تصل حلب بعد صدورها بأقل من 48 ساعة ، فيما لم تكن جريدة الأهرام تصلنا إلا متأخرة عن الأخبار .. ولما تأخرتْ جريدة الأخبار أكثر من المعتاد ، عرض عليّ أبو عيدو أن أقرأ جريدة الأهرام ، ثم سألني : هل تأخذ جريدة الأهرام من مكتبة أخرى ؟؟
قلت له : لا .. فقال بشيء من الاندهاش والعتب : (يعني ما بتقرا مقالات محمد حسنين هيكل) ؟؟!!
أذكر ، وكأنه اعتراني الخجل من نفسي على تقصيري في قراءة مقالاته ، وكنت أشاهد ملخصاتٍ لها في أماكن أخرى ، مكتوبة بالألوان ، ومعروضة فوق الجريدة ، وذلك كنوع من التشويق والتسويق الذي يتفنن فيه باعة الصحف والمجلات .. لكن (أبو عيدو) ليس منهم بالتأكيد ، لأنها " زوزقة بلا طعمة " برأيه ..
كما كان باعة الصحف الجوالون في مركز المدينة ، يحملون صحفهم منادين : بصراحة .. محمد حسنين هيكل .. الأهرام .. الأهرام ..
وبالفعل كانت جريدة الأهرام ذات صدى خاص ، ولاسيما بوجود مقالته " بصراحة " ..
ومن هنا بدأتْ علاقتي بالأستاذ محمد حسنين هيكل ، من خلال الأهرام عموما ، ومقالته الأسبوعية ( بصراحة ) بشكل خاص .. وواظب أبو عيدو على تأمين المقالة لي حتى لو اضطر أن يطلبها ـ تهريبا ـ من لبنان ، بواسطة سائقي سيارات الركاب العامة ، العاملة بين لبنان وحلب ، فيما لو حُجبَ العدد رسميا .. وهذا كان يكلفني أعباء زائدة ، أدفعها برحابة صدر ، و( أنا أضحك بعبي ) ..
لكني لم ألتق الأستاذ محمد حسنين هيكل في حياتي ، ولا حتى يوم شاهدت الرئيس جمال عبد الناصر في حلب ، أيام الوحدة السورية المصرية ، وكنت طفلا ، ألححْتُ على أخي الأكبر المرحوم فتح الله بأن أرافقه ، لنرحب (بالرئيس البطل ) في ساحة " الكلاسة " بحلب ، مع الجموع الهادرة من كل حدب وصوب .. ولا أعرف إن كان الأستاذ هيكل موجودا آنذاك مع الرئيس عبد الناصر أم لا .. لكني لو رأيته يومها لما عرفته ، إذ بوجود الرئيس ، لا يمكنك أن تنظر إلا إليه وحده ، ولا يمكنك أن تميز منْ حوله غالبا ..
على أي حال ، أعتبر نفسي غير محظوظ في هذا الشأن ، وإن كنت أتمنى أن ألتقي الأستاذ هيكل وألقاه وألقاه وألقاه ، لأن له في ذاكرتي مكانة مرموقة جدا ، من خلال ما كنت أقرأ له ، ثم سَمَتْ مكانته كثيرًا ، حين قرأتُ عددًا من كتبه في الثمانينيات ، مثل : خريف الغضب ، سنوات الغليان ، الانفجار ، الطريق إلى رمضان ..
حتى هنا تكون حكايتي القديمة مع الأستاذ هيكل قد انتهت ..
وبالعودة إلى سنواته الماضية ، نرصد له بعض المحطات ، وأهمها :
* الأستاذ هيكل من مواليد 1923 " أطال الله في عمره " ..
عاصَرَ عهد الملكية في مصر ، ثم عهد الثورة بقيادة جمال عبد الناصر ، ثم عهد أنور السادات وخليفته ..
***
* صداقته مع الرئيس جمال عبد الناصر :
فلم يكن لغيره من الصحفيين ، ما كان له ، من دور مؤثر ومشاركٍ في عجلة السياسة المصرية والعربية ، طيلة حياة الرئيس جمال عبد الناصر ، لارتباطهما بعلاقة صداقة وطيدة وحميمة ونادرة في تاريخ علاقات الرؤساء بالصحافيين ، والتي جمعتْهما في تلك الأوقات من تاريخ ثورة 23/تموز/يوليو ، مما أفسح له المجال ليبني شبكة من العلاقات المتميزة مع كثير من الزعامات العربية والعالمية ، ومع الشخصيات والهيئات الديبلوماسية والصحفية والفكرية ومراكز الدراسات المؤثرة في القرارات والسياسة الدولية ..
وتزامنت تلك الصداقة مع مرحلة ، كانت مصر خلالها قلب العروبة النابض ، ورائدة المد التحرري والدعم العروبي في وجه التحالفات الأمريكية الصهيونية ، من ثورة الجزائر ، إلى اليمن والخليج ، إلى مواجهة حلف بغداد ، إلى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ، إلى الوحدة السورية المصرية ، إلى معركة تمويل السد العالي ، إلى كسر احتكار السلاح ، إلى القرارات الاشتراكية والتأميم والإصلاح الزراعي ، إلى مؤتمر دول عدم الانحياز .....الخ ..
***
* هيكل وجريدة الأهرام :
إن المرحلة الهامة من حياته بدأت عام 1957 بقبوله وتوليه رئاسة تحرير ومجلس إدارة جريدة الأهرام ، بعد اعتذار عن قبولها ، واستمرت 17 سنة ، ولم يتركها حتى حين عينه عبد الناصر وزيرا للإرشاد القومي عام 1970 ، لأنه اشترط أن يجمع بين الأهرام والوزارة ..
أنشأ هيكل في الأهرام مجموعة من المراكز المتخصصة التي ما تزال إلى اليوم :
· مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية .
· ومركز توثيق تاريخ مصر.
· ومركز الدراسات الصحفية.
وصارت جريدة الأهرام ، أهم الصحف العربية ، وإحدى أهم عشر صحف في العالم .. وغدت جريدة الأهرام لسان حال قيادة الثورة المصرية ، وصار الأستاذ هيكل لسان حال جمال عبد الناصر ، من خلال مقالته الأسبوعية :
* بصراحة :
يقول هيكل :
( إن مصارحة النفس أقسى درجات الصراحة ) ..
بنى الأستاذ هيكل في الأهرام ومن خلالها ، صرحا مجيدا له ، وكرسته مقالته الأسبوعية في الأهرام : ( بصراحة ) ، الناطق الرسمي باسم الشعب المصري وحكومته .. وكانت المقالة الأشهر والأهم والأغنى على مستوى الصحافة العربية كلها .. وكانت تنشر صباح الجمعة ، وتنتظرها جماهير القراء ، والمحللون السياسيون ورجال السياسة والصحافة والإعلام العرب والأجانب ، ووكالات الأنباء والإذاعات ومحطات التلفزة العربية والدولية ، ذلك ، لأنها تعكس بوضوح رؤية السياسة المصرية ذات الدور الهام والفعال في أهم مناطق النزاعات والصراعات العالمية ..
واستمرت المقالة بالظهور أسبوعيا وبلا انقطاع يذكر بين عامي : 1960 ـ 1974 ..
* هيكل والسادات :
وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، تولى أنور السادات الرئاسة ، فاشترط على هيكل عدم الجمع بين الوزارة ورئاسة تحرير ومجلس إدارة الأهرام ، فتخلى هيكل عن الوزارة فورا وبلا تردد ، ولم يكتفِ السادات بذلك ، حتى أبعده عن الأهرام بقرار رئاسي بعد اختلافهما إثر حرب تشرين التحريرية ، وعينه مستشارا له ، فاعتذر هيكل عن قبول المنصب ، وتفرغ للكتابة .. إلى أن اعتقله السادات عام 1981 ..
* اعتزال الصحافة والكتابة فيها :
وحين أتمَّ عامه الثمانين في أيلول/2003 ، اعتزل الأستاذ هيكل الكتابة الدورية ، والعمل الصحفي ..
وهنا أسرد لكم حكايتي الجديدة معه :
فقد بدأتْ وما تزال مستمرة ، من خلال شاشة الجزيرة ، مساء كل خميس ، أنصتُ له مشدودًا بالحب لشخصيته وحديثه ، ومأخوذا بالسياق الذي يقدمه ، وبالعرض الثري والموثق والشامل ، الذي يمنحنا إياه كوجبة فكرية شهية ومتنوعة ..
ومن خلال هذه الحلقات ، أراه قامة فكرية وصحفية وثقافية شامخة ، فهو موسوعي المعارف ، دقيق في تعبيراته ومصطلحاته ، متوقد الذهن ، ذاكرته متجلية دوما وحاضرة ، يحفظ الماضي ويستحضره خاتما في خنصره ، ليستفيد منه ويوظفه في رؤياه واستشرافاته ورؤيته للمستقبل ، يعبر عن أفكاره بكلماتٍ وجمل واضحة تدل على غزارة النبع المعرفي عنده ، وفي حديثه كمٌّ من الحكم والأقوال والأشعار التي تقوي حجته وبرهانه ..
وهو أمام محاوره ، سريع البديهة ، فطن ، لبق ، دمث ، متواضع ، ديبلوماسي بلا مجاملة على حساب الحقائق ، يقول ما يجب قوله بلا وجل ولا حساسيات ..
وطني ، عروبي ، يؤمن بالأمة العربية ومقدراتها ، يتألم لما آلت إليه أحوال مصر في تحالفاتها الجديدة المتنصلة من جلدها وعظمها ولحمها ودمها ..
له موقف هام من مسألة الأمن القومي المصري ، ويرى أن السياسيين المصريين فرطوا في أمنهم القومي مجانا ، وهم الآن مكشوفون وفي العراء ، وتحت رحمة السلاح النووي الإسرائيلي ..
وعن الدور التاريخي لمصر في محيطها العربي والإسلامي ، يستغرب ، ويستهجن السياسة المصرية الحالية تجاه إيران تحديدًا .. ويرى فيها تفريطًا مجانيا أيضا ، لصالح العدو الأساسي والأكبر للعرب والمسلمين " الدولة العنصرية الصهيونية " ولا يرى في إيران إلا دولة مسلمة مؤيدة لحقوقنا في أرضنا ومقدراتنا ، وهي تساعدنا على ذلك ..
ويرى أن من حق إيران امتلاك الطاقة النووية ، ولو كانت سلاحًا ، لأنها مستهدفة ، ومن حقها أن تحمي نفسها وتدافع عن وجودها ومصالحها ، وسط منطقة محشوة بالسلاح النووي : الإسرائيلي والهندي والصيني والروسي والباكستاني ، فلماذا لا يكون من حقها امتلاك ذلك ؟؟
بعد كل هذه المواقف ، أليس من حقي أن أعترف بأنني أحب هذا الرجل ؟؟!!
وإن كنت أخاف من رؤيته لمستقبل الأمة العربية غير المشرق بما فيه الكفاية ، على أحسن تقدير ، وحين يوغل في تشاؤمه ، يعتقد أننا بحاجة لكثير من المعجزات ..
أسألكم : بالله ، هل نحن كذلك ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
***
أرجو أن أكون قد أبرأت ذمتي تجاهك ، أستاذي العزيز ، والكبير محمد حسنين هيكل ، وهذه بطاقة عرفان ..وأشكرك ..
وأشكر الإخوة القراء على صبرهم علي ..
lovenubbol@yahoo.com
lovenubbol@hotmail.com
الأربعاء ـ 14/نيسان/2010
يوسف رشيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق